موسوعة التفسير

سورةُ الغاشِيةِ
الآيات (8-16)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ

غريب الكلمات:

لِسَعْيِهَا: أي: لِعَمَلِها الَّذي عَمِلَتْ في الدُّنْيا مِن طاعةِ رَبِّها، والسَّعْيُ: المَشيُ السَّريعُ، وهو دُونَ العَدْوِ، ويُستعمَلُ للجِدِّ في الأمرِ، خيرًا كان أو شرًّا، وأكثَرُ ما يُستعمَلُ السَّعْيُ في الأفعالِ المحمودةِ .
لَاغِيَةً: أي: لَغوًا أو باطِلًا مِنَ القَولِ، واللَّغْوُ مِنَ الكَلامِ: ما لا يُعتَدُّ به، وأصلُ (لغو): يدُلُّ على الشَّيءِ لا يُعتَدُّ به .
وَأَكْوَابٌ: جمعُ كوبٍ، وهو القَدَحُ لا عُرْوةَ له، وقيل: هو إناءٌ مستديرُ الرَّأسِ لا عُرْوةَ له، وقيل: هو الَّذي لا خُرطومَ له، فإذا كان لها خُرطومٌ فهو إبريقٌ .
وَنَمَارِقُ: أي: وَسائِدُ ومَرافِقُ، واحدتُها: نُمْرُقةٌ ونِمْرِقةٌ .
وَزَرَابِيُّ: أي: بُسُطٌ فاخِرةٌ، واحدتُها: زَرْبِيَّةٌ .
مَبْثُوثَةٌ: أي: مَبسوطةٌ مُتفَرِّقةٌ في المجالِسِ، وأصلُ (بثث): تفريقُ الشَّيءِ وإظهارُه .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالَ أهلِ الجنَّةِ مِن المؤمنينَ وما هم فيه مِن النَّعيمِ: وتكونُ وُجوهُ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ عليها أَثَرُ النِّعمةِ؛ مِنَ البَهجةِ والسُّرورِ والنَّضرةِ، راضِينَ عَمَّا عَمِلوه في الدُّنيا مِن أعمالٍ صالحةٍ، حينَ وَجَدوا ثوابَها العَظيمَ في الآخِرةِ، وهم في جَنَّةٍ مُرتَفِعةٍ، لا يَسمَعونَ فيها ما لا فائِدةَ فيه مِن الكَلامِ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى بعضَ صِفاتِ الجنَّةِ، فيقولُ: في تلك الجَنَّةِ العاليةِ عَينٌ جارِيةٌ مِن غَيرِ أُخدودٍ، وفي تلك الجَنَّةِ أَسِرَّةٌ عالِيةٌ مُرتَفِعةٌ، وأكوابٌ مَوضوعةٌ بيْن أيديهم، ووَسائِدُ مُرَتَّبةٌ ومَصفوفةٌ بَعضُها بجانبِ بَعضٍ، وفُرُشٌ فاخِرةٌ مُنتَشِرةٌ!

تفسير الآيات:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر سُبحانَه وَعيدَ الكُفَّارِ؛ أتْبَعَه بشَرحِ أحوالِ المُؤمِنينَ .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8).
أي: يَظهَرُ على وُجوهِ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ أَثَرُ النِّعمةِ؛ مِنَ البَهجةِ والسُّرورِ والنَّضرةِ، والرَّاحةِ والرَّفاهِيَةِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 22 - 24] .
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9).
أي: أصحابُ تلك الوُجوهِ راضُونَ عَمَّا عَمِلوه في الدُّنيا مِن أعمالٍ صالحةٍ، حينَ وَجَدوا ثوابَها العَظيمَ في الآخِرةِ .
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر السَّعْيَ؛ أتْبَعَه ثَوابَه .
وأيضًا لمَّا ذَكَر وَصفَ أهلِ الثَّوابِ أوَّلًا؛ وَصَف دارَ الثَّوابِ ثانيًا .
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10).
أي: في جَنَّةٍ مُرتَفِعةٍ، وفي مَوضِعٍ عالٍ .
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما كان مِن هذا لا يَصفُو وفيه ما يُكرَهُ مِنَ الكَلامِ، قال مُنَزِّهًا لها عن كُلِّ سُوءٍ :
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11).
أي: لا يَسمَعونَ فيها أيَّ كَلِمةٍ لا فائِدةَ مِن وَرائِها .
كما قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [مريم: 62] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة: 25-26] .
وقال عزَّ وجَلَّ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [النبأ: 35] .
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12).
أي: في تلك الجَنَّةِ العاليةِ عَينٌ جارِيةٌ بماءٍ أو بغَيرِه مِنَ الأشرِبةِ، مِن غَيرِ أُخدودٍ .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر: 45] .
وقال سُبحانَه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة: 31] .
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا لم يَبْقَ بَعدَ الأكلِ والشُّربِ إلَّا الاتِّكاءُ؛ قال مُفْهِمًا أنَّهم مُلوكٌ :
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13).
أي: فيها أَسِرَّةٌ عالِيةٌ مُرتَفِعةٌ، يَجلِسونَ عليها أو يَضطَجِعونَ .
كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] .
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُستريحُ يَحتاجُ إلى تَكرارِ الشُّربِ وما يَشرَبُ فيه، قال :
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14).
أي: فيها أكْوابٌ ، مَوضوعةٌ بيْنَ أيديهم، كلَّما أرادوها وجَدوها حاضرةً عندَهم، قد أُعِدَّتْ لهم بأشرِبَتِها .
كما قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف: 70-71] .
وقال سُبحانَه وتعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة: 17-18] .
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15).
أي: وفيها وَسائِدُ مُرَتَّبةٌ ومَصفوفةٌ بَعضُها بجانبِ بَعضٍ، يَستَنِدونَ إليها .
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن هو بهذه المنزلةِ يَحتاجُ إلى المسانِدِ والفُرُشِ الزَّائِدةِ، قال تعالى :
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16).
أي: وفيها فُرُشٌ فاخِرةٌ جَميلةٌ كَثيرةٌ مُنتَشِرةٌ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً تنبيهٌ على أنَّ الجنَّةَ دارُ جِدٍّ وحَقيقةٍ، فلا كَلامَ فيها إلَّا لفائِدةٍ؛ لأنَّ النُّفوسَ فيها تخلَّصَت مِن النَّقائصِ كُلِّها، فلا يَلَذُّ لها إلَّا الحقائِقُ والسُّمُوُّ العَقليُّ والخُلُقيُّ، ولا يَنطِقونَ إلَّا ما يَزيدُ النُّفوسَ تَزكيةً .
2- قال الله تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ هذا وَعدٌ للمُؤمِنينَ بأنَّ لهم في الجنَّةِ ما يَعرِفونَ مِنَ النَّعيمِ في الدُّنيا، وقد عَلِموا أنَّ تَرَفَ الجنَّةِ لا يَبلُغُه الوَصفُ بالكلامِ، وجُمِعَ ذلك بوَجهِ الإجمالِ في قَولِه تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] ، ولكِنَّ الأرواحَ تَرتاحُ بمألوفاتِها فتُعْطاها، فيكونُ نَعيمُ أرواحِ النَّاسِ في كُلِّ عَصرٍ ومِن كُلِّ مِصرٍ في الدَّرَجةِ القُصْوى ممَّا أَلِفوه، ولا سِيَّما ما هو مألوفٌ لجَميعِ أهلِ الحَضارةِ والتَّرَفِ، وكانوا يتمَنَّونَه في الدُّنيا، ثمَّ يُزادونَ مِنَ النَّعيمِ ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَرٍ .
3- في قَولِه تعالى: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ انظُرْ للتَّقابُلِ: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ عاليةٌ يَجلِسونَ عليها يَتَفَكَّهونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس: 56] ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ يعني: ليست مرفوعةً عنهم، بل هي موضوعةٌ لهم، متى شاؤوا شَرِبوا فيها مِن أنهارِ الجَنَّةِ الأربعةِ .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ شُروعٌ في رِوايةِ حَديثِ أهلِ الجنَّةِ. وتَقديمُ حِكايةِ حالِ أهلِ النَّارِ في الآياتِ السَّابقةِ؛ لأنَّه أدخَلُ في تَهويلِ الغاشيةِ وتَفخيمِ حَديثِها، ولأنَّ حِكايةَ حُسنِ حالِ أهلِ الجنَّةِ بعدَ حِكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ ممَّا يَزيدُ المَحكيَّ حُسنًا وبَهجةً. وإنَّما لم تُعطَفْ عليها؛ إيذانًا بكَمالِ تَبايُنِ مَضمونَيهِما .
- وكذلِك يَتبادَرُ في بادئِ الرَّأيِ أنَّ حقَّ هذه الجُملةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ أنْ تُعطَفَ على جُملةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية: 2] بالواوِ؛ لأنَّها مُشارِكةٌ لها في حُكْمِ البَيانِ لحَديثِ الغاشيةِ، كما عُطِفَت في سُورةِ (عَبَسَ) جُملةُ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ [عبس: 40] على جُملةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [عبس: 38] ، فيَتَّجِهُ أنْ يُسأَلَ عن وَجْهِ فصْلِها عن الَّتي قبْلها، ووَجْهُ الفصلِ التَّنبيهُ على أنَّ المقصودَ مِن الاستِفهامِ في هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية: 1] الإعلامُ بحالِ المُعرَّضِ بتَهديدِهم، وهمْ أصحابُ الوُجوهِ الخاشعةِ، فلمَّا حَصَلَ ذلك الإعلامُ بجُملةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية: 2] إلى آخِرِها، تمَّ المقصودُ، فجاءتِ الجُملةُ بعْدَها مَفصولةً؛ لأنَّها جُعِلَت استِئنافًا بَيانيًّا جَوابًا عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ تُثيرُه الجُملةُ السَّابقةُ، فيَتساءَلُ السَّامعُ: هلْ مِن حَديثِ الغاشيةِ ما هو مُغايرٌ لهذا الهوْلِ؟ أي: ما هو أُنسٌ ونَعيمٌ لقَومٍ آخَرينَ، ولهذا النَّظمِ صارتْ هذه الجُملةُ بمَنزلةِ الاستِطرادِ والتَّتميمِ؛ لإظهارِ الفرْقِ بيْن حالَيِ الفَريقَينِ، ولتَعقيبِ النِّذارةِ بالبِشارةِ؛ فمَوقعُ هذه الجُملةِ المُستأنَفةِ مَوقعُ الاعتراضِ، ولا تَنافيَ بيْنَ الاستِئنافِ والاعتراضِ، وذلك مُوجِبٌ لفصْلِها عمَّا قبْلَها، وفيه جَرْيُ القرآنِ على سَنَنِه مِن تَعقيبِ التَّرهيبِ والتَّرغيبِ، فأمَّا الجُملتانِ اللَّتانِ في سُورةِ (عَبَسَ)، فلمْ يَتقدَّمْهما إبهامٌ؛ لأنَّهما مُتَّصلتانِ معًا بالظَّرفِ، وهو فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ [عبس: 33] .
- قولُه: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ المرادُ بالسَّعيِ: العمَلُ الَّذي يَسعاهُ المَرءُ ليَستفيدَ منه، وعُبِّرَ به هنا مُقابِلَ قولِه في ضِدِّه: عَامِلَةٌ [الغاشية: 3] .
2- قولُه تعالَى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً
- قولُه: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ خبَرٌ ثالثٌ عن وُجُوهٌ، والجنَّةُ أُريدَ بها مَجموعُ دار الثَّوابِ الصَّادقُ بجنَّاتٍ كَثيرةٍ، أو أُرِيدَ بها الجِنسُ. ووَصْفُ جَنَّةٍ بـ عَالِيَةٍ؛ لزِيادةِ الحُسنِ؛ لأنَّ أحسَنَ الجنَّاتِ ما كان في المُرتفَعاتِ؛ قال تعالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: 265] ، فذلك يَزيدُ حُسنَ باطِنِها بحُسنِ ما يُشاهِدُه الكائنُ فيها مِن مَناظِرَ، وهذا وصْفٌ شاملٌ لحُسنِ مَوقعِ الجنَّةِ .
- قولُه: لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً اللَّاغيةُ: مَصدرٌ بمعْنى اللَّغوِ، مِثلُ الكاذِبةِ للكذِبِ، والخائنةِ والعافيةِ، أي: لا يُسمَعُ فيها لَغوٌ، أو هو وصْفٌ لمَوصوفٍ مُقدَّرِ التَّأنيثِ، أو هي على معْنى النَّسبِ، أي: كَلمةً ذاتَ لَغوٍ، أو نفْسًا تَلْغو .
- ونَفْيُ سَماعِ لاغيةٍ مُكنًّى به عن انتفاءِ اللَّغوِ في الجنَّةِ، مِن بابِ:
ولا تَرى الضَّبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: لا ضبَّ بها؛ إذ الضَّبُّ لا يَخْلو مِن الانجِحارِ .
- وقدِ ابتُدِئَ في تَعدادِ صِفاتِ الجنَّةِ بصِفتِها الذَّاتيَّةِ، وهو كَونُها عاليةً، وثُنِّيَ بصِفةِ تَنزيهِها عمَّا يُعَدُّ مِن نَقائصِ مَجامعِ النَّاسِ ومَساكِنِ الجَماعاتِ، وهو الغَوغاءُ واللَّغوُ، وقد جُرِّدَت جُملةُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً مِن أنْ تُعطَفَ على عَالِيَةٍ [الغاشية: 10] ؛ مُراعاةً لعدَمِ التَّناسُبِ بيْن المُفرداتِ والجُمَلِ، وذلك حَقيقٌ بعدَمِ العطْفِ؛ لأنَّه أشدُّ مِن كَمالِ الانقطاعِ في عطْفِ الجُمَلِ، وهذا وصْفٌ للجنَّةِ بحُسنِ سُكَّانِها .
3- قولُه تعالَى: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
- قولُه: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ صِفةٌ ثالثةٌ لـ جَنَّةٍ [الغاشية: 10] . والمرادُ جِنسُ العُيونِ، يُريدُ أنَّ فيها عُيونًا في غايةِ الكَثرةِ، وهذا وصْفٌ للجنَّةِ باستِكمالِها مَحاسنَ الجنَّاتِ، أو المرادُ عَينٌ مَخصوصةٌ، ذُكِرَت تَشريفًا لها .
- وقولُه: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، أي: يَجْري ماؤها ولا يَنقطِعُ، والتَّنكيرُ للتَّعظيمِ .
- وإنَّما لم تُعطَفْ على الجُملةِ الَّتي قبْلَها؛ لاختِلافِهما؛ بالفِعليَّةِ في الأُولى، والاسميَّةِ في الثَّانيةِ، وذلك الاختلافُ مِن مُحسِّناتِ الفصْلِ؛ ولأنَّ جُملةَ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً مَقصودٌ منها التَّنزُّهُ عن النَّقائصِ، وجُملةَ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ مَقصودٌ منها إثباتُ بَعضِ مَحاسنِها .
- قولُه: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ صِفةٌ رابعةٌ لـ جَنَّةٍ، وأُعِيدَ قولُه: فِيهَا دونَ أنْ يُعطَفَ سُرُرٌ على عَيْنٌ عطْفَ المُفرَداتِ؛ لأنَّ عطْفَ السُّررِ على عَيْنٌ يَبْدو نابيًا عن الذَّوقِ؛ لعدَمِ الجامعِ بيْن عَينِ الماءِ والسُّررِ في الذِّهنِ لولا أنْ جَمَعَها الكَونُ في الجنَّةِ؛ فلذلك كُرِّرَ ظَرفُ فِيهَا تَصريحًا بأنَّ تلك الظَّرفيَّةَ هي الجامعُ، ولأنَّ بيْن ظَرفيَّةِ العَينِ الجاريةِ في الجنَّةِ وبيْن ظَرفيَّةِ السُّررِ وما عُطِفَ عليه مِن مَتاعِ القُصورِ والأثاثِ: تَفاوُتًا؛ ولذلك عُطِفَ وَأَكْوَابٌ، وَنَمَارِقُ، وَزَرَابِيُّ؛ لأنَّها مُتماثِلةٌ في أنَّها مِن مَتاعِ المساكنِ الفائقةِ، وهذا وصْفٌ لمَحاسنِ الجنَّةِ بمَحاسِنِ أثاثِ قُصورِها، فضَميرُ فِيهَا عائدٌ للجنَّةِ باعتبارِ أنَّ ما في قُصورِها هو مَظروفٌ فيها بواسطةٍ .
- وقولُه: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ سُررٌ: جمْعُ سَريرٍ، وهو ما يُجلَسُ عليه ويُضطجَعُ عليه، فيَسَعُ الإنسانَ المُضْطَجِعَ، يُتَّخَذُ مِن خشَبٍ أو حَديدٍ له قَوائمُ ليَكونَ مُرتفِعًا عن الأرضِ. ولَمَّا كان الارتفاعُ عن الأرضِ مَأخوذًا مِن مَفهومِ السُّررِ، كان وصْفُها بـ مَرْفُوعَةٌ لتَصويرِ حُسنِها .
- قولُه: وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ كُنِّيَ بـ مَوْضُوعَةٌ عن عدَمِ انقِطاعِ لَذَّةِ الشَّرابِ طعْمًا ونَشوةً، أي: مَوضوعةٌ بما فيها مِن أَشربةٍ .
- قولُه: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ المَبثوثةُ: المُنتشِرةُ على الأرضِ بكَثرةٍ، وذلك يُفيدُ كِنايةً عن الكَثرةِ .
- وقد قُوبِلَت صِفاتُ وُجوهِ أهلِ النَّارِ بصِفاتِ وُجوهِ أهلِ الجنَّةِ؛ فقُوبِلَت صِفاتُ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية: 2-3] ، بصِفاتِ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية: 8-9] ، وقُوبِلَ قولُه: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 4] بقولِه: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الغاشية: 10] ، وقُوبِلَ: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ [الغاشية: 5] بقولِه: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [الغاشية: 12] ، وقُوبِلَ شَقاءُ عَيشِ أهلِ النَّارِ الَّذي أفادَه قولُه: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 6-7] ، بمَقاعِدِ أهلِ الجنَّةِ المُشعِرةِ بتَرَفِ العَيشِ مِن شَرابٍ ومَتاعٍ .