موسوعة التفسير

سورةُ لُقمانَ
الآيتان (33-34)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غَريبُ الكَلِماتِ:

تَغُرَّنَّكُمُ: أي: تخدَعَنَّكم، والغِرَّةُ: الغفلةُ، ويُقالُ: غَررْتُ فلانًا: أصبتُ غِرَّتَه، والغَرُّ والغُرورُ: إِظهارُ الأمرِ المضِرِّ فِي صورَةِ النَّافِعِ، أو: إظهارُ النُّصحِ مع إبطانِ الشَّرِّ، والغُرورُ بالضمِّ: الباطلُ، والْغَرُورُ: بالفتحِ: الشَّيطانُ، أو: كلُّ ما يغرُّ الإنسانَ مِن شيطانٍ أو دنيا أو مالٍ وغيرِ ذلك، وأصلُ ذلك مِن (الغُرِّ)، وهو الأثرُ الظَّاهرُ مِن الشَّيءِ [522] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 352)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603، 604)، ((تفسير القرطبي)) (14/81)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 164)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/205). .
الْغَيْثَ: أي: المطرَ، أو: هو مطرٌ فِي إبَّانِه وإلَّا فمطرٌ. وسُمِّيَ المطرُ غَيْثًا؛ لأنَّه يُغيثُ الخلْقَ [523] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/403)، ((المفردات)) للراغب (ص: 617)، ((تفسير القرطبي)) (16/28)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 672). قال القرطبي: (والغَيثُ ما كان نافعًا في وقتِه، والمطرُ قد يكونُ نافعًا وضارًّا، في وقتِه وغيرِ وقتِه). ((تفسير القرطبي)) (16/29). .

المعنى الإجماليُّ:

يختمُ الله سبحانه آياتِ هذه السُّورةِ بدعوةِ النَّاسِ إلى تَقْواه، والاستعدادِ ليومِ الحسابِ، فيقولُ: يا أيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكم بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه، واخشَوا يومَ القيامةِ الَّذي لا يُغْني فيه والِدٌ عن ولدِه شَيئًا، ولا مولودٌ يُغْني فيه عن والِدِه شَيئًا، إنَّ وَعْدَ اللهِ بالبَعثِ حَقٌّ واقِعٌ لا مَحالةَ؛ فلا تَغُرَّنَّكم الحياةُ الدُّنيا بزينتِها، ولا يَغُرَّنَّكم الشَّيطانُ فيَصرِفَكم عن طاعةِ الله.
ثمَّ يُبيِّنُ الله عزَّ وجلَّ الأمورَ الَّتي استأثرَ بعلمِها، فلا يَعلَمُها نبيٌّ مرسَلٌ، ولا ملَكٌ مقرَّبٌ، فضلًا عن غيرِهما، فيقولُ: إنَّ اللهَ وَحْدَه عِندَه عِلمُ السَّاعةِ، ويُنَزِّلُ المطَرَ، ويَعلَمُ ما في أرحامِ الأمَّهاتِ، ولا تدري نَفْسٌ ماذا تَكسِبُ غَدًا، ولا تدري نفْسٌ في أيِّ أرضٍ تموتُ، إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ لا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الدَّلائِلَ على الوحدانيَّةِ والحَشرِ مِن أوَّلِ السُّورةِ، أمَرَ بالتَّقْوى على سَبيلِ الموعِظةِ والتَّذكيرِ بهذا اليَومِ العظيمِ [524] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/424). .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.
أي: يا أيُّها النَّاسُ اجعَلوا بيْنَكم وبينَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه وِقايةً؛ بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه [525] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((تفسير القرطبي)) (14/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ.
أي: واخشَوا يَومَ القيامةِ الَّذي لا يُغْني فيه والِدٌ عن وَلَدِه [526] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((تفسير ابن كثير)) (6/351)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا .
أي: ولا مولودٌ يُغْني فيه عن والِدِه شَيئًا [527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((تفسير ابن كثير)) (6/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
كما قال سُبحانَه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] .
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: إنَّ ما وعَدَ اللهُ عِبادَه مِن البَعثِ يومَ القيامةِ واقِعٌ لا محالةَ [528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((تفسير القرطبي)) (14/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
أي: فلا تَخدَعنَّكم الحياةُ الدُّنيا بزينتِها ولَذَّاتِها عن التَّزَوُّدِ والاستِعدادِ للآخِرةِ [529] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((الوسيط)) للواحدي (3/447)، ((تفسير القرطبي)) (14/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
أي: ولا يَخدَعَنَّكم الشَّيطانُ [530] ممَّن اختار أنَّ الغَرورُ هو الشَّيطانُ: الواحدي، والسمعاني، وابن القيِّم، والبِقاعي، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/447)، ((تفسير السمعاني)) (4/240)، ((الرُّوح)) لابن القيم (ص: 244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/214)، ((تفسير الشوكاني)) (4/282)، ((تفسير القاسمي)) (8/36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/195)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لقمان)) (ص: 197-199). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وعِكْرِمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/583)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/530). قال الشنقيطي: (سُمِّي الشيطانُ غَرورًا؛ لكثرةِ غرورِه للآدَميِّينَ بتزيينِه ووساوسِه). ((العذب النمير)) (5/107). وقيل: الغَرورُ هو ما غَرَّ الإنسانَ مِن شَيءٍ، كائنًا ما كان؛ شيطانًا كان، أو إنسانًا، أو دُنيا. وممَّن قال بهذا المعنى: أبو عُبيدةَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/129)، ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5740). قال الرازي: (قال تعالى: وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني: الدُّنيا؛ لا يَنْبَغي أنْ تَغُرَّكم بنفْسِها، ولا يَنْبَغي أنْ تغترُّوا بها، وإنْ حَمَلكم على مَحَبَّتِها غارٌّ مِن نفْسٍ أمَّارةٍ أو شيطانٍ). ((تفسير الرازي)) (25/133). فيَصرِفَكم عن طاعةِ اللهِ، ويَغُرَّكم بحِلمِ اللهِ وإمهالِه، ويُمَنِّيَكم بالأمانيِّ الباطِلةِ [531] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/582)، ((الوسيط)) للواحدي (3/447)، ((تفسير القرطبي)) (14/81)، ((تفسير ابن كثير)) (6/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] .
وقال سُبحانَه: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف: 27] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5، 6]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِنَ الأمرِ الواضِحِ أنَّ لِسانَ حالِهم بعدَ السُّؤالِ عن تحقُّقِ ذلك اليَومِ يَسألُ عن وَقتِه؛ إمَّا تعنُّتًا واستِهزاءً، وإمَّا حقيقةً- أجاب عن ذلك ضامًّا إليه أخواتِه مِن مفاتيحِ الغَيبِ [532] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/214). .
وأيضًا لَمَّا قال اللهُ تعالى: وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ [لقمان: 33]، وذكَرَ أنَّه كائِنٌ بقَولِه: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، كأنَّ قائِلًا قال: فمتى يكونُ هذا اليومُ؟ فأُجيبَ بأنَّ هذا العِلمَ ممَّا لم يَحصُلْ لِغَيرِ الله، وذلك قولُه سبحانَه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، ثمَّ ذكَرَ الدَّليلَينِ على البَعثِ؛ أحَدُهما: إحياءُ الأرضِ بعدَ مَوتِها، المشارُ إليه بقولِه تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وثانيهما: الخَلقُ ابتِداءً، المشارُ إليه بقولِه سبحانَه: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، فكأنَّه قال عزَّ وجلَّ: يا أيُّها السَّائِلُ، إنَّك لا تَعلَمُ وَقتَها، ولكِنَّها كائنةٌ، والله قادِرٌ عليها كما هو قادِرٌ على إحياءِ الأرضِ، وعلى الخلْقِ في الأرحامِ [533] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/133)، ((تفسير الألوسي)) (11/108). .
وأيضًا لَمَّا جرَى في الآياتِ قَبْلَها ذِكرُ يَومِ القيامةِ، أُعقِبَت بأنَّ وَقتَ السَّاعةِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وجَمَع معها الجُمَلَ الأربَعَ الَّتي بَعدَها [534] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/196). .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .
أي: إنَّ اللهَ وَحْدَه عِندَه عِلمُ وَقتِ القيامةِ، الَّذي تقومُ فيه [535] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((تفسير ابن كثير)) (6/352)، ((تفسير الشوكاني)) (4/282). .
كما قال سُبحانَه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ... [الأعراف: 187] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47] .
وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ... [الأنعام: 59] .
وعن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَمسٌ مِنَ الغَيبِ لا يَعلَمُهنَّ إلَّا اللهُ، ثمَّ قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [536] رواه البخاري (4777)، ومسلم (10) واللفظ له. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَفاتِحُ الغَيبِ خَمسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [537] رواه البخاري (4627). .
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ.
أي: ويُنَزِّلُ اللهُ وَحْدَه المطَرَ بقُدرتِه، ويَعلَمُ وَحْدَه وَقْتَ نُزولِه، وغيرَ ذلك مِن شُؤونِه [538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((تفسير ابن كثير)) (6/352)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/216، 217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 653)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/197). .
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ.
أي: ويَعلَمُ اللهُ وَحْدَه ما في أرحامِ الأمَّهاتِ مِمَّا يُريدُ اللهُ أن يَخلُقَه فيها [539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((تفسير ابن كثير)) (6/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 653)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/197). .
كما قال تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [الرعد: 8] .
وقال سُبحانَه: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت: 47] .
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا.
أي: ولا تدري نفْسٌ ما الَّذي ستَكسِبُه في يومِ غَدٍ مِن كسْبِ دينِها ودُنياها؛ فاللهُ وَحْدَه يَعلَمُ ذلك [540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((تفسير الشوكاني)) (4/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 653)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/198). .
عن مَسروقٍ، عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: (مَن حدَّثك أنَّه يَعلَمُ ما في غدٍ، فقد كَذَب، ثمَّ قرأَتْ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) [541] رواه البخاري (4855) واللفظ له، ومسلم (177). .
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
أي: ولا تَدري نَفْسٌ في أيِّ أرضٍ يكونُ مَوتُها؛ فاللهُ وَحْدَه مَن يختَصُّ بعِلمِ ذلك [542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((تفسير ابن كثير)) (6/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 653)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/198). .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا خصَّص الله تعالى هذه الأمورَ الخمسةَ السابقةَ بالذِّكرِ؛ عمَّم عِلمَه بجميعِ الأشياءِ، فقال [543] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 653). :
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ ذو علمٍ بكلِّ شيءٍ، مُحيطٌ بالظَّواهِرِ والبواطِنِ، والخفايا والسَّرائِرِ، لا يخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/584)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 653)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/199)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لقمان)) (ص: 210). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فيه لَفتُ النَّظَرِ لهذا اليَومِ العظيمِ، ممَّا يقوِّي العبدَ، ويُسَهِّلُ عليه تَقْوى اللهِ، وهذا مِن رحمةِ اللهِ بالعِبادِ: يأمُرُهم بتَقْواه الَّتي فيها سعادتُهم، ويَعِدُهم عليها الثَّوابَ، ويحَذِّرُهم مِنَ العِقابِ، ويُزعِجُهم إليه بالمواعِظِ والمُخَوِّفاتِ [545] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 652). .
2- قال الله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فلا تَمْتَروا فيه، ولا تَعمَلوا عَمَلَ غَيرِ المصَدِّقِ؛ فلهذا قال: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بزينتِها وزَخارِفِها وما فيها مِن الفِتَنِ والمِحَنِ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الَّذي هو الشَّيطانُ، الَّذي ما زال يخدَعُ الإنسانَ ولا يَغفُلُ عنه في جميعِ الأوقاتِ؛ فإنَّ لله على عبادِه حَقًّا، وقد وعَدَهم مَوعِدًا يُجازيهم فيه بأعمالِهم، وهل وَفَّوا حَقَّه أم قَصَّروا فيه. وهذا أمرٌ يجِبُ الاهتِمامُ به، وأن يجعَلَه العَبدُ نُصْبَ عَينيه، ورأسَ مالِ تجارتِه الَّتي يسعَى إليها، ومِن أعظَمِ العوائِقِ عنه والقواطِعِ دُونَه: الدُّنيا الفتَّانةُ، والشَّيطانُ المُوَسوِسُ المُسَوِّلُ؛ فنهَى تعالى عبادَه أن تَغُرَّهم الدُّنيا، أو يَغُرَّهم باللهِ الغَرورُ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [546] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 652). [النساء: 120] .
3- قَال الله تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، النَّاسُ على أقسامٍ؛ منهم مَن تدعوه الدُّنيا إلى نفْسِها، فيَميلُ إليها، ومنهم مَن يُوَسْوِسُ في صدرِه الشَّيطانُ، ويزيِّنُ في عينِه الدُّنيا، ويؤَمِّلُه، ويقولُ: إنَّك تحصلُ بها الآخرةَ، أو تلتذُّ بها ثمَّ تتوبُ فتجتمعُ لك الدُّنيا والآخرةُ! فنهاهم عن الأمْرَينِ، وقال: كونوا قِسْمًا ثالثًا، وهم الَّذين لا يَلتفِتونَ إلى الدُّنيا، ولا إلى مَن يحسِّنُ الدُّنيا في الأعيُنِ [547] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/133). .
4- قال الله تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مِن أعظَمِ الغرةِ أن تراه يُتابعُ عليك نِعَمَه، وأنت مقيمٌ على ما يَكرهُ، فالشيطانُ موكلٌ بالغرورِ، وطبْعُ النَّفْسِ الأمَّارةِ الاغترارُ، فإذا اجتَمع الرَّأيُ والبغْيُ والشَّيطانُ الغَرورُ والنَّفْسُ المُغتَرَّةُ لم يقَعْ هناك خلافٌ، فالشَّياطينُ غَرُّوا المغترِّينَ بالله، وأطمَعوهم مع إقامتِهم على ما يُسخِطُ اللهَ، ويُغضبُه في عفوِه وتجاوزِه، وحدَّثوهم بالتَّوبةِ؛ لتسكُنَ قلوبُهم، ثمَّ دافعوهم بالتَّسويفِ حتَّى هجَم الأجَلُ، فأُخِذوا على أسْوَأِ أحوالِهم، وقال تعالى وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [548] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 244، 245). [الحديد: 14] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ تَدُلُّ بظاهِرِها على أنَّ يومَ القيامةِ لا يَنفَعُ فيه والِدٌ وَلَدَه، وقد جاءت آيةٌ أخرى تدُلُّ على رَفعِ دَرَجاتِ الأولادِ؛ بسَبَبِ صلاحِ آبائِهم، حتَّى يَكونوا في دَرَجةِ الآباءِ، مع أنَّ عَمَلَهم -أي: الأولادِ- لم يُبَلِّغْهم تلك الدَّرَجةَ؛ إقرارًا لعُيونِ الآباءِ بوُجودِ الأبناءِ معهم في منازِلِهم مِنَ الجنَّةِ، وذلك نَفعٌ لهم، وهي قَولُه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] فما وَجْهُ الجَمعِ بيْنَهما؟
الجوابُ: وَجهُ الجَمعِ أُشيرَ إليه بالقَيدِ الَّذي في هذه الآيةِ، وهو قَولُه تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، وعيَّنَ فيها النَّفعَ بأنَّ إلحاقَهم بهم في دَرَجاتِهم يُقيَّدُ بالإيمانِ؛ فهي أخَصُّ مِن الآيةِ الأخرى، والأخَصُّ لا يُعارِضُ الأعَمَّ، وعلى قَولِ مَن فَسَّرَ الآيةَ بأنَّ معنى قَولِه تعالى: لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يَقضي عنه حَقًّا لَزِمَه، ولا يَدفَعُ عنه عذابًا حَقَّ عليه؛ فلا إشكالَ في الآيةِ [549] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 182، 183). .
2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، في قوله سبحانه: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أنَّ الدُّنيا مِن أكبرِ الأسبابِ الَّتي تَحولُ بينَ المَرءِ وخَشيتِه لليَومِ الآخِرِ؛ لأنَّه سبحانه فرَّعَها مِن قَولِه تعالى: وَاخْشَوْا يَوْمًا [550] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 200). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا في التَّعبيرِ بـ (هو) إشعارٌ بأنَّ المنفيَّ نَفْعُه بنَفْسِه؛ ففيه ترجيةٌ بأنَّ اللهَ قد يأذَنُ له في نَفْعِه إذا وُجِدَ الشَّرطُ [551] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/212). .
4- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ مَن ادَّعى أنَّه يَعلَمُ شَيئًا مِن هذه، فقد كَفَر بالقُرآنِ؛ لأنَّه قد خالفَه [552] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/202). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 213). .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ لَمَّا كان سُبحانَه قد نَصَب على السَّاعةِ أماراتٍ تُوجِبُ ظُنونًا في قُربِها، وكَشَف بعضَ أمرِها، عبَّرَ تعالى بالعِلمِ [553] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/215). .
6- في قَولِه تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ قال سُبحانَه: «مَا» دون «مَن»؛ لأنَّ عِلْمَ ما في الأرحامِ مِن حيثُ الصِّفةُ أبلَغُ مِن عِلمِه مِن حيثُ الذَّاتُ، أي: أبلغُ مِن حيثُ كَونُه ذَكَرًا أو أنثى؛ فالجنينُ الَّذي في الرَّحِمِ ليس العِلمُ المختَصُّ به مجرَّدَ كَونِه ذكرًا أو أنثى، أو طَويلًا أو قَصيرًا، أو صَغيرًا أو كَبيرًا، بل هناك ما هو أبلَغُ مِن ذلك، وهو صِفاتُ هذا الجَنينِ: هل يكونُ شقيًّا أم سَعيدًا؟ طويلَ العُمُرِ أم قصيرَ العُمُرِ؟ وهل عَمَلُه صالحٌ أو عَمَلُه فاسِدٌ؟ ولهذا جاء التَّعبيرُ بـ «مَا» الَّتي تُلاحَظُ فيها الصِّفاتُ؛ لأنَّ عِلْمَ ما في الأرحامِ مِن هذه الوجهةِ أعظَمُ مِن كَونِه ذَكَرًا أو أُنثى [554] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 204). .
7- قَولُ الله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عبَّرَ في جانبِ نفْيِ مَعرفةِ النَّاسِ بفِعلِ الدِّرايةِ؛ لأنَّ الدِّرايةَ عِلمٌ فيه مُعالَجةٌ للاطِّلاعِ على المعلومِ؛ ولذلك لا يُعبَّرُ بالدِّرايةِ عن عِلمِ اللهِ تعالى، فلا يقالُ: (اللهُ يَدري كذا)، فيفيدُ انتفاءَ عِلمِ النَّاسِ بعدَ الحِرصِ على عِلمِه [555] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/198). . وقيل: أُسنِد العِلمُ إلى اللهِ، والدِّرايةُ للنَّفْسِ؛ لِما في الدِّرايةِ مِن معنى الخَتْلِ والحيلةِ [556] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/424). .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مَوقعُ هذه الآيةِ بعْدَ ما تقدَّمَها مِن الآياتِ مَوقعُ مَقصدِ الخُطبةِ بعدَ مُقدِّماتِها؛ إذ كانتِ المُقدِّماتُ الماضيةُ قد هيَّأَتِ النُّفوسَ إلى قَبولِ الهِدايةِ، والتَّأثُّرِ بالمَوعظةِ الحَسنةِ، وإنَّ لاصطيادِ الحُكماءِ فُرَصًا يَحرِصون على عدَمِ إضاعتِها، ولاعتبارِ هذا الموقعِ جُعِلَت الجُملةُ استِئنافًا؛ لأنَّها بمَنزلةِ الفَذْلكةِ والنَّتيجةِ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/192، 193). الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلِمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذلكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). .
- قولُه: وَاخْشَوْا يَوْمًا الأمْرُ بخَشيةِ يومِ القِيامةِ يَتضمَّنُ وُقوعَه؛ فهو كِنايةٌ عن إثباتِ البَعثِ، وذلك حظُّ المشركينَ منه الَّذين لا يُؤمِنون به حتَّى صار سِمَةً عليهم؛ قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [558] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/193). [الفرقان: 21] .
- قولُه: لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا فيه حُسْنُ تَرتيبٍ وتَناسُبٍ؛ فإنَّه لَمَّا كان الوالدُ أكثَرَ شَفقةً على الولدِ مِن الولَدِ على أبيهِ، بَدَأَ به أوَّلًا، وأتَى في الإسنادِ إلى الوالدِ بالفِعلِ المُقْتضي للتَّجدُّدِ؛ لأنَّ شَفقتَه مُتجدِّدةٌ على الولَدِ في كلِّ حالٍ، وأتَى في الإسنادِ إلى الولَدِ باسمِ الفاعلِ؛ لأنَّه يدُلُّ على الثُّبوتِ، والثُّبوتُ يَصدُقُ بالمرَّةِ الواحدةِ [559] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/424). .
وقيل: إنَّ الفِعلَ يَتأتَّى وإن كان ممَّن لا ينبغي ولا يكونُ مِن شَأنِه؛ لأنَّ المَلِكَ إذا كان يَخِيطُ شَيئًا، يقال: إنَّه يَخيطُ، ولا يُقالُ: هو خَيَّاطٌ، وكذلك مَن يَحيكُ شَيئًا ولا يكونُ ذلك صَنعَتَه، يقال: هو يَحِيكُ، ولا يقالُ: هو حائِكٌ؛ فالابنُ مِن شأنِه أن يكونَ جازيًا عن والِدِه؛ لِما له عليه من الحُقوقِ، والوالِدُ يَجزي؛ لِما فيه مِنَ الشَّفَقةِ، وليس بواجِبٍ عليه ذلك، فقال في الوالِدِ: لَا يَجْزِي، وقال في الوَلَدِ: وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ [560] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/133). .
- وأُوثِرَت جُملةُ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا بطُرقٍ مِن التَّوكيدِ لمْ تَشتمِلْ على مِثلِها جِملةُ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ؛ فإنَّها نُظِمَت جُملةً اسميَّةً، ووُسِّطَ فيها ضَميرُ الفَصلِ، وجُعِلَ النَّفْيُ فيها مُنصَبًّا إلى الجنسِ. ونُكتةُ هذا الإيثارِ: مُبالَغةُ تَحقيقِ عَدمِ جَزْءِ هذا الفَريقِ عن الآخَرِ؛ إذ كان مُعظَمُ المؤمنينَ مِن الأبناءِ والشَّبابِ، وكان آباؤهم وأُمَّهاتُهم في الغالبِ على الشِّركِ؛ فأُرِيدَ حَسمُ أطماعِ آبائهم، وما عَسَى أنْ يكونَ مِن أطماعِهم أنْ يَنفَعوا آباءَهم في الآخِرةِ بشَيءٍ [561] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/504)، ((تفسير البيضاوي)) (4/218)، ((تفسير أبي حيان)) (8/424)، ((تفسير أبي السعود)) (7/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/193)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/568). لكن قال ابن المُنَيِّر: (هذا الجواب تتوقَّفُ صحَّتُه على أنَّ هذا الخِطابَ كان خاصًّا بالموجودينَ حينَئذٍ، والصَّحيحُ أنَّه عامٌّ لهم، ولكلِّ مَن ينطلقُ عليه اسمُ النَّاسِ). ((حاشية ابن المنير على الكشاف)) (3/504). وذكر الألوسي قولَ مَن ردَّ عليه. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/104). .
- أو: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أكَّدَ الوصيَّةَ على الآباءِ، وقرَنَ شُكرَهم بوُجوبِ شُكرِه عزَّ وجلَّ، وأوجَبَ على الولَدِ أنْ يَكفِيَ والدَه ما يَسُوؤُه بحسَبِ نِهايةِ إمكانهِ وغايةِ طَوقِه؛ قطَعَ هنا وَهمَ الوالدِ في أنْ يكونَ الولَدُ في القِيامةِ مَظِنَّةً لأنْ يَجْزِيَه حقَّه عليه، ويَكْفيَه ما يَلْقاهُ مِن أهوالِ القيامةِ، كما أوجَبَ اللهُ عليه في الدُّنيا ذلك في حقِّه، ولَمَّا كان إجزاءُ الولَدِ عن الوالدِ مَظِنَّةَ الوُقوعِ ومَوطِنَ الأمَلِ -لأنَّ اللهَ حضَّه عليه في الدُّنيا-؛ كان جَديرًا بتَأكيدِ النَّفيِ؛ لإزالةِ هذا الوهْمِ، وهذا غيرُ واردٍ في حقِّ الولَدِ على الوالدِ. وقيل: الابنُ مِن شأنِه أنْ يكونَ جازيًا عن والدِه؛ لِمَا له عليه مِن الحُقوقِ، والوالدُ يَجْزي؛ لِمَا فيه مِن الشَّفقةِ، وليس الثَّاني كالأوَّلِ [562] يُنظر: ((تفسير الزمخشري – حاشية ابن المنير)) (3/504)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/321)، ((تفسير أبي حيان)) (8/424). .
- وعُبِّرَ بـ مَوْلُودٌ دونَ (ولدٍ)؛ لإشعارِ (مَولودٍ) بالمعنى الاشتقاقيِّ دونَ (ولد) الَّذي هو اسمٌ بمَنزلةِ الجَوامدِ؛ لِقَصدِ التَّنبيهِ على أنَّ تلك الصِّلةَ الرَّقيقةَ لا تُخوِّلُ صاحبَها التَّعرُّضَ لِنَفعِ أبيه المُشرِكِ في الآخِرةِ؛ وفاءً له بما تُومِئُ إليه المَولوديَّةُ مِن تَجشُّمِ المَشقَّةِ مِن تَربيتِه؛ فلعلَّه يَتجشَّمُ الإلحاحَ في الجَزاءِ عنه في الآخِرةِ حَسْمًا لِطَمَعِه في الجزاءِ عنه، فهذا تَعكيسٌ للتَّرقيقِ الدُّنيويِّ في قولِه تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24] ، وقولِه: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/194). [لقمان: 15] .
- وأيضًا فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، فإنَّه ذكَرَ الوالدَ والولَدَ هنا؛ لأنَّهما أشدُّ مَحبَّةً وحَميَّةً مِن غيرِهم، فيُعلَمُ أنَّ غيرَهما أَولى بهذا النَّفيِ، ووَجْهُ اختيارِ هذه الطَّريقةِ في إفادةِ عُمومِ النَّفيِ هنا دونَ طريقةِ قولِه تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا في سُورةِ البقرةِ [48، 123]: أنَّ هذه الآيةَ نزَلَتْ بمكَّةَ، وأهْلُها يومئذٍ خليطٌ مِن مُسلمينَ وكافرينَ، وربَّما كان الأبُ مُسلِمًا والولَدُ كافرًا، ورُبَّما كان العكسُ، وقد يَتوهَّمُ بعضُ الكافرينَ حينَ تُداخِلُهم الظُّنونُ في مَصيرِهم بعدَ الموتِ: أنَّه إذا ظهَرَ صِدقُ وَعيدِ القُرآنِ إيَّاهم، فإنَّ مَن له أبٌ مُسلِمٌ أو ابنٌ مُسلمٌ يَدفَعُ عنه هنالك بما يَدِلُّ به على ربِّ هذا الدِّينِ، وقد كان قارًّا في نُفوسِ العرَبِ التَّعويلُ على المَولى والنَّصيرِ، تَعويلًا على أنَّ الحَمِيَّةَ والأنَفةَ تَدفَعُهم إلى الدِّفاعِ عنهم في ذلك الجَمْعِ، وإنْ كانوا مِن قَبْلُ مُختلِفينَ، فهم لِضِيقِ عطَنِ أفهامِهم يَقيسُون الأمورَ على مُعتادِهم. وهذا أيضًا وَجْهُ الجَمْعِ بيْن نَفْيِ جَزاءِ الوالدِ عن ولَدِه وبيْن نَفْيِ جزاءِ الولَدِ عن والدِه؛ لِيَشمَلَ الفريقينِ في الحالتينِ، فلا يُتوهَّمُ أنَّ أحَدَ الفريقينِ أرْجى في المَقصودِ [564] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/193، 194). .
- وجُملةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عِلَّةٌ لِجُملتَيْ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا، وأكَّدَ الخبَرَ بـ (إنَّ)؛ مُراعاةً لِمُنْكري البَعثِ [565] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/194، 195). .
- وإذ قد كانتْ شُبْهتُهم في إنكارِه مُشاهَدةَ النَّاسِ يَموتون ويَخلُفُهم أجيالٌ آخَرونَ، ولم يَرجِعْ أحَدٌ ممَّن مات منهم، وقالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24]، وقالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29] ؛ فرَّعَ على هذا التَّأكيدِ إبطالَ شُبهتِهم بقولِه: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، أي: لا تَغُرَّنَّكم حالةُ الحياةِ الدَّنيا بأنْ تَتوهَّموا الباطلَ حقًّا، والضُّرَّ نَفعًا [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/195). .
- وعطَفَ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ؛ لأنَّه أدخَلُ في تَحذيرِهم ممَّن يُلْقُون إليهم الشُّبَهَ، أو مِن أوهامِ أنفُسِهم الَّتي تُخيِّلُ لهم الباطلَ حقًّا لِيَتَّهِموا آراءَهم. وإذا أُرِيدَ بالغَرورِ الشَّيطانُ أو ما يَشملُه، فذلك أشدُّ في التَّحذيرِ؛ لِمَا تَقرَّرَ مِن عَداوةِ الشَّيطانِ للإنسانِ، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] ؛ ففي التَّحذيرِ شَوبٌ مِن التَّنفيرِ [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/195). .
2- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
- جُملةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لِوُقوعِها جوابًا عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ في نُفوسِ النَّاسِ، والجُمَلُ الأربَعُ الَّتي بعْدَها إدماجٌ [568] الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لِجمْعِ نَظائرِها؛ تَعليمًا للأُمَّةِ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/196). .
- وقد أفادَ تَأكيدُ جُملةِ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ بحَرْفِ (إنَّ) تَحقيقَ عِلمِ اللهِ تعالى بوَقتِ السَّاعةِ، وذلك يَتضمَّنُ تأْكيدَ وُقوعِها، وفي كَلمةِ عِنْدَهُ إشارةٌ إلى اختِصاصِه تعالى بذلك العِلمِ؛ لأنَّ العِنْديَّةَ شأْنُها الاستئثارُ. وتَقديمُ (عند) -وهو ظَرفٌ مُسنَدٌ- على المُسنَدِ إليه، يُفِيدُ التَّخصيصَ بالقَرينةِ الدَّالَّةِ على أنَّه ليس مُرادًا به مُجرَّدُ التَّقَوِّي [570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/196، 197). .
- ولَمَّا كانوا قد ألَحُّوا في السُّؤالِ عن وَقتِها، وكانت أبعَدَ الخَمسِ عن عِلمِ الخَلْقِ، وكان شَيئًا واحِدًا لا يتجَزَّأُ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14]؛ أبرَزَها سُبحانَه في جملةٍ اسميَّةٍ دالَّةٍ على الدَّوامِ والثُّبوتِ على طَريقِ الحَصرِ [571] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/215). .
- وجُملةُ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ عَطْفٌ على جُملةِ الخَبرِ، والتَّقديرُ: وإنَّ اللهَ يُنزِّلُ الغَيثَ؛ فيُفِيدُ التَّخصيصَ بتَنزيلِ الغَيثِ. والمقصودُ أيضًا: عندَه عِلمُ وَقتِ نُزولِ الغَيثِ، وليس المقصودُ مُجرَّدَ الإخبارِ بأنَّه يُنزِّلُ الغَيثَ؛ لأنَّ ذلك ليس ممَّا يُنكِرونه، ولكنْ نُظِمَتِ الجُملةُ بأُسلوبِ الفِعلِ المُضارِعِ وَيُنَزِّلُ؛ لِيَحصُلَ مع الدَّلالةِ على الاستئثارِ بالعِلمِ به الامتِنانُ بذلك المَعلومِ الَّذي هو نِعمةٌ. وفي اختيارِ الفِعلِ المُضارِعِ إفادةُ أنَّه يُجدِّدُ إنزالَ الغَيثِ المرَّةَ بعدَ المرَّةِ عندَ احتياجِ الأرضِ [572] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/324، 325)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/197). .
- وأيضًا لَمَّا كان المُشرِكونَ يَنسُبونَ الغَيثَ إلى الأنواءِ، أسنَدَ الإنزالَ إليه سُبحانَه؛ لِيُفيدَ الامتِنانَ [573] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/216). .
- قولُه: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ أي: يَنفرِدُ بعِلمِ جميعِ أطوارِه؛ مِن نُطفةٍ، وعَلَقةٍ، ومُضْغةٍ، ثمَّ مِن كونِه ذكَرًا أو أُنْثى، وإبَّان وَضْعِه بالتَّدقيقِ. وجِيءَ بالمُضارَعِ وَيَعْلَمُ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ العِلمِ بتَبدُّلِ تلك الأطوارِ والأحوالِ، والمعنى: يَنفرِدُ بعِلمِ جميعِ تلك الأطوارِ الَّتي لا يَعلَمُها الناسُ؛ لأنَّه عطْفٌ على ما قُصِدَ منه الحصْرُ؛ فكان المُسنَدُ الفِعليُّ المُتأخِّرُ عن المُسنَدِ إليه مُفِيدًا للاختصاصِ بالقَرينةِ [574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/197). .
- وأيضًا في هذه الآيةِ أضافَ فيها العِلمَ إلى نفْسِه في الثَّلاثةِ مِن الخَمسةِ المَذكورةِ في قولِه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، ونَفى العِلمَ عن العِبادِ في الأخيرَينِ منها في قولِه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ -مع أنَّ الخمْسةَ سَواءٌ في اختِصاصِ اللهِ تعالى بعِلْمِها، وانتفاءِ عِلمِ العِبادِ بها-؛ وذلك لأنَّ الثَّلاثةَ الأُوَلَ أمْرُها أعظَمُ وأفخَمُ؛ فخُصَّتْ بالإضافةِ إليه تعالى، والأخيرَينِ مِن صِفاتِ العِبادِ؛ فخُصَّا بالإضافةِ إليهم، مع أنَّه إذا انْتَفى عنهم عِلْمُهما، كان انتفاءُ عِلمِ ما عَداها مِن الخمْسةِ [575] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 449). .
- والنُّكتةُ الَّتي دعَتْ إلى العُدولِ عن المُثبَتِ إلى المَنفيِّ في قولِه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ: هي أنَّ في نَفْيِ الدِّرايةِ المَخصوصةِ وتَكريرِها واختِصاصِها بالذِّكرِ دونَ العِلمِ -لِمَا فيها مِن معنى الحِيلةِ والخِداعِ- وفي تَكريرِ النَّفْسِ، وتَنكيرِها، وإيقاعِها في سِياقِ النَّفيِ، وتَخصيصِ ما هو مِن خُوَيْصَّةِ كلِّ نفْسٍ: الدَّلالةَ على أنَّ النَّفْسَ إنْ لم تَعرِفْ ما يُلصَقُ بها ويَختَصُّ بها وإنْ أعمَلَتْ حِيلتَها، ولا شَيءَ أخصُّ بالإنسانِ مِن كَسبِه وعاقبتِه، فإذا لم يكُنْ له طريقٌ إلى مَعرفتِهما، كان مِن مَعرفةِ ما عداهما أبعَدَ، أي: مِن مَعرفةِ وَقتِ الساعةِ، وإبَّانِ إنزالِ الغَيثِ، ومَعرفةِ ما في الأرحامِ [576] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/325). .
- وقد نُسِجَ قولُه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ على مِنوالٍ آخَرَ مِن النَّظمِ؛ بحيثُ جُعِلَ سُداهُ نَفْيَ عِلمِ أيِّ نَفْسٍ بأخَصِّ أحوالِها؛ وهو حالُ اكتِسابِها القَريبُ منها في اليَومِ المُوالي يومَ تأمُّلِها ونَظرِها، وكذلك مكانُ انقضاءِ حياتِها؛ للنِّداءِ عَليهم بقِلَّةِ عِلْمِهم، فإذا كانوا بهذه المنزلةِ في قِلَّةِ العِلمِ؛ فكيف يَتطلَّعون إلى عِلمِ أعظَمِ حوادثِ هذا العالَمِ؟! وهو حادثُ فَنائِه وانقراضِه واعتياضِه بعالَمِ الخُلودِ؟! وهذا النَّفيُ للدِّرايةِ بهَذينِ الأمْرينِ عن كلِّ نَفْسٍ فيه كِنايةٌ عن إثباتِ العِلمِ بما تَكسِبُ كلُّ نَفْسٍ، والعِلمِ بأيِّ أرضٍ تَموتُ فيها كلُّ نَفْسٍ إلى اللهِ تعالى؛ فحَصَلَت إفادةُ اختصاصِ اللهِ تعالى بهَذينِ العِلمَينِ، فكانا في ضَميمةِ ما انتُظِمَ معهما ممَّا تَقدَّمَهما. وقد حصَلَ إفادةُ اختِصاصِ اللهِ تعالى بعِلمِ هذه الأُمورِ الخَمْسةِ بأفانينَ بَديعةٍ مِن أفانينِ الإيجازِ البالِغِ حدَّ الإعجازِ [577] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/505)، ((تفسير البيضاوي)) (4/218)، ((تفسير أبي حيان)) (8/425)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/218)، ((تفسير أبي السعود)) (7/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/197، 198). .
- وفي قولِه: بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ مُناسَبَةٌ حسَنةٌ، حيثُ لم يَقُلْ: (بأيِّ وَقتٍ تموتُ)، مع أنَّ كُلًّا منهما غيرُ مَعلومٍ لِغَيرِه، بل نَفْيُ العِلمِ بالزَّمانِ أَوْلى؛ لأنَّ مِن الناسِ مَن يَدَّعي عِلمَه، بخِلافِ المكانِ؛ وذلك أنَّه إنَّما خَصَّ المكانَ بنَفْيِ عِلمِه؛ لأنَّ الكَونَ في مكانٍ دونَ مَكانٍ في وُسعِ الإنسانِ واختيارِه، فاعتِقادُه عِلمَ مكانِ مَوتِه أقرَبُ، بخلافِ الزَّمانِ، ولأنَّ للمكانِ دونَ الزَّمانِ تأثيرًا في جَلبِ الصِّحَّةِ والسَّقمِ، أو تَأثيرُه فيهما أكثَرُ [578] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/219)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 449، 450). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ مُستأْنَفةٌ ابتدائيَّةٌ واقعةٌ مَوقِعَ النَّتيجةِ لِمَا تَضمَّنَه الكلامُ السابقُ مِن إبطالِ شُبْهةِ المشركينَ بقولِه تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [لقمان: 33]، أي: إنَّ اللهَ عَليمٌ بمَدَى وَعدِه، خبيرٌ بأحوالِكم ممَّا جمَعَه قولُه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ...؛ ولذا جمَعَ بيْن الصِّفتَينِ: صِفةِ عليمٍ، وصِفةِ خَبيرٍ؛ لأنَّ الثَّانيةَ أخصُّ [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/199). .