موسوعة التفسير

سورةُ الغاشِيةِ
الآيات (17-20)

ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

نُصِبَتْ: أي: جُعِلَت مَنصوبةً قائمةً ثابتةً، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ وإهدافٍ في استِواءٍ [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/339)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((تفسير ابن كثير)) (8/387). .
سُطِحَتْ: أي بُسِطَت ومُدَّت، وأصلُ (سطح): يدُلُّ على بَسطِ الشَّيءِ ومَدِّه [102] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 525)، ((تفسير ابن جرير)) (24/340)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى آمِرًا عِبادَه بالنَّظرِ في مخلوقاتِه الدَّالَّةِ على قُدرتِه وعَظَمتِه: أفلَا يَنظُرُ النَّاسُ إلى الإبِلِ مُتفَكِّرينَ في كيفيَّةِ خَلْقِها على هذا النَّحوِ العَجيبِ؟ وإلى السَّماءِ كيف رُفِعَت هذا الارتِفاعَ العَظيمَ؟ وإلى الجِبالِ كيف أُقيمَت على هذه الهيئةِ الباهرةِ؟ وإلى الأرضِ كيف بَسَطَها اللهُ؛ لتَستَقِرَّ عليه المخلوقاتُ؟

تفسير الآيات:

أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا ذكَر تعالى أمرَ القيامةِ، وانقسامَ أهلِها إلى أشقياءَ وسعداءَ، وعُلِم أنَّه لا سبيلَ إلى إثباتِ ذلك إلَّا بواسطةِ الخالقِ الحكيمِ؛ أتبَع ذلك بذكرِه هذه الدلائلِ، وذِكرِ ما العربُ مشاهدوه وملابسوه دائمًا [103] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/463). .
لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالَى الجنَّةَ بما وصَفَ، عَجِبَ الكفَّارُ مِن ذلك، فذكَّرَهم غَرائبَ صُنعِه [104] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 608)، ويُنظر أيضًا ((تفسير الرسعني)) (8/600). .
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17).
أي: أفلَا يَنظُرُ النَّاسُ إلى الإبِلِ مُتفَكِّرينَ في كيفيَّةِ خَلْقِها على هذا النَّحوِ العَجيبِ البَديعِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/338)، ((تفسير الرازي)) (31/143-145)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيميَّة (1/507)، ((تفسير ابن كثير)) (8/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 922)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/303، 304)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 177). ؟
كما قال تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 5 - 7] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71 - 73] .
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18).
أي: أفلا يَنظُرونَ إلى السَّماءِ كذلك كيف رُفِعَت هذا الارتِفاعَ العَظيمَ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/339)، ((تفسير القرطبي)) (20/36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/387)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/16)، ((تفسير الشوكاني)) (5/524)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 177، 178). ؟
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] .
وقال سُبحانَه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19).
أي: أفلا يَنظُرونَ إلى الجِبالِ كيف أُقيمَت على هيئةٍ باهرةٍ؛ إذ هي مُنتَصِبةٌ جامِدةٌ ثابتةٌ لا تَبرَحُ مَكانَها ولا تَسقُطُ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/339)، ((تفسير القرطبي)) (20/36)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/200)، ((تفسير ابن كثير)) (8/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 922)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/306). ؟
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20).
أي: أفلا يَنظُرونَ إلى الأرضِ كيف بَسَطَها اللهُ، فجَعَل لها سَطحًا تَستَقِرُّ عليه المخلوقاتُ [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/340)، ((الوسيط)) للواحدي (4/476)، ((تفسير ابن كثير)) (8/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 922)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/306)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 179). قال ابنُ تيميَّةَ: (اعلَمْ أنَّ الأرضَ قد اتَّفَقوا على أنَّها كُرَويَّةُ الشَّكلِ). ((مجموع الفتاوى)) (5/ 150). ؟
كما قال تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إلى قَولِه: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ توجيهُ الأنظارِ إلى تلك المذكوراتِ الأربَعةِ؛ لِما فيها مِن عَظيمِ الدَّلائِلِ على القُدرةِ وعلى البَعْثِ، ثمَّ الإقرارُ لله تعالى بالوَحدانيَّةِ والأُلوهيَّةِ؛ نَتيجةً لإثباتِ رُبوبيَّتِه تعالى لجَميعِ خَلْقِه [109] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/516). .
2- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إلى قولِه: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ حَثٌّ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ إلى النَّظَرِ فيها بعَينِ البَصَرِ وعَينِ البَصيرةِ؛ بعَينِ البَصَرِ الَّذي هو الإدراكُ الحِسِّيُّ، وبعَينِ البصيرةِ الَّتي هي الإدراكُ العَقليُّ؛ حتَّى نَستَدِلَّ بها على ما تدُلُّ عليه مِن آياتِ اللهِ مِن قُدرةٍ وعِلْمٍ، ورحمةٍ وحِكمةٍ وغيرِ ذلك [110] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/588). . فالنَّظَرُ الدَّقيقُ والفِكرُ الدَّارِسُ مِمَّا قد يؤدِّي بصاحِبِه إلى الاستدلالِ على وُجودِ اللهِ تعالى وعلى قُدرتِه، كما نطق قُسُّ بنُ ساعِدةَ في الجاهليَّةِ في خُطبتِه المشهورةِ: «ليلٌ داجٍ [111] أي: مُظلِمٌ. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (6/2334). ، ونهارٌ ساجٍ [112] أي: ساكِنٌ دائِمٌ. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (6/2372). ، وسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، ونجومٌ تُزهِر، وبحارٌ تَزخَرُ، وجِبالٌ مُرْساةٌ، وأرضٌ مُدْحاةٌ، وأنهارٌ مُجْراةٌ» [113] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (3/299). ؛ فقد ذكَرَ السَّماءَ والجِبالَ والأرضَ [114] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/516، 518). قال ابن كثير: (وهكذا أقسَمَ ضِمامٌ في سؤالِه على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن كثير)) (8/387). وقد روى مسلمٌ في ((صحيحه)) (12) عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رضيَ الله عنه، قال:((نُهِينا أنْ نَسْأَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شَيءٍ، فكان يُعْجِبُنا أنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِن أهلِ البادِيَةِ العاقِلُ، فيَسْأَلَه، ونحنُ نَسْمَعُ، فجاء رجُلٌ مِن أهلِ البادِيَةِ، فقال: يا محمَّدُ، أتانا رَسولُكَ فزَعَم لنا أنَّك تَزعُمُ أنَّ اللهَ أرْسَلَك، قال: صَدَق، قال: فمَنْ خَلَق السَّماءَ؟ قال: اللهُ، قال: فمَنْ خَلَق الأرضَ؟ قال: اللهُ، قال: فمَنْ نَصَب هذه الجبالَ، وجَعَل فيها ما جَعَل؟ قال: الله، قال: فبالَّذي خَلَق السَّماءَ، وخَلَق الأرْضَ، ونَصَب هذه الجبالَ، آللهُ أَرْسَلَك؟ قال: نعَمْ)). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إلى قَولِه: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ سؤالٌ عن المناسَبةِ بيْنَ هذه الأشياءِ.
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ القُرآنَ نَزَل على العَرَبِ، وكانوا يُسافِرونَ كثيرًا، وكانوا يَسيرون على الإبِلِ في المَهامِهِ والقِفارِ مُستَوحِشينَ مُنفَرِدينَ عن النَّاسِ، والإنسانُ إذا انفرد أقبَلَ على التَّفَكُّرِ في الأشياءِ؛ لأنَّه ليس معه مَن يُحادِثُه، وليس هناك مَن يَشغَلُ به سَمْعَه وبَصَرَه، فلا بُدَّ مِن أن يجعَلَ دَأْبَه الفِكرَ، فإذا فكَّرَ في تلك الحالِ فأوَّلُ ما يَقَعُ بَصَرُه على الجَمَلِ الَّذي هو راكِبُه؛ فيرى منظرًا عَجيبًا، وإن نظرَ إلى فَوقٍ لم يَرَ غَيرَ السَّماءِ، وإذا نظَرَ يمينًا وشِمالًا لم يَرَ غَيرَ الجبالِ، وإذا نظَرَ إلى تحتٍ لم يَرَ غيرَ الأرضِ؛ فكأنَّه تعالى أمَرَه بالنَّظَرِ وَقتَ الخَلوةِ والانفرادِ؛ حتَّى لا تحمِلَه داعيةُ الكِبْرِ والحَسَدِ على تَرْكِ النَّظَرِ.
الثَّاني: أنَّ جميعَ المخلوقاتِ دالَّةٌ على الصَّانِعِ سُبحانَه إلَّا أنَّها قِسمانِ: منها ما للشَّهوةِ فيه حَظٌّ، كالوَجهِ الحَسَنِ، والذَّهَبِ والفِضَّةِ، فهذه مع دَلالتِها على الصَّانعِ قد يمنَعُ استِحْسانُها عن إكمالِ النَّظَرِ فيها، ومنها ما لا حَظَّ فيه للشَّهوةِ، كهذه الأشياءِ؛ فأَمَر بالنَّظَرِ فيها؛ إذ لا مانِعَ مِن إكمالِ النَّظَرِ [115] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/145، 146)، ((تفسير ابن عادل)) (20/302). .
الثَّالِثُ: أنَّ الإبِلَ كانت أنفَسَ أموالِهم وأكثَرَها، وإنَّما جَمَع بيْنَها وبيْن ما بَعْدَها؛ لأنَّهما جاءَا على وَفْقِ عادةِ العَرَبِ في انتفاعِهم بالإبِلِ أكثَرَ، ولا يَحصُلُ إلَّا بأن ترعى وتَشرَبَ، وذلك بنُزولِ المطَرِ مِنَ السَّماءِ؛ فعَطَفَها في الذِّكرِ على الإبِلِ، ثمَّ لا بُدَّ لهم مِن حِصنٍ يَتحَصَّنونَ به، ولا شَيءَ في ذلك لهم كالجِبالِ؛ فعَطَفَها على ما قَبْلَها، فإذا فَتَّش البَدَويُّ في نَفْسِه وجَدَ هذه الأشياءَ حاضِرةً عِندَه على التَّرتيبِ المذكورِ، بخلافِ الحَضَريِّ [116] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 609، 610). .
الرَّابعُ: لَعلَّ الحِكمةَ في ذِكرِ هذه الأشياءِ التَّنبيهُ على أنَّ هذا الوجهَ مِن الاستدلالِ غيرُ مُختَصٍّ بنَوعٍ دونَ نَوعٍ، بلْ هو عامٌّ في الكلِّ على ما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ، ولو ذَكَرَ غيرَها لم يكُنِ الأمرُ كذلك، لا جَرَمَ ذَكَرَ اللهُ تعالَى هذه الأمورِ، تَنبيهًا على أنَّ جَميعَ الأجسامِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ، صَغيرِها وكَبيرِها، حَسَنِها وقَبيحِها؛ مُتساويةٌ في الدَّلالةِ على الخالقِ الحَكيمِ [117] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/144). .
2- في قَولِه تعالى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ اعلَمْ أنَّ تَسطيحَها لا يُنافي أنَّها كُرةٌ مُستديرةٌ قد أحاطت الأفلاكُ بها مِن جميعِ جوانِبِها، كما دَلَّ على ذلك النَّقلُ والعَقلُ والحِسُّ والمشاهَدةُ، كما هو مَذكورٌ مَعروفٌ عندَ أكثَرِ النَّاسِ، خُصوصًا في هذه الأزمنةِ الَّتي وقف النَّاسُ على أكثَرِ أرجائِها بما أعطاهم اللهُ مِن الأسبابِ المقَرِّبةِ للبَعيدِ؛ فإنَّ التَّسطيحَ إنَّما يُنافي كُرَويَّةَ الجِسمِ الصَّغيرِ جِدًّا، الَّذي لو سُطِحَ لم يَبْقَ له استِدارةٌ تُذكَرُ، وأمَّا جِسمُ الأرضِ الَّذي هو في غايةِ الكِبَرِ والسَّعةِ فيكونُ كُرَويًّا مُسَطَّحًا، ولا يَتنافى الأمْرانِ، كما يَعرِفُ ذلك أربابُ الخِبرةِ [118] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 922). قال ابنُ القَيِّمِ: (قال تعالى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، ولا يُنافي ذلك كَونَها كُرويَّةً؛ فهي كُرةٌ في الحقيقةِ، لها سَطحٌ يَستَقِرُّ عليه الحيوانُ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 295). ويُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/212). ، ولكِنْ مع هذا ذَكَروا أنَّها ليست كُرَويَّةً مُتساويةَ الأطرافِ، بل إنَّها مُنبَعِجةٌ نحوَ الشَّمالِ والجَنوبِ، فهم يقولون: إنَّها بَيضاويَّةٌ، أي: على شَكلِ البَيضةِ في انبعاجِها شَمالًا وجَنوبًا [119] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/663). .
3- قال تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إلى قولِه: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ عقَّبَ به أمْرَ المعادِ، ورتَّبَ عليه الأمرَ بالتَّذكيرِ فقال: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ الآياتِ؛ لأنَّ المعنى: أفلا يَنظُرونَ إلى أنواعِ المخلوقاتِ مِن البسائطِ والمَرْكَباتِ ليَتحقَّقوا كَمالَ قُدرةِ الخالقِ سُبحانَه وتعالَى، فلا يُنكِروا اقتِدارَه على البَعثِ [120] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((تفسير أبي السعود)) (9/151). .

بلاغة الآيات:

- قولُه تعالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ لَمَّا تَقدَّمَ التَّذكيرُ بيَومِ القِيامةِ، ووُصِفَ حالُ أهلِ الشَّقاءِ بما وُصِفوا به، وكان قد تَقرَّرَ فيما نزَلَ مِن القُرآنِ أنَّ أهلَ الشَّقاءِ هم أهلُ الإشراكِ باللهِ؛ فُرِّع على ذلك إنكارٌ عليهم إعراضَهُم عن النَّظرِ في دَلائلِ الوَحدانيَّةِ، فالفاءُ في قولِه: أَفَلَا يَنْظُرُونَ تَفريعُ التَّعليلِ على المُعلَّلِ؛ لأنَّ فَظاعةَ ذلك الوَعيدِ تَجعَلُ المقامَ مَقامَ استدلالٍ على أنَّهم مَحقوقون بوُجوبِ النَّظرِ في دَلائلِ الوَحدانيَّةِ الَّتي هي أصلُ الاهتداءِ إلى تَصديقِ ما أخْبَرَهم به القرآنُ مِن البَعثِ والجزاءِ، وإلى الاهتداءِ إلى أنَّ مُنشِئَ النَّشأةِ الأُولى عن عدَمٍ بما فيها مِن عَظيمِ الموجوداتِ كالجِبالِ والسَّماءِ؛ لا يُستبعَدُ في جانبِ قُدرتِه إعادةُ إنشاءِ الإنسانِ بعْدَ فَنائِه عن عدَمٍ، وهو دُونَ تلك الموجوداتِ العظيمةِ الأحجامِ؛ فكان إعراضُهم عن النَّظَرِ مَجْلبةً لِما يُجَشِّمُهم مِن الشَّقاوةِ، وما وقَعَ بيْن هذا التَّفريعِ وبيْن المُفرَّعِ عنه مِن جُملةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية: 8] ؛ في مَوقعِ الاعتراضِ [121] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/463)، ((تفسير أبي السعود)) (9/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/303، 304)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/459). .
- قولُه: أَفَلَا يَنْظُرُونَ ... نظمُ الآياتِ مُتوافقٌ مع فاتحةِ السُّورةِ الكريمةِ، فالخِطابُ في قولِه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ للعرَبِ، نبَّهَهم أوَّلًا بقولِه: هَلْ أَتَاكَ، وفخَّم المُستفهَمَ منه وعظَّمَه؛ إذِ المعنى: تَنبَّهوا لهذا الأمرِ الخطيرِ، والخطْبِ الجَسيمِ، وهُبُّوا مِن رَقدةِ الغَفلةِ، فخوَّفَهم بالصَّلَى في النَّارِ، وبإطعامِ الضَّريعِ، ولَمَّا كان الضَّريعُ حَديثًا مُناسِبًا للإبلِ -وهو جِنسٌ مِن الشَّوكِ تَرعاهُ الإبلُ ما دامَ رَطْبًا- وأراد أنْ يُقرِّرَ ذلك، أتَى تَنبيهٌ آخَرُ على سَبيلِ النَّظرِ؛ ليَضُمَّ شاهدَ العقلِ مع شاهدِ النَّصِّ، وأَسَّسَ الدَّلائلَ والشَّواهدَ على حسَبِ ما أَلِفوه في بَواديهم وأوديتِهم، وعدَلَ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ تَوبيخًا لهم، وتَنبيهًا على مَظانِّ الافتكارِ، فقال: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ إلى آخِرِه [122] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/745)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/413). .
- والهَمزةُ في أَفَلَا يَنْظُرُونَ ... للاستفهامِ التَّوبيخيِّ الإنكاريِّ، إنكارًا عليهم إهمالَ النَّظَرِ في الحالِ إلى دَقائقِ صُنعِ اللهِ في بَعضِ مَخلوقاتِه [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/304)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/459). .
- والنَّظَرُ هنا هو نظَرُ العَينِ المُفيدُ الاعتبارَ بدَقائقِ المَنظورِ، وتَعديتُه بحرْفِ (إلى) تَنبيهٌ على إمعانِ النَّظَرِ؛ ليَشعُرَ النَّاظرُ ما في المَنظورِ مِن الدَّقائقِ؛ فإنَّ قَولَهم: نظَرَ إلى كذا، أشدُّ في تَوجيهِ النَّظرِ مِن: نَظَرَ كذا؛ لِما في (إلى) مِن معْنى الانتهاءِ، حتى كأنَّ النظَرَ انْتهى عندَ المجرورِ بـ (إلى) انتهاءَ تَمكُّنٍ واستقرارٍ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/304). .
- ولزِيادةِ التَّنبيهِ على إنكارِ إهمالِ النَّظَرِ في الحالِ إلى دَقائقِ صُنعِ اللهِ في بَعضِ مَخلوقاتِه؛ قُيِّدَ فِعلُ يَنْظُرُونَ بالكَيفيَّاتِ المعدودةِ في قولِه: كَيْفَ خُلِقَتْ، كَيْفَ رُفِعَتْ، كَيْفَ نُصِبَتْ، كَيْفَ سُطِحَتْ، أي: لمْ يَنظُروا إلى دَقائقِ هَيئاتِ خَلْقِها [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/304). .
- ووَجهُ ذِكْرِ الإبِلِ خاصَّةً: أنَّ الإبِلَ أجمَعُ للمَنافِعِ مِن سائِرِ الحَيوانِ؛ لأنَّ ضُروبَه أربَعةٌ: حَلُوبةٌ، ورَكوبةٌ، وأَكولةٌ، وحَمولةٌ، والإبِلُ تجمَعُ هذه الخِلالَ الأربَعَ؛ فكانت النِّعمةُ بها أعَمَّ، وظُهورُ القُدرةِ بها أتَمَّ [126] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/262)، ((تفسير القرطبي)) (20/35). . فخُصَّتِ الإبلُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه اجتَمَعَ فيها ما تَفرَّقَ مِن المنافعِ في غَيرِها؛ مِن أكْلِ لَحمِها، وشُربِ لَبنِها، والحمْلِ عليها، والتَّنقُّلِ عليها إلى البلادِ الشَّاسِعةِ، وعَيشِها بأيِّ نَباتٍ أكَلَتْه، وصَبْرِها على العطَشِ، حتَّى إنَّ فيها ما يَرِدُ الماءَ لعَشْرٍ، وطَواعيتِها لِمَن يَقودُها، ونَهضتِها وهي باركةٌ بالأحمالِ الثِّقالِ، وكَثرةِ حَنينِها، وتأثُّرِها بالصَّوتِ الحسَنِ على غِلَظِ أكْبادِها؛ فهي أشرَفُ المَركَباتِ وأكثَرُها صُنعًا، ولأنَّها أعجَبُ ما عندَ العرَبِ مِن هذا النَّوعِ [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/744)، ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((تفسير أبي حيان)) (10/464)، ((تفسير أبي السعود)) (9/151)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/304، 305). .
- وإنَّما لم يَذكُرِ الفِيلَ وغيرَه ممَّا هو أعظَمُ مِن الجمَلِ؛ لأنَّ العرَبَ لم يَرَوا شَيئًا مِن ذلك ولا عَرَفوه [128] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 608، 609). .
- وبُنِيَت الأفعالُ الأربعةُ خُلِقَتْ رُفِعَتْ نُصِبَتْ سُطِحَتْ لِمَا لمْ يُسَمَّ فاعلُه؛ للعِلمِ بفاعِلِ ذلك [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/306). .