موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (10-26)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غَريبُ الكَلِماتِ:

ثُلَّةٌ: أي: فِرقةٌ وجَماعةٌ غَيرُ مَحصورةِ العَدَدِ في قِلَّةٍ ولا كَثرةٍ، وأصلُ (ثلل) هنا: يدُلُّ على التَّجمُّعِ [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 446)، ((تفسير ابن جرير)) (22/330)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/368)، ((البسيط)) للواحدي (21/220)، ((المفردات)) للراغب (ص: 175)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387). .
مَوْضُونَةٍ: أي: مَنسوجةٍ مُتداخِلٍ بعضُها في بَعضٍ، والوَضْنُ: نَسجُ الدِّرْعِ، ويُستَعارُ لكُلِّ نَسجٍ مُحكَمٍ [53] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 446)، ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 426)، ((المفردات)) للراغب (ص: 874)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 388)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .
مُخَلَّدُونَ: أي: لَا يَموتونَ، مِن الخُلْدِ وهو البقاءُ، أو: يبقونَ على حالِهم لا يَتغيَّرونَ، ولا يَكبَرونَ، ولا يهرَمونَ، والعربُ تقولُ للَّذي لا يشيبُ: مخلَّدٌ، وأصلُ (خلد): يدُلُّ على الثَّباتِ والملازمةِ [54] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/249)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/207)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/581)، ((المفردات)) للراغب (ص: 291)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 111)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311). .
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ: الأكوابُ جَمْعُ كُوبٍ، وهو الإناءُ المستديرُ الرَّأسِ الَّذي لا عُرْوةَ له ولا خُرطومَ، فإنْ كان له ذلك فهو الإبريقُ، والكأسُ: الإناء فيه الخَمرُ والشَّرابُ، فإن كان فارغًا فليس بكأسٍ، فالكأسُ اسْمٌ يَقعُ لكلِّ إناءٍ معَ شَرابِه [55] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/37، 123، 217)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 447)، ((تفسير ابن جرير)) (20/644) و(22/295)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/110)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/221) و(5/145)، ((تفسير الثعلبي)) (25/ 433)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7263)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/183) و(3/362، 436). .
مَعِينٍ: أي: شرابٍ ظاهرٍ للعيونِ جارٍ، يقالُ: مَعَن الماءُ: أي: جرى، وأصلُ (معن): يدُلُّ على سُهولةٍ في جَرَيانٍ، وقيل: هو مشتقٌّ مِن العينِ، ووزنُه مفعولٌ، فالميمُ زائدةٌ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/297)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/335)، ((تفسير ابن جزي)) (1/43)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). ذكر الرَّازيُّ أنَّ مَعِينٍ على وزن فَعِيلٍ أو مَفعولٍ، ثمَّ قال: (فإنْ قُلْنا: «فَعِيل» فهو مِن مَعَن الماءُ، إذا جرى، وإنْ قُلْنا: «مفعول» فهو مِن عانه، إذا شخَصه بعَينِه وميَّزه، والأوَّلُ أصحُّ وأظهَرُ؛ لأنَّ المَعْيونَ يوهِمُ بأنَّه مَعيوبٌ؛ لأنَّ قولَ القائلِ: عانَني فُلانٌ معناه: ضرَّني إذا أصابَتْني عَيْنُه، ولأنَّ الوصفَ بالمفعولِ لا فائدةَ فيه، وأمَّا الجرَيانُ في المشروبِ فهو إن كان في الماءِ فهو صِفةُ مدحٍ، وإن كان في غيرِه فهو أمرٌ عجيبٌ لا يوجَدُ في الدُّنيا، فيكونُ كقولِه تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ [محمد: 15] ). ((تفسير الرازي)) (29/394). .
 لَا يُصَدَّعُونَ: أي: لا تُصَدَّعُ رُؤوسُهم مِن شُرْبِها، والتَّصديعُ: الإصابةُ بالصُّداعِ، وهو وَجَعُ الرَّأسِ النَّاشِئُ عن السُّكرِ، والصَّدعُ: الشَّقُّ في الأجسامِ الصُّلبةِ، كالزُّجاجِ والحَديدِ ونَحوِهما، واستُعيرَ منه الصُّداعُ، وهو شِبهُ الانشِقاقِ في الرَّأسِ مِنَ الوَجَعِ [57] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 447)، ((تفسير ابن جرير)) (22/298)، ((المفردات)) للراغب (ص: 478)، ((تفسير البغوي)) (5/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). .
وَلَا يُنْزِفُونَ: أي: لا يَسْكَرونَ، ولا تَذْهَبُ عُقولُهم، ولا يَنفَدُ شَرابُهم، يقالُ: أنزَفَ الرَّجُلُ: إذا فَنِيَت خَمرُه، وأنزَفَ: إذا ذَهَب عَقْلُه مِنَ السُّكْرِ، وأصلُ (نزف): يدُلُّ على نَفادِ شَيءٍ وانقِطاعٍ [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/535)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/416)، ((البسيط)) للواحدي (19/47)، ((المفردات)) للراغب (ص: 799)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 319). .
وَحُورٌ: جمعُ حَوْراءَ، وهي: البَيضاءُ، أو: الشَّديدةُ بَياضِ العَينِ الشَّديدةُ سَوادِها [59] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 443)، ((تفسير ابن جرير)) (22/263، 302)، ((المفردات)) للراغب (ص: 673)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 385)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/458)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716). .
عِينٌ: جمعُ عَيْناءَ، وهي نَجْلاءُ العَيْنِ (أي: واسِعَتُها) في حُسْنٍ، وأصلُ (عين): يدُلُّ على حاسَّةِ البَصَرِ [60] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 371)، ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 346)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/199)، ((تفسير القرطبي)) (15/80)، ((تفسير ابن كثير)) (7/14)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
الْمَكْنُونِ: أي: المَصُونِ المَخزونِ في الصَّدَفِ لم تَمَسَّه الأيدي، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ [61] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 371)، ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((تفسير البغوي)) (8/11). .
لَغْوًا: أي: باطِلًا مِن القَولِ يَصدُرُ عن خَلَلِ العَقلِ، وأصلُه يدُلُّ على الشَّيءِ لا يُعتَدُّ به [62] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير ابن جرير)) (22/305)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/255)، ((المفردات)) للراغب (ص: 742)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 224)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 801). .
تَأْثِيمًا: أي: ما يُؤَثِّمُهم مِن فِعلٍ أو قَولٍ، مِثلُ الضَّربِ والشَّتمِ وغَيرِهما، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على بُطءٍ وتأخُّرٍ؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخَيرِ مُتأخِّرٌ عنه [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/305)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((المفردات)) للراغب (ص: 742)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 303). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
قَولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ: فيه وَجهانِ:
أحدُهما: أنَّهما مُبتدَأٌ وخَبَرٌ، على وَجهِ التَّعظيمِ والتَّفخيمِ، كقَولِهم: أنتَ أنتَ، والنَّاسُ النَّاسُ! أو على تقديرِ: والسَّابِقونَ إلى الإِيمانِ: السَّابِقونَ إلى الجنَّةِ، أو السَّابِقونَ إلى طاعةِ اللهِ: السَّابِقونَ إلى رَحمتِه، أو نحوِ ذلك. وعليه يَكونُ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ بدَلًا أو خبَرًا ثانيًا.
الوَجهُ الثَّاني: أَنْ يكونَ السَّابِقُونَ الثَّاني توكيدًا لفَظيًّا للأوَّلِ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ جملةٌ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ للمُبتَدَأِ، والرَّابِطُ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ [64] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/109)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/217)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1203)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/ 195). .
- قَولُه تعالى: وَحُورٌ عِينٌ
قَولُه تعالى: وَحُورٌ: مَرفوعٌ على وَجهَينِ:
 أحَدُهما: أنَّه مُبتدأٌ مَرفوعٌ خَبَرُه مَحذوفٌ مُقَدَّمٌ عليه، تَقديرُه: لهم حُورٌ، أو عِندَهم، أو ثَمَّ.
الثَّاني: أنَّه مَعطوفٌ على وِلْدَانٌ في قَولِه تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [65] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (1/172)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/111)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/218)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1204)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/203). [الواقعة: 17] .
- قَولُه تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا
قولُه تعالى: قِيلًا مَنصوبٌ على الاستِثناءِ المُنقَطِعِ؛ لأنَّ هذا القِيلَ لا يندَرِجُ تحتَ اللَّغْوِ والتَّأثيمِ.
قولُه تعالى: سَلَامًا سَلَامًا فيه أوجُهٌ:
 أحَدُها: أنَّه بدَلٌ مِن قِيلًا، أي: لا يَسمَعونَ فيها إلَّا سَلامًا سَلامًا.
الثاني: أنَّه مَنصوبٌ على المَفعوليَّةِ بالمَصدَرِ قِيلًا، أي: إلَّا أن يَقولَ بَعضُهم لِبَعضٍ: سَلامًا سَلامًا.
الثَّالِثُ: أنَّه نَعتٌ لـ قِيلًا على معنى: إلَّا قِيلًا يسلَمُ فيه مِنَ اللَّغوِ والإثمِ.
الرَّابعُ: أنَّه مَنصوبٌ على المَصدَريَّةِ بفِعلٍ مَحذوفٍ، تقديرُه: إلَّا قِيلًا اسْلَموا سَلامًا، وسَلَامًا الثَّاني: توكيدٌ لَفظيٌّ للأوَّلِ [66] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/112)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/220)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1204)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/ 205). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى أحوالَ السَّابقينَ، فيقولُ: والسَّابقونَ إلى الإيمانِ والأعمالِ الصَّالِحةِ هم السَّابقونَ إلى دخولِ الجنَّاتِ، أولئك المُقَرَّبونَ عِندَ اللهِ تعالى، في جَنَّاتِ النَّعيمِ، وهم جَماعةٌ كثيرةٌ مِنَ الأوَّلينَ، وعَدَدٌ قَليلٌ مِنَ الآخِرينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ ما أعدَّه لهؤلاءِ السَّابقينَ بالخَيراتِ مِن النَّعيمِ، فيقولُ: يَجلِسونَ على سُرُرٍ مَنسوجةٍ بالذَّهَبِ واللَّآلئِ وغيرِهما، متَّكئِينَ على تلك السُّرُرِ مُتقابِلينَ لا يَنظُرُ بَعضُهم إلى قَفا بَعضٍ.
ويَدورُ عليهم لخِدمتِهم وِلدانٌ صِغارٌ لا يَهرَمونَ ولا يموتونَ؛ يَطوفُون عليهم بأكوابٍ وأباريقَ وكُؤوسٍ مِن خَمرٍ ظاهرةٍ جاريةٍ بلا انقطاعٍ، لا يُصيبُهم مِن تلك الخَمْرِ صُداعٌ، ولا يَسْكَرونَ، ولا ينفَدُ شرابُهم، ويَطوفُ عليهم أولئك الوِلْدانُ بفاكِهةٍ مِمَّا يَتخَيَّرونَه، ولَحْمِ طَيرٍ مِمَّا يَشتَهونَه، ولهم نِساءٌ بِيضٌ، شَديدٌ سوادُ أعيُنهِنَّ وبَياضُها، واسعاتُ الأعْيُنِ معَ حُسنِها، وهُنَّ في بَياضِهنَّ وجَمالِهنَّ كالدُّرِّ الأبيَضِ الصَّافي، المحفوظِ المَستورِ؛ جَزاءً بما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا.
لا يَسمَعونَ في تلك الجَنَّاتِ كَلامًا باطِلًا، ولا ما يُوقِعُهم في الإثمِ، إنَّما يَسمَعون فيها التَّسليمَ، والقَولَ السَّالِمَ مِنَ اللَّغْوِ والتَّأثيمِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10).
أي: والَّذين يَسبِقونَ إلى الإيمانِ والأعمالِ الصَّالِحاتِ، ويُبادِرونَ إلى فِعلِ الخَيراتِ هم السَّابقونَ إلى دخولِ الجنَّاتِ ونَيلِ الكراماتِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/287)، ((تفسير الزمخشري)) (4/458)، ((تفسير القرطبي)) (17/200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/517)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 329). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ لفظَ «السَّابِقونَ» الأوَّلَ (المبتدأ)، غيرُ الثَّاني (الخبر)، وأنَّ المعنى: والسَّابِقونَ في الدُّنيا إلى الطَّاعاتِ هم السَّابِقونَ في الآخِرةِ إلى الجنَّاتِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والسمعانيُّ، واستظهره ابنُ القَيِّم، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثير، واختاره السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/216)، ((تفسير السمرقندي)) (3/391)، ((تفسير السمعاني)) (5/343)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 115)، ((تفسير ابن كثير)) (7/517)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 329). وقيل: السَّابِقونَ الأوَّلُ: مُبتدَأٌ، والثَّاني: خَبَرُه، على وَجهِ التَّعظيمِ، كقولِك: أنتَ أنتَ! أو النَّاسُ النَّاسُ. وممَّن اختار هذا المعنى: الشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/178). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/287). وقال أبو حيَّان: (ويرجِّحُ هذا القَولَ أنَّه ذَكَر أصحابَ المَيمَنةِ مُتعَجِّبًا منهم في سعَادتِهم، وأصحابَ المَشأَمةِ مُتعَجِّبًا منهم في شَقاوتِهم، فناسَبَ أن يَذكُرَ «السَّابِقونَ» مُثبِتًا حالَهم مُعَظِّمًا، وذلك بالإخبارِ أنَّهم نهايةٌ في العَظَمةِ والسَّعادةِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/79). وقيل: وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُ مُبتدَأٌ، والثَّاني توكيدٌ، والخبرُ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/109). .
كما قال تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 61] .
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ عُلُوَّ شأنِهم، ونَسَب السَّبْقَ إليهم؛ تَرجَمَه نازِعًا للفِعلِ منهم، بقَولِه [68] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/200). :
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11).
أي: أولئك الَّذين يُقرِّبُهم اللهُ تعالى منه [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/290)، ((تفسير السمعاني)) (5/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 329، 330). .
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لما ذَكَر السَّابِقينَ وأنَّهم المقرَّبونَ؛ بَيَّن تَقريبَه لهم بقَولِه تعالى [70] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/201). :
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12).
أي: في جَنَّاتٍ مُشتَمِلةٍ على نِعَمٍ كَثيرةٍ -بَدَنيَّةٍ وقَلبيَّةٍ- لا تَنقَطِعُ أبدًا [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((المفردات)) للراغب (ص: 815)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 330). .
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر السَّابِقينَ فَصَّلَهم؛ فقال [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/201). :
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13).
أي: هم جَماعةٌ كثيرةٌ مِنَ الأوَّلينَ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((تفسير القرطبي)) (17/200)، ((تفسير ابن جزي)) (2/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/517-519)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/290، 291)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/515، 516)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 331). قيل: المرادُ: جماعةٌ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، وقَليلٌ مِن أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((تفسير القرطبي)) (17/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/290، 291)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/515، 516). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/8). قال الشنقيطي: (ظاهِرُ القرآنِ في هذا المقامِ أنَّ الأوَّلينَ في الموضِعَينِ مِن الأُمَمِ الماضيةِ، والآخِرينَ فيهما مِن هذه الأُمَّةِ، وأنَّ قولَه تعالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ في السَّابقينَ خاصَّةً، وأنَّ قَولَه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ [الواقعة: 39، 40] في أصحابِ اليمينِ خاصَّةً. وإنَّما قُلْنا: إنَّ هذا هو ظاهرُ القرآنِ في الأمورِ الثَّلاثةِ، الَّتي هي شُمولُ الآياتِ لجميعِ الأُممِ، وكَونُ قليلٍ مِن الآخِرينَ في خصوصِ السَّابقينَ، وكَونُ ثُلَّةٍ مِن الآخِرينَ في خصوصِ أصحابِ اليمينِ؛ لأنَّه واضحٌ مِن سِياقِ الآياتِ. أمَّا شمولُ الآياتِ لجميعِ الأُممِ فقد دَلَّ عليه أوَّلُ السُّورةِ؛ لأنَّ قولَه: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إلى قولِه: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لا شكَّ أنَّه لا يَخُصُّ أُمَّةً دُونَ أمَّةٍ، وأنَّ الجَميعَ مُسْتَوونَ في الأهوالِ والحسابِ والجزاءِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ قولَه: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً عامٌّ في جميعِ أهلِ المحشَرِ، فظَهَر أنَّ السَّابقينَ وأصحابَ اليمينِ مِنهم مَنْ هو مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ، ومنهم مَنْ هو مِنْ هذه الأمَّةِ. وعلى هذا فظاهِرُ القُرآنِ أنَّ السَّابِقينَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ أكثَرُ مِنَ السَّابقينَ مِن هذه الأمَّةِ، وأنَّ أصحابَ اليمينِ مِن الأُممِ السَّابِقةِ ليست أكثرَ مِن أصحابِ اليمينِ مِن هذه الأمَّةِ؛ لأنَّه عَبَّر في السَّابقينَ مِن هذه الأمَّةِ بقولِه: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ، وعَبَّر عن أصحابِ اليمينِ مِن هذه الأُمَّةِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ [الواقعة: 40]. ولا غرابةَ في هذا؛ لأنَّ الأُمَمَ الماضيةَ أُممٌ كثيرةٌ، وفيها أنبياءُ كثيرةٌ ورُسُلٌ، فلا مانِعَ مِن أن يَجتَمِعَ مِن سابِقيها مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثرُ مِن سابِقِي هذه الأُمَّةِ وحْدَها. أمَّا أصحابُ اليمينِ مِن هذه الأمَّةِ فيحتملُ أنْ يَكونوا أكثرَ مِن أصحابِ اليمينِ مِن جميعِ الأممِ؛ لأنَّ الثُّلَّةَ تَتناوَلُ العددَ الكثيرَ، وقد يكونُ أحدُ العددَيْنِ الكثيرَينِ أكثَرَ مِن الآخَرِ، معَ أنَّهما كِلَيْهما كثيرٌ). ((أضواء البيان)) (7/515). وقيل: الأوَّلونَ هم أوَّلُ هذه الأُمَّةِ، والآخِرونَ: المُتأخِّرونَ مِن هذه الأُمَّةِ. وممَّن رجَّح هذا القَولَ: ابنُ جُزَي، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/518، 519)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 331). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14).
أي: وهم عَدَدٌ قَليلٌ مِنَ الآخِرينَ [74] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((تفسير القرطبي)) (17/200)، ((تفسير ابن جزي)) (2/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/517-519)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/290، 291)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/515، 516)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 331). .
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15).
أي: مَجالِسُهم على سُرُرٍ مَنسوجةٍ بالذَّهَبِ وغَيرِه مِنَ الجواهِرِ واللَّآلئِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/291)، ((تفسير القرطبي)) (17/201)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/517). قال البِقاعي: (عَلَى سُرُرٍ وهو ما يَسُرُّ الإنسانَ مِن المقاعِدِ العاليةِ المصنوعةِ للرَّاحةِ والكرامةِ، الَّتي هي آيةُ المُلْكِ، وهو العَرشُ مَوْضُونَةٍ أي: مَنسوجةٍ نَسْجًا مُضاعَفًا، مَنضودةٍ، داخِلٍ بَعضُها في بَعضٍ، مُقارِبةِ النَّسْجِ... لكِنْ نَسْجُها بالذَّهَبِ، مُفَصَّلًا بالجَوهَرِ مِنَ الدُّرِّ والياقوتِ). ((نظم الدرر)) (19/202). وقال ابن عاشور: (السُّرُرُ: جَمعُ سَريرٍ، وهو كُرسيٌّ طَويلٌ مُتَّسِعٌ، يجلِسُ عليه المُتَّكِئُ والمُضطجِعُ، له سُوقٌ أربَعٌ، مُرتَفِعٌ على الأرضِ بنَحوِ ذِراعٍ، يُتَّخَذُ مِن مُختَلِفِ الأعوادِ، ويتَّخِذُه الملوكُ مِن ذَهَبٍ ومِن فِضَّةٍ، ومِن عاجٍ ومِن نَفيسِ العُودِ... والمَوضونةُ: المَسبوكُ بَعضُها ببَعضٍ، كما تُسبَكُ حِلَقُ الدُّروعِ، وإنَّما تُوضَنُ سُطوحُها، وهي ما بَينَ سُوقِها الأربَعِ، حيث تُلقى عليها الطَّنافِسُ أو الزَّرابيُّ؛ للجُلوسِ والاضطِجاعِ؛ لِيَكونَ ذلك المَفرَشُ وَثيرًا، فلا يُؤلِمَ المُضطجِعَ ولا الجالِسَ. وفَسَّرَ بَعضُهم مَوْضُونَةٍ بمَرمولةٍ، أي: مَنسوجةٍ بقُضبانِ الذَّهَبِ!). ((تفسير ابن عاشور)) (27/292، 293). !
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر السُّرَرَ وبَيَّنَ عَظَمتَها؛ ذَكَر غايتَها، فقال [76] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/202). :
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16).
أي: متَّكئِينَ على تلك السُّرُرِ مُتقابِلينَ بوُجوهِهم، لا يَنظُرُ بَعضُهم إلى قَفا بَعضٍ؛ فليس أحَدٌ منهم وراءَ أحَدٍ [77] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/294)، ((تفسير القرطبي)) (17/202)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/517). قال السَّعدي: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا أي: على تلك السُّرُرِ، جُلوسَ تمكُّنٍ وطُمأنينةٍ، وراحةٍ واستِقرارٍ. مُتَقَابِلِينَ وَجهُ كُلٍّ مِنهم إلى وَجهِ صاحِبِه؛ مِن صفاءِ قُلوبِهم، وحُسنِ أدَبِهم، وتَقابُلِ قُلوبِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 833). !
قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 45 - 47] .
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُتَّكِئُ قد يَصعُبُ عليه القيامُ لحاجتِه؛ بَيَّنَ تعالى أنَّهم في غايةِ الرَّاحةِ، بقَولِه تعالى [78] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/203)، ((تفسير الشربيني)) (4/183). :
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17).
أي: يَدورُ عليهم لخِدمتِهم وِلدانٌ صِغارٌ، لا يَهرَمونَ ولا يموتونَ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/294، 295)، ((تفسير القرطبي)) (17/202، 203)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 333). !
كما قال الله تبارك وتعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [الإنسان: 19] .
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَدْحُهم هذا في غايةِ الإبلاغِ مع الإيجازِ، وكان فيه -إلى تبليغِ ما لهم- تحريكٌ إلى مِثْلِ أعمالِهم، وكان الأكلُ الَّذي هو مِن أعظَمِ المآرِبِ مُشارًا إليه بالمَدحِ العَظيمِ الَّذي مِن جُملتِه الاستِراحةُ على الأسِرَّةِ الَّتي عُلِمَ أنَّ مِن عادةِ الملوكِ أنَّهم لا يَتسَنَّمونَها إلَّا بعدَ قَضاءِ الوَطَرِ منه؛ فلم يَبْقَ بَعدَه إلَّا ما تدعو الحاجةُ إليه مِنَ المَشارِبِ وما يَتْبَعُها- قال تعالى [80] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/203). :
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ.
أي: يَطوفُ الوِلْدانُ عليهم بأكوابٍ مُستديرةٍ لا خراطيمَ لها ولا آذانَ، وأباريقَ يَبرُقُ لَونُها مِن صَفائِها، لها خراطيمُ وآذانٌ [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/295)، ((تفسير القرطبي)) (17/203)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 193)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/293، 294). قال البقاعي: (بِأَكْوَابٍ أي: كِيزانٍ مُستديرةِ الأفواهِ بلا عُرًى ولا خَراطيمَ، لا يَعوقُ الشَّارِبَ منها عائِقٌ عن الشُّربِ مِن أيِّ مَوضِعٍ أراد منها، فلا يحتاجُ أن يحَوِّلَ الإناءَ عن الحالةِ الَّتي تَناوَله بها لِيَشرَبَ). ((نظم الدرر)) (19/203). ويُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/183). وقال ابنُ عاشور: (الأباريقُ: جَمعُ إبريقٍ، وهو إناءٌ تُحمَلُ فيه الخَمرُ للشَّارِبينَ، فتُصَبُّ في الأكوابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). .
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ.
أي: ويَطوفُ الوِلْدانُ عليهم بكُؤوسٍ مِن خَمرٍ ظاهِرةٍ جاريةٍ تَنبُعُ كما يَنبُعُ الماءُ، بلا انقِطاعٍ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/297)، ((تفسير القرطبي)) (17/203)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/204). قال الزجاج: (الكأسُ: الإناءُ فيه الشَّرابُ، فإن لم يكُنْ فيه شَرابٌ فليس بكأسٍ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/110). وقال ابن جُزَي: (وقيل: الكأسُ إناءٌ واسعُ الفَمِ، ليس له مِقْبَضٌ، سواءٌ كان فيه خمرٌ أمْ لا). ((تفسير ابن جزي)) (2/191). !
كما قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات: 45 - 47] .
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أثبَتَ نَفْعَها وما يُشَوِّقُ إليها؛ نفَى ما يُنَفِّرُ عنها، فقال تعالى [83] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/204). :
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا.
أي: لا يَنشَأُ عن شُربِهم مِن تلك الخَمرِ صُداعٌ في رُؤوسِهم [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/298)، ((تفسير القرطبي)) (17/203)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). .
وَلَا يُنْزِفُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: وَلَا يُنْزِفُونَ بكَسرِ الزَّايِ، أي: لا يَسكَرونَ بها، أو: لا يَنفَدُ شَرابُهم [85] قرأ بها عاصِمٌ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/357). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/299)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/318)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 302)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 608)، ((تفسير السمعاني)) (5/347)، ((تفسير الرسعني)) (6/386). .
2- قِراءةُ: وَلَا يُنْزَفُونَ بفَتحِ الزَّاي، قيل: لا تذْهبُ عُقولهم. أو: لا يسكرون. وقيل: لا تَتَغَيَّرُ ألوانُهم، وَقيل غيرُ ذلك [86] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/357). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/299)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/318)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 302)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 609)، ((تفسير السمعاني)) (5/347)، ((تفسير الرسعني)) (6/386). .
وَلَا يُنْزِفُونَ.
أي: لا يَسْكَرُ بها شارِبُوها، فتَزولَ عُقولُهم، ولا ينفَدُ شرابُهم [87] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/392)، ((تفسير ابن عطية)) (5/242)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير الشوكاني)) (5/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). ذكَر الفرَّاءُ أنَّ يُنْزِفُونَ لها معنيانِ: الأوَّلُ: مِن أنزفَ الرَّجلُ إِذَا فنِيتْ خَمْرُه، والثَّاني: مِن أنزفَ إذا ذهَب عقلُه. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/ 385). وممَّن اختار أنَّه على قراءةِ الكسرِ فالمعنى: لا يَنفَدُ شَرابُهم، ولا تفنَى خمرُهم: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والنسفي، والخازن، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/299)، ((تفسير الثعلبي)) (8/144)، ((تفسير السمعاني)) (5/ 347)، ((تفسير البغوي)) (5/7)، ((تفسير القرطبي)) (17/203)، ((تفسير النسفي)) (3/421)، ((تفسير الخازن)) (4/236)،  ((تفسير العليمي)) (6/ 504). وممن اختار أنَّ المعنَى: لا تذهبُ عقولُهم، ولا يسكرونَ: جلالُ الدِّين المحلِّي، وأبو السُّعودِ، والشَّوكاني، والقنوجي، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 714)، ((تفسير أبي السعود)) (8/191)، ((تفسير الشوكاني)) (5/180) ((تفسير القنوجي)) (13/363)، ((تفسير القاسمي)) (9/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 295). وممَّن جمَع بينَ المعنيينِ السَّابقينِ: السَّمرقندي، فقال: (لا تَذْهبُ عقولُهم، ولا ينفَدُ شرابُهم). ((تفسير السمرقندي)) (3/392). .
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20).
أي: ويَطوفُ عليهم الوِلْدانُ بفاكِهةٍ مِمَّا يَختارونَه مِن أصنافِ الفَواكِهِ الكَثيرةِ في الجَنَّةِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/301)، ((تفسير القرطبي)) (17/204)، ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/295)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 333). .
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر ما جَرَت العادةُ بتَناوُلِه لمُجَرَّدِ اللَّذَّةِ؛ أتْبَعَه ما العادةُ أنَّه لإقامةِ البِنْيَةِ، وإنْ كان هناك لمجَرَّدِ اللَّذَّةِ أيضًا؛ فقال تعالى [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/204). :
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21).
أي: ويَطوفُ الوِلْدانُ عليهم بلَحْمِ طَيرٍ مِمَّا تَرغَبُ أنفُسُهم في أكْلِه [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/295)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 334). قال السعدي: (أي: مِن كُلِّ صِنفٍ مِنَ الطُّيورِ يَشتَهونَه، ومِن أيِّ جِنسٍ مِن لَحمِه أرادوا، وإنْ شاؤوا مَشويًّا أو طَبيخًا أو غيرَ ذلك!). ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .
قال تعالى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور: 22].
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن الكَوثَرِ، فقال: نَهرٌ أعطانِيه رَبِّي، أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحلى مِنَ العَسَلِ، وفيه طَيرٌ كأعناقِ الجُزُرِ [91] الجُزُرُ: جَمعُ جَزُورٍ، وهو: ما يَصلُحُ للذَّبحِ مِنَ الإبِلِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/ 3591). ! فقال عُمَرُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ تلك لَطَيرٌ ناعِمةٌ! فقال: أكَلَتُها أنعَمُ منها يا عُمَرُ!)) [92] أخرجه الترمذي (2542)، والنَّسائي في ((السنن الكبرى)) (11703)، وأحمد (13306) واللَّفظُ له. قال الترمذي: (حَسَنٌ غَريبٌ). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2542): (حَسَنٌ صَحيحٌ). وصَحَّح إسنادَه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21/30). .
وَحُورٌ عِينٌ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا لم يَكُنْ بعْدَ الأكلِ والشَّرابِ أشهَى مِنَ النِّساءِ؛ قال تعالى [93] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/184). :
وَحُورٌ عِينٌ (22).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ وَحُورٍ عِينٍ بالخَفضِ، قيل: المعنى: ويُطافُ عليهم بِحُورٍ عِينٍ. وقيل: المعنى: يُنعَّمونَ بحُورٍ عِينٍ، أو يُكرَمونَ بحُورٍ عِينٍ. وقيل هي عَطفٌ على قَولِه تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 12] ، على تقديرِ: أولئك المُقَرَّبونَ في جنَّاتِ النَّعيمِ، وفي حُورٍ عِينٍ، أي: في مُقارَنةِ حُورٍ عِينٍ، أو مُباشَرةِ حُورٍ عِينٍ [94] قرأ بها أبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/383). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 340)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/49)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 695)، ((الوسيط)) للواحدي (4/234)، ((تفسير ابن عطية)) (5/242). وقال ابنُ كثير: (وقراءةُ الجَرِّ تحتَمِلُ مَعنَيَينِ؛ أحَدُهما: أن يكونَ الإعرابُ على الإتْباعِ لِما قَبْلَه؛ لِقَولِه: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ* وَحُورٍ عِينٍ، كما قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة: 6] [على قراءةِ الجَرِّ]، وكما قال: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٌ [الإنسان: 21]. [على قراءةِ الجَرِّ]. والاحتِمالُ الثَّاني: أن يكونَ مِمَّا يَطوفُ به الوِلْدانُ المخَلَّدونَ عليهم: الحُورُ العِينُ، ولكِنْ يكونُ ذلك في القُصورِ، لا بيْن بَعضِهم بَعضًا، بل في الخيامِ يطوفُ عليهم الخُدَّامُ بالحُورِ العِينِ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/524). .
2- قِراءةُ: وَحُورٌ عِينٌ بالرَّفعِ، على معنى: ولهم حُورٌ عِينٌ، أو: وعِندَهم حُورٌ عِينٌ. وقيل: هو مَعطوفٌ على وِلْدَانٌ، والمعنى: ويَطوفُ عليهم حُورٌ عِينٌ [95] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/383). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 340)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/49)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 695)، ((الوسيط)) للواحدي (4/234)، ((تفسير ابن عطية)) (5/242)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/295). .
وَحُورٌ عِينٌ (22).
أي: ولهم نِساءٌ بِيضٌ، شَديدٌ سوادُ أعيُنِهِنَّ وبَياضُها، واسِعاتُ الأعيُنِ معَ حُسنِها [96] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/295). الحُورُ جَمعُ حَوراءَ، قيل: هي المرأةُ البيضاءُ النَّقيَّةُ البياضِ. وقيل: الحَوراءُ: الشَّديدةُ بَياضِ بَياضِ العَينِ، والشَّديدةُ سَوادِ سَوادِ العَينِ. وقيل جمعًا بينَ القولينِ السابقينِ: هي البيضاءُ القويَّةُ بَياضِ بياضِ العَينِ، وسوادِ سَوادِها. والعِينُ: جمعُ عَيناءَ، وهي العظيمةُ العَينِ في حُسنٍ وسَعةٍ. وقيل: المرادُ بالعِينِ حِسانُ الأعيُنِ. ويُنظَرُ ما تقدَّمَ في سورةِ (الدُّخَان) الآية (54). .
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23).
أي: وهُنَّ في بَياضِهنَّ وجَمالِهنَّ وصَفائِهنَّ يُشبِهْنَ الدُّرَّ الأبيَضَ الصَّافيَ المُتَلألِئَ المَستورَ عن لَمسِ الأيدي، وإصابةِ الغُبارِ والشَّمسِ والرِّياحِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((تفسير القرطبي)) (17/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/296)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 334). ممَّن نصَّ على أنَّ المرادَ بالمكنونِ: أي: في أصدافِه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والواحدي، والسمعاني، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/218)، ((تفسير الثعلبي)) (9/ 206)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1060)، ((تفسير السمعاني)) (5/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/205). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/11، 41). قال الألوسي: (وقُيِّد بالمكَنونِ -أي: المستورِ بما يَحفَظُه؛ لأنَّه أصفى وأبعَدُ مِن التَّغيُّرِ). ((تفسير الألوسي)) (14/138). !
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أبلَغَ في وَصفِ جَزائِهم بالحُسْنِ والصَّفاءِ؛ دَلَّ على أنَّ أعمالَهم كانت كذلك؛ لأنَّ الجَزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فقال تعالى [98] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/205). :
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24).
أي: إنَّما كانت جَنَّاتُ النَّعيمِ ثوابًا لأولئك السَّابِقينَ المُقَرَّبينَ؛ بسَبَبِ أعمالِهم الصَّالِحةِ الَّتي كانوا يَعمَلونَها في الدُّنيا [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/302)، ((تفسير القرطبي)) (17/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 334). .
قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43].
وقال سُبحانَه: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] .
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها تكملةٌ لوصفِ النَّعيمِ بذِكْرِ نعمةٍ رُوحيَّةٍ؛ فإنَّ سَلامةَ النَّفْسِ مِن سَماعِ ما لا يُحَبُّ سَماعُه، ومِن سَماعِ ما يُكرَهُ سَماعُه مِنَ الأذى: نِعمةٌ براحةِ البالِ، وشُغلِه بسَماعِ المَحْبوبِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/296). .
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25).
أي: لا يَسمَعونَ في تلك الجَنَّاتِ كَلامًا باطِلًا لا يَنفَعُهم، ولا يَسمَعونَ فيها كَلامًا يَجلِبُ عليهم الإثمَ، فيَضُرُّهم [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/305)، ((تفسير ابن كثير)) (7/524، 525)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 335). .
قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [النبأ: 35] .
وقال سُبحانَه: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً [الغاشية: 10، 11].
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه أتْبَع ذِكرَ النِّعمةِ السَّابِقةِ بذِكرِ نِعمةٍ أُخرى مِنَ الإنعامِ بالمَسموعِ الَّذي يُفيدُ الكَرامةَ؛ لأنَّ الإكرامَ لَذَّةٌ رُوحيَّةٌ، يَكسِبُ النَّفْسَ عِزَّةً وإدلالًا؛ بقَولِه تعالى [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/297). :
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26).
أي: إنَّما يَسمَعُ أهلُ الجَنَّةِ فيها التَّسليمَ، والقَولَ السَّالِمَ مِنَ اللَّغْوِ والتَّأثيمِ [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/305)، ((تفسير الرازي)) (29/400، 403)، ((تفسير القرطبي)) (17/206)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/69، 70)، ((تفسير ابن كثير)) (7/525)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/297)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 335، 336). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المرادَ هنا: التَّسليمُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، وابنُ عاشور، وهو ظاهِرُ اختيارِ الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/218)، ((تفسير الزمخشري)) (4/460)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/297)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/151، 152) و(3/466) و(7/518). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/7)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/41). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المرادَ: عُمومُ الكلامِ السَّالمِ مِنَ اللَّغوِ والإثمِ: الواحديُّ، والبِقاعي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 833)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 336). وظاهِرُ عبارةِ ابنِ كثيرٍ الجَمعُ بيْنَ المَعنَيَينِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/525). قال ابنُ القيِّم: (قَولُه تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا وهذا فيه نَفيٌ لِسَماعِ اللَّغْوِ والتَّأثيمِ، وإثباتٌ لضِدِّه، وهو السَّلامُ المُنافي لهما، فالمَقصودُ به نَفيُ شَيءٍ، وإثباتُ ضِدِّه). ((بدائع الفوائد)) (3/69). وقال السعدي: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا أي: إلَّا كلامًا طيِّبًا؛ وذلك لأنَّها دارُ الطَّيِّبينَ، ولا يكونُ فيها إلَّا كلُّ طيِّبٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .
كما قال تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا [مريم: 62].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ بِشارةٌ للمُسلِمينَ بأنَّ حَظَّهم في هذا الصِّنفِ كحَظِّ المُؤمِنينَ السَّالِفينَ -أصحابِ الرُّسُلِ-؛ لأنَّ المُسلِمينَ كانوا قد سَمِعوا في القُرآنِ وفي أحاديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تنويهًا بثَباتِ المُؤمِنينَ السَّالِفينَ مع الرُّسُلِ ومُجاهَدتِهم؛ فرُبَّما خامَرَ نُفوسَهم أنَّ تلك صِفةٌ لا تُنالُ بَعْدَهم، فبَشَّرَهم اللهُ بأنَّ لهم حَظًّا منها، مِثلُ قَولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إلى قَولِه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 144 - 146] وغَيرِها؛ تلهيبًا للمُسلِمينَ، وإذكاءً لهِمَمِهم في الأخذِ بما يُلحِقُهم بأمثالِ السَّابِقينَ مِن الأوَّلِينَ، فيَستَكِثرونَ مِن تلك الأعمالِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/289). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
2- قال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ قولُه: مُتَّكِئِينَ حالٌ مِن الضَّميرِ في عَلَى مِن قولِه: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، وهو العاملُ فيها، أي: استَقرُّوا عليها مُتَّكِئينَ مُتَقابِلينَ، لا يَنظُرُ بَعضُهم في أقْفاءِ بَعضٍ، وُصِفوا بحُسنِ العِشرةِ، وتَهذيبِ الأخلاقِ والآدابِ [105] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/459)، ((تفسير أبي السعود)) (8/191). ، فلَدَيهم مِن كَمالِ الأدَبِ ما لا يُمكِنُ أنْ يَستَدبِرَ أحدُهم الآخَرَ، كلُّهم مُؤَدَّبونَ، كلُّهم قُلوبٌ صافيةٌ؛ قال اللهُ تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] ولو أنَّ أحدًا يُكَلِّمُك وقد ولَّاك ظَهْرَه، هل يكونُ سماعُك له ومحبَّتُك له كما لو كان يُحَدِّثُك مُستَقِبلًا إيَّاك؟ وهذا شيءٌ مُشاهَدٌ مَعلومٌ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 332). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أنَّ كلَّ شيءٍ يُخالِفُ الإسلامَ فهو تأخُّرٌ، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة: 100] هؤلاء هم أهلُ السَّبْقِ، هم أهلُ التَّقَدُّمِ، هم أهلُ السَّعادةِ والفَلاحِ في الدُّنيا والآخِرةِ، أمَّا مَن خَرَجَ عن سَبيلِهم فهو في تأخُّرٍ، إلَّا أنْ يُرادَ بالتَّقَدُّمِ أنَّه كما قال اللهُ تعالى في فِرعَونَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [107] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (25/528). [هود: 98] !
2- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ذَكَرَ سُبحانَه مَنزِلتَهم قبْلَ ذِكْرِ مَنزِلِهم، وكما يقالُ: الجارُ قبْلَ الدَّارِ، وكما قالتِ امرأةُ فِرعَونَ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11] بدأتْ بالجِوارِ لِي عِنْدَكَ، وهنا قال: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ قبْلَ أنْ يَبدأَ بذِكرِ الثَّوابِ؛ لأنَّ قُربَهم مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ فوقَ كلِّ شيءٍ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 330). .
3- في قَولِه تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أضاف الجَنَّاتِ إلى النَّعيمِ؛ لأنَّ ساكِنَها مُنَعَّمٌ في بَدَنِه، ومُنَعَّمٌ في قَلْبِه، كما قال عزَّ وجلَّ في سورةِ (الإنسانِ): إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 10، 11]؛ نَضرةً في الوُجوهِ، وسُرورًا في القُلوبِ، فهم في نِعمَتَينِ؛ هما: نَعيمُ البَدَنِ، ونَعيمُ القَلبِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 330). .
4- في قَولِه تعالى: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ دَلالةٌ على فَضلِ صَدرِ هذه الأُمَّةِ -في الجُملةِ- على مُتأخِّريها؛ لِكَونِ المُقَرَّبينَ مِنَ الأوَّلينَ أكثَرَ مِنَ المتأخِّرينَ [110] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 833). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
5- في قَولِه تعالى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ إلى آخِرِ السِّياقِ: تَبشيرٌ ببَعضِ ما لهم مِنَ النَّعيمِ مِمَّا تَشتاقُ إليه النُّفوسُ في هذه الحياةِ الدُّنيا؛ لِتَشويقِهم إلى هذا المَصيرِ، فيَسْعَوا لنوالِه بصالحِ الأعمالِ، وليس الاقتِصارُ على المذكورِ هنا بمُقتَضٍ حَصْرَ النَّعيمِ فيما ذُكِرَ؛ فقد قال اللهُ تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/292). [الزخرف: 71].
6- في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ أنَّ مِن تمامِ اللَّذَّةِ والنَّعيمِ أنْ يكونَ مع الإنسانِ في بُستانِه ومَنزلِه مَن يُحِبُّ مُعاشَرتَه، ويُؤْثِرُ قُربَه، ولا يكونَ بَعيدًا منه، قد حِيلَ بَيْنَه وبيْنَه، بل سريرُه إلى جانبِ سَريرِ مَن يُحِبُّه [112] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 273). .
7- في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ دَلالةٌ على سَعةِ المكانِ؛ لأنَّ المكانَ إذا كان ضَيِّقًا فلا يُمكِنُ أنْ يكونَ النَّاسُ مُتقابِلينَ، والجَنَّةُ عَرضُها كعَرضِ السَّمَواتِ والأرضِ، ومَن يحيطُ بسَماءٍ واحدةٍ؟! كيف وهي عَرضُ السَّمَواتِ السَّبْعِ، والسَّمواتُ السَّبْعُ بعضُها مِن فَوقِ بعضٍ، وكُلَّما كان الشَّيءُ فَوقَ كانت دائِرتُه أوسَعَ، فمَن يحيطُ بهذا إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ؟! إذَنْ هم مُتقابِلونَ؛ لأنَّ أمكِنتَهم واسِعةٌ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 332). .
8- في قَولِه تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ سُؤالٌ: كيف قال ذلك مع أنَّ التَّخليدَ لا يَختَصُّ بالوِلْدانِ في الجنَّةِ؟!
الجَوابُ: مَعناه: أنَّهم لا يَتحَوَّلونَ عن شَكلِ الوِلْدانِ [114] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 548). ، فهم مُخلَّدونَ في صفةِ الوِلْدانِ، أي: بالشَّبابِ والغضاضةِ، أي: ليسوا كوِلْدانِ الدُّنيا يَصيرونَ قريبًا فِتيانًا، فكُهولًا، فشُيوخًا. فهم دائِمونَ على الطَّوافِ عليهم ومُناوَلتِهم، لا يَنقطِعون عن ذلك. وإذ قد ألِفوا رؤيتَهم؛ فمِنَ النِّعمةِ دَوامُهم معهم [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/293). .
9- في قَولِه تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ دليلٌ على جوازِ أكلِ الفاكِهةِ على صِفةِ التَّخَيُّرِ، وهو مُستثنًى مِنَ الأكلِ مِمَّا يلي [116] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/520)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 254). .
10- في قَولِه تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ لطيفةٌ: وهي أنَّه تعالى قال: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، ولم يَقُلْ: «ممَّا يَختارونَ» مع قُربِ أحَدِهما إلى الآخَرِ في المعنى، وهو أنَّ التَّخَيُّرَ مِن بابِ التَّكَلُّفِ، فكأنَّهم يأخُذونَ ما يكونُ في نهايةِ الكَمالِ، وهذا لا يُوجَدُ إلَّا مِمَّن لا يكونُ له حاجةٌ ولا اضطِرارٌ [117] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/396). .
11- في قَولِه تعالى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ لَمَّا كان في لَحمِ الطَّيرِ مِمَّا يُرغَبُ عنه، احتَرَز عنه بقَولِه: مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: غايةَ الشَّهوةِ، بحيثُ يَجِدونَ لآخِرِه مِنَ اللَّذَّةِ ما لأَوَّلِه [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/205). .
12- قَولُه تعالى: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ استُدِلَّ به على أنَّ الصَّفاءَ والرِّقَّةَ مَدْحٌ في الأشخاصِ [119] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/210) .
13- قَولُه تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه أنَّ العملَ سببٌ للثَّوابِ، فالباءُ للسَّبَبِ [120] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/145). ، وأنَّه كما حَسُنَت منهم الأعمالُ، أحسَنَ اللهُ لهم الجزاءَ، ووَفَّرَ لهم الفَوزَ والنَّعيمَ [121] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .
14- قَولُه تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا دليلٌ على حُسنِ أدَبِ أهلِ الجنَّةِ في خِطابِهم فيما بَيْنَهم؛ وأنَّه أطيَبُ كَلامٍ، وأسَرُّه للنُّفوسِ، وأسلَمُه مِن كُلِّ لَغوٍ وإثمٍ [122] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 833). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
- قولُه: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ هو القِسمُ الثَّالثُ مِن الأزواجِ الثَّلاثةِ، ولعلَّ تأْخيرَ ذِكرِهم مع كَونِهم أسبَقَ الأقسامِ، وأقدَمَهم في الفضلِ؛ لِيَقترِنَ ذِكرُهم ببَيانِ مَحاسِنِ أحوالِهم، على أنَّ إيرادَهم بعُنوانِ السَّبقِ مُطْلقًا مُعرِبٌ عن إحرازِهم لقَصَبِ السَّبقِ مِن جَميعِ الوجوهِ [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/189). .
أو: أُخِّرَ السَّابِقُونَ في الذِّكرِ عن أصحابِ اليمينِ؛ لتَشويقِ السَّامِعينَ إلى مَعرفةِ صِنفِهم بعْدَ أنْ ذُكِرَ الصِّنفانِ الآخَرانِ مِن الأصنافِ الثلاثةِ؛ تَرغيبًا في الاقتِداءِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288). .
- وقولُه: السَّابِقُونَ ثانيًا يَجوزُ جعْلُه خبَرًا عن السَّابِقُونَ الأوَّلِ، كما أُخبِرَ عن أصحابِ المَيمنةِ بأنَّهم مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] ؛ لأنَّه يدُلُّ على وصْفِهم بشَيءٍ لا يُكْتَنَهُ كُنْهُه، بحيث لا يَفي به التَّعبيرُ بعبارةٍ غيرِ تلك الصِّفةِ؛ إذ هي أقْصى ما يَسَعُه التَّعبيرُ، فإذا أراد السَّامعُ أنْ يَتصوَّرَ صِفاتِهم، فعليهِ أنْ يَتدبَّرَ حالَهم. ويَجوزُ جَعْلُه تأْكيدًا للأوَّلِ، فمآلُ جُملةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، ونَظيرتِها مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وجُملةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هو التَّعجيبُ مِن حالِهم، وطَريقُه هو الكِنايةُ، ولكنَّ بيْن الكنايتَينِ فرْقًا بأنَّ إحداهما كانتْ مِن طريقِ السُّؤالِ عن الوصْفِ، والأُخرى مِن طَريقِ تَعذُّرِ التَّعبيرِ بغيرِ ذلك الوصْفِ، والمعْنى: أنَّ حالَهم بلَغَت مُنتهَى الفضْلِ والرِّفعةِ، بحيث لا يَجِدُ المُتكلِّمُ خبَرًا يُخبِرُ به عنهم أدَلَّ على مَرتبتِهم مِن اسمِ السَّابِقُونَ، فهذا الخبَرُ أبلغُ في الدَّلالةِ على شرَفِ قدْرِهم مِن الإخبارِ بـ (ما) الاستِفهاميَّةِ التَّعجيبيَّةِ في قولِه: مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، ألَا ترى كيف سبَقَ بَسْط حالِ السَّابقينَ بقولِه: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فجمعَ بيْنَ اسمِ الإشارةِ المشارِ به إلى مَعروفٍ، وبيْنَ الإخبارِ عنه بقولِه: الْمُقَرَّبُونَ مُعرَّفًا بالألِفِ واللَّامِ العهديَّةِ، وليس مِثلُ هذا مَذكورًا في بَسْطِ حالِ أصحابِ اليمينِ؛ فإنَّه مُصدَّرٌ بقولِه: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة: 28] ، معَ ما في اشتِقاقِ لَقَبِهم مِن (السَّبْق) مِن الدَّلالةِ على بُلوغِهم أقْصى ما يَطلُبُه الطَّالِبون [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنيِّر)) (4/457، 458)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/187)، ((تفسير أبي حيان)) (10/79)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 547)، ((تفسير أبي السعود)) (8/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/287). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ قولُه: السَّابِقُونَ مُستعمَلًا في المُبادَرةِ والإسراعِ إلى الخَيرِ في الدِّينِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مُستعمَلًا في المُغالَبةِ في تَحصيلِ الخَيرِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/286، 287). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ السَّابِقُونَ في الآيةِ؛ لقصْدِ جَعْلِ وَصْفِ السَّابِقُونَ بمَنزلةِ اللَّقَبِ لهم، وليُفِيدَ العُمومَ، أي: إنَّهم سابِقون في كلِّ مَيدانٍ تَتسابَقُ إليه النُّفوسُ الزَّكيَّةُ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/287). .
- جُملةُ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّها جَوابٌ عمَّا يُثِيرُه قولُه: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ مِن تَساؤُلِ السَّامعِ عن أثَرِ التَّنويهِ بهم، وبذلك كان هذا ابتداءَ تَفصيلٍ لجَزاءِ الأصنافِ الثَّلاثةِ على طَريقةِ النَّشرِ بعْدَ اللَّفِّ [128] اللَّف والنَّشْر: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] ؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403- 406). ، اقتَضَتْه مُناسَبةُ اتِّصالِ المَعاني بالنِّسبةِ إلى كلِّ صِنفٍ أقرَبَ ذِكرًا، ثمَّ مُراعاةُ الأهمِّ بالنِّسبةِ إلى الصِّنفينِ الباقيَينِ؛ فكان بَعضُ الكلامِ آخِذًا بِحُجَزٍ بَعضٍ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288). .
- قولُه: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، المُقرَّبُ: أبلَغُ مِن القريبِ؛ لدَلالةِ صِيغتِه على الاصطفاءِ والاجتباءِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288). .
- قولُه: أُولَئِكَ إشارةٌ إلى السَّابقينَ، وما فيه مِن معْنى البُعدِ مع قُرْبِ العهْدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِهم في الفضْلِ [131] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/190). ، وفي جَعْلِ المُسنَدِ إليه اسمَ إشارةٍ أُولَئِكَ تَنبيهٌ على أنَّهم أحْرياءُ بما يُخبَرُ عنه مِن أجْلِ الوصْفِ الوارِدِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، وهو أنَّهم السَّابقونَ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288). .
- ولم يُذكَرْ مُتعلَّقُ الْمُقَرَّبُونَ؛ لظُهورِ أنَّه مُقرَّبٌ مِن اللهِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288). .
- قولُه: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُتعلِّقٌ بـ الْمُقَرَّبُونَ، أو بمُضمَرٍ هو حالٌ مِن ضَميرِه، أي: كائنينَ في جنَّاتِ النَّعيمِ، وإيقاعُ قولِه: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بعْدَ وصْفِ الْمُقَرَّبُونَ مُشيرٌ إلى أنَّ مَضمونَه مِن آثارِ التَّقريبِ المذكورِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/288)، ((تفسير أبي السعود)) (8/190). .
2- قولُه تعالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ اعتِراضٌ بيْن جُملةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 12] وجُملةِ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [الواقعة: 15] ، وهذا الاعتِراضُ يُقصَدُ منه التَّنويهُ بصِنفِ السَّابقينَ، وتَفضيلُهم بطَريقِ الكِنايةِ عن ذلك بلَفْظَيْ ثُلَّةٌ وَقَلِيلٌ المُشعِرَينِ بأنَّهم قُلٌّ مِن كُثْرٍ، فيَستلزِمُ ذلك أنَّهم صِنفٌ عَزيزٌ نَفيسٌ؛ لِما عُهِدَ في العُرفِ مِن قِلَّةِ الأشياءِ النَّفيسةِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/289). .
- وثُلَّةٌ خبَرٌ عن مُبتدأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: همْ ثُلَّةٌ، ومَعادُ الضَّميرِ المُقدَّرِ (السَّابِقون)، أي: السَّابقونَ ثُلَّةٌ مِن الأوَّلينَ، وقَليلٌ مِن الآخِرِينَ [136] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/459)، ((تفسير البيضاوي)) (5/178)، ((تفسير أبي حيان)) (10/79)، ((تفسير أبي السعود)) (8/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/289). .
- ولِما في هذا الاعتِراضِ مِن الإشعارِ بالعِزَّةِ، قُدِّمَ على ذِكرِ ما لهم مِن النَّعيمِ؛ للإشارةِ إلى عَظيمِ كَيفيَّتِه المُناسِبةِ لوَصْفِهم بالسَّابقينَ، بخلافِ ما يَأتي في أصحابِ اليمينِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/290). .
- و(مِن) في قولِه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ تَبعيضيَّةٌ، فاقْتَضى أنَّ السَّابقينَ في الأزْمنةِ الماضيةِ وزَمانِ الإسلامِ حاضِرِه ومُستقبَلِه، بَعضٌ مِن كلٍّ، والبَعضيَّةُ تَقْتضي القِلَّةَ النِّسبيَّةَ، ولَفظُ ثُلَّةٌ مُشعِرٌ بذلك، ولَفظُ (قَلِيلٌ) صَريحٌ فيه، وإنَّما قُوبِلَ لَفظُ ثُلَّةٌ بلَفظِ (قَلِيلٌ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الثُّلَّةَ أكثَرُ منه [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/291). .
3- قولُه تعالَى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا
- قولُه: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بَيانٌ لجُملةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/293). [الواقعة: 12] .
- قولُه: بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الكأْسُ جِنسٌ يَصدُقُ بالواحدِ والمُتعدِّدِ، فليس إفرادُه هنا للوَحدةِ؛ فإنَّ المُرادَ كُؤوسٌ كَثيرةٌ كما اقتَضاهُ جمْعُ أكوابٍ وأباريقَ، فإذا كانت آنيةُ حمْلِ الخمْرِ كَثيرةً كانت كُؤوسُ الشَّاربينَ أكثَرَ، وإنَّما أُوثِرَت صِيغةُ المُفرَدِ؛ لأنَّ في لَفظِ (كُؤوس) ثِقَلًا بوُجودِ همْزةٍ مَضمومةٍ في وَسَطِه مع ثِقَلِ صِيغةِ الجمْعِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). . وقيلَ: إنَّما أفرَدَ الكأْسَ؛ لأنَّها لا تُسمَّى كأْسًا إلَّا إذا كانتْ مَمْلوءةً [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/191). .
- في قولِه: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ فنُّ الإيجازِ، فجُمِعَ في هاتَينِ الكَلمتينِ جَميعُ عُيوبِ الخمْرِ في الدُّنيا [142] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/430). .
- ومعْنى عَنْهَا مُجاوزِينَ لها، أي: لا يقَعُ لهم صُداعٌ ناشئٌ عنها، أي: فهي مُنزَّهةٌ عن ذلك، بخِلافِ خُمورِ الدُّنيا، فاستُعْمِلَت (عن) في معْنى السَّببيَّةِ، وعُطِفَ وَلَا يُنْزِفُونَ على لَا يُصَدَّعُونَ عنها، فيُقدَّرُ له مُتعلَّقٌ دلَّ عليه مُتعلَّقُ لَا يُصَدَّعُونَ؛ فقد قال في سُورةِ (الصَّافاتِ): وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات: 47] ، أي: لا يَعتَريهم نَزْفٌ بسَببِها كما يَحصُلُ للشَّاربينَ في الدُّنيا [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/294). .
- و(ما يَتخيَّرون) هو الجِنسُ الَّذي يَختارونه ويَشْتهونَه، أي: يَطوفون عليهم بفاكهةٍ مِن الأنواعِ الَّتي يَختارونها؛ ففِعلُ يَتَخَيَّرُونَ يُفيدُ قُوَّةَ الاختيارِ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/295). .
- قولُه: وَلَحْمِ طَيْرٍ ذكَر لحمَ الطَّيرِ؛ لأنَّ لحومَ الطَّيرِ أنعمُ اللُّحومِ وألَذُّها، وأشهاها وأعزُّها [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/295)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 334). .
- قولُه: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ الاشتِهاءُ: مَصدرُ اشْتَهى، وهو افتِعالٌ مِن الشَّهوةِ الَّتي هي مَحبَّةُ نَيلِ شَيءٍ مَرغوبٍ فيه مِن مَحسوساتٍ ومعْنوياتٍ، يُقالُ: شَهِيَ كرَضِيَ، وشَها كدَعا، والأكثرُ أنْ يُقالَ: اشْتَهى، والافتِعالُ فيه للمُبالَغةِ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/295). .
- وتَقديمُ ذِكرِ الفاكهةِ على ذِكرِ اللَّحمِ قد يكونُ لأنَّ الفواكِهَ أعَزُّ، وبهذا يَظهَرُ وجْهُ المُخالَفةِ بيْن الفاكهةِ ولَحمِ طَيرٍ، فجُعِلَ التَّخيُّرُ للأوَّلِ، والاشتِهاءُ للثَّاني؛ لأنَّ الاشتِهاءَ أعلَقُ بالطَّعامِ منه بالفواكهِ؛ فلَذَّةُ كَسرِ الشَّاهيةِ بالطَّعامِ لَذَّةٌ زائدةٌ على لَذَّةِ حُسنِ طَعمِه، وكثرةُ التَّخيُّرِ للفاكهةِ هي لَذَّةُ تَلوينِ الأصنافِ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/295). ؛ فإنَّ اللَّحمَ والفاكِهةَ إذا حَضَرا عندَ الجائعِ تميلُ نفْسُه إلى اللَّحمِ، وإذا حضَرَا عند الشَّبعانِ تَميلُ نفْسُه إلى الفاكِهةِ؛ فالجائِعُ مُشتَهٍ، والشَّبعانُ غيرُ مُشتَهٍ، بل هو مختارٌ، وأهلُ الجنَّةِ إنَّما يأكُلونَ لا مِن جُوعٍ، بل للتفَكُّهِ؛ فمَيلُهم للفاكِهةِ أكثَرُ، فيتخَيَّرونَها؛ ولهذا ذُكِرَت في مواضِعَ كَثيرةٍ في القرآنِ، بخِلافِ اللَّحمِ، وإذا اشتهاه حَضَر بيْن يديه على ما يَشتَهيه، فتَميلُ نفْسُه إليه أَدنى مَيلٍ، فالفاكِهةُ تَلَذُّ الأعيُنُ بحُضورِها، واللَّحمُ لا تلَذُّ الأعيُنُ بحُضورِه؛ ولهذا قدَّم الفاكِهةَ على اللَّحمِ [148] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/396)، ((تفسير الشربيني)) (4/184). .
- وفي قولِه: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ تَشبيهٌ مُرسَلٌ مُجمَلٌ [149] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذي وصفٍ في وصْفِه. وقيل: أن تُثبِتَ للمُشَبَّهِ حُكمًا مِن أحكامِ المُشَبَّهِ به. وقد اتَّفَق الأدباءُ على شرَفِه في أنواعِ البلاغةِ، وأنَّه إذا جاء في أعقابِ المعاني أفادها كمالًا، وكساها حلَّةً وجمالًا، وهو جارٍ في كلام العربِ، بل هو أكثرُ كلامِهم. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ عدَّةَ تقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّةٍ؛ فمنه: التَّشبيهُ المُفرَدُ. ومنه: التَّشبيهُ المُركَّبُ: وهو الَّذي يكونُ وجْهُ الشَّبَهِ فيه مُنتزَعًا مِن مُتعدِّدٍ، أو مِن أمورٍ مجموعٍ بعضُها إلى بعضٍ، كقولِه تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] ؛ فالتَّشبيهُ مُركَّبٌ مِن أحوالِ الحِمارِ. وخصَّ البَيانيُّون لفظَ «التَّمثيلِ» بالتَّشبيهِ المُركَّبِ. ومنه: التَّشبيهُ البليغُ: وهو ما كانت أداةُ التَّشبيهِ فيه محذوفةً. ويَنقسِمُ باعتبارٍ آخَرَ إلى: مؤكَّدٍ: وهو ما حُذِفت فيه الأداةُ، نحو: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ، أي: مِثلَ مَرِّ السَّحابِ. ومُرْسَلٍ: وهو ما لم تُحذَفُ فيه الأداةُ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/414، 422)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/146)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ، ووَجْهُ الشَّبَهِ هو الصَّونُ [150] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/429). .
- والأمثالُ: الأشباهُ. ودُخولُ كافِ التَّشبيهِ على (أمثال) للتَّأكيدِ، والمعْنى: هنَّ أمثالُ اللُّؤلؤِ المكنونِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/296). .
- ووَصَفَ اللُّؤلُؤَ بالمَكنونِ؛ لأنَّه أصْفَى وأبْعَدُ مِن التَّغيُّرِ [152] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/81). .
- قولُه: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، انتصَبَ جَزَاءً على المفعولِ لأجْلِه لفِعلٍ مُقدَّرٍ دلَّ عليه قولُه: الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] ، أي: أعطَيْناهم ذلك جَزاءً. ويَجوزُ أنْ يكونَ جَزَاءً مَصدرًا جاء بدَلًا عن فِعلِه، والتَّقديرُ: جازَيْناهم جَزاءً. والجُملةُ على التَّقديرَينِ اعتِراضٌ يُفيدُ إظهارَ كَرامتِهم، بحيثُ جُعِلَتْ أصنافُ النَّعيمِ الَّذي حُظُوا به جَزاءً على عمَلٍ قَدَّموه، وذلك إتمامٌ لكَونِهم مُقرَّبينَ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/296). .
- قولُه: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، فيه (تأْكيدُ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه) المُشتهرُ في البَديعِ باسمِ (تأْكيدِ المدْحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ [154] تأكيدُ المدحِ بما يُشبه الذمَّ- أو : تأكيد الشَّيءِ بما يُشبه ضِدَّه-: هو عند عُلماءِ البلاغةِ استِثناءُ صِفة مَدْحٍ مِن صِفةِ ذمٍّ منفيَّةٍ عن الشَّيء، بتقديرِ دُخولِها في صِفة الذمِّ المنفيَّة. يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (3/51)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/303)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/58)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/511). ، بأنْ يُستثنَى مِن صفةِ ذمٍّ مَنْفِيَّةٍ عن الشَّيءِ صِفةُ مدحٍ بتقديرِ دُخولِها فيها، وله مَوقعٌ عَظيمٌ مِن البَلاغةِ [155] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/297). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تَعالى هنا: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، وقال تعالى في سُورةِ (النَّبأِ): لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [النبأ: 35] ؛ ووجْهُ الفرْقِ بيْنَهما: أنَّ الكِذَّابَ كثيرُ التَّكذيبِ، ومعْناه -هناك-: أنَّهم لا يَسمَعون كذِبًا، ولا أحدًا يقولُ لآخَرَ: كذَبْتَ. وفائدتُه: أنَّهم لا يَعرِفون كذِبًا مِن مُعيَّنٍ مِن النَّاسِ، ولا مِن واحدٍ منهم غيرِ مُعيَّنٍ؛ لتَفاوُتِ حالِهم وحالِ الدُّنيا؛ فإنَّا نَعلَمُ أنَّ بَعضَ النَّاسِ بأعْيانِهم كذَّابون، فإنْ لم نَعرِفْ ذلك نَقطَعُ بأنَّ في النَّاسِ كذَّابًا؛ لأنَّ أحدَهم يقولُ لصاحِبِه: كذَبْتَ، فإنْ صدَقَ فصاحبُه كذَّابٌ، وإنْ لم يَصدُقْ فهو كاذبٌ، فيُعلَمُ أنَّ في الدُّنيا كذَّابًا بعَينِه أو بغيرِ عَينِه، ولا كذلك في الآخرةِ؛ فلا كَذِبَ فيها. وقال هاهنا: وَلَا تَأْثِيمًا، وهو أبلَغُ مِن التَّكذيبِ؛ فإنَّ مَن يقولُ في حقِّ مَن لا يَعرِفُه: إنَّه زانٍ، أو شاربُ الخَمرِ -مثلًا-؛ فإنَّه يَأثَمُ -وقد يكونُ صادقًا-، فالَّذي ليس عن عِلمٍ: إثمٌ، فلا يقولُ أحدٌ لأحدٍ: قُلْتَ ما لا عِلمَ لك به، فالكلامُ هاهنا أبلَغُ؛ لأنَّه قَصَرَ السُّورةَ على بَيانِ أحوالِ الأقسامِ؛ لأنَّ المذكورينَ هنا هم السَّابقون، وفي سُورةِ (النَّبأِ) هم المتَّقون، والسَّابقُ فوقَ المتَّقي [156] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/401). .
- القيلُ اسمٌ لقولٍ لم يُعلَمْ قائِلُه؛ لذا قال: إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا لعدَمِ اختِصاصِ هذا القولِ بقائلٍ دونَ قائلٍ، فيُسمَعُ هذا القولُ دائمًا مِن الملائكةِ والنَّاسِ، كما قال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ [الرعد: 23، 24]، وقال تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [157] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/403). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (17/206). [يس: 58] .
- وقولُه: سَلَامًا الأوَّلُ مَقُولُ قِيلًا، أي: هذا اللَّفظُ الَّذي تَقديرُه: سلَّمْنا سَلامًا، فهو جُملةٌ مَحكيَّةٌ بالقولِ، وسَلَامًا الثَّاني تَكريرٌ لـ سَلَامًا الأوَّلِ تَكريرًا ليس للتَّأكيدِ، بلْ لإفادةِ التَّعاقُبِ، أي: سَلامًا إثرَ سَلامٍ، أو مُشارًا به إلى كَثرةِ المُسَلِّمينَ، فهو مُؤْذِنٌ -مع الكرامةِ- بأنَّهم مُعظَّمونَ مُبجَّلون، والفرقُ بيْنَ الوَجهَينِ أنَّ الأوَّلَ يُفيدُ التَّكريرَ بتَكريرِ الأزمنةِ، والثَّانيَ يُفيدُ التَّكرارَ بتَكرارِ المسَلِّمينَ. وقيل: التَّكرارُ للدَّلالةِ على فُشُوِّ السَّلامِ بيْنَهم [158] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/179)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/297). .
وقيل: فائِدةُ تَكريرِ السَّلامِ الإشارةُ إلى تمامِ النِّعْمةِ؛ وذلك لأنَّ أثَرَ السَّلامِ في الدُّنيا لا يَتِمُّ إلَّا بالتَّسليمِ ورَدِّ السَّلامِ، فكما أنَّ أحَدَ المُتلاقِيَينِ في الدُّنيا يقولُ للآخَرِ: السَّلامُ عليك، فيَقولُ الآخَرُ: وعليك السَّلامُ، فكذلك في الآخِرةِ يَقولونَ: سَلَامًا سَلَامًا [159] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/403). .
- وإنَّما جِيءَ بلفظِ سَلَامًا مَنصوبًا دونَ الرَّفعِ، مع كَونِ الرَّفعِ أدلَّ على المُبالَغةِ -كما ذكَروه في قولِه: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ في سُورةِ (هودٍ) [69]، وسُورةِ (الذَّارياتِ) [25]: فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ-؛ لأنَّه أُرِيدَ جَعْلُه بدَلًا مِن قِيلًا [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/297). .
وقيل: الفرقُ بيْن قولِه تَعالى: سَلَامًا سَلَامًا -بنصْبِهما-، وبيْن قولِه تَعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [هود: 69] ؛ أنَّ قولَه: (سلامٌ عليك) أتمُّ وأبلَغُ مِن قولِهم: (سلامًا عليك)؛ فإبراهيمُ عليه السَّلامُ أراد أنْ يَتفضَّلَ عليهم بالذِّكرِ، ويُجِيبَهم بأحسَنَ ممَّا حَيَّوا -وذلك على قولٍ-، وأمَّا هنا فلا يَتفضَّلُ أحدٌ مِن أهلِ الجنَّةِ على الآخَرِ مِثلَ التَّفضُّلِ في تلك الصُّورةِ؛ إذ هم مِن جِنسٍ واحدٍ -وهم المؤمنون-، ولا يَنسُبُ أحدٌ إلى أحدٍ تَقصيرًا [161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/403). .
- وأيضًا قال اللهُ تعالى في سُورةِ (يس): سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ولم يكُنْ له رَدٌّ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ تَسليمَ اللهِ على عبْدِه مُؤمِّنٌ له، فأمَّا اللهُ تَعالى فهو مُنزَّهٌ عن أنْ يُؤمِّنَه أحدٌ، بل الرَّدُّ -إنْ كان- فهو قولُ المؤمَّنِ: سلامٌ عَلينا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالِحينَ [162] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/403). .