موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (128-130)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات :

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أي: يُبَيِّنْ لهم، أو يَتَبيَّنْ لهم، وأصلُ (هدي) هنا: التَّقدُّمُ للإرشادِ .
لِأُولِي النُّهَى: أي: أصحابِ العقولِ، والنُّهَى جمعٌ، مفردُه نُهْيَةٌ، وسُمِّي العقلُ بذلك؛ لأنَّه يَنهَى عن قبيحِ الفعلِ، وأصلُ (نهي): يدُلُّ على غايةٍ وبلوغٍ .
لِزَامًا: أي: ملازمًا لا يفارقُ، أو: لازمًا، أو: حتمًا واقعًا، واللِّزامُ مصدرُ لازَمَ، وأصلُ (لَزِمَ): يَدُلُّ على مُصاحبةِ الشَّيءِ بالشَّيءِ دائمًا .
وَأَجَلٌ مُسَمًّى: أصلُ الأجَلِ: غايةُ الوَقتِ، والمُدَّةُ المضروبةُ للشَّيءِ، ومُسَمًّى أَي: مُثبَتٌ مُعَيَّنٌ .
آَنَاءِ اللَّيْلِ: أي: ساعاتِه، وأصلُ (أني) هنا: ساعةٌ مِن الزَّمانِ .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى
قولُه تعالى: وَأَجَلٌ مَرفوعٌ بالعَطفِ على كَلِمَةٌ أي: ولولا كَلِمةٌ وأجَلٌ مُسمًّى لكان الأخذُ العاجِلُ لِزامًا لهم. وقيل: مَرفوعٌ عطفًا على الضَّميرِ المُستَترِ في (كان) العائدِ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسِّياقِ، وقام الفَصلُ بـ (لِزَامًا) مَقامَ التأكيدِ. والتقديرُ: ولولا كَلِمةٌ سَبقَت مِن ربِّك، لكان الأخذُ العاجِلُ وأجَلٌ مُسَمًّى لازِمَين لهم .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى موبخًا هؤلاء الذين لم ينتفِعوا بآياتِه: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ -يا محمَّدُ- كَثرةُ مَن أهلَكْنا مِن الأمَمِ المكَذِّبةِ قَبْلَهم، وهم يمشونَ في ديارِهم، ويَرَون آثارَ هلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم؟! إنَّ في إهلاكِ تلك الأمَمِ المكذِّبةِ لَعِبَرًا وعظاتٍ لأهلِ العُقولِ الواعيةِ، ولولا تقديرُ اللهِ تأخيرَ عذابِهم إلى وقتٍ مقدَّرٍ، لحاقَ بهم الهلاكُ العاجِلُ.
 ثمَّ يأمرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمداومةِ على الصبرِ، والإكثارِ مِن ذكرِه، فيقول: فاصبِرْ على ما يقولُه المكَذِّبونَ بك مِن كُفَّارِ قَومِك، وسبِّحْ بحَمدِ رَبِّك قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ بأن تصلِّيَ صَلاةَ الفَجرِ، وقبلَ غروبِها بأن تصلِّيَ صلاةَ العَصرِ، ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ، وأطرافَ النَّهارِ؛ كي تَرْضى بما تُثابُ عليه.

تفسير الآيات:

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما بيَّنَ الله تعالى أنَّ من أعرَضَ عن ذِكرِه كيف يُحشَرُ يوم القيامة، أتبَعَه بما يَعتَبِرُ به المكَلَّفُ من الأحوالِ الواقعةِ في الدنيا بمن كَذَّبَ الرسُلَ .
وأيضًا لما كان ما مضَى من هذه السورةِ وما قبلَها مِن ذكرِ مصارعِ الأقدمينَ، وأحاديثِ المكذبينَ، بسببِ العصيانِ على الرسلِ، سببًا عظيمًا للاستبصارِ والبيانِ، كانوا أهلًا لأن يُنكِرَ عليهم لزومَهم لعماهم؛ فقال تعالى :
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.
أي: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ كثرةُ من أهلَكْنا قبلهم من الأُمَمِ الماضيةِ، وهم يسيرونَ في مساكِنِهم إذا سافروا، ويَرَونَ آثارَ هَلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم، أفلا يخافونَ أنْ نُهلِكَهم مِثْلَهم، إن لم يؤمِنوا ويُذعِنوا للحَقِّ الذي جاءَهم ؟!
كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ [الأنعام: 6] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
أي: إنَّ في إهلاك الأمَمِ المكذِّبةِ لَدلالاتٍ وعِظاتٍ لِذَوي العُقولِ الصَّحيحةِ .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .
وقال سُبحانَه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51].
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا هَدَّدَهم الله تعالى بإهلاكِ الماضين، ذكرَ سَبَبَ التأخيرِ عنهم .
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
أي: ولولا تَقديرُ الله تأخيرَ العذابِ إلى وَقتٍ مُقَدَّرٍ ؛ للزِمَهم الهلاكُ عاجِلًا .
كما قال تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان: 77] .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا أخبَرَ الله تعالى نبيَّه بأنَّه لا يُهلِكُ أحدًا قبلَ استيفاءِ أجَلِه؛ أمَرَه بالصبر على ما يقولونَ، فرَغَّبَه تعالى في الصبرِ، وبعَثه على الإدامةِ على الدعاءِ إلى الله تعالى، وإبلاغِ ما حُمِّلَ مِن الرسالةِ، وألَّا يكونَ ما يُقدِمونَ عليه صارفًا له عن ذلك .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
أي: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يقولُ كُفَّارُ قَومِك مِن تكذيبِك، والاستهزاءِ بك، وإيذائِك، كقولهم: هو ساحِرٌ ومجنونٌ؛ فلا تستعجِلْ لهم العذابَ، ولا تحفِلْ بهم؛ فإنَّ لعذابِهم وَقتًا مضروبًا لا يُتقَدَّمُ عنه، ولا يُتأخَّرُ .
  وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا.
أي: ونزِّه -يا محمَّدُ- ربَّك عن كلِّ نَقصٍ، حامدًا له بإثباتِ كُلِّ كَمالٍ مع محبَّتِه وتَعظيمِه سُبحانَه، وذلك بأن تصلِّيَ له وَحدَه قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ: صلاةَ الفَجرِ، وقبل غُروبِها، صلاةَ العَصرِ .
كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98].
وعن جريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنه قال: ((كنَّا عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ نظَرَ إلى القَمَرِ ليلة البَدرِ فقال: أمَا إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَونَ هذا، لا تضامُّونَ -أو لا تضاهون - في رؤيتِه، فإن استطعتُم ألَّا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوعِ الشَّمسِ وقبل غُروبِها، فافعَلوا)) ثم قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا .
وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ.
أي: ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ -يا محمَّدُ .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40].
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى.
أي: وصلِّ -يا محمَّد- في أطرافِ النَّهارِ؛ كي ترضى بما يعطيك ربُّك مِن الثوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويطمَئِنَّ قَلْبُك وتقَرَّ عَينُك بعبادةِ رَبِّك، وتتسلَّى بها عن أذيَّتِهم، ويَهونَ عليك الصَّبرُ .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسَعدَيك ، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلك، قالوا: يا رَبِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى فيه أنَّه ما كُلُّ أحدٍ ينتَفِعُ بالآياتِ، إنما ينتَفِعُ بها أولو النُّهى، أي: العقولِ السليمةِ، والفِطَرِ المُستقيمة، والألبابِ التي تَزجُرُ أصحابَها عمَّا لا ينبغي .
2- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى أمَرَ تعالى عَقيبَ الصَّبرِ بالتَّسبيحِ؛ لأنَّ ذِكرَ اللهِ تعالى يفيدُ السَّلوةَ والرَّاحةَ؛ إذ لا راحةَ للمُؤمِنينَ دونَ لقاءِ الله تعالى ، على أحدِ القولينِ في المرادِ بالتسبيحِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى حُجَّةٌ على القَدَريَّةِ والمُعتزلةِ في ذِكْرِ سابقِ الكَلِمةِ، وهو -واللهُ أعلمُ- نظيرُ قَولهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] في معنى السَّبْقِ .
2- تَسبيحُ اللهِ تعالى كثيرًا ما يُقرَنُ بتَحميدِه؛ فإنَّ الله تعالى يَذكُرُ في غيرِ مَوضِعٍ التَّسبيحَ بحَمدِه، كقَولِه جَلَّ وعلا: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وقَولِه: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ، وقَولِه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48]. والتَّسبيحُ والتَّحميدُ يَجمَعُ النفيَ والإثباتَ، وهو نفيُ المعائِبِ، وإثباتُ المحامِدِ؛ وذلك يتضَمَّنُ التعظيمَ؛ فالتسبيحُ يتضَمَّنُ التنزيهَ المُستَلزِمَ للتَّعظيمِ، والحمدُ يتضَمَّنُ إثباتَ المحامِدِ المتضَمِّنَ لِنَفي نقائِصِها .
3- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أفاد بذِكرِ الجارِّ في (الآناءِ) التبعيضَ؛ لأنَّ الليلَ محَلُّ الراحةِ، ونَزعُه من الأطرافِ لتيسُّرِ استغراقِها بالذِّكرِ؛ لأنَّ النَّهارَ مَوضِعُ النشاطِ واليَقَظةِ .
4- قول الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وجهُ الاهتمامِ بآناءِ اللَّيلِ: أنَّ اللَّيلَ وقتٌ تَميلُ فيه النُّفوسُ إلى الدَّعَةِ، فيُخشى أن يُتساهَلَ في أداءِ الصَّلاةِ فيه .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى
- قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه مِن قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الآيةَ، والهمزةُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ. واستعمالُ الهدايةِ باللَّامِ؛ إمَّا لتَنزيلِها مَنزِلةَ اللَّازمِ، فلا حاجةَ إلى المفعولِ، أو لأنَّها بمعنى التَّبيينِ، والمفعولُ مَحذوفٌ .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقريرٌ للهدايةِ مع عدَمِ اهتدائِهم، وذلك إشارةٌ إلى مَضمونِ قولِه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا إلخ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعْدِ مَنزلتِه وعُلوِّ شأْنِه في بابِه .
- وحرْفُ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بالخبرِ، وللإيذانِ بالتَّعليلِ. وفي هذا تَعريضٌ بالَّذين لم يَهْتَدوا بتلك الآياتِ بأنَّهم عَديمو العُقولِ، كقولِه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ بالفاءِ مِن غيرِ (مِن)، وفي (السَّجدةِ): أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] بالواوِ وبعْدَه (مِن). ووجْهُه: أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ والاتِّصالِ بالأوَّلِ، فطال الكلامُ، فحسُنَ حذْفُ (مِن). والواوُ تدُلُّ على الاستئنافِ، وإثباتُ (مِن) مُسْتثقَلٌ .
وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّ قولَه في الآيةِ الأُولى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كلامٌ لم يَتقدَّمْه ما يكونُ هذا معطوفًا عليه، وإنَّما هو كلامٌ مُستأنفٌ مُبتدأٌ، فما تقدَّمَ قبْلَه من قولِه تعالى إخبارًا عمَّن أعرَضَ عمَّا جاءت به الرُّسلُ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] إلى قولِه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] ، هذا إخبارٌ عن جَزاءِ مَن أعرَضَ ولم يُؤمِنْ، ثمَّ ورَدَ ما بعْدُ مُسْتأنَفًا واردًا مَورِدَ ما يَرِدُ من الكلامِ الْتِفاتًا، ثمَّ ابتدَأَ تَوبيخَهم وتذكيرَهم، فقال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، وإذا كان قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مُبتدأً مُستأنَفًا، فالموضعُ للفاءِ، ومثله ما أتى ممَّا الوجْهُ فيه الاستئنافُ، ولم يُقْصَدْ عطْفُه على ما قبْلَه، وإنَّما ارتباطُه بما تقدَّمَه من جِهَةِ المعنى، ولا مدخَلَ فيه للعطفِ، مع أنَّ الالْتِحامَ حاصلٌ من وجْهٍ كما بيَّنَّا.
وأمَّا آيةُ (السَّجدةِ) فالْواوُ فيها عاطفةٌ على مُقدَّرٍ؛ لمَّا قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] ، كأنْ قد قِيلَ: أفلَا تذكَّروا ولم يُعرِضوا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] ، أولَمْ يُبيِّنْ لهم إهلاكُ مَن تقدَّمَهم منَ القُرونِ.
وأمَّا زِيادةُ (مِن) في قولِه في آيةِ (السَّجدةِ): مِنْ قَبْلِهِمْ [السجدة: 26] ، فإنَّها مقصودٌ فيها استغراقُ عُمومٍ لمُناسَبةِ ما تقدَّمَ هذه الآيةَ مِن حصْرِ التَّقسيمِ في قولِه: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ، وأُعْقِبَت به، ممَّا يُفْهِمُه قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] ؛ إذ ليس هنا الواردُ كالواردِ في سُورةِ (طه) من قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [طه: 128] ، فهذا يُشعِرُ بخُصوصٍ يُناسِبُه سُقوطُ (مِن) الاستغراقيَّةِ، وما في آيةِ (السَّجدةِ) يُشعِرُ بعُمومٍ واستغراقٍ تُناسِبُه (مِن) في قولِه: مِنْ قَبْلِهِمْ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ ويَجِبُ .
2- قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى كَلامٌ مُستأنَفٌ سِيقَ لبَيانِ حِكْمةِ عدَمِ وُقوعِ ما يُشْعِرُ به قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآيةَ، مِن أنْ يُصيبَهم مثْلُ ما أصاب القُرونَ المُهلَكةَ. وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ: تَلويحٌ بأنَّ ذلك التَّأخيرَ لتَشريفِه عليه السَّلامُ، كما يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] .
- و(اللِّزامُ) إمَّا مصْدرُ (لازَمَ)؛ وُصِفَ به لقصْدِ المُبالَغةِ في قُوَّةِ المعنى؛ كأنَّه حاصِلٌ من عِدَّةِ ناسٍ، وإمَّا (فِعال) بمعنى (مُفعِل)، أي: مُلْزِم، كأنَّه آلةُ اللُّزومِ؛ لفرْطِ لُزومِه .
- قولُه: أَجَلٍ مُسَمًّى معطوفٌ على كَلِمَةٌ، وفصْلُه عمَّا عُطِفَ عليه؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ جَوابِ (لولا)، وللإشعارِ باستقلالِ كلٍّ منهما بنفْيِ لُزومِ العذابِ، ومُراعاةِ فواصلِ الآيِ الكريمةِ .
- وفي الآيةِ تَقديمٌ وتأخيرٌ، أي: ولولا كلمةٌ سبَقَتْ من ربِّك وأجَلٌ مُسمًّى، لكان العذابُ لِزامًا، أي: لازِمًا لهم كما لزِمَ الأُمَمَ الَّتي قبْلَهم .
3- قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
- قولُه: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المُرادُ به المغربُ والعشاءُ -على أحدِ الأقوالِ- وتَقديمُ الوقْتِ فيهما؛ لاختصاصِهما بمَزيدِ الفضْلِ؛ فإنَّ القلْبَ فيهما أجمَعُ، والنَّفسَ إلى الاستراحةِ أميَلُ، فتكونُ العِبادةُ فيهما أشَقَّ .
- قولُه: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ قيل: هو تَكريرٌ لصَلاتيِ الصُّبحِ والمغربِ إرادةَ الاختصاصِ، ومَجيئُه بلفْظِ الجمْعِ لأمْنِ الإلباسِ. وقيل: هو أمْرٌ بصَلاةِ الظُّهرِ؛ فإنَّه نِهايةُ النِّصفِ الأوَّلِ من النَّهارِ وبِدايةُ النِّصفِ الآخرِ، وجمْعُه باعتبارِ النِّصفينِ، أو لأنَّ النَّهارَ جنْسٌ، أو بالتَّطوُّعِ في أجزاءِ النَّهارِ . وقيل: هو تكريرٌ لصَلاتَيِ الصُّبحِ والعَصرِ؛ إعلامًا بمزيد فَضلِهما .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، وفي سُورةِ (ق): فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] ، فقال في الأُولى: وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وفي الثَّانيةِ: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وفي سُورةِ الطُّورِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور: 48، 49]، وذلك لرَعْيِ الفواصلِ ومَقاطعِ الآيِ؛ فقد تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (ق) من قولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38]، فناسَبَ هذا قولُه: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وأمَّا آيةُ (طه) فقدِ اكتنَفَها آيٌ، مَقاطِعُها الألِفُ المفتوحُ ما قبْلَها نُطْقًا وتقديرًا، فجاء ذلك على ما يجِبُ في السُّورتينِ.
أمَّا قولُه تعالى في السُّورتينِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه: 130] [ق: 39] ، بناءً على المُتقدِّمِ فيهما من قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] واتِّصالِه به، فَبِيِّنُ الوُضوحِ؛ لأنَّ المُرادَ أمْرُه عليه السَّلامُ بالصَّبرِ على أذاهمْ في قولِهم: كاهنٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، إلى غيرِ ذلك ممَّا نزَّهَ اللهُ نَبِيَّه عليه السَّلامُ منه، فأُمِرَ بالصَّبرِ على ذلك، وأُمِرَ أنْ يَستعينَ بصبْرِه وصَلاتِه، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وهو المُرادُ أيضًا هنا، وعن الصَّلاةِ عبَّرَ بالتَّسبيحِ -في قولِ أكثرِ المُفسِّرينَ-، وإنْ أُرِيدَ بالتَّسبيحِ معنى التَّنزيهِ بالذِّكرِ المعروفِ، فذلك أيضًا بَيِّنٌ، والمعنى مُتعارَفٌ، ويكونُ مأمورًا بالصَّبرِ والذِّكرِ والتَّنزيهِ، فالالْتِحامُ بيِّنٌ .
- ومن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وفي سُورةِ (هودٍ) قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هود: 114] ؛ قيل: جاءتِ التَّثنيةُ على الأصْلِ، والجمْعُ لأمْنِ اللَّبسِ؛ إذ النَّهارُ ليس له إلَّا طَرفانِ. وقيل: هو على حَقيقةِ الجمْعِ؛ الفجْرُ: الطَّرفُ الأوَّلُ، والظُّهرُ والعصرُ من الطَّرفِ الثَّاني، والطَّرفُ الثَّالثُ: المغرِبُ والعشاءُ. وقيل: النَّهارُ له أربعةُ أطرافٍ: عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، وعندَ غُروبِها، وعندَ زَوالِ الشَّمسِ، وعندَ وُقوفِها للزَّوالِ. وقيل: الظُّهرُ في آخرِ طرَفِ النَّهارِ الأوَّلِ، وأوَّلِ طرَفِ النَّهارِ الآخِر، فهي في طَرفينِ منه، والطَّرفُ الثَّالثُ: غُروبُ الشَّمسِ، وهو وقْتُ المغربِ. وقيل: يُجْعَلُ النَّهارُ للجنْسِ، فلكلِّ يومٍ طرَفٌ، فيتكرَّرُ بتَكرُّرِه. وقيل: المُرادُ بالأطرافِ السَّاعاتُ؛ لأنَّ الطَّرفَ آخِرُ الشَّيءِ . وقيل: إنَّه إنَّما جُمِع؛ لأنَّه يتكَرَّرُ في كلِّ نهارٍ ويعودُ .