موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (8-10)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات:

ثَانِيَ عِطْفِهِ: أي: لاوِيًا عُنُقَه تَكَبُّرًا، والثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيءِ، والعِطْفُ: الجانِبُ، وعِطْفا الرَّجُلِ: جانِباه عن يَمينٍ وشِمالٍ مِنْ لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكِه، وهو المَوضِعُ الذي يَعطِفُه الإنسانُ، أي: يَلويه ويُميلُه عندَ الإعراضِ عن الشَّيءِ [155]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 290)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 169)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/351)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 243)، ((تفسير البغوي)) (5/368)، ((تفسير القرطبي)) (12/16). .
خِزْيٌ: أي: هوانٌ، وهلاكٌ، وأصلُ الخِزي: الإبعادُ [156]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 61)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/179)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ تعالى بغيرِ عِلمٍ ولا دَلالةٍ صَحيحةٍ، ولا كتابٍ مِن اللهِ فيه بُرهانٌ وحُجَّةٌ واضِحةٌ، لاويًا جانِبَه وعُنُقَه، متكبِّرًا مُعرِضًا عن الحَقِّ؛ لِيَصُدَّ عن دينِ اللهِ، فله خِزيٌ في الدُّنيا وذِلَّةٌ، ونذيقُه يومَ القيامةِ عذابُ النَّارِ. ويُقالُ له: ذلك العَذابُ بسَبَبِ ما فَعَلْتَ مِنَ المعاصي، واكتسَبْتَ مِنَ الآثامِ، واللهُ ليس بظلَّامٍ للعبيدِ، فلا يعَذِّبُ أحَدًا بغيرِ ذَنبٍ.

تفسير الآيات:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الضُّلَّالِ الجُهَّالِ المقَلِّدينَ، في قَولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ؛ ذكَرَ في هذه حالَ الدُّعاةِ إلى الضَّلالِ مِن رُؤوسِ الكُفرِ والبِدَعِ، فقال [157]     يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/399). :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ وتوحيدِه وقدرتِه بجَهلٍ، مِن غَيرِ عِلمٍ [158]     قيل: المرادُ بالعِلمِ هنا: العِلمُ الضَّروريُّ الحاصِلُ بدونِ نظَرٍ واستِدلالٍ. وممَّن قال بذلك: الزمخشري، والرازي، والنسفي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/146)، ((تفسير الرازي)) (23/207)، ((تفسير النسفي)) (2/429)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280). وقال الشوكاني: (قيل: والمرادُ بالعلمِ هو العلمُ الضَّروريُّ... والأَولى حمْلُ العِلمِ على العُمومِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/519). صَحيحٍ [159]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/468)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/263، 264)، ((تفسير الشوكاني)) (3/519)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280، 281). .
وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.
أي: ويُجادِلُ في اللهِ بمُجَرَّدِ رأيِه وهواهُ، بغيرِ دَلالةٍ صَحيحةٍ يَهتَدي بها للصَّوابِ، ولا كِتابٍ إلهيٍّ نيِّرٍ [160]     قال ابنُ تيمية: (قَولُه: وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ نكرةٌ في سياقِ النَّفي؛ فيعُمُّ كُلَّ كتابٍ مُنيرٍ، ولو لم يكُنْ إلَّا الإنجيلُ لقيل: ولا الكتابِ المنيرِ). ((الجواب الصحيح)) (2/350). ممن اختار أنَّ المرادَ بالكتابِ المنيرِ: الوحيُ: النسفي، وأبو السعود، والألوسي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/29)، ((تفسير أبي السعود)) (6/96)، ((تفسير الألوسي)) (9/117)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280). وقيل: المرادُ بالكتابِ المنيرِ هنا: القرآنُ. وممن قال بذلك: الشوكاني. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/519). بيِّنِ الحُجَّةِ يُنيرُ عن حُجَّتِه ورأيِه، وإنَّما يقولُ ما يقولُ مِنَ الجَهلِ بمجرَّدِ ظُنونِه [161]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/468)، ((تفسير القرطبي)) (12/15)، ((تفسير ابن كثير)) (5/399)، ((تفسير الشوكاني)) (3/519)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280). قال ابنُ تَيميَّة: (وهذا -والله أعلمُ- مِن بابِ عطْفِ الخاصِّ على العامِّ، أو الانتقالِ مِن الأدنَى إلى الأعلَى). ((مجموع الفتاوى)) (15/267، 268). وممَّن جعَل الهُدى بمعنى الاستِدلالِ والنظرِ والحُجةِ العقليةِ الصَّحيحةِ: ابنُ كثيرٍ، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280). وقال الشوكانيُّ: (قيل: والمرادُ... بالهدى هو العلمُ النَّظريُّ الاستدلاليُّ. والأَوْلَى... حمْلُ الهدَى على معناه اللغويِّ، وهو الإرشادُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/519). .
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: لِيُضِلَّ قراءتانِ:
1- قِراءةُ لِيَضِلَّ بفَتحِ الياءِ، أي: ليَضِلَّ هو [162]     قرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، واختُلف عن رُوَيْس في القراءة بها. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/299). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 472). .
2- قراءةُ لِيُضِلَّ بضم الياءِ، أي: ليُضِلَّ غَيرَه [163]     قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/299). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 473). .
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أي: يجادِلُ بالباطِلِ لاوِيًا جانِبَه وعُنُقَه؛ إعراضًا وتكبُّرًا عن قَبولِ الحَقِّ، واحتِقارًا لِداعيه؛ لِيَصُدَّ [164]     قيل: اللامُ هنا للعاقبةِ. وممن قال بذلك: ابنُ الجوزي، والرسعني، والقرطبي، والألوسي. يُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 243)، ((تفسير الرسعني)) (5/16)، ((تفسير القرطبي)) (12/16)، ((تفسير الألوسي)) (9/117). وقيل: اللامُ هنا للتعليلِ. وممن قال بذلك: الزمخشري، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/208)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/281). قال الشنقيطي: (والمفسِّرُونَ يقولونَ: إِنَّ اللَّامَ في قولِه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ونحوِها مِنَ الآياتِ مِمَّا لم تَظْهَرْ فيه العلَّةُ الغائِيَّةُ، كقولِه: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. ونحوِ ذلك - لامُ العاقِبَة... ونقول هنا: إنَّ الظاهر في ذلك أنَّ الصوابَ فيه غير ما ذَكروا، وأنَّ اللام في الجميع لامُ التعليل، والمعنى واضحٌ لا إشكالَ فيه، كما نبَّه عليه الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله في مواضعَ مِن تفسيره. وإيضاح ذلك: أنَّ الله هو الذي قدَّر على الكافرِ في أزلِه أن يُجادِلَ في الله بغيرِ عِلمٍ في حال كونِه لاويَ عُنُقِه؛ إعراضًا عن الحق، واستكبارًا. وقد قدَّر عليه ذلك ليَجعلَه ضالًّا مُضِلًّا، وله الحِكمةُ البالغة في ذلك). ((أضواء البيان)) (4/281). وقال ابن عاشور: (واللَّامُ في قَولِه: لِيُضِلَّ لتعليلِ المجادَلةِ، فهو متعَلِّقٌ بـ يُجَادِلُ؛ أي: غَرَضُه مِن المجادَلةِ الإضلالُ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/208). عن دينِ اللهِ وشرعِه [165]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير ابن كثير)) (5/399)، ((تفسير القاسمي)) (7/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/280). .
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] .
لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ.
أي: لذلك المُجادِلِ في اللهِ بالباطِلِ ذُلٌّ ومَهانةٌ في الدُّنيا [166]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير ابن كثير)) (5/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/281). قال ابنُ جرير: (لهذا المجادلِ في الله بغيرِ عِلمٍ في الدُّنيا خِزيٌ، وهو القَتلُ والذُّلُّ والمهانةُ بأيدي المؤمِنينَ، فقتَلَه الله بأيديهم يومَ بَدرٍ). ((تفسير ابن جرير)) (16/471). وممَّن قال بنحو ذلك: ابنُ عاشور، فقال: (خِزيُ الدُّنيا: الإهانةُ، وهو ما أصابهم مِنَ القَتلِ يَومَ بَدرٍ، ومِنَ القَتلِ والأَسرِ بعد ذلك، وهؤلاء هم الذين لم يُسلِموا بعدُ. ويَنطبقُ الخزيُ على ما حصَل لأبي جَهلٍ يومَ بدْر؛ مِن قتْلِه بيدِ غُلامينِ مِن شبابِ الأنصارِ، وهما ابنا عَفْراءَ. وباعتلاءِ عبدِ الله بن مسعودٍ على صَدْره وذَبْحِه، وكان في عظَمتِه لا يَخطِرُ أمثالُ هؤلاء الثلاثةِ بخاطرِه. وينطبقُ الخزيُ أيضًا على ما حلَّ بالنضرِ بنِ الحارثِ؛ مِن الأَسرِ يومَ بدْرٍ، وقتْلِه صبرًا... وإذ كانتْ هذه الآيةُ ونظيرتُها التي سبَقتْ ممَّا نزَل بمكَّةَ لا محالةَ، كان قولُه تعالى: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مِنَ الإخبارِ بالغَيبِ، وهو مِن مُعجزاتِ القرآنِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/209). وممن اختار أنَّ المرادَ بالخِزيِ هو القتلُ ببَدرٍ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، ومكِّيٌّ، والسمعاني، والبغوي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/117)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4850)، ((تفسير السمعاني)) (3/423)، ((تفسير البغوي)) (3/326)، ((تفسير البيضاوي)) (4/66)، ((تفسير النسفي)) (2/430)، ((تفسير الخازن)) (3/249). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ جُريج. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471).وذكَرَ الماتُريدي أنَّ عامَّةَ أهلِ التَّأويلِ يَصرِفونَ الآيةَ إلى النَّضرِ بنِ الحارِثِ. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/394). وقيل: المرادُ بالخِزيِ ما يصيبُه مِن هوانٍ وذُلٍّ بما يجري له مِن الذِّكرِ القَبيحِ على ألسنةِ المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] الآيةَ، وقَولِه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] . قاله القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/16). .
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ.
أي: ونُذيقُه يومَ القِيامةِ ألَمَ عَذابِ النَّارِ المُحرِقةِ [167]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير الشوكاني)) (3/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/282). .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10).
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ.
أي: يُقالُ له حينَ يذوقُ عَذابَ النَّارِ يَومَ القيامةِ: هذا العَذابُ الواقِعُ بك [168]     قيل: الإشارةُ في قولِه تعالى: ذَلِكَ إلى: عذابِ النَّارِ المُشارِ إليه في قَولِه: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والسمرقندي، والقرطبي، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير السمرقندي)) (2/450)، ((تفسير القرطبي)) (12/16)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/210)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/282). وقيل: الإشارةُ إلى العذابِ الدُّنيويِّ والأُخرويِّ في قولِه تعالى: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. وممن قال بذلك: النسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/430)، ((تفسير الشوكاني)) (3/520). بسَبَبِ ما قَدَّمَتْه يداك في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي [169]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير القرطبي)) (12/16)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/210)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/282). .
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
أي: وفعَلْنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ ليس بِذِي ظُلمٍ للعِبادِ، فلم يكُنْ لِيُعَذِّبَهم بغيرِ ذَنبٍ اقتَرَفوه [170]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/471)، ((تفسير السمرقندي)) (2/450)، ((تفسير البغوي)) (3/326)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/16)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/282). قال الشِّنقيطيُّ: (المعنى: هذا العذابُ الذي يُذيقُكه اللهُ حصَل لك بسببينِ؛ وهما: ما قدَّمَتْه يداك من عمَلِ السوءِ مِن الكفر والمعاصي، وعدالةُ مَن جازاك ذلك الجزاءَ الوِفاقَ وعَدَمُ ظُلمِه). ((أضواء البيان)) (4/282). وقال البِقَاعي: (لَيْسَ بِظَلَّامٍ أي: بذِي ظُلمٍ ما لِلْعَبِيدِ، ولو تركَكم بغيرِ ذلك لكان في مجاري عاداتِكم ظُلمًا؛ أوَّلًا: بتسويةِ المُحسِنِ بالمُسيءِ. وثانيًا: بتَركِ الانتصارِ للذين عادَوك فيه، وأذيَّتِهم مِن أجْلِه). ((نظم الدرر)) (13/16). .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ يدُلُّ على أنَّ الجِدالَ مع العِلمِ والهُدى والكِتابِ المُنيرِ حَقٌّ حَسَنٌ [171]     يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/207). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ هذا من آياتِ اللهِ العَجيبةِ؛ فإنَّك لا تجِدُ داعِيًا مِن دُعاةِ الكُفرِ والضَّلالِ إلَّا وله مِن المَقتِ بينَ العالَمينَ، واللَّعنةِ والبُغضِ والذَّمِّ- ما هو حقيقٌ به، وكُلٌّ بحَسَبِ حالِه [172]     يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 534). .
3- قال الله تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ مَن ثَنَى عِطْفَه استِكبارًا عن الحَقِّ وإعراضًا عنه، عامَلَه اللهُ بنَقيضِ قَصْدِه، فأذَلَّه وأهانه، وذلك الذُّلُّ والإهانةُ نَقيضُ ما كان يؤَمِّلُه مِن الكِبرِ والعَظَمةِ [173]     يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/281، 282). ، فلمَّا استكبَر عن آياتِ الله لقَّاه اللهُ المذلَّةَ في الدُّنيا، وعاقَبه فيها قبْلَ الآخرةِ؛ لأنَّها أكبرُ همِّه، ومبلغُ علمِه [174]     يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/399). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ رَتَّبَ سُبحانَه هذه الأمورَ الثَّلاثةَ أحسَنَ ترتيبٍ؛ فبدأ بالأعَمِّ، وهو العلمُ، وأخبَرَ أنَّه لا علمَ عندَ المُعارِضِ لآياتِه بعَقلِه، ثمَّ انتقَلَ منه إلى ما هو أخَصُّ، وهو الهُدى، ثمَّ انتقَلَ إلى ما هو أخَصُّ، وهو الكِتابُ المُبينُ؛ فإنَّ العلمَ أعَمُّ مِمَّا يُدرَكُ بالعَقلِ والسَّمعِ والفِطرةِ، وأخَصُّ منه الهُدى الذي لا يُدرَكُ إلَّا مِن جهةِ الرُّسُلِ، وأخَصُّ منه الكِتابُ الذي أنزلَه اللهُ على رَسولِه؛ فإنَّ الهدى قد يَكونُ كِتابًا وقد يكونُ سُنَّةً [175]     يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1086). .
2- ذَكَر الله سُبحانَه التَّفصيلَ في مُجادَلةِ المتبوعِ الدَّاعي، وأنَّها: فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، واكتفَى في ذِكْرِ التابعِ -في قوله سُبحانَه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ- بنفيِ العلمِ، المستلزمِ لنفيِ هذه الثلاثةِ؛ فإنَّ مجادلةَ المتبوع أصلٌ؛ وهو أقعدُ بها مِن مجادلةِ التَّابعِ، ومصدرُها كِبْرٌ، ومصدرُ مجادلةِ التَّابعِ ضلالٌ وتقليدٌ؛ فذَكَرَ حالَ المتبوعِ على التفصيلِ؛ ولهذا ذَكَرَ فسادَ قصدِه وعِلْمِه، وذَكَر مِن عقوبتِه أَشَدَّ ممَّا ذَكَرَ مِن عقوبةِ التَّابعِ، وهذا وأمثالُه مِن أسرارِ القرآنِ التي حرَّمَها اللهُ على مَن عارضَ بينَه وبينَ العقلِ، وقَدَّمَ العقلَ عليه [176]     يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1090). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، أي: بعَمَلِك، ولكِنَّه جرت عادةُ العَرَبِ أن تُضيفَ الأعمالَ إلى اليَدِ؛ لأنَّها آلةُ أكثَرِ العَمَلِ، فبها يُزاوَلُ أكثرُ الأعمالِ، فغلبَتْ على غيرِها [177]     يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/16)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/283). ، ولكونِ مباشرةِ المعاصي تكونُ بها في الغالبِ [178]     يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/520). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ كُرِّرَ ذِكْرُ المُجادَلةِ؛ وقد سبَق قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] ؛ وذلك مُبالَغةً في الذَّمِّ، ولكونِ كلِّ واحدةٍ اشتمَلَتْ على زِيادةٍ ليست في الأُخرى [179]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/487، 488). . أو أنَّهما في الدعاةِ المضلِّينَ، واعتُبِر تغايرُ أوصافِهم فيها، وعليه؛ فلا تَكرارَ [180]     يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/234). . وقيل: الأوَّلُ في المُقلِّدينَ ، وهذا في المُقلَّدينَ [181]     يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/146)، ((تفسير البيضاوي)) (4/66). .
- قولُه: وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ والمُنِيرُ: المُبيِّنُ للحقِّ؛ شُبِّهَ بالمصباحِ المُضِيءِ في اللَّيلِ [182]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/208). .
2- قَولُه تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ
- قولُه: ثَانِيَ عِطْفِهِ كِنايةٌ عن الكِبْرياءِ والجَبروتِ؛ لأنَّ ذا الجَبروتِ لا تَعطُّفَ له ولا رَحمةَ؛ كأنَّه قِيلَ: مِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ في اللهِ مُتجبِّرًا في نَفْسِه، ولا يَعْطِفُ على أحدٍ. وقيل: مُعرِضًا عن الحقِّ؛ استخفافًا به [183]     يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/66)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/447)، ((تفسير أبي السعود)) (6/96، 97). . أو هو تَمثيلٌ للتَّكبُّرِ والخُيلاءِ [184]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/208). .
- وإفرادُ الضَّميرِ في قولِه: عِطْفِهِ وما ذُكِرَ بعْدَه (لِيُضِلَّ - لَهُ - وَنُذُيقُهُ)؛ مُراعاةً لِلَفْظِ (مَن)، وإنْ كان معنَى تلك الضَّمائرِ الجَمْعَ [185]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/209). .
- وقولُه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعليلٌ للمُجادَلةِ. وعلى قِراءةِ لِيَضِلَّ فيكونُ غرَضُه مِن جِدالِه الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ؛ وعُلِّلَ به؛ لأنَّه لمَّا أدَّى جِدالُه إلى الضَّلالِ، جُعِلَ كأنَّه غرَضُه، ولمَّا كان الهُدى مُمْكِنًا له، فترَكَه وأعرَضَ عنه، وأقبَلَ على الجِدالِ بالباطلِ؛ جُعِلَ كالخارجِ مِن الهُدى إلى الضَّلالِ [186]     يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/146)، ((تفسير البيضاوي)) (4/66)، ((تفسير أبي حيان)) (7/488). .
- وجُملةُ: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مُستأْنَفةٌ، مَسوقةٌ لبَيانِ نَتيجةِ ما سلَكَه مِنَ الطَّريقةِ [187]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/97). .
3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
- قولُه: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ فيه الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والالْتفاتُ لتأْكيدِ الوعيدِ، وتَشديدِ التَّهديدِ، أو على إرادةِ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: يُقالُ له يومَ القيامةِ [188]     يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/66)، ((تفسير أبي السعود)) (6/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/209). .
- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكَونِه في الغايةِ القاصيةِ مِن الهولِ والفَظاعةِ [189]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/97). .
- وجُملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراضٌ تَذييليٌّ، مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَها [190]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/97). .
- وجاءت صِيغَةُ المُبالَغةِ بِظَلَّامٍ -مع أنَّ نفْيَ المبالغةِ لا يَستلزمُ نفْيَ الفِعلِ مِن أصلِه، والمرادَ بنَفْي المبالغةِ هو نفيُ الظُّلْمِ مِن أصلِه-؛ لكَثرةِ العَبيدِ؛ فاللهُ جلَّ وعلَا نفَى ظُلْمَه للعبيدِ، والعبيدُ في غايةِ الكثرةِ، والظُّلمُ المنفيُّ عنهم تَستلزِمُ كَثْرتُهم كَثْرتَه؛ فناسَبَ ذلك الإتيانُ بصِيغةِ المبالَغةِ؛ للدَّلالةِ على كَثرةِ المنفيِّ التابعةِ لكَثرةِ العبيدِ المنفيِّ عنهم الظُّلمُ؛ إذ لو وقَع على كلِّ عبدٍ ظُلمٌ، ولو قليلًا، كان مجموعُ ذلك الظُّلمِ في غايةِ الكَثرةِ؛ فالمرادُ بذلك نفْيُ أصْلِ الظُّلمِ عن كُلِّ عَبدٍ مِن أولئك العَبيدِ، الذين هم في غايةِ الكثرة، سُبحانَه وتعالى عن أنْ يَظلِمَ أحدًا شيئًا [191]     يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/66)، ((تفسير أبي السعود)) (2/121، 6/97)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/31-33). .
وقيل: نفيُ صِيغةِ المبالغةِ إذا دلَّتْ أدلَّةٌ مُنفصِلةٌ على أنَّ المُرادَ به نفيُ أصْلِ الفِعلِ؛ فلا إشكالَ؛ لقِيامِ الدليلِ على المرادِ، والآياتُ الدالَّةُ على نفْيِ الظُّلمِ مِن أصلِه عن اللهِ تعالى كثيرةٌ معروفةٌ؛ كقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... [النساء: 40] ، وقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] ، وغيرِ ذلك من الآياتِ. أو: يكون المسوِّغُ لصِيغةِ المبالغةِ أنَّ عذابَه تعالَى بالِغٌ مِن العِظَمِ والشِّدَّةِ أنَّه لولا استحقاقُ المعذَّبِينَ لذلك العَذابِ بكُفرِهم ومَعاصيهم - لكان مُعذِّبُهم به ظلَّامًا بليغَ الظُّلمِ مُتفاقِمَه؛ سُبحانَه وتعالى عن ذلِك عُلوًّا كَبيرًا. أو: يكون المرادُ بالنفيِ في قوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نفيَ نِسبةِ الظُّلمِ إليه؛ لأنَّ صِيغةَ (فَعَّال) تُستعمَل مُرادًا بها النِّسبةُ؛ فتُغني عن ياءِ النَّسبِ؛ فقولُه تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أي: وما رَبُّكَ بذِي ظُلمٍ للعَبيدِ [192]     يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/31-33). . وقيل غيرُ ذلك [193]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/121، 6/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/210). .
- و(العبيد) ذُكِر هنا في معنى مسكنتِهم، وقلَّةِ قدرتِهم؛ فلذلك جاءَت هذه الصيغةُ [194]     يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/109). .