موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (35-41)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات :

تَبِيدَ: أي: تَفنى وتَخرَبُ، وأصلُ (بيد): يدُلُّ على هَلاكِ الشَّيءِ [612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/262)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/325)، ((المفردات)) للراغب (ص: 152).   .
مُنْقَلَبًا: أي: مَرجِعًا وعاقِبةً، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على ردِّ الشَّيءِ [613] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876).   .
حُسْبَانًا: أي: مَراميَ يُرمَى بها مِن عذابِه؛ إمَّا حجارةً، وإما نارًا أو غيرَ ذلك مِن أنواعِ العذابِ، واحِدُها حُسبانةٌ، والحُسبانُ أيضًا: العَذابُ والسِّهامُ القِصارُ [614] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 199)، ((الوسيط)) للواحدي (3/149)، ((المفردات)) للراغب (1/232)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 214)، ((تفسير القرطبي)) (17/153).   .
زَلَقًا: أي: مَلساءَ، لا تَثبُتُ فيها قَدَمٌ، وأصلُ (زلق): يدُلُّ على تزلُّجِ شَيءٍ عن مَقامِه [615] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((المفردات)) للراغب (ص: 382)، ((تفسير القرطبي)) (10/408)، ((تفسير ابن كثير)) (5/159)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 422)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 567).   .
غَوْرًا: أي: غائِرًا ذاهِبًا في الأرضِ، وأصلُ (غور): يدلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ وانحِطاطٍ [616] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 476)، ((تفسير ابن جرير)) (15/267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 351)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/401)، ((تفسير القرطبي)) (18/222).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ودخَل الرجُلُ حَديقتَه، وهو ظالمٌ لِنَفسِه بالكُفرِ باللهِ وإنكارِه البَعثَ، وقال: ما أظنُّ أن تَهلِكَ هذه الحديقةُ أبدًا، وما أظنُّ القيامةَ واقعةً، وإنْ فُرِضَ وقوعُها ورُجِعْتُ إلى رَبِّي، لأجِدَنَّ عنده خيرًا مِن هذه الحديقةِ التي أعطانيها في الدُّنيا؛ لكَرامَتي ومَنزِلتي عندَه. قال له صاحِبُه المؤمِنُ وهو يحاوِرُه: أكفَرْتَ باللهِ الذي خلق أصلَك آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ أنشأك مِن نُطفةِ أبوَيك، ثمَّ سَوَّاك بَشَرًا مُعتَدِلَ القامةِ والخِلْقةِ؟!
لكِنْ أنا لا أقولُ بمقالَتك الدَّالَّةِ على كُفرِك، وإنَّما أقولُ: المستحِقُّ العبادةَ هو اللهُ رَبِّي وَحدَه، ولا أُشرِكُ في عبادتي له أحَدًا غيرَه، وهلَّا حين دخَلْتَ حديقَتَك فأعجَبَتْك، قلتَ: ما شاء اللهُ، لا قُوَّةَ لي على شيءٍ إلَّا باللهِ، إنْ كنتَ تراني أقَلَّ منك مالًا وأولادًا، فعسى ربِّي أن يُعطِيَني أفضَلَ مِن حَديقتِك، ويُرسِلَ على حديقتِك عَذابًا من السَّماءِ، فتُصبِحَ أرضًا مَلساءَ جَرداءَ لا يَنبُتُ فيها نَباتٌ، ولا تَثبُتُ عليها قَدَمٌ، أو يصيرَ ماؤُها الذي تُسقَى منه ذاهبًا في الأرضِ، فلا تَقدِرَ على إخراجِه.

تفسير الآيات:

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35).
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ.
أي: ودخل الرَّجُلُ [617] قال الشوكاني: (قال المفسِّرُونَ: أخَذ بيدِ أخيه المسلمِ، فأدْخَله جَنَّتَه يطوفُ به فيها، ويُرِيه عجائِبَها). ((تفسير الشوكاني)) (3/339). وقال ابنُ عاشورٍ: (جملةُ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ في موضِعِ الحالِ مِن ضميرِ قَالَ، أي: قال ذلك وقد دخل جنَّتَه مُرافِقًا لصاحِبِه، أي: دخَلَ جَنَّتَه بصاحِبِه، كما يدُلُّ عليه قَولُه: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف: 35] ؛ لأنَّ القَولَ لا يكونُ إلَّا خِطابًا لآخَرَ، أي: قال له، ويدُلُّ عليه أيضًا قَولُه: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف: 37] ، ووقوعُ جوابِ قَولِه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف: 34] في خلالِ الحوارِ الجاري بينهما في تلك الجنَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/320).   بُستانَه والحالُ أنَّه ظالمٌ لِنَفسِه بالكُفرِ باللهِ وتَكبُّرِه وتجَبُّرِه، وإنكارِه البَعثَ يومَ القيامةِ [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/262)، ((تفسير ابن كثير)) (5/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/320).   .
قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا.
أي: قال: ما أظُنُّ أن تفنى وتضمَحِلَّ جنَّتي هذه أبدًا [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/262)، ((تفسير ابن كثير)) (5/157)، ((تفسير الشوكاني)) (3/339)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/320)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 69). وممَّن قال بأنَّ الإشارةَ في قوله هَذِهِ إلى جنَّتِه: ابن جرير، وابن كثير، والشوكاني، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: الإشارةُ ترجِعُ إلى الدنيا، فيكون الرجلُ مُنكِرًا لفناءِ الدُّنيا. وممَّن ذهب إلى ذلك: الواحدي، والقرطبي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/15)، ((تفسير القرطبي)) (10/404). قال ابنُ جُزي: (يحتملُ أن تكونَ الإشارةُ إلى السَّمواتِ والأرض وسائرِ المخلوقاتِ، فيكون قائلًا ببقاء هذا الوجودِ، كافرًا بالآخرةِ، أو تكون الإشارةُ إلى جنَّته، فيكون قولُه إفراطًا في الاغترارِ، وقِلَّةِ التَّحصيلِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/466). !
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.
أي: وما أظُنُّ القِيامةَ كائِنةً؛ فلا يُوجَدُ بَعثٌ ولا حِسابٌ ولا جَزاءٌ [620] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/262)، ((تفسير القرطبي)) (10/404)، ((تفسير ابن كثير)) (5/157)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 70).   !
  وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا .
أي: ولو قُدِّرَ وافتُرِضَ أنَّني رُجِعْتُ إلى ربِّي فبعَثَني بعد موتي، لَأُعطَيَنَّ في الآخرةِ جَنَّةً خَيرًا مِن هذه الجنَّةِ التي أعطانيها في الدُّنيا؛ لأنَّه لم يُعطِني هذه إلَّا لأني أستحِقُّها ولي عنده حُظوةٌ ومكانةٌ، فكذلك يكون حالي في الآخرةِ على تقديرِ وُجودِها [621] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/262، 263)، ((تفسير القرطبي)) (10/404)، ((تفسير ابن كثير)) (5/157)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 70). قال السعدي: (هذا لا يخلو من أمرَينِ: إمَّا أن يكونَ عالِمًا بحقيقةِ الحالِ، فيكونَ كَلامُه هذا على وَجهِ التهَكُّمِ والاستهزاءِ، فيكونَ زيادةَ كُفرٍ إلى كُفرِه، وإما أن يكونَ هذا ظَنَّه في الحقيقةِ، فيكونَ مِن أجهَلِ النَّاسِ، وأبخَسِهم حظًّا من العَقلِ؛ فأيُّ تلازمٍ بين عطاءِ الدنيا وعطاءِ الآخرة، حتى يَظُنَّ بجَهلِه أنَّ مَن أعطِيَ في الدنيا أعطِيَ في الآخرةِ؟! بل الغالِبُ أنَّ اللهَ تعالى يزوي الدُّنيا عن أوليائِه وأصفيائِه، ويوسِّعُها على أعدائِه الذين ليس لهم في الآخِرةِ نصيبٌ، والظَّاهِرُ أنَّه يعلَمُ حَقيقةَ الحالِ، ولكِنَّه قال هذا الكلامَ على وَجهِ التهَكُّمِ والاستهزاءِ، بدليلِ قَولِه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ فإثباتُ أنَّ وَصْفَه الظُّلمُ في حالِ دخولِه الذي جرى منه من القَولِ ما جرى: يدُلُّ على تمرَدُّه وعِنادِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 477). وقال ابن عثيمين: (فكأنَّه يقولُ: بما أنَّ الله أنعم عليَّ بالدُّنيا، فلا بُدَّ أن يُنعِمَ عليَّ بالآخرةِ. وهذا قياسٌ فاسِدٌ؛ لأنَّه لا يلزَمُ مِن التَّنعيمِ في الدُّنيا أن يُنعَّمَ الإنسانُ في الآخرةِ، ولا مِن كَونِ الإنسانِ لا يُنَعَّمُ في الدنيا ألَّا ينَعَّمَ في الآخرةِ؛ لا تلازُمَ بين هذا وهذا، بل إنَّ الكُفَّارَ ينعَّمونَ في الدُّنيا وتُعَجَّلُ لهم طيِّباتُهم في حياتِهم الدُنيا، ولكِنَّهم في الآخرةِ يعَذَّبونَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 70). !
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37).
أي: قال له صاحِبُه المؤمِنُ وهو يخاطِبُه ويكَلِّمُه: أكفَرْتَ باللهِ الذي خلقَ أصلَك آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ أنشأك مِن مَنِيٍّ، ثمَّ عَدَلَك وكَمَّلَك، فصَيَّرك رجُلًا سَوِيًّا مُعتَدِلَ القامةِ والخِلْقةِ، صحيحَ الأعضاءِ؟! فالذي خلَقَك كذلك قادِرٌ على البَعثِ الذي أنت تُنكِرُه [622] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/263)، ((تفسير القرطبي)) (10/404)، ((تفسير ابن كثير)) (5/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/322)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/275، 276)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 71). قال الرازي: (هذا الاستِدلالُ يحتَمِلُ وَجهَينِ: الأوَّلُ: يرجِعُ إلى الطريقةِ المذكورةِ في القُرآنِ، وهو أنَّه تعالى لَمَّا قَدَر على الابتداءِ وجَبَ أن يقدِرَ على الإعادةِ؛ فقَولُه: خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا إشارةٌ إلى خَلقِ الإنسانِ في الابتداءِ. الوجه الثاني: أنَّه لَمَّا خَلَقَك هكذا فلم يخلُقْك عبثًا، وإنما خلَقَك للعبوديةِ، وإذا خلَقَك لهذا المعنى وجَبَ أن يحصُلَ للمُطيعِ ثوابٌ، وللمذنِبِ عِقابٌ...، ويدُلُّ على هذا الوَجهِ قَولُه: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي: هيَّأك هيئةً تَعقِلُ وتَصلُحُ للتَّكليفِ، فهل يجوزُ في العَقلِ مع هذه الحالةِ إهمالُه أمْرَك؟!). ((تفسير الرازي)) (21/464). !
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7-8] .
وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *  فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 7، 8].
وقال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4].
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38).
أي: لكِنْ أنا لا أكفُرُ ولا أقولُ مِثلَ قَولِك، بل أقولُ: الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحدَه، هو الله ربِّي، ولا أعبُدُ أحدًا غَيرَه [623] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/263، 264)، ((تفسير ابن كثير)) (5/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477). قال الفراء: (قَولُه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي معناه: لكِنْ أنا هو اللهُ ربي، تُرِك همزةُ الألفِ مِن «أنا»، وكثُرَ بها الكلامُ، فأُدغِمَت النونُ مِن «أنا» مع النونِ مِن «لكنْ»). ((معاني القرآن)) (2/144). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/403). قال الشوكاني: (وضميرُ هُوَ للشَّأنِ، والجملةُ بعدَه خبرُه، والمجموعُ خبرُ «أنا»، والرَّاجعُ ياءُ الضَّميرِ، وتقديرُ الكلامِ: لكنَّ أنا الشَّأنُ اللَّهُ رَبِّي). ((تفسير الشوكاني)) (3/340). .
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39).
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ.
أي: وهلَّا إذ دخلتَ بُستانَك قلتَ حين أعجَبَك: ما شاءَ اللهُ [624] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/264)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/321)، ((تفسير ابن كثير)) (5/158). قال الزمخشري: (مَا شَاءَ اللَّهُ يجوزُ أن تكونَ مَا موصولةً مرفوعةَ المحلِّ على أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: الأمرُ ما شاء اللهُ. أو شرطيَّةً منصوبةَ الموضِعِ، والجزاءُ محذوفٌ، بمعنى: أىَّ شَيءٍ شاء اللهُ كان). ((تفسير الزمخشري)) (2/723). وممن اختار المعنى الأولَ: الزجاج. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/288). وممن اختار المعنى الثاني: ابنُ جرير، وابنُ تيمية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/264)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/321). .
لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
أي: وهَلَّا قُلتَ: لا قُوَّةَ لي على شَيءٍ إلَّا بإعانةِ اللهِ لي، ومِن ذلك إنشاءُ الجنَّتَينِ وعِمارتُهما، وتدبيرُ أمرِهما [625] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/265)، ((تفسير البغوي)) (3/193)، ((تفسير القرطبي)) (10/406)، ((تفسير البيضاوي)) (3/281)، ((تفسير الخازن)) (3/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/324).   .
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((يا عبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ، ألَا أعَلِّمُك كَلِمةً هي مِن كُنوزِ الجنَّةِ؟ لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ )) [626] رواه البخاري (6610) واللفظ له، ومسلم (2704).   .
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا.
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا عَلَّمه الإيمانَ وتفويضَ الأمورِ إلى اللَّهِ سبحانَه؛ أجابَه على افتخارِه بالمالِ والنَّفَرِ، فقالَ [627] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/340).   :
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا.
أي: قال الرجُلُ المؤمِنُ للكافِرِ: إنْ رأيتَني أقَلَّ منك مالًا وأولادًا، فتكبَّرْتَ وافتخَرْتَ بذلك عليَّ واحتقَرْتَني [628] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/265)، ((تفسير السمرقندي)) (2/347)، ((تفسير الخازن)) (3/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477)، ((تفسير ابن عثيمين-سورة الكهف)) (ص: 73).   .
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40).
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ.
أي: فلعَلَّ [629] قولُه تعالى: فَعَسَى رَبِّي يحتَمِلُ أحدَ مَعنَيَينِ: الأول: الترجِّي، وأنَّ هذا دعا أن يؤتيَه اللهُ خَيرًا مِن جَنَّتِه، وأن يُنْزِلَ عليها حُسبانًا من السَّماءِ؛ لأنَّه احتَقَره واستذَلَّه، فدعا عليه بمِثلِ ما فَعَلَ به من الظُّلمِ. الثاني: التوقُّع، والمعنى أنَّك إن كنتَ ترى هذا فإنَّه يُتَوقَّعُ أنَّ الله تعالى يُزيلُ عني ما عِبْتَني به، ويُزيلُ عنك ما تفتَخِرُ به. وأيًّا ما كان فالأمرُ وقَع؛ إمَّا استجابةً لدعائِه، وإمَّا تحقيقًا لتوقُّعِه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 73- 74). وذهب البِقاعي إلى أنَّه دعاءٌ بصورةِ التوقُّع. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/63). قال ابنُ عاشور: (وعَسَى للرَّجاءِ، وهو طلبُ الأمرِ القريبِ الحصولِ. ولعلَّه أرادَ به الدُّعاءَ لنفسِه وعلى صاحِبِه). ((تفسير ابن عاشور)) (15/324). ربِّي أن يَرزُقَني لإيماني خَيرًا مِن بُستانِك الذي تفتَخِرُ به عليَّ [630] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/265)، ((تفسير البغوي)) (3/193)، ((تفسير القرطبي)) (10/408)، ((تفسير البيضاوي)) (3/282). قال الماوَردي: (فيه وجهان: أحدُهما: خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ في الدُّنيا فأساويك فيها. الثاني: وهو الأشهَرُ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ في الآخرةِ، فأكون أفضَلَ منك فيها). ((تفسير الماوردي)) (3/307). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/466). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقولِه: خَيْرًا مِنْهَا أي: في الآخرةِ: البغوي، والقرطبي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/193)، ((تفسير القرطبي)) (10/408)، ((تفسير ابن كثير)) (5/159). .
وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ.
أي: ويُرسِلَ على بُستانِك الذي ظَنَنْتَ أنَّه لا يَبيدُ ولا يفنى عَذابًا من السَّماءِ لِيُهلِكَه [631] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/265)، ((تفسير القرطبي)) (10/408)، ((تفسير ابن كثير)) (5/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/325). قال ابنُ كثير: (والظاهِرُ أنَّه مطَرٌ عَظيمٌ مُزعِجٌ، يَقلَعُ زَرعَها وأشجارَها). ((تفسير ابن كثير)) (5/159). وقال ابنُ عاشور: (الحُسْبانُ: مصدَرُ حَسَب، كالغُفران. وهو هنا صِفةٌ لِموصوفٍ محذوفٍ، أي: هَلاكًا حُسبانًا، أي: مقدَّرًا من الله، كقَولِه تعالى: عَطَاءً حِسَابًا [النبأ: 36] . وقيل: الحُسبانُ: اسمُ جمعٍ لسهامٍ قِصارٍ يُرمى بها في طَلقٍ واحدٍ، وليس له مفردٌ. وقيل: اسمُ جَمعِ حُسبانةٍ، وهي الصاعقةُ. وقيل: اسمٌ للجرادِ. والمعاني الأربعة صالحةٌ هنا). ((تفسير ابن عاشور)) (15/325). قال الرسعني: (يرمي ويرسلُ عليها مراميَ مِن عذابِه، إمَّا حجارةً، وإمَّا بردًا، وإما نارًا، إلى غيرِ ذلك مِن أنواعِ العذابِ، وهذا يجمعُ أقوالَ المفسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (4/290). .
فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا.
أي: فيُصبِحَ بُستانُك بسَبَبِ العذابِ أرضًا مُسْتويةً، جَرداءَ لا نباتَ فيها، ملساءَ لا تَثبُتُ عليها قَدَمٌ [632] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/266)، ((تفسير السمرقندي)) (2/348)، ((الوسيط)) للواحدي (3/149)، ((تفسير القرطبي)) (10/408)، ((تفسير ابن كثير)) (5/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477).   .
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41).
أي: أو يُصبِحَ ماءُ النَّهرِ الذي يَسْقي بستانَك غائرًا ذاهبًا في الأرضِ، فلن تَقدِرَ على طَلَبِ الماءِ واستِخراجِه [633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/267، 268)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 662)، ((تفسير القرطبي)) (10/409)، ((تفسير الشربيني)) (2/378)، ((تفسير السعدي)) (ص: 477). قال ابنُ كثيرٍ في قولِه: غَوْرًا: (أي: غائرًا في الأرضِ، وهو ضِدُّ النَّابعِ الذي يَطلُبُ وجهَ الأرض، فالغائِرُ يَطلُبُ أسفلَها، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] أي: جارٍ وسائحٍ). ((تفسير ابن كثير)) (5/159). وقال القرطبي: (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا أي: لن تستطيعَ ردَّ الماءِ الغائرِ، ولا تقدِرُ عليه بحيلةٍ. وقيل: فلن تستطيعَ طلَبَ غيرِه بدلًا منه). ((تفسير القرطبي)) (10/409). وقال ابنُ عثيمين: (فدعا دعوةً يكونُ فيها زوالُ هذه الجنَّةِ، إمَّا بماءٍ يُغرِقُها حتى تصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، وإما بغَورٍ لا سُقيا معه؛ لِقَولِه: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وكلا الأمرينِ تدميرٌ وخرابٌ. فالفيضاناتُ تدمِّرُ المحصولَ، وغَورُ الماءِ حتى لا يستطيعَ أن يَطلُبَه لِبُعدِه في قاع الأرضِ أيضًا يدَمِّرُ المحصولَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 74-75). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فيه استِحبابُ هذ الذِّكرِ عند رؤيةِ ما يُعجِبُ [635] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 171).   ؛ حتى يفَوِّضَ الأمرَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ لا إلى حَولِه وقُوَّتِه [636] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 72).   ، فينبغي لِمن دخل بُستانَه أو دارَه، أو رأى في مالِه وأهلِه ما يُعجِبُه: أن يبادِرَ إلى هذه الكَلِمةِ؛ فإنَّه لا يرى فيه سُوءًا [637] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 115).   ؛ ولهذا قال بعضُ السَّلَفِ: (من أعجبه شيءٌ مِن حالِه أو مالِه أو ولَدِه، فليقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ). وهذا مأخوذٌ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ [638] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/158).   .
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أفادت هذه الكَلِمةُ إثباتَ القُوَّةِ لله، وبراءةَ العَبدِ منها، والتَّنبيهَ على أنَّه لا قُدرةَ لأحدٍ مِن الخَلقِ إلَّا بتَقديرِه تعالى، فلا يُخافُ مِن غَيرِه [639] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/63).   .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ في الآيةِ الإرشادُ إلى التسَلِّي عن لذَّاتِ الدُّنيا وشَهَواتِها بما عندَ اللهِ مِن الخَيرِ [640] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 477).   .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا فيه الدُّعاءُ بتَلَفِ مالِ مَن كان مالُه سَبَبَ طُغيانِه وكُفرِه وخُسرانِه -وذلك على أحدِ الاحتمالينِ في التفسيرِ-، خُصوصًا إنْ فَضَّلَ نَفسَه بسَبَبِه على المُؤمِنينَ، وفخَرَ عليهم [641] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 477).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ في إفرادِ الجنَّةِ بعد تثنيتِها فيما سبق أوجهٌ:
الوجه الأول: أنَّه وحَّد لإرادة الجِنسِ، ودلالةً على ما أفاده الكلامُ مِن أنَّهما لاتصالِهما كالجنَّةِ الواحدةِ [643] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/59).   .
الوجه الثاني: لأنَّه أوَّلَ ما يدخُلُ إنَّما يدخُلُ إحداهما قبل أن ينتَقِلَ منها إلى الأخرى، فما دخل إلَّا إحدى الجنَّتين؛ لأنَّه لا يدخُلُهما معًا في وقتٍ واحدٍ [644] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/320).   .
الوجه الثالث: أنَّه إنما أفرَدَها بعد ذِكرِ التثنيةِ؛ اكتفاءً بالواحِدِ للعِلمِ بالحالِ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (12/486).   .
الوجه الرابع: أنَّه أفرَدَ؛ لأنَّهما جميعًا مِلْكُه، فصارا كالشَّيءِ الواحِدِ [646] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/489).   .
الوجه الخامس: أنَّ معناه: (ودخل ما هو جنَّتُه، ما له جنةٌ غيرُها)، يعني: أنَّه لا نصيبَ له في الجنَّةِ التي وُعِدَ المؤمنون؛ لأنَّه لا حَظَّ له في الآخرةِ، فما ملَكَه في الدُّنيا هو جنَّتُه لا غيرُ، ولم يقصِدِ الجنَّتين ولا واحدةً منهما [647] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/721)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/59). لكن استَبعَد الشوكاني هذا الوجهَ، فقال: (وما أبعدَ ما قالَه صاحبُ الكشَّافِ أنَّه وَحَّد الجنَّةَ للدَّلالَةِ على أنَّه لا نصيبَ له في الجنَّةِ الَّتي وُعِد المؤمِنونَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/339).   .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا في هذه الآياتِ أنَّ الإنسانَ الأوَّلَ قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وهذا الثَّاني كَفَّرَه؛ حيث قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ وهذا يدُلُّ على أنَّ الشَّاكَّ في حُصولِ البَعثِ ومنكرَ المعادِ كافرٌ بربِّ العالمين، وإن زعَم أنَّه مقِرٌّ به [648] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/464)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/114).   ، وقد جاء ذلك صريحًا  في أوَّلِ سورةِ (الرَّعدِ) في قولِه تعالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [649] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/277).   [الرعد: 5] .
3- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ما قال سُبحانَه: «ما شاء اللهُ كان» ولا: «يكونُ»، بل أطلقَ اللفظَ؛ ليَعُمَّ الماضيَ والمستقبلَ والرَّاهنَ [650] الفائدةُ لابنِ هبيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/142، 143).   .
4- قال ابنُ هُبيرة: (تدبَّرتُ قولَه تعالى: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فرأيتُ لها ثلاثةَ أوجهٍ:
أحدُها: أنَّ قائِلَها يتبرَّأُ مِن حَولِه وقُوَّتِه، ويُسَلِّمُ الأمرَ إلى مالِكِه.
والثاني: أنَّه يعلمُ أنْ لا قُوَّةَ للمَخلوقينَ إلَّا باللَّه، فلا يخافُ منهم؛ إذ قُواهُم لا تكونُ إلَّا باللَّهِ، وذلك يُوجِبُ الخوفَ من اللهِ وحدَهُ.
والثَّالثُ: أنَّه ردَّ على الفَلاسفةِ والطَّبائعيِّينَ الذين يدَّعونَ القُوى في الأشياءِ بطبيعتِها؛ فإنَّ هذه الكَلِمةَ بَيَّنَت أنَّ القَويَّ لا يكونُ إلَّا باللهِ) [651] يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) (2/143).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
     - قولُه: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا استئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من ذِكْرِ دُخولِ جنَّتِه حالَ ظُلْمِه لنفْسِه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال إذْ ذاك؟ فقيل: قال قولَه: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، ولعلَّه إنَّما قاله بمُقابلةِ مَوعظةِ صاحبِه، وتَذْكيرِه بفَناءِ جنَّتَيه، ونَهْيِه عن الاغترارِ بهما، وأمْرِه بتَحصيلِ الباقياتِ الصَّالحاتِ [652] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/222).   .
2- قوله تعالى: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا
     - عقَّبَ نفيَ قيامِ الساعةِ بقولِه: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا؛ تهكُّمًا بصاحبِه، وقرينةُ التَّهكُّمِ قولُه: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وأكَّدَ كلامَه بلامِ القَسَمِ ونُونِ التَّوكيدِ؛ مُبالغةً في التَّهكُّمِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/321).   .
3- قوله تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا
     - قولُه: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ حكَى كلامَ صاحبِه بفِعْلِ القولِ بدونِ عطْفٍ؛ للدَّلالةِ على أنَّه واقعٌ موقعَ المُحاورةِ والمُجاوبةِ [654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/321).   .
     - قولُه: وَهُوَ يُحَاوِرُهُ جُملةٌ حاليَّةٌ؛ فائدتُها التَّنبيهُ من أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ ما يَتْلوه كلامٌ مُعتنًى بشأنِه، مسوقٌ للمُحاوَرةِ [655] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/222).   .
     - والاستفهامُ في قولِه: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ والإنكارِ، وليس على حقيقتِه؛ لأنَّ الصاحبَ كان يعلَمُ أنَّ صاحبَه مُشرِكٌ؛ بدَليلِ قولِه له: وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا؛ فالمُرادُ بالكُفْرِ هنا الإشراكُ، الَّذي من جُملةِ مُعتقداتِه إنكارُ البعْثِ؛ ولذلك عُرِّفَ بطريقِ الموصوليَّةِ؛ لأنَّ مَضمونَ الصِّلةِ مِن شأْنِه أنْ يَصرِفَ مَن يُدرِكُه عن الإشراكِ به؛ فإنَّهم يَعترِفون بأنَّ اللهَ هو الَّذي خلَقَ النَّاسَ، فما كان غيرُ اللهِ مُستحِقًّا للعِبادةِ. ثمَّ إنَّ العلْمَ بالخلْقِ الأوَّلِ من شأْنِه أنْ يَصرِفَ الإنسانَ عن إنكارِ الخَلْقِ الثَّاني، كما قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ؛ فكان مضمونُ الصِّلةِ تَعريضًا بجهْلِ المُخاطَبِ [656] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/177)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/322).   . والتعبيرُ  بالموصولِ؛ للإشعارِ بعِلِّيَّةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ لإنكارِ الكُفرِ، والتَّلويحِ بدَليلِ البعثِ الَّذي نطَقَ به قولُه عَزَّ من قائلٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ... [657] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/222).   [الحج: 5] .
وقِيل: الظاهرُ أنَّ الإنكارَ المدلولَ عليه بهَمزةِ الإنكار في قوله: أَكَفَرْتَ مُضمَّنٌ معنى الاستبعادِ؛ لأنَّه يُستبعَدُ جدًّا كُفرُ المخلوقِ بخالقِه، الذي أبرزَهَ من العدمِ إلى الوجودِ، ويُستبعدُ إنكارُ البعثِ ممَّن عَلِم أنَّ اللهَ خلَقَه مِن تُرابٍ، ثُمَّ مِن نُطفةٍ، ثم سوَّاه رجلًا [658] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/276).   .
     - وجعَلَ كُفْرَه بالبعثِ كُفرًا باللهِ تعالى؛ لأنَّ منشَأَهُ الشَّكُّ في كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى؛ ولذلك رتَّبَ الإنكارَ على خلْقِه إيَّاهُ من التُّرابِ؛ فإنَّ مَن قدَرَ على بَدْءِ خلْقِه منه قدَرَ أنْ يُعيدَه منه [659] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/722)، ((تفسير البيضاوي)) (3/281).   .
4- قوله تعالى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا
     - قولُه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا موقعُ الاستدراكِ هنا مُضادةُ ما بعدَ (لكن) لِما قبْلَها [660] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/723)، ((تفسير البيضاوي)) (3/281)، ((تفسير أبي حيان)) (7/178)، ((تفسير أبي السعود)) (5/222).   ، ولا سيَّما إذا كان الرَّجلانِ أخوينِ أو خليلينِ كما قيل؛ فإنَّه قد يُتوهَّمُ أنَّ اعتقادَهما سواءٌ. وأكَّدَ إثباتَ اعترافِه بالخالقِ الواحدِ بمُؤكِّداتٍ أربعةٍ، وهي:
الأول: الجُملتانِ الاسميَّتانِ؛ فأصلُ الكلامِ (لكنْ أنا هُو اللهُ ربِّي)؛ فـ (الله ربي) جملةٌ اسميَّةٌ خبرٌ لـ (هو)، و(هو الله ربي) جملةٌ اسميَّة خبَر لـ (أنا)، وهذان هُما الجملتان.
الثاني: ضَميرُ الشَّأنِ في قولِه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.
الثالث: تَعريفُ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه في قولِه: اللَّهُ رَبِّي، المُفيدُ قصْرَ صِفَةِ رُبوبيَّةِ اللهِ على نفْسِ المُتكلِّمِ قصْرًا إضافيًّا بالنِّسبةِ لمُخاطبِه، أي: دونَك؛ إذ تعبُدُ آلهةً غيرَ اللهِ، وما القصرُ إلَّا توكيدٌ مُضاعفٌ.
الرابع: التَّوكيدُ اللَّفظيُّ للجُملةِ بقولِه: وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/323).   .
     - في قولِه: لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا تَعريضٌ بإشراكِ صاحبِه، وأنَّه مُخالِفُه في ذلك، وقد صرَّحَ بذلك صاحبُه في قولِه: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] [662] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/179)، ((تفسير أبي السعود)) (5/222-223).   .
5- قوله تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا
     - عطْفُ جُملةِ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ على جُملةِ أَكَفَرْتَ عطْفُ إنكارٍ على إنكارٍ، و(لولا) للتَّوبيخِ، كشأنِها إذا دخلَتْ على الفِعلِ الماضي [663] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/323).   .
     - قولُه: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فيه تقديمُ الظَّرفِ إِذْ على المُحضَّضِ عليه؛ للإيذانِ بتحتُّمِ القولِ في آنِ الدُّخولِ من غيرِ إبطاءٍ، لا للقصْرِ [664] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/223).   .
     - وجُملةُ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ تعليلٌ لكونِ تلك الجنَّةِ من مَشيئةِ اللهِ، أي: لا قُوَّةَ لي على إنشائِها، أو لا قُوَّةَ لمَن أنشَأَها إلَّا باللهِ؛ فإنَّ القُوى كلَّها موهبةٌ من اللهِ تعالى، لا تُؤثِّرُ إلَّا بإعانتِه بسَلامةِ الأسبابِ والآلاتِ المُفكِّرةِ والصَّانعةِ؛ فما في جُملةِ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من العُمومِ، جعَلَها كالعِلَّةِ والدَّليلِ لكونِ تلك الجنَّةِ جُزئيًّا من جُزئياتِ مُنشآتِ القُوى البشريَّةِ الموهوبةِ للنَّاسِ بفضْلِ اللهِ [665] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/324).   .
     - قولُه: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فائدةُ ذِكْرِ أَنَا في مثْلِ ذلك: حصْرُ الخبرِ في المُبتدأِ، كما في قولِه تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] ، وقولِه: إِنِّي أَنَا اللَّهُ [666] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 341).   [القصص: 30] .
6- قوله تعالى: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا
     - قَولُه: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ خَصَّ السماءَ؛ لأنَّ ما جاء مِن الأرضِ قد يُدافَعُ؛ كأمطارٍ وسيولٍ جارِفةٍ أو نيرانٍ مُحرِقةٍ، فهذه يمكنُ أنْ تُدافَعَ، لكنْ ما نَزلَ مِن السَّماءِ يَصعُبُ دَفعُه أو يَتعذَّرُ [667] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 74).   .
     - قولُه: زَلَقًا مصدرٌ أُريدَ به المفعولُ، مُبالغةً [668] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/180)، ((تفسير أبي السعود)) (5/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/325).   .
7- قوله تعالى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا
     - قولُه: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا، أي: غائرًا في الأرضِ، ووصْفُه بالمصدرِ للمُبالَغةِ [669] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/180)، ((تفسير أبي السعود)) (5/223).   ؛ ولذلك فرَّعَ عليه: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وجاء بحرْفِ تَوكيدِ النَّفيِ (لن)؛ زِيادةً في التَّحقيقِ لهذا الرَّجاءِ الصَّادرِ مصدرَ الدُّعاءِ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/325).   .