موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيتان (3-4)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

شَفِيعٍ: أي: ناصرٍ ومُعينٍ؛ يقال: شفَع لفلانٍ: إذا جاء مُلتَمِسًا مطلبَه، ومعينًا له، والشَّفْعُ: ضمُّ الشيءِ إلى مثلِه، وأصلُ (شفع): يدلُّ على مُقارنةِ الشَّيئَينِ .
حَمِيمٍ: الحميمُ: الماءُ الشَّديدُ الحرارةِ، وأصل (حمم): يدلُّ على الحرَارةِ، وعلى معانٍ أخرى متفاوِتَةٍ .

المعنى الإجمالي:

إنَّ رَبَّكم- أيُّها النَّاسُ- هو الله الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا وارتفَعَ على عَرْشِه، يُدَبِّرُ أمورَ جَميعِ الخَلائِقِ، ولا أحَدَ يَشفَعُ عِندَه يومَ القيامةِ إلَّا مِن بعدِ أن يأذَنَ له سُبحانَه بذلك، ذلكم هو اللَّهُ ربُّكم فاعبُدوه وَحْدَه، أفلا تذَكَّرونَ.
إليه وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا يومَ تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ، وَعَدَكم اللهُ وَعدًا حَقًّا لا يُخلَفُ، إنَّه يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه، يومَ القيامةِ؛ ليُثِيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا الصَّالِحاتِ بالعَدلِ، والذين كَفَروا لهم شَرابٌ من ماءٍ حارٍّ، قد بلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ؛ بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا.

تفسير الآيتين:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3).
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: إنَّ مالِكَكم- أيُّها النَّاسُ- وخالقَكم، ومدبِّرَ شُؤونِكم، هو المُستحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه؛ الذي خلَقَ السَّمواتِ السَّبعَ، والأَرَضينَ السَّبعَ في ستَّة أيَّامٍ .
كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] .
وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة: 4] .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
أي: ثمَّ علا اللهُ وارتفَعَ على عَرشِه المُحيطِ بِجَميعِ خَلْقِه .
يُدَبِّرُ الأَمْرَ.
أي: يُدبِّر أمورَ جَميعِ خَلْقِه وشُؤونَهم .
كما قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255] .
وقال سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 4، 5].
مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ.
أي: لا يَشفَعُ عندَ الله أيُّ شافعٍ يومَ القِيامةِ إلَّا مِن بَعدِ أن يأذَنَ اللهُ بذلك .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
أي: ذلكم الذي هذا شأنُه، وهذه صفتُه، وفعَلَ تلك الأشياءَ العظيمةَ، هو المستَحِقُّ لإفرادِ العبادةِ له دونَ مَن سِواه، وهو مالِكُكم وخالِقُكم ومُدَبِّرُ أمورِكم- أيُّها النَّاسُ- فاعبُدوه وَحْدَه، ولا تَعبُدوا غَيرَه .
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
أي: أفلا تتَّعِظونَ- أيُّها النَّاسُ- بتلك الآياتِ والبَراهينِ، وتتذكَّرون أنَّ اللهَ هو المتفَرِّدُ بالخَلقِ، فتَعبُدونَه وَحْدَه، وتَتْرُكونَ عبادةَ غَيرِه مِن مَخلوقاتِه ؟!
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] .
وقال سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدَّالَّةَ على إثباتِ المبدأِ، أردَفَه بما يدُلُّ على صِحَّةِ القَولِ بالمَعادِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حُكْمَه القَدَريَّ، وهو التَّدبيرُ العامُّ، وحُكمَه الدينيَّ وهو شَرعُه، الذي مضمونُه ومقصودُه عبادَتُه وَحْدَه لا شريكَ له- ذكَرَ الحُكمَ الجَزائيَّ، وهو مُجازاتُه على الأعمالِ بعد الموتِ ، فقال تعالى:
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا.
أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- يوم تَخرُجونَ مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القِيامةِ .
وَعْدَ اللّهِ حَقًّا.
أي: يَعِدُكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- وعدًا صِدقًا لا يُخلَفُ: أنَّه سيبعَثُكم مِن قُبورِكم أحياءً .
إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.
أي: إنَّ اللهَ يبدأُ إنشاءَ الخَلْقِ، وإيجادَه مِن العَدَمِ، ثمَّ يعيدُه بعدَ مَوتِه، ويُحييه يومَ القيامةِ كما بدأه أوَّلَ مرَّةٍ .
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس: 34] .
وقال سبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت: 19] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.
مناسبتُها لما قبلَها:
 لَمَّا كان الكلامُ في سِياقِ البَعثِ، قَدَّمَ أهلَ الجَزاءِ، وبدأ بأشرافِهم، فقال :
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ.
أي: يُحيي اللهُ الخَلقَ بعدَ مَوتِه، يومَ القِيامةِ؛ لِيُثيبَ المُؤمِنينَ الذين عَمِلوا ما أمَرَهم اللهُ به، وترَكَوا ما نهاهم عنه، بالعَدلِ، وهو مجازاتُهم على الحَسَنِ مِن أعمالِهم، الحَسَنَ من الثوابِ في الآخرةِ .
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.
أي: وللكفَّارِ في الآخرةِ ماءٌ قد أُغلِيَ، وبلَغَت حرارتُه الغايةَ، ولهم أيضًا عذابٌ مُوجِعٌ؛ وذلك كلُّه بسبَبِ كُفرِهم في الدُّنيا .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29] .
وقال سبحانه: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 55 - 58] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ: 24 - 28] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لَمَّا بَيَّنَ تعالى هذه الدَّلائِلَ، وشَرَحَ هذه الأحوالَ؛ ختَمَها بِقَولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مُبَيِّنًا بذلك أنَّ العبادةَ لا تصلُحُ إلَّا له، ومنبِّهًا على أنَّه سُبحانَه هو المستَحِقُّ لِجَميعِ العباداتِ؛ لأجلِ أنَّه هو المُنعِمُ بِجَميعِ النِّعَمِ التي ذكَرَها ووصَفَها .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فيه حَضٌّ على التدَبُّرِ والتفَكُّرِ في الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على ربُوبيَّتِه تعالى، وإمحاضِ العِبادةِ له .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لو شاء تعالى لخَلَقَهما في لَمحةٍ، ولكِنْ لحِكمةٍ بالغةٍ عَدَلَ عن ذلك، وخَلَقَهما في ستَّةِ أيَّامٍ، وتخصيصُ ذلك بالعدَدِ المعَيَّنِ، أمْرٌ قد استأثَرَ بعِلمِ ما يَستَدعيه علَّامُ الغُيوبِ- جَلَّت قُدرَتُه ودَقَّت حِكمَتُه ، وقيل في حكمةِ خلقِهما في ستةِ أيَّامٍ: لتعليمِ خَلْقِه التأنِّي . وقيل: لِتُشاهِدَ الملائكةُ الخَلقَ شَيئًا بعد شيءٍ، فيعتَبِروه ويُدرِكُوه. وقيل: لأنَّ تصريفَ الخَلقِ حالًا بعد حالٍ أحكَمُ، وأبعَدُ مِن شُبهةِ الاتِّفاقِ .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ناسبَ ذِكرُ الشَّفاعةِ- التي تكونُ في القيامةِ- بعد ذِكرِ المَبدأِ؛ ليجمَعَ بين الطَّرَفينِ: الابتداءِ والانتهاءِ .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أُفرِدت الأرضُ، ولم تُجمَعْ- بخلافِ السمواتِ- لِثِقَلِ جَمْعِها وهو (أَرَضُونَ)، وأَمَّا السَّمَوات فذُكِرَتْ بصيغَةِ الجمعِ؛ لأنَّه أُرِيدَ العددُ، فأُتِيَ بِصِيغَةِ الجمعِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ العظمةِ والكثرةِ، وإذا أُرِيدَ الجهةُ أُتِيَ فيها بصيغةِ الإفرادِ ، وقيل: إيثارُ صِيغةِ الجَمعِ في السَّمواتِ؛ لِما هو المشهورُ مِن الإيذانِ بأنَّها أجرامٌ مُختَلِفةُ الطِّباعِ، مُتَباينةُ الآثارِ والأحكامِ .
4- التدبيرُ يُضاف إلى اللهِ تارةً؛ وإلى الملائكةِ تارةً؛ فيُضافُ إلى الله تعالى أمرًا وإذنًا ومشيئةً، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، ويُضافُ إلى الملائكةِ تارةً أخرى؛ لِكَونِهم هم المُباشِرينَ والمُمتَثلينَ للتَّدبيرِ؛ قال تعالى: فَالمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وهذا كما أضاف التوفِّيَ إليهم تارةً، كقَولِه تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] وإليه تارةً، كقَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ [الزمر: 42] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فيه إثباتُ الشَّفاعةِ لِمَن أَذِنَ له .
6- إنَّ شَفاعةَ المَخلوقِ عند المَخلوقِ تكونُ بإعانةِ الشَّافِعِ للمَشفوعِ له، بغيرِ إذْنِ المَشفوعِ عِندَه، بل يشفَعُ إمَّا لحاجةِ المَشفوعِ عنده إليه، وإما لِخَوفِه منه، فيحتاجُ أنْ يقبلَ شفاعتَه، واللهُ تعالى غنيٌّ عن العالَمينَ، وهو وَحْدَه سبحانَه يُدَبِّرُ العالَمينَ كلَّهم؛ فإنَّه مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فهو الذي يأذَنُ للشَّفيعِ في الشَّفاعة، وهو يقبلُ شفاعتَه، كما يُلْهِمُ الداعيَ الدُّعاءَ، ثمَّ يُجيبُ دعاءَه، فالأمرُ كلُّه له .
7- قال الله تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، والشَّفاعةُ بإذنِه ليست شفاعةً مِن دُونِه، ولا الشَّافِعُ شَفيعٌ مِن دونِه، بل شفيعٌ بإذْنِه، والفرقُ بين الشَّفيعَينِ هو كالفَرقِ بين الشَّريكِ والعبدِ المأمورِ، فالشَّفاعةُ التي أبطَلَها اللهُ: شفاعةُ الشَّريكِ؛ فإنَّه لا شريكَ له، والتي أثبَتَها: شفاعةُ العبدِ المأمورِ، الذي لا يشفَعُ ولا يتقَدَّمُ بين يدَي مالكِه، حتى يأذَنَ له، ويقولَ: اشفَعْ في فُلانٍ؛ ولهذا كان أسعَدَ النَّاسِ بشَفاعَةِ سَيِّدِ الشُّفَعاءِ يومَ القيامةِ أهلُ التَّوحيدِ، الذين جرَّدُوا التَّوحيدَ، وخَلَّصوه مِن تعَلُّقاتِ الشِّركِ وشَوائِبِه، وهم الذين ارتَضى اللهُ سبحانه .
8- قَولُ الله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يدُلُّ على أنَّه تعالى يعيدُ جَميعَ المَخلوقاتِ، وإعادتُها لا يُمكِنُ إلَّا بعد إعدامِها، وإلَّا لَزِمَ إيجادُ الموجودِ، وهو مُحالٌ، ونظيرُه قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] فحكَمَ بأنَّ الإعادةَ تكونُ مِثلَ الابتداءِ .
9- قَولُه تعالى: إِنَّه يَبْدَأُ الْخَلْقُ ثُمَّ يُعِيدُهُ ردٌّ على المُشرِكينَ الذين أنكَروا البَعثَ، فاحتَجَّ الله عليهم بالنَّشأةِ الأولَى، فالقادِرُ على ابتداءِ الخَلقِ قادِرٌ على إعادتِه، والذي يرى ابتداءَه بالخَلقِ، ثمَّ يُنكِرُ إعادتَه للخَلقِ، فهو فاقِدُ العَقلِ مُنكِرٌ لأحَدِ المِثْلَينِ، مع إثباتِ ما هو أَولى منه، فهذا دليلٌ عَقليٌّ واضحٌ على المَعادِ .
10- في قولِه تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ لم يُعيِّنِ الله تعالى ثوابَ المؤمنينَ وجزاءَهم؛ لأنَّه تعالَى يتولَّى إثابةَ المؤمنينَ بما يليقُ بلطفِه وكرمِه .
11- قَولُ الله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ إنَّما خَصَّ بالقِسطِ جزاءَ المُؤمِنينَ، مع أنَّ الجَزاءَ كُلَّه عَدلٌ، بل ربَّما كانت الزيادةُ في ثَوابِ المُؤمِنينَ فَضلًا زائدًا على العَدلِ؛ وذلك لتأنيسِ المُؤمِنينَ وإكرامِهم بأنَّ جَزاءَهم قد استحَقُّوه بما عَمِلوا ، وأيضًا لأنَّه لو جمع اللهُ الصِّنفَينِ بالقِسطِ، لم يتبَيَّنْ ما يقَعُ بالكافرينَ مِن العذابِ الأليمِ، ففَصَلَهم من المُؤمِنينَ؛ ليُبَيِّنَ ما يجزيهم به ممَّا هو عدلٌ غيرُ جَورٍ، فلهذا خصَّ المُؤمِنينَ بالقِسطِ، وأفرد الكافرينَ بخَبرٍ يرجِعُ إلى تأويلِه بزيادةٍ في الإبانةِ والفائدةِ .
12- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ، ونكتةُ هذا الخاصِّ أنَّ العرَبَ الذين خُوطِبوا به أوَّلًا ونزَلَ بلُغَتِهم، يَشعُرونَ بما لا يَشعُرُ غَيرُهم من الوَعيدِ بِشُربِ الماءِ الحَميمِ، والحِرمانِ مِن الماءِ البارِدِ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- في قولِه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إيثارُ صيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّدبيرِ واستمرارِه .
- قولُه: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ نفيٌ للشَّفاعةِ الَّتي هي مِن غيرِ إذنِه على أبلَغِ الوُجوهِ؛ فإنَّ نفيَ جميعِ أفرادِ الشَّفيعِ بـ(مِن) الاستِغْراقيَّةِ يَستَلزِمُ نفْيَ الشَّفاعةِ على أتَمِّ الوجوهِ .
- وفي زيادةِ قولِه: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ احْتِراسٌ؛ لإثباتِ شَفاعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وغيرِه بإذنِ اللهِ .
- والإتيانُ باسْمِ الإشارةِ في صَدْرِ قولِه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ؛ لِتَمييزِه أكمَلَ تمييزٍ؛ لأنَّهم امتَرَوْا في صِفةِ الإلهيَّةِ، وضَلُّوا فيها ضلالًا مُبينًا، فكانوا أَحْرِيَاءَ بالإيقاظِ بطَريقِ اسْمِ الإشارةِ .
- قولُه: فَاعْبُدُوهُ هذا الأمرُ مُفرَّعٌ على كونِه ربَّهم، والمفرَّعُ هو المقصودُ مِن الجملةِ، وما قَبلَه مُؤكِّدٌ لجملةِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تأكيدًا بِفَذْلَكةٍ وتحصيلٍ، والتَّقديرُ: (إنَّ ربَّكم اللهُ...) إلى قولِه: فَاعْبُدُوهُ، كقولِه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ؛ إذ وقَع قولُه: فَبِذَلِكَ تأكيدًا لجُملةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، وأوقَع بعدَه الفرْعَ وهو فَلْيَفْرَحُوا، والتَّقديرُ: قُل بفضلِ اللهِ وبرَحمتِه فليَفرَحوا بذَلك .
- قولُه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ: جملةٌ ابتدائيَّةٌ للتَّقْريعِ، وهو غرَضٌ جديدٌ؛ فلِذَلكِ لم تُعطَفْ؛ فالاستِفْهامُ إنكارٌ لانتِفاءِ تذَكُّرِهم؛ إذ أشرَكوا معَه غيرَه، ولم يتَذكَّروا في أنَّه المنفرِدُ بخَلْقِ العوالِمِ، وبمِلْكِها وبتَدبيرِ أحوالِها .
2- قولُه تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فيه ذِكرُ ما يَقتَضي التَّذكيرَ، وهو كونُ مَرجِعِ الجميعِ إليه، وأكَّد هذا الإخبارَ بأنَّه وعدُ اللهِ الَّذي لا شكَّ في صِدْقِه، ثمَّ استأنَف الإخبارَ بقَولِه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، وهو استئنافٌ مَعناه التَّعليلُ بابتِداءِ الخَلْقِ وإعادَتِه، وأنَّ الغرَضَ ومُقتَضى الحِكمةِ بذَلك هو جَزاءُ المكلَّفينَ على أعمالِهم .
- وقولُه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديمُ المجرورِ إِلَيْهِ؛ لإفادَةِ القَصْرِ، أي: إلَيْه لا إلى غَيرِه .
- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال هنا: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، وقال أيضًا في سورةِ المائدة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: 48، 105]، بينما في سُورةِ هود قال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: 4]، ولم يَقُلْ: (جَميعًا)؛ وذلك لأنَّ ما في سورةِ يونُسَ والمائدةِ خِطابٌ للمؤمِنينَ والكافِرين جميعًا؛ يدُلُّ عليه قولُه بعدَه في سورةِ يونُسَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا... الآيةَ [يونس: 4] ، وقولُه بعدَه في سورةِ المائدةِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] ، وأمَّا ما في هودٍ فهو خِطابٌ للكفَّارِ فقط؛ يدُلُّ عليه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3] .
- قولُه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ: وموقعُ (إِنَّ) تأكيدُ الخبرِ؛ نظَرًا لإنكارِهمُ البَعثَ، فحصَل التَّأكيدُ مِن قولِه: ثُمَّ يُعِيدُهُ أمَّا كَوْنُه بدَأ الخلْقَ فلا يُنكِرونه .
- وجملةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا ورَد ذِكْرُ جَزاءِ المؤمِنين على أنَّه العِلَّةُ لِرُجوعِ الجَميعِ إلَيه، ولَم يَذكُرْ في العِلَّةِ ما هو جَزاءُ الجميعِ؛ لا جَرَمَ يتَشوَّفُ السَّامعُ إلى معرفةِ جزاءِ الكافرين؛ فجاء الاستِئنافُ للإعلامِ بذلك، ونُكتةُ تَغييرِ الأسلوبِ- حيث لم يَعطِفْ جَزاءَ الكافِرين على جَزاءِ المؤمِنين فيُقالَ: (ويَجْزِيَ الَّذين كفَروا بعَذابٍ...)- الإشارةُ إلى الاهتمامِ بجَزاءِ المؤمِنين الصَّالِحين، وأنَّه الذي يُبادَرُ بالإعلامِ به، وأنَّ جزاءَ الكافِرين جديرٌ بالإعراضِ عَن ذِكْرِه لولا سؤالُ السَّامِعين .