موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيتان (1-2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

زَلْزَلَةَ: الزَّلزَلةُ: الحَرَكةُ الشَّديدةُ، واضْطِرابُ الأرْضِ، وأصلُها مِن: زَلَّ عن الموضِعِ، أي: زال عنه وتحَرَّكَ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (16/447)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/4)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 243)، ((تفسير القرطبي)) (12/3). .
تَذْهَلُ: أي: تَنسَى وتَترُكُ، والذُّهولُ: نِسيانُ ما مِن شَأنِه ألَّا يُنسَى؛ لوجودِ مُقتَضى تذَكُّرِه، وأصلُ (ذهل): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بذُعرٍ أو غَيرِه [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/363)، ((البسيط)) للواحدي (15/242)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 236)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/189). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم، واحذَروا عِقابَه، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيهِ، إنَّ ما يَحدُثُ يوم القيامةِ مِن أهوالٍ عظيمةٍ شَيءٌ عَظيمٌ، يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ تَنسى المرضِعةُ رَضيعَها الذي ألقَمَتْه ثَدْيَها، وتشتغِلُ عنه؛ لِمَا نَزَل بها مِنَ الكربِ، وتُسْقِطُ الحامِلُ حَمْلَها مِنَ الرُّعبِ، وتَغيبُ عُقولُ النَّاسِ، فيَصيرون كالسُّكارى؛ مِن شِدَّةِ الهَولِ والفَزَعِ، ولَيسُوا بسُكارى مِن الخَمرِ، ولكِنَّ شِدَّةَ العذابِ أفقَدَتْهم عُقولَهم وإدراكَهم!

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.
أي: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم الذي خلَقَكم، والذي يرزُقُكم ويدَبِّرُ أمورَكم، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/186)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/254). قال ابن عاشور: (أوَّلُ تقواهُ هو تنزيهُه عن النَّقائِصِ، وفي مقَدِّمةِ ذلك تنزيهُه عن الشُّرَكاءِ، باعتقادِ وحدانيَّتِه في الإلهيَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/186). .
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.
أي: اتَّقُوا اللهَ؛ لأنَّ أمامَكم أهوالًا عَظيمةً، يَحصُلُ منها رُعبٌ هائِلٌ، وفَزَعٌ كَبيرٌ يومَ القيامةِ، ولا نجاةَ مِن ذلك إلَّا بتَقواهُ سُبحانَه [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/446)، ((تفسير القرطبي)) (12/3-5)، ((تفسير البيضاوي)) (4/64)، ((تفسير ابن كثير)) (5/389، 390، 393)، ((تفسير القاسمي)) (7/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/187)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/254 - 261). ممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي: شدَّتَها وهَوْلَها، ومَا يَحْصُلُ لِلنُّفوسِ مِنَ الْفَزَعِ وَالرُّعْبِ: ابنُ كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/393)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/261). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (12/3). قال الشنقيطي عن هذه الزلزلةِ: (معناها: شِدَّةُ الخوفِ والهولِ والفزعِ؛ لأنَّ ذلك يُسمَّى زِلْزالًا، بدليلِ قولِه تعالَى فيما وَقَع بالمسلمينَ يومَ الأحزابِ مِن الخوفِ: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 10- 11] ؛ أي: وهو زلزالُ فزعٍ وخوفٍ، لا زلزالُ حركةِ الأرض). ((أضواء البيان)) (4/261). وممن اختار أنَّها زلزلةٌ حقيقة وهي شدةُ الحركةِ: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والرازي، والعليمي، وابن عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/257)، ((تفسير السمعاني)) (3/416)، ((تفسير البغوي)) (3/322)، ((تفسير الرازي)) (23/199)، ((تفسير العليمي)) (4/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/187). ونسَب ابنُ عطيةَ للجمهورِ أنَّ زلزلةَ السَّاعةِ هي كالمعهودةِ في الدنيا، إلَّا أنَّها في غايةِ الشدَّةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/105). قال الشنقيطي: (اخْتَلَف العلماءُ في وقتِ هذه الزَّلْزَلةِ المذكورةِ هنا، هل هي بعدَ قيامِ النَّاسِ مِن قُبورِهم يومَ نشورِهم إلى عَرَصاتِ القيامةِ، أو هي عِبارَةٌ عن زلزلةِ الأرضِ قبلَ قِيامِ النَّاسِ مِن القُبورِ؟ فقالَتْ جماعَةٌ مِن أهلِ العلمِ: هذه الزَّلزلةُ كائِنةٌ في آخِرِ عُمْرِ الدُّنيا، وأوَّلِ أحوالِ السَّاعةِ. ومِمَّنْ قالَ بهذا القولِ: عَلْقَمةُ، والشَّعبيُّ، وإبراهيمُ، وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ، وابنُ جُريجٍ. وهذا القولُ مِن حيثُ المعنَى له وجهٌ مِن النَّظَرِ، ولكِنَّه لم يَثْبُتْ ما يُؤَيِّدُه مِن النَّقلِ، بل الثَّابِتُ مِن النَّقلِ يُؤَيِّدُ خلافَه، وهو القولُ الآخَرُ. وحُجَّةُ مَن قالَ بهذا القولِ حديثٌ مرفوعٌ جاءَ بذلك، إلَّا أنَّه ضعيفٌ لا يجوزُ الاحتجاجُ به. وأمَّا حُجَّةُ أهلِ القولِ الآخَرِ القائِلينَ بأنَّ الزَّلزلةَ المذكورةَ كائنةٌ يومَ القيامةِ بعدَ البعثِ مِن القبورِ، فهي ما ثَبَت في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم مِن تصريحِه بذلك. وبذلك تعلمُ أنَّ هذا القولَ هو الصَّوابُ كما لا يخفَى). ((أضواء البيان)) (4/257). وممَّن اختار أنَّها زلزلةٌ واقعةٌ في الدنيا قُبَيل يوم القيامة، وأنَّها من أشراطِه ومُقَدِّماتِه: السمعاني، وابن جزي، وابن عاشور، ونسبه القرطبيُّ إلى الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/416)، ((تفسير ابن جزي)) (2/32)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/187)، ((تفسير القرطبي)) (12/3). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: علقمةُ، وعامرٌ الشعبيُّ، وابنُ جريجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/446)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/221). قال أبو حيان: (قال الجمهورُ: في الدنيا آخرَ الزمانِ، ويتبعُها طلوعُ الشمسِ مِن مغربِها). ((تفسير أبي حيان)) (7/480). وممن اختار أنَّ الزلزلةَ كائنةٌ بعدَ بعثِ الناس وقيامِهم مِن قبورِهم: ابنُ جريرٍ، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/446)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/257- 260). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الحسنُ، والسُّدِّي، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/453)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/221). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى: يا آدَمُ. فيقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ [14] لَبَّيْكَ: أي: أدومُ على طاعتِك دوامًا بعد دَوامٍ، وإقامةً بعد إقامةٍ؛ مِن ألَبَّ بالمكانِ: إذا أقامَ به. وسَعْدَيْكَ: أي: ساعدتُ طاعتَك يا رَبِّ مُساعدةً بعد مُساعدةٍ، وهي الموافَقةُ والمُسارعةُ، أو أسعَدُ بإقامتي على طاعتِك وإجابتي لدَعوتِك سعادةً بعد سعادةٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/673). ، والخَيرُ في يَدَيكَ! فيقولُ: أخرِجْ بَعْثَ النَّارِ [15] بَعْثَ النَّارِ: بمعنى المبعوثِ المُوَجَّهِ إليها. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/97). . قال: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَ مئةٍ وتِسعةً وتِسعينَ. فعِندَه يَشيبُ الصَّغيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وأيُّنا ذلك الواحِدُ؟! قال: أبشِروا؛ فإنَّ منكم رجُلًا، ومِن يأجُوجَ ومَأجوجَ ألْفًا. ثمَّ قال: والَّذي نَفْسي بيَدِه، إنِّي أَرْجو أنْ تَكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا ثُلُثَ أهلِ الجَنِّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا نِصْفَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: ما أنتُم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعرةِ السَّوداءِ في جِلدِ ثَورٍ أبيضَ، أو كشَعرةٍ بَيضاءَ في جِلدِ ثَورٍ أسوَدَ!)) [16] رواه البخاري (3348) واللفظ له، ومسلم (222). .
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2).
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ.
أي: يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ -أيُّها النَّاسُ- تَشْتغِلُ كُلُّ مُرضِعةٍ حِينَها عمَّن تُرضِعُه، وتَغفُلُ عنه حائِرةً مَدهوشةً، قد اشتدَّ بها الكَربُ؛ مِن هَولِ ما تراهُ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/454، 456)، ((تفسير القرطبي)) (12/4، 5)، ((تفسير ابن كثير)) (5/394)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/4)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/255). قال الزمخشري: (عَمَّا أَرْضَعَتْ: عن إرضاعِها. أو: عن الذي أرْضَعته، وهو الطفلُ). ((تفسير الزمخشري)) (3/142). وقال السعدي: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ مع أنَّها مجبولةٌ على شدةِ محبتِها لولدِها، خصوصًا في هذه الحالِ، التي لا يعيشُ إلَّا بها). ((تفسير السعدي)) (ص: 532). .
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.
أي: وتُسقِطُ كُلُّ امرأةٍ حاملٍ جَنينَها الذي في بَطنِها قَبلَ تمامِه؛ لشِدَّةِ الكَربِ والفَزَعِ والهَولِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/456)، ((تفسير ابن كثير)) (5/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/256). قال السمعاني: (فإن قال قائِلٌ: كيفَ تضَعُ المرأةُ حَمْلَها يومَ القيامةِ؟ الجوابُ: قُلْنا: أمَّا على قَولِنا: إنَّ الزَّلزلةَ قبل قيامِ السَّاعةِ، فمعنى وَضعِ الحَملِ على ظاهِرِه، وإنْ قُلْنا: إنَّ الزَّلزلةَ عند قيامِ السَّاعةِ، فالجوابُ مِن وَجهَينِ: أحدُهما: أنَّ المرادَ مِن الآيةِ النِّساءُ اللَّواتي مِتنَ وهنَّ حَبالى. والوَجهُ الثَّاني -وهو الأصَحُّ: أنَّ هذا على وَجهِ تعظيمِ الأمرِ، وذِكرِ شِدَّةِ الهَولِ، لا على حقيقةِ وَضعِ الحَملِ، والعرَبُ تقولُ: أصابَنا أمرٌ يَشيبُ فيه الوليدُ، وهذا على طَريقِ عِظَمِ الأمرِ وشِدَّتِه، وقد قال الله تعالى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل: 17] ، والمرادُ ما بَيَّنَّا). ((تفسير السمعاني)) (3/417). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/260). .
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى.
أي: وترى [19] قال ابنُ جرير: (وترى النَّاسَ يا محمَّدُ...). ((تفسير ابن جرير)) (16/458). وقال السعدي: (أي: تحسَبُهم -أيُّها الرَّائي لهم ...). ((تفسير السعدي)) (ص: 532). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/191). النَّاسَ تَحسَبُهم سُكارى قد دَهِشَت عقولُهم، وغابت أذهانُهم؛ مِن شِدَّةِ الفَزَعِ والكَربِ والهَولِ، ولَيسُوا بسُكارى حقيقةً مِن شُربِ الخَمرِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/458)، ((تفسير السمرقندي)) (2/448)، ((تفسير القرطبي)) (12/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532). !
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
أي: ولكِنَّ الذي أوجَبَ لهم هذه الحالةَ خَوفُهم مِن شِدَّةِ عذابِ اللهِ الذي رأوْهُ، فأذهَبَ هَولُه عُقولَهم، وأفرَغَ قُلوبَهم، ومَلَأها فَزَعًا ورُعبًا [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/458)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 727))، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/6)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532). !

الفوائد التربوية :

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يخاطِبُ اللهَ النَّاسَ كافَّةً بأن يتَّقوا رَبَّهم الذي ربَّاهم بالنِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، فحقيقٌ بهم أن يتَّقوه بتركِ الشِّركِ والفُسوقِ والعصيانِ، ويمتَثِلوا أوامِرَه مهما استطاعوا، ثمَّ ذكَر ما يُعينُهم على التقوى، ويحَذِّرُهم مِن تركِها، وهو الإخبارُ بأهوالِ القيامةِ، فقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فحقيقٌ بالعاقِلِ الذي يعرِفُ أنَّ هذا أمامَه أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وألَّا يُلهِيَه الأملُ فيترُكَ العمَلَ، وأن تكونَ تقوَى اللهِ شِعارَه، وخوفُه دِثارَه [22] الشِّعارُ: ما وَلِيَ الجَسَدَ مِن الثِّيابِ. والدِّثارُ: ما كان مِنَ الثِّيابِ فَوقَ الشِّعارِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 102، 165). ، ومحبَّةُ اللهِ وذِكرُه رُوحَ أعمالِه [23] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 532، 533). ، فعِظَمُ الهولِ يومَ القيامةِ موجِبٌ واضحٌ لِلاستعدادِ لذلك الهولِ بالعملِ الصَّالحِ في دارِ الدُّنيا قبلَ تَعَذُّرِ الإمكانِ [24] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/261). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- من أسرارِ بلاغةِ القُرآنِ: أنَّه تعالى جعل الافتتاحَ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لسورتين في القرآن: إحداهما: سورةُ النساءِ، وهي السُّورةُ الرَّابعةُ مِن النِّصفِ الأوَّلِ مِن القرآنِ، وعلَّل الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المبدأِ بأنَّه خلق الخَلْقَ من نفْسٍ واحدةٍ، وهذا يدُلُّ على كمالِ قُدرةِ الخالقِ، وكمالِ عِلمِه وحكمتِه. والثانيةُ: سورةُ الحجِّ، وهي الرابعةُ أيضًا مِن النِّصفِ الثَّاني مِن القرآنِ، وعلَّلَ الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المعادِ، فجعلَ صدْرَ هاتين السورتينِ دليلًا على معرفةِ المبدأِ والمعادِ، وقدَّم السُّورةَ الدالَّةَ على المبدأِ على السُّورةِ الدالَّةِ على المعادِ، وهذا سِرٌّ عظيمٌ [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/281)، ((تفسير أبي حيان)) (3/493)، ((تفسير ابن عادل)) (1/1354). ! وهذا على القولِ بأنَّ ترتيبَ السُّوَرِ توقيفيٌّ.
2- قال الله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تسميةُ الزَّلزلةِ بـ «شيء» إمَّا لأنَّها حاصلةٌ مُتيقَّنٌ وقوعُها، فيُستسهَلُ لذلك أن تسمَّى شيئًا، وهي معدومةٌ؛ إذ اليقينُ يُشبِهُ الموجوداتِ. وإمَّا على المآلِ، أي: هي إذا وقعت شيءٌ عظيمٌ، وكأنَّه لم يُطلِقِ الاسمَ الآنَ، بل المعنى: أنَّها إذا كانت فهي إذَنْ شيءٌ عظيمٌ؛ ولذلك تَذهَلُ المراضِعُ، وتَسكَرُ النَّاسُ [26] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/4). .
3- في قَولِه تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى دَلالةٌ على إجازةِ المُبالغةِ في الأشياءِ، حتى يُسمَّى بأضدادِها، كما يُقالُ: «فلانٌ ميتٌ» إذا كان بليدًا في أمْرِه خاليًا مِن المنافِعِ، و«فلانٌ شيطانٌ» إذا كان داهيةً، وأشباه ذلك، ألَا تراه قال: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، ثمَّ قال: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى يعني -واللهُ أعلَمُ- مِن الشَّرابِ، ولكنْ مِن غَلبةِ الفَزَعِ لِمَا عايَنوا مِن الزَّلزَلةِ [27] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/314). .
4- قد يكونُ سَبَبُ السُّكرِ مِن الأَلَم، كما يكونُ من اللَّذَّةِ، كما قال تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَأخبَرَ أنَّهم يُرَونَ سُكارى وما هم بسُكارى [28] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/145). !

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
- قولُه: اتَّقُوا رَبَّكُمْ في التَّعبيرِ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ بصِفَةِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطبينَ: إيماءٌ إلى استحقاقِه أنْ يُتَّقى؛ لِعَظمتِه بالخالِقيَّةِ، وإلى جَدارةِ النَّاسِ بأنْ يَتقُّوه؛ لأنَّه بصِفَةِ تَدبيرِ الرُّبوبِيَّةِ لا يأمُرُ ولا يَنْهى إلَّا لمُراعاةِ مَصالحِ النَّاسِ، ودَرْءِ المفاسِدِ عنهم [29] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/186). .
- قولُه: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تَعليلٌ للأمْرِ بالتَّقوى، كما يُفِيدُه حَرفُ التَّوكيدِ (إنَّ) الواقِعُ في مَقامِ خِطابٍ لا تَردُّدَ للسَّامِعِ فيه، والتَّعليلُ يَقْتضي أنَّ لِزَلزلةِ السَّاعةِ أثرًا في الأمْرِ بالتَّقوى؛ وهو أنَّه وقْتٌ لحُصولِ الجزاءِ على التَّقوى وعلى العصيانِ، وذلك على وَجْهِ الإجمالِ المُفصَّلِ بما بعْدَه في وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [30] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/141)، ((تفسير البيضاوي)) (4/64)، ((تفسير أبي السعود)) (6/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/186). .
- والإتيانُ بلفْظِ شَيْءٌ؛ للتَّهويلِ بتَوغُّلِه في التَّنكيرِ، وللإيذانِ بأنَّ العُقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنْهِها، والعِبارةَ ضَيِّقةٌ لا تُحِيطُ بها إلَّا على وَجْهِ الإبهامِ [31] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/187). .
2- قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ تَمثيلٌ لبَيانِ شِدَّةِ الأمرِ وتَفاقُمِه [32] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/64)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/428)، ((تفسير أبي السعود)) (6/92). .
- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ ... بَيانٌ لجُملةِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ؛ لأنَّ ما ذُكِرَ يُبيِّنُ معنَى كونِها شيئًا عظيمًا، وهو أنَّه عظيمٌ في الشَّرِّ والرُّعبِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/188). .
- وتَقديمُ يَوْمَ على عامِلِه تَرَوْنَهَا؛ للاهتمامِ بالتَّوقيتِ بذلك اليومِ، وتوقُّعِ رُؤيتِه لكلِّ مُخاطَبٍ مِنَ النَّاسِ، وأصْلُ نظْمِ الجُملةِ: تَذهَلُ كلُّ مُرضعةٍ عمَّا أرضعَتْ يومَ تَرونَ زَلزلةَ السَّاعةِ [34] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/188). .
- وذكَرَ لفْظَ الذُّهولِ في قولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا دُونَ النِّسيانِ؛ لأنَّ الذُّهولَ أدَلُّ على شِدَّةِ التَّشاغُلِ. وأطلَقَ ذُهولَ المُرضِعِ وذاتِ الحمْلِ، وأُرِيدَ ذُهولُ كلِّ ذي عِلْقٍ نَفيسٍ عن عِلْقِه [35] الذُّهولُ عن الشَّيءِ: نِسيانُه والغَفلةُ عنه. والعِلْقُ: النَّفيسُ مِن كُلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 113، 216). على طَريقةِ الكِنايةِ. وزِيادةُ كلمةِ كُلُّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الذُّهولَ يَعْتري كلَّ مُرضِعٍ، وليس هو لبَعضِ المراضِعِ باحتِمالِ ضَعفٍ في ذاكرتِها، وهي كِنايةٌ عن تَعميمِ هذا الهولِ لكلِّ النَّاسِ، وهذا مِن بَديعِ الكِنايةِ عن شِدَّةِ ذلك الهولِ؛ لأنَّ استلزامَ ذُهولِ المُرضِعِ عن رَضيعِها لشِدَّةِ الهولِ يَستلزِمُ شِدَّةَ الهولِ لغَيرِها بطَريقِ الأَولى؛ فهو لُزومٌ بدرجةٍ ثانيةٍ، وهذا النَّوعُ مِن الكِنايةِ يُسمَّى الإيماءَ [36] الكِناية: هي في اللُّغة: التكلُّمُ بشيءٍ يُرادُ به غيرُه، أو الدَّلالةُ على الشَّيءِ مِن غير تَصريحٍ باسمِه. وفي اصطلاحِ البلاغيِّين: هي لفظٌ أُريدَ به غيرُ مَعناهُ الذي وُضِعَ له، مع جوازِ إرادةِ المعنى، حيثُ يُريدُ المتكلِّمُ إثباتَ معنًى مِن المعاني فلا يَذكُره باللفظِ الموضوعِ له مِن اللُّغةِ، ولكن يَجيءُ إلى معنى هو تاليهِ ورَديفُه في الوجودِ، فيُشيرُ به إليه، ويجعلُه دليلًا عليه؛ فيدُلُّ على المرادِ مِن طريقٍ أولى، مِثل قولهم: «طويل النِّجاد» و«كثير الرماد»؛ يعنون طويلَ القامةِ، وكثيرَ الضِّيافةِ؛ فتوصَّلوا إلى المرادِ بذِكرِ معنًى آخَرَ هو رديفُه في الوجودِ؛ لأنَّ القامةَ إذا طالتْ طال النِّجادُ، وإذا كَثُرَ القِرَى كَثُر الرَّمادُ. والكنايةُ مِن ألطفِ أساليبِ البلاغةِ وأدقِّها، وهي أبلغُ مِن الحَقيقةِ والتصريحِ. وتنقسمُ الكِنايةُ أيضًا باعتبارِ الوسائطِ (اللوازم) والسِّياق إلى أربعةِ أقسام: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء. والإيماءُ أو الإشارة: هو الذي قلَّتْ وسائطُه، مع وضوحِ اللزومِ بلا تعريضٍ، كقولِ الشاعر: أوَ ما رأيتَ المجدَ ألْقَى رحْلَه             في آلِ طلحةَ ثُمَّ لمْ يتحوَّلِ كِناية عن كونِهم: أمجادًا أجوادًا، بغايةِ الوُضوحِ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286- 290). . وقولُه: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا هو كِنايةٌ أيضًا كقولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/189، 190). .
- وقيل: مُرْضِعَةٍ دونَ (مُرضِع)؛ لأنَّ المُرضِعةَ: الَّتي هي في حالِ الإرضاعِ مُلْقِمةٌ ثَدْيَها الصَّبِيَّ. والمُرضِعُ: الَّتي شأْنُها أنْ تُرضِعَ وإنْ لم تُباشِرِ الإرضاعَ في حالِ وَصْفِها به؛ فمِن شأنِ العربِ إذا ذَكرتِ الأوصافَ المختصَّةَ بالإناثِ فأرادتِ المباشرةَ بالفِعلِ أدْخلتْ عليها التاءَ، وإذا أرادتْ مُطلَقَ الوَصفِ والنَّسَبَ جَرَّدتْها من التاءِ، فإنْ قالوا: هي مُرضِعٌ -يُريدون أنَّها ذاتُ رَضاعٍ- جَرَّدوه مِن التاءِ. وإن قالوا: هي مُرضعةٌ بمعنى أنَّها تَفعَلُ الرَّضاعَ، أي: تُلقِمُ الولدَ الثديَ، قالوا: هي مرضعةٌ -بالتَّاءِ-. فقيل هنا: مُرْضِعَةٍ؛ ليدُلَّ على أنَّ ذلك الهولَ إذا فُوجِئَتْ به هذه وقد ألْقَمَتِ الرَّضيعَ ثَدْيَها نزعَتْهُ عن فِيهِ؛ لِمَا يَلْحَقُها مِن الدَّهشةِ، وهو تصويرٌ بليغٌ يدُلُّ على شِدَّةِ الهولِ؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ في الشفقةِ والحنوِّ أعظمُ حالًا مِن تلك المرضعةِ التي ألْقَمتْ حبيبَها الثديَ؛ فهي تتدفَّقُ حنانًا، ومع ذلك تذهَلُ عنه إذا رأتْ تلك الأهوالَ؛ لشِدَّتِها وعظَمتِها، وعلى هذا فقولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أبلغُ مِن (مُرضِع) في هذا المقام؛ فإنَّ المرأةَ قد تذهَلُ عن الرضيعِ إذا كان غيرَ مُباشِرٍ للرَّضاعةِ، فإذا الْتقَمَ الثديَ واشتغلتْ برَضاعِه لم تذهَلْ عنه إلَّا لأمرٍ أعظمَ عندَها مِن اشتغالِها بالرَّضاعِ [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/142)، ((تفسير أبي حيان)) (7/481)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/189)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/255)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/388). .
- قولُه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (ما) في قولِه: عَمَّا مَوصولةٌ، والإتيانُ بالموصولِ وصِلَتِه عَمَّا أَرْضَعَتْ في تَعريفِ المَذهولِ عنه دونَ أنْ يقولَ: (عنِ ابْنِها)؛ للدَّلالةِ على أنَّها تَذهَلُ عن شَيءٍ هو نُصْبُ عَينِها، وهي في عمَلٍ مُتعلِّقٍ به، وهو الإرضاعُ؛ زِيادةً في التَّكنِّي عن شِدَّةِ الهولِ. وقيل: إنَّ (مَا) مَصدريَّةٌ، أي: تَذهلُ عنْ إرضاعِها، والأوَّلُ أدَلُّ على شِدَّةِ الهولِ، وكَمالِ الانزعاجِ [39] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/190). .
- والتَّعبيرُ بـ ذَاتِ حَمْلٍ دونَ التَّعبيرِ (بحامِلٍ)؛ لأنَّه الجاري في الاستِعمالِ في الأكثرِ، مع ما في هذه الإضافةِ مِنَ التَّنبيهِ على شِدَّةِ اتِّصالِ الحمْلِ بالحاملِ؛ فيدُلُّ على أنَّ وَضْعَها إيَّاهُ لسبَبٍ مُفظعٍ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/190، 191). . وأيضًا في عُدولِه سُبحانَه عن (كُلِّ حَامِلٍ) سِرٌّ بديعٌ؛ فإنَّ الحامِلَ قد تُطْلَقُ على المُهيَّأةِ للحمْلِ، وعلى مَن هي في أوَّلِ حَمْلِها ومبادئِه، فإذا قيل: (ذاتُ حمْلٍ) لم يكُنْ إلَّا لمَن ظهَرَ حمْلُها وصلَحَ للوضْعِ كاملًا أو سِقطًا، كما يُقالُ: (ذاتُ ولَدٍ)، فأَتَى في المُرضعةِ بالتَّاءِ التي تُحقِّقُ فِعلَ الرَّضاعةِ دونَ التَّهيُّؤِ لها، وأتى في الحامِلِ بالسَّببِ الَّذي يُحقِّقُ وُجودَ الحمْلِ، وقَبولَه للوضْعِ [41] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (4/22). .
- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا... وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى فيه الاختلافُ بالجَمْعيَّةِ والإفرادِ؛ لأنَّ المَرئِيَّ في الأوَّلِ هي الزَّلزلةُ الَّتي يُشاهِدُها الجميعُ، وفي الثَّاني حالُ مَن عدا المُخاطَبِ منهم؛ فلا بُدَّ من إفرادِ المُخاطَبِ على وَجْهٍ يعُمُّ كلَّ واحدٍ منهم؛ لكنْ مِن غيرِ اعتِبارِ اتِّصافِه بتلك الحالةِ؛ فإنَّ المُرادَ بَيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المَرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مَشاعِرِه، كأنَّه قيلَ: ويَصيرُ النَّاسُ سُكارى... إلخ. وإنَّما أُوثِرَ عليه ما جاء في التَّنزيلِ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى؛ للإيذانِ بكَمالِ ظُهورِ تلك الحالةِ فيهم، وبُلوغِها من الجلاءِ إلى حَدٍّ لا يَكادُ يَخْفى على أحدٍ [42] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/143)، ((تفسير البيضاوي)) (4/64)، ((تفسير أبي حيان)) (7/482)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 381)، ((تفسير أبي السعود)) (6/92). . والمُرادُ مِنَ الأوَّلِ التَّهديدُ بالوُقوعِ، ومن الثَّاني التَّعجُّبُ مِن حالِهم [43] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/433). . وقيل: الخِطابُ في وَتَرَى النَّاسَ لغيرِ مُعيَّنٍ، وهو كلُّ مَن تتأَتَّى منه الرُّؤيةُ مِن النَّاسِ؛ فهو مُساوٍ في المعنى للخِطابِ الَّذي في قولِه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا، وإنَّما أُوثِرَ الإفرادُ هنا للتَّفنُّنِ؛ كَراهيةَ إعادةِ الجمْعِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/191). . وقيل: قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا وبَعْدَه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مُحَوَّلٌ على (أيَّها المُخاطَبُ)، أي: لو حضَرْتَ أيُّها المُخاطَبُ لرَأيتَه بهذه الصِّفةِ [45] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 180)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/324). .
- وعُدِلَ عن فِعلِ المُضِيِّ إلى المُضارِعِ في قولِه: وَتَرَى؛ لاستحضارِ الحالةِ، والتَّعجيبِ منها [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/191). .
- قولُه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وُصِفَ النَّاسُ بذلك على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، وقولُه بعْدَه: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى قَرينةٌ على قَصْدِ التَّشبيهِ؛ فنَفى عنهم الحقيقةَ -وهي السُّكْرُ مِن الخمْرِ؛ وذلك لِمَا هُم فيه مِن الحيرةِ وتَخليطِ العقْلِ [47] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/142)، ((تفسير أبي حيان)) (7/482)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/191)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/388). .
- قولُه: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ استدراكٌ لِمَا تقدَّمَ مِن الحالةِ اللَّيِّنةِ، وهو الذُّهولُ والوضْعُ ورُؤيةُ النَّاسِ أشباهَ السُّكارى؛ وكأنَّه قيل: وهذه أحوالٌ هيِّنةٌ، ولكنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ، وليس بَهيِّنٍ ولا لَيِّنٍ [48] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/483). .