موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (101-103)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات :

بِالْبَيِّنَاتِ: جَمْعُ بيِّنةٍ، وهي: الدَّلالةُ الواضحةُ أو الحُجَّةُ، وأَصْلُ (بين): اتِّضاحٌ وانْكِشافٌ .
عَهْدٍ: العَهْدُ: حِفْظُ الشَّيءِ ومُراعاتُهُ حالًا بعْدَ حالٍ، وأَصْلُهُ: الاحتِفاظُ بالشَّيءِ .

المعنى الإجمالي :

يُخاطِبُ اللهُ نبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: إنَّ تلك القُرى الَّتي سبَقَ ذِكْرُها، نَقُصُّ عليكَ من أخبارِها ما يَحْصُلُ به تَسْلِيَةٌ لك وللمؤمنينَ، وموعِظَةٌ للمُتَّعِظينَ، ورَدْعٌ وزَجْرٌ للكافرينَ، ولقدْ أَتى أهلَ القُرى رُسُلُهم بالأدلَّةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهم، فما كانوا ليؤمِنوا بما جاءَتْ به الرُّسلُ؛ وذلك بسببِ تَكْذيبِهم بالحَقِّ أوَّلَ ما وَرَدَ إليهم، كذلك يَخْتِمُ اللهُ على قلوبِ الكافرينَ؛ فَلا يؤمِنونَ أبدًا.
ويُخبِرُ تعالى أنَّه لم يَجِدْ لِأَكْثَرِ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي أَهْلَكَها من وَفاءٍ والتِزامٍ بعَهْدٍ، وما وجَدَ أكْثرَهم إلَّا فاسقينَ.
ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّه بَعَثَ من بعْدِ الأنبياءِ الَّذينَ حكَى قصصَهم موسى بالأدلَّةِ والمعجزاتِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِ ما جاء به، إلى فرعونَ ومَلَئِهِ، فكَفَروا بها واستكْبَروا عنها، فَوَقَعوا في الظُّلْمِ بسَببِ ذلك، ثمَّ أمَرَ اللهُ نبيَّهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَنظُرَ كيف كانتْ نهايةُ القَوْمِ المُفسدينَ.

تفسير الآيات:

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا
أي: هذه القُرى المُهلَكَةُ الَّتي سبَقَ ذِكْرُها- وهم قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وثَمودُ، وقومُ لُوطٍ، وأصحابُ مَدْيَنَ - نَتْلو عليكَ- يا مُحَمَّدُ- في هذا القرآنِ الكريمِ مِن أخبارِ أهلِها ما يَحْصُلُ به تَسْلِيَةٌ لكَ وللمؤمنينَ، وفيه عِبْرَةٌ للمُعْتبِرينَ، وموعظةٌ للمتَّقينَ، وازْدِجارٌ للكافرينَ، ورَدْعٌ للظَّالمينَ .
كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 42-44] .
وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ [هود: 100-103] .
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
أي: إنَّ أهلَ تلك القُرى المُهْلَكَةِ، قد جاءَتْهم رُسُلُهم بالحُجَجِ، والمعجزاتِ الظَّاهرةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهم .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .
فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ  
أي: يَمتنِعُ على أهلِ تلك القُرى المُهْلَكَةِ أنْ يؤمِنوا بما جاءَتْهم به الرُّسلُ؛ وذلك بسببِ تكذيبِهم بالحقِّ أوَّلَ ما وَرَدَ عليهم .
كما قال سُبحانَه: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 109-110] .
وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
أي: مِثْلَمَا خَتَمَ اللهُ على قلوبِ كفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ بهذا الخَتْمِ الشَّديدِ المُحْكَمِ، يختِمُ أيضًا على قُلوبِ جميعِ الكافرينَ؛ فَلا تؤثِّرُ فيهم الآياتُ والنُّذُرُ، ولا يؤمنون أبدًا .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6-7] .
وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35] .
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ
أي: وما عَلِمْنا لِأَكْثَرِ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي أهلَكْناها مِن وَفاءٍ والتزامٍ بالعهْدِ الَّذي وَصَّيْناهم به، مِن توحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، واتِّباعِ رُسُلِه عليهم السَّلامُ .
وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
أي: وقدْ وجَدْنا أكثَرَ الأُمَمِ السَّابقةِ خارِجينَ عن طاعةِ اللهِ تعالى .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 67] .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:
لمَّا قَصَّ اللهُ تعالى على نبيِّهِ أخبارَ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ وما آلَ إليه أمْرُ قومِهم، وكان هؤلاءِ لم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، أَتْبَعَ بقصصِ موسى وفرعونَ وبني إسرائيلَ؛ إذْ كانت مُعجِزاتُه من أعْظَمِ المعجزاتِ، وأُمَّتُه من أكثرِ الأُممِ تكذيبًا وتَعَنُّتًا واقتراحًا وجهلًا، وكان قد بَقِيَ من أَتْباعِه عالَمٌ وهم اليهودُ، فقَصَّ اللهُ علينا قصصَهم؛ لِنَعْتبِرَ ونتَّعِظَ، ونَنْزَجِرَ عن أنْ نتشبَّهَ بهم ، فقال تعالى:
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
أي: ثمَّ أَرْسَلْنا من بعْدِ نوحٍ وهودٍ وصالِحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السَّلامُ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بالأدلَّةِ والمُعجِزاتِ الظَّاهرةِ الَّتي تدُلُّ على صِدْقِهِ، إلى مَلِكِ مِصْرَ، وأشرافِ قومِهِ، وكُبَراءِ رِجالِهِ .
فَظَلَمُوا بِهَا
أي: فكَفَرَ فرعونُ وقومُهُ بالمُعجِزاتِ الَّتي أرسَلْنا بها موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف: 132-135] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 47- 50] .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
أي: فانظُرْ- يا مُحَمَّدُ- إلى آخِرِ أمْرِ أولئك الَّذينَ أَفْسَدوا في الأرضِ بالكُفْرِ والمعاصي، كانت نِهايتُهم أنْ أَخْزاهُمُ اللهُ تعالى، وأهلَكَهم بالغَرَقِ .

الفوائد التربوية :


الفوائد العلمية واللطائف :

في قولِ اللهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، لَمَّا تكرَّرَ ذِكْرُ القُرى الَّتي كَذَّبَ أهلُها رُسُلَ اللهِ بالتَّعْيينِ وبالتَّعْميمِ، صارَتْ للسَّامِعينَ كالحاضِرَةِ المُشاهَدَةِ، الصَّالِحَةِ لِأَنْ يُشارَ إليها، فجاءَ اسْمُ الإشارةِ تِلْكَ لزيادةِ إحضارِها في أذهانِ السَّامعينَ من قومِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيَعْتَبِروا حالَهم بحالِ أهلِ القُرى، فيَرَوْا أنَّهم سواءٌ؛ فيَفيئوا إلى الحقِّ .
قولُ اللهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا، لمَّا كان العاقِلُ مَنْ يَكْفيهِ أَدْنى شيءٍ، هَوَّلَ الأمْرَ بأنَّ أخبارَها تفوتُ الحَصْرَ، وأنَّ ما قَصَّ منها يَكْفي المُعْتَبِرَ، فقال: مِنْ أَنْبَائِهَا، أي: أخبارِها العظيمةِ الهائلةِ المُطابِقةِ للواقعِ، شيئًا بعْدَ شيءٍ، كما يفعَلُ مَنْ يتتبَّعُ الأَثَرَ .
في قولِهِ تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ما لَقِيَهُ من قومِهِ هو سُنَّةُ الرُّسُلِ السَّابقينَ، وأنَّ ذلك ليس لتقصيرٍ منه، ولا لضَعْفِ آياتِهِ، ولكنَّهُ للخَتْمِ على قلوبِ كثيرٍ من قومِهِ .
قولُ اللهِ تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ حُكْمٌ على الأكثرِ؛ لأنَّ بعضَهم قد آمَنَ، والتَزَمَ كُلَّ عهْدٍ عاهَدَ اللهَ عليه، أو تَعاهَدَ عليه مع النَّاسِ، ومنهم مَنْ كان يَفي ببعضِ ذلك حتَّى في حالِ الكُفْرِ، وهذا من دِقَّةِ القرآنِ في تَحديدِ الحقائقِ بالصِّدْقِ الَّذي لا تَشُوبُه شُبُهاتُ المُبالَغَةِ بما يَسْلُبُ أحدًا حقَّه، أو يُعْطي أحدًا غيرَ حقِّهِ .
قولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا يدُلُّ على أنَّ النَّبيَّ لا بُدَّ له من آيةٍ ومُعجِزةٍ، بها يَمتازُ عن غيرِهِ؛ إذْ لو لم يكُنْ مُخْتَصًّا بهذه الآيةِ، لم يكُنْ قَبولُ قولِه أَوْلَى من قَبولِ قولِ غيرِهِ .

بلاغة الآيات :

قولُهُ: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافَ الفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَها مِنَ القَصصِ، مِن قَولِه: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ [الأعراف: 59] ، ثُمَّ قَولِه تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ الآيَةَ [الأعراف: 94] ، مُنْبِئَةٌ عن غايةِ غَوايةِ الأُممِ المذكورةِ، وتَماديهم فيها بعدما أَتَتْهم الرُّسُلُ بالمعجزاتِ الباهرةِ .
وصيغةُ المضارعِ نَقُصُّ؛ للإيذانِ بعَدَمِ انقِضاءِ القِصَّةِ بَعْدُ ، وأيضًا قال: نَقُصُّ لا (قَصَصْنَا)؛ لأنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ مع تِلك القَصَصِ لا بَعْدَها .
وجُملةُ: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ عَطْفٌ على جُملةِ: تِلْكَ الْقُرَى؛ لمُناسَبةِ ما في كِلتَا الجُمْلتَيْنِ من قَصْدِ التَّنظيرِ بحالِ المُكذِّبينَ بُمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمْعُ (البيِّناتِ) يُشيرُ إلى تَكَرُّرِ البيِّناتِ مع كُلِّ رسولٍ .
وقولُهُ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا يُفيدُ مُبالَغَةَ النَّفْيِ بلامِ الجُحودِ الدَّالَّةِ على أنَّ حُصولَ الإيمانِ كان مُنافِيًا لحالِهم مِنَ التَّصَلُّبِ في الكُفْرِ .
وفيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، وقال في سورةِ يُونُسَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يونس: 74] ، فَسَقَطَ (به) في سورةِ الأعرافِ دونَ سورةِ يُونُسَ؛ وذلك لأنَّ سُقوطَ (به) في سورةِ الأعرافِ هو للبِناءِ على ما جُعِلَ صدرًا لهذه الآياتِ الَّتي نزَلَتْ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وهو: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فقولُهُ: وَلَكِنْ كَذَّبُوا لم يُذْكَرْ له مَفعولٌ، وانساقَتِ الآياتُ بعْدَ التَّحذيرِ المُتوالِي بقولِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا، ثمَّ خُتِمَتْ بقولِهِ: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، فالمُكذِّبونَ هُنا هم المُكذِّبونَ في قولِهِ: وَلَكِنْ كَذَّبُوا أمَّا في سورةِ يُونُسَ؛ فقدْ سُبِقَ بقولِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [يونس: 73] ، فلمَّا جاءَ ذلك مُتعدِّيًا جاءَ قولُهُ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يونس: 74] مِثْلَهُ .
قولُهُ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فيه إظهارُ الاسْمِ الجَليلِ بطريقِ الالتفاتِ؛ لِتربيَةِ المَهابَةِ، وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، ولِمَا في إسنادِ الطَّبْعِ إلى الاسْمِ العَلَمِ من صَراحةِ التَّنبيهِ على أنَّه طَبْعٌ رَهيبٌ، لا يُغادِرُ للهُدى مَنْفَذًا إلى قلوبِهم .
قولُهُ: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ مع قولِهِ: كذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلوبِ الكَافِرينَ، فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قالَه هُنا أوَّلًا بالنُّونِ، وإضمارِ الفاعِلِ ونَطْبَعُ، وثانيًا بالياءِ وإظهارِ الفاعِلِ يَطْبَعُ اللَّهُ، وقال في سورة يُونُس: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] بالنُّونِ والإِضمارِ فقط؛ لأنَّ الآيتَيْنِ هُنا تَقدَّمَهما الأمرانِ: الياءُ مع الإظهارِ مرَّتَيْنِ، والنُّونُ مع الإضمارِ؛ فالآيةُ في سورةِ الأعرافِ مَبْنِيَّةٌ على ما تَقدَّمَها مِنَ الآياتِ، وهي تَنتقِلُ مِنَ الإضمارِ إلى الإظهارِ، ومِنَ الإظهارِ إلى الإضمارِ في إخبارِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن نفسِهِ، قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا، وأَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى، وقال بعْدَهُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فأَظْهَرَ ولم يَقُلْ: (أفأمِنوا مَكْرَنا)، فلمَّا وَقَعَ هذا الإخبارُ في هذا المكانِ، ثمَّ جاءَ بعْدَهُ: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فأَجْرى الفِعْلَ على إضمارِ فاعلِهِ، ثمَّ عاد إلى ذِكْرِ الطَّبْعِ، كان إجراؤُهُ على إظهارِ الفاعِلِ أَشْبَهَ بما بُنِيَتْ عليه الآياتُ المُتقدِّمةُ مِنَ الانتقالِ مِنَ الإضمارِ إلى الإظهارِ المُختارِ استعمالُه في المكانِ؛ فناسَبَ الجَمْعُ بَيْنَ الأمرَيْنِ هُنا.
وأمَّا الآيةُ هناك في يُونُس فتقدَّمَها النُّونُ مع الإضمارِ فقط؛ فما قَبْلَها جارٍ على حَدٍّ واحدٍ وهو إضمارُ الفاعِلِ، ففي قِصَّةِ نوحٍ قَبْلَهُنَّ، وهي من مُبتدَأِ العَشْرِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس: 71] ، إلى أنْ قال: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ [يونس: 73-74] ، فقال بعْدَهُ: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: 74] ؛ فناسَبَ الاقتِصارُ على النُّونِ مع الإضمارِ .
ومن المناسبةِ الحَسنةِ في قولِ اللهِ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وقولِه في سورةِ يُونُسَ: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس:74] : أنَّه جَعَلَ الطَّبْعَ على قلوبِ الكافرينَ في الأعرافِ، وعلى قلوبِ المُعتدينَ في يُونُسَ؛ وذلك لأنَّ الآياتِ الَّتي تَقدَّمَتْ في سورةِ الأعرافِ فيها ذِكْرُ مُكَذِّبي الأُممِ أنبياءَهم، وما ردُّوا عليهم وخاطَبوهم به؛ كقَوْلِ كفَّارِ قومِ صالحٍ عليه السَّلامُ لِمَنْ آمَنَ به منهم: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 76] ، وفيها وَصْفُ الكفَّارِ؛ فَلا يَحْذَرُ عِقابَ اللهِ ومجيئَه بَياتًا أو ضُحًى إلَّا الكفَّارُ، ولا يكون إطلاقُ الخاسرينَ إلَّا في الكافرين، فلمَّا وَقَعَ التَّصريحُ بصْفاتِ الكُفْرِ صَرَّحَ به عِنْدَ ذِكْرِ الطَّبْعِ، ولمَّا كانتِ الآيةُ في سورةِ يُونُسَ قد تقدَّمَها في وَصْفِ الكفَّارِ ما كان كالكِنايةِ عنهم، فقال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [يونس: 73] ، وليس كُلُّ مُنْذَرٍ كافرًا، كَنَّى عَنِ الكفَّارِ بعْدَهُ عِندَ ذِكْرِ الطَّبْعِ بالمُعتدينَ، وليس كُلُّ مُعْتَدٍ كافرًا، فمُخالَفَةُ كُلِّ واحدةٍ مِنَ الآيتَيْنِ للأُخرى إنَّما هي لِموافَقَةِ ما قَبْلَ كُلِّ واحدةٍ منهما من طَرْحِ الكلامِ، وقَصْدِ الالتِئامِ .
قولُهُ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ
في قولِهِ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أَسْنَدَ حُكْمَ النَّكْثِ إلى أكثَرِ أهلِ القُرى؛ تَبْيينًا لِكَوْنِ ضَميرِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا جَرَى على التَّغْليبِ، ولعلَّ نُكْتَةَ هذا التَّصريحِ في خُصوصِ هذا الحُكْمِ أنَّه حُكْمُ مَذَمَّةٍ ومَسَبَّةٍ؛ فناسَبَتْ مُحاشاةُ مَنْ لم تَلْتَصِقْ به تلك المَسَبَّةُ .
وفيه نَفْيُ وُجدانِ العَهدِ؛ لانتفاءِ سَببِه، وهو الوفاءُ بالعَهدِ، والتقديرُ: مِن إيفاءٍ بعهدٍ أو مِن التزامِ عهدٍ، وعَهْدٍ اسمُ جِنسٍ، والإتيانُ به نكرةً في سِيَاقِ النَّفْيِ يَقتَضي انتِفاءَه بجَميعِ المعاني الصَّادِقِ هو عليها، وزِيادةُ مِنْ تَدلُّ أيضًا على الاستِغراقِ لجِنس العَهدِ .
وقولُه: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ فيه إخبارٌ بأنَّ عدَمَ الوَفاءِ بالعَهْدِ من أكثرِهم كان منهم عن عَمْدٍ ونَكْثٍ؛ ولِكَوْنِ ذلك معنًى زائدًا على ما في الجُملةِ الَّتي قَبْلَها عُطِفَتْ، ولم تُجْعَلْ تأكيدًا للَّتي قَبْلَها أو بيانًا؛ لأنَّ الفِسْقَ هو عِصيانُ الأمْرِ، وذلك أنَّهم كَذَّبوا فيما وَعَدوا عن قَصْدٍ للكُفْرِ .
قولُه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
قِصَّةُ موسى عليه السَّلامُ معطوفةٌ على جملةِ ما قَبلَها مِن القَصَص، مِن قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قولِه: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا القصَّة، فهي نوعٌ، وهُنَّ نوعٌ آخرُ، والفَرقُ بين النوعينِ أنَّ تلك القَصَص مُتشابهةٌ في تكذيبِ الأقوامِ فيها لرُسُلِهم، ومُعانَدَتِهم إيَّاهم، وإيذائِهم لهم، وفي عاقبةِ ذلك بإهلاكِ الله تعالى إيَّاهم بعذابِ الاستئصالِ؛ ولذلك عَطَف كلَّ واحدةٍ منهنَّ على الأولى بدونِ إعادةِ ذِكرِ الإرسالِ؛ للإيذانِ بأنَّها نوعٌ واحدٌ، فقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا وَلُوطًا إِذْ قَالَ...، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا وقد أعاد في قِصَّةِ موسى ذِكرَ الإرسالِ للتَّفرقةِ، ولكِنْ بلفظِ البَعثِ، وهو أخَصُّ وأبلَغُ مِن لَفظِ الإرسالِ؛ لأنَّه يفيدُ معنى الإثارةِ والإزعاجِ إلى الشَّيءِ المُهِمِّ، ولم يُذكَر في القرآنِ إلا في بَعثِ الموتى، وفي الرِّسالةِ العامَّة؛ أي: بَعْثِ عِدَّةٍ من الرُّسُل، وفي بَعثةِ نَبِيِّنا وموسى خاصَّةً، وكذا في بَعْثِ نُقَباءِ بني إسرائيل، وبَعْثِ مَن انتقَم منهم وعذَّبهم وسَبَاهم، حين أفسَدُوا في الأرض، فالتعبيرُ بلَفظِ البَعثِ هنا يؤكِّدُ ما أفادَتْه إعادةُ العامِلِ مِن التَّفرقةِ بين نوعَيِ الإرسالِ؛ أعني: أنَّ لَفظَه الخاصَّ مُؤكِّدٌ لِمَعناه العامِّ، كما يؤكِّدُها عطفُ هذه القِصَّة على أولئك بـ ثُمَّ التي تدلُّ على الفَصلِ والتَّراخي؛ إمَّا في الزَّمان، وإمَّا في النَّوعِ أو الرُّتبة، والأخيرُ هو المرادُ هنا، وبيانُه أنَّ هذا الإرسالَ وما ترتَّبَ عليه، وأعقَبَه في قومِ موسى، مخالِفٌ لجملةِ ما قبلَه مُخالفةَ تَضادٍّ؛ فقد أُنقِذَت به أمَّةٌ من عذابِ الدنيا، وهو تعبيدُ فرعونَ ومَلَئِه لها، وسَوْمُهم إيَّاها أنواعَ الخِزيِ والنَّكال، واهتَدَت إلى عبادةِ الله تعالى وَحدَه وإقامةِ شَرعِه، فأعطاها في الدُّنيا مُلكًا عظيمًا، وجعَلَ منها أنبياءَ وملوكًا، وأعدَّ بذلك المُهتدينَ منها لسعادةِ الآخرةِ الباقية، فأين هذا الإرسالُ مِن ذلك الإرسالِ، الذي أعقَبَ أقوامَ أولئك الرُّسُلِ في الدُّنيا عذابَ الاستئصالِ، وفي الآخرةِ ما هو أشدُّ وأبقى من الخِزيِ والنَّكال؟! وقد يظهَرُ للتَّراخي الزَّماني وجهٌ باعتبارِ كَونِ العَطفِ على قصَّةِ نُوحٍ؛ فإنَّ ما عُطِفَ عليها مِن قَصَصِ مَن بَعدَه قد جُعِلَ تابعًا ومُتمِّمًا لها بعَدَمِ إعادةِ العامِلِ أَرسَلْنا .
قولُه: مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .
وفي قولِه: بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ قدَّمَ ذِكْرَ الآياتِ اهتمامًا بها؛ فهي الدَّليلُ على صِحَّةِ دَعْوى البَعْثِ .
وتخصيصُ (مَلئِهِ) بالذِّكر مع عُمومِ رِسالتِه عليه السَّلامُ لقومِه كافَّةً؛ لأصالةِ الملأِ في الرأي، وتَدبيرِ الأمورِ، واتِّباعِ غيرِهم لهم في الورودِ والصُّدور .
وقِيل: إنَّما قال هنا: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ولم يَقُلْ: (إلى فرعونَ وقومِهِ)؛ لأنَّ الملِكَ ورِجالَ الدَّولةِ هُمُ الَّذينَ كانوا مُستعبِدينَ لبني إسرائيلَ، وبِيَدِهِمْ أمْرُهم، وليس لسائِرِ المِصْرِيِّينَ مِنَ الأمْرِ شيءٌ، ولأنَّهم كانوا مُستعبَدينَ أيضًا، ولكنَّ الظُّلْمَ على بَني إسرائيلَ كان أشدَّ، وإنَّما بَعَثَ اللهُ تعالى موسى؛ لإنقاذِ قومِهِ بني إسرائيلَ من فرعونَ ورِجالِ دولتِهِ، وإقامةِ دِينِ اللهِ تعالى بهم في بلادِ أجدادِهم، ولو آمَنَ فرعونُ ومَلَؤُهُ لآمَنَ سائرُ قومِهم؛ لأنَّهم كانوا تَبَعًا لهم، بل كان هذا شأْنَ جميعِ الأقوامِ مع مُلوكِهم المُستبِدِّينَ الجائرينَ .
وقولُهُ: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ؛ لَمَّا كان ما آلَ إليه أمْرُ فرعونَ ومَلَئِهِ حالةً عجيبةً، عُبِّرَ عنه بـ كَيْفَ الموضوعةِ للسُّؤالِ عن الحالِ، والاستفهامُ المُستفادُ من كَيْفَ يَقتضي تَقديرَ شيءٍ، أي: انظُرْ عاقبةَ المُفسِدينَ الَّتي يُسألُ عنها بـ(كيف) .
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يقُل: (عاقبتهم) مع أنَّ المُرادَ بالمفسدين فرعونُ ومَلَؤُهُ-؛ تنبيهًا على أنَّهم أُصيبوا بسُوءِ العاقبةِ؛ لِكُفْرهم وفَسادِهم، والكُفْرُ أعظَمُ الفَسادِ .