موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (69 - 71)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

الصَّابِئُونَ: هم قومٌ لا دِينَ لهم، وإنَّما بَقُوا على فِطرتِهم، يَقولون: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وليس لهم دِينٌ مُقرَّرٌ لهم يتَّبعونَه، وقِيل: هم قومٌ يَعبُدون المَلائكةَ، وقيل: هم طائفةٌ مِن أهلِ الكِتابِ، والصَّابِئون جمْعُ صابِئ، وهو الخارجُ من دِينِه إلى دِينٍ آخَرَ، وأصلُه: الخُروجُ؛ يُقال: صَبأتِ النُّجُومُ، إذا خرجتْ من مطالِعِها [1331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 475)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 18)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 79). .
تَهْوَى: تميلُ، والهوى: ميلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُه: الخلوُّ والسُّقوط، ومنه قِيلَ للآراء الزَّائِفة: أهواءٌ [1332] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 134، 491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
فِتْنَةٌ: أي: شرٌّ وعذابٌ، وتُطلَق الفِتنةُ أيضًا على الضَّلال والشِّرْك والكُفر، والفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه مِن رَداءتِه [1333] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472- 473)، ((المفردات)) للراغب (1/624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/29، 139-140)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 692). .
فَعَمُوا: أي: لم يَعْمَلوا بما سَمِعوا، فصارُوا كالعُمْيِ، والعَمَى يُقال في افتِقادِ البَصرِ والبَصيرةِ [1334] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 588)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85). .
وصَمُّوا: أي: لم يُصْغوا إلى الحقِّ، فصاروا كالصُّمِّ، والصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّةِ السَّمع، وبه يُوصَفُ مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ، ولا يَقبلُه، وأصلُه: الصَّلَابةُ، وقيل: السَّدُّ [1335] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/277)، ((المفردات)) للراغب (ص: 492)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/53). .

مشكل الإعراب:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الصَّابِئونَ: مَرفوعٌ على أنَّه مُبتَدأٌ، وخبرُه محذوفٌ؛ لدَلالةِ خَبَرِ إنَّ عليه- وهو جُملةُ الشَّرطِ وجوابِه كما سيأتي- والنيَّةُ به التأخيرُ؛ والتقديرُ: إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هادُوا والنَّصارى مَنْ آمَنَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ... إلى آخِرِه، والصَّابئونَ كذلِك، وقوله: وَالصَّابِئُونَ مع خَبَرِه المحذوفِ (كَذلِك) جُملةٌ اسميَّةٌ مَعطوفةٌ على جُملة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الاستئنافيَّة؛ فلا محلَّ لها مِن الإعرابِ، كما لا مَحلَّ للتي عُطِفَتْ عليها. وَقيلَ: إنَّه مرفوعٌ عطفًا على محلِّ اسمِ (إنَّ): الَّذِينَ؛ لأنَّه قبلَ دُخُولِها مرفوعٌ بالابتداءِ. وقِيل غيرُ ذلك.
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: مَن اسمُ شَرْطٍ، وهو في محلِّ رفعٍ مُبتدأٌ، وجملة آمَنَ خَبَر مَنْ، وجملة فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جوابُ الشَّرْطِ، وجملةُ الشَّرْطِ وجوابِه في محلِّ رفْع خبر إنَّ، والرابطُ مُقدَّر، أي: مِنهم [1336] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/450-452)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/353، 363 )، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/268). .
2- قوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
وَحَسِبُوا: فِعلٌ وفاعلٌ، وفِعل (حَسِب) يأتي بمعنى الشَّكِّ، ويأتي بمعنى اليَقين.
أَلَّا تَكُونَ: أَلَّا مُكوَّنةٌ من (أنْ) و(لا)، وتَكُونَ فِعلٌ مُضارِعٌ تامٌّ بمعنى تَقَع أو تُصِيب، وقدْ قُرِئَ بالنَّصبِ والرَّفع؛ فعَلى قِراءة النَّصبِ؛ فـ(أَنْ) مَصدريَّةٌ ناصبةٌ للفِعل، و تَكُونَ منصوبٌ بها، وعلى هذا ففِعلُ حَسِبُوا بمعنى الظَّنِّ والشَّكِّ. وفِتْنَةٌ: فاعِلُ تَكُونَ، والتَّقديرُ: ظَنُّوا ألَّا يَقَعَ مِنَ الله عزَّ وجَلَّ ابتلاءٌ واختِبارٌ بالشَّدائدِ. أو: لا تُصيبُهم فتنةٌ نتيجةَ فِعلِهم المذكورِ في الآيةِ السَّابقة.
وعلى قِراءةِ (تَكُونُ) بالرَّفع، فـ(أَنْ) هي المخفَّفةُ مِن الثَّقيلةِ، واسمُها ضَميرُ الشأنِ محذوفٌ، والتقديرُ: أنَّه، و(لَا) نافيةٌ، وتَكُونُ فِعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ، وهو تامٌّ أيضًا، وفِتْنَةٌ فاعلُه، وجُمل (تَكُونُ فِتْنَةٌ) في مَحلِّ رفْعٍ خبَرُ (أنْ)؛ فهي مُفسِّرةٌ لضَميرِ الشأنِ، وعلى هذا ففِعل (حَسِب) هنا لليَقينِ لا للظَّنِّ والشَّكِّ [1337] لأنَّ (أن) المخفَّفة مِن الثقيلة لا تأتي مع أفعالِ الشكِّ والطَّمع، ولا تَأتي (أنْ) النَّاصبة للفِعل مع (عَلِمت) وما كان في معناها. ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/452). ، وعلى كِلَا التَّقديرينِ فإنَّ (أَنْ) وما بَعدَها سَدَّ مَسدَّ مَفعولَيْ حَسِبُوا [1338] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/452)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/365)، ((تفسير الشوكاني)) (2/72)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/268). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّ المسلمين مِن أمَّة محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واليهودَ قبلَ نسْخِ دِينهم، والصَّابئة الحُنفاءَ الذين بقُوا على فِطرتِهم بتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، محرِّمين للظلمِ والفواحِشِ، وغير ذلك، ولم يتقيَّدوا بمِلَّةٍ ولا نِحلةٍ، والنَّصارى قَبلَ نَسْخِ دِينهم؛ هؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ مَن آمَن منهم باللهِ واليومِ الآخِرِ وعمِلَ عَملًا صالحًا، فلا خوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونه، ولا هم يَحزنون على ما يُخلِّفونه.
ثمَّ أخْبَر تعالى أنَّه أخَذَ العَهدَ المؤكَّدَ من بَني إسرائيل بالإيمانِ باللهِ تعالى والقيامِ بما أَوْجبَه عليهم، وأرسلَ إليهم بذلِك رُسلَه، لكنَّهم قابلوا ذلك بأنَّهم كلَّما جاءَهم رسولٌ بما لا يُوافِقُ أهواءَهم ورغباتِهم، كذَّبوا بعضًا من المرسَلين، وقتَلوا آخَرين.
وظنُّوا ألَّا تَحيقَ بهم فِتنةٌ وعُقوباتٌ وشرٌّ نتيجةَ ما فعلوه؛ فاستمرُّوا على طُغيانهم، فعَمُوا عن رؤيةِ الحقِّ، وصَمُّوا عن سماعِه، ثم تابَ اللهُ عليهم، ثم بعدَ ذلك رجَعَ كثيرٌ منهم لحالتِهم السيِّئةِ الأولى، وعادُوا لضلالِهم السَّابقِ، فعَمُوا مُجدَّدًا عن رؤيةِ الحقِّ، وصمُّوا عن سَماعِه، واللهُ مطَّلِعٌ على جميعِ أعمالِهم، وسيُجازيهم عليها.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ أهلَ الكِتابِ ليسُوا على شيءٍ ما لم يُؤمِنوا؛ بَيَّن أنَّ هذا الحُكمَ عامٌّ في الكلِّ، وأنَّه لا يَحصُلُ لأحدٍ فضيلةٌ ولا مَنقَبَةٌ إلَّا إذا آمَن باللهِ واليومِ الآخِرِ، وعَمِلَ صالحًا [1339] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/403). .
وأيضًا لَمَّا كان ما مَضَى في هذِه السُّورةِ غالبًا في فَضائحِ أهلِ الكتابِ لا سيَّما اليهود، وبيانِ أنَّهم عَضُّوا على الكُفرِ، ومَرَدُوا على الجَحدِ، وتمرَّنوا على البُهت، وعَتَوْا عن أوامرِ الله- أخْبَر أنَّ البابَ مفتوحٌ لهم ولغيرِهم من جميعِ أهلِ المِلل، وأنَّه إذا أَخْلَصوا أُذِن في دُخولِهم، ونُودِي بقَبولِهم [1340] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/240). ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى.
أي: إنَّ المسلمين- وهم أمَّةُ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- واليهودَ قَبل نَسْخِ دِينهم، وقبلَ تحريفِه، والصَّابئين- وهم فِرقٌ؛ منها: الصَّابئة الحُنفاءُ، الذين بَقُوا على فِطرتِهم بتوحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتحريم الظُّلمِ والفواحِش، وغيرِ ذلك، من غير تَقيُّدٍ بمِلَّة ولا نِحلة، ودون أنْ يُحدِثوا كُفرًا- والنَّصارى قَبلَ نَسْخ دِينهم، وقبل تحريفِه [1341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/575)، ((الصفدية)) لابن تيمية (2/304)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/163- 165). واختارَ تفسيرَ الصابئة بنحوِ ما ذُكر: ابنُ تيمية في ((الجواب الصحيح)) (3/123)، وابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (2/250- 252)، وابن كثير في ((تفسيره)) (1/287)، وابن عثيمين في ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (1/222). قال ابنُ كَثيرٍ: (وأظهرُ الأقوالِ- والله أعلم- قولُ مجاهدٍ ومتابعيه، ووهْبِ بن مُنبِّه: أنَّهم قومٌ ليسوا على دِينِ اليهود ولا النصارى ولا المجوسِ ولا المشركين، وإنَّما هم قومٌ باقون على فِطرتهم، ولا دِينٌ مُقرَّرٌ لهم يتَّبعونه ويَقتفونه؛ ولهذا كان المشركون يَنبِزون مَن أسلم بالصابئيِّ، أي: إنَّه قد خرَج عن سائرِ أديان أهلِ الأرضِ إذ ذاك) ((تفسير ابن كثير)) (1/287). وممَّن ذهَب من السلفِ في تفسيرِ الصَّابئة إلى نحوِ ما ذُكر: ابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/36). .
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا.
أي: مَن آمَن مِن أتْباعِ هذه المِللِ باللهِ تعالى حقًّا، وآمَن بالمعادِ والجزاءِ يومَ الدِّين، وعمِلَ عملًا صالحًا، بأنْ يكون خالصًا لله تعالى، مُوافقًا لشريعتِه التي وجَبَ عليه اتِّباعُها [1342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/575)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/166- 169). .
وهذا الحُكمُ بينَ هذه الطَّوائفِ مِن حيثُ هي؛ فكلُّ مَن اتَّبع رسولَه المرسَلَ إليه في زَمانِه- قَبل بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فهو على هُدًى ونجاةٍ، فأمَّا بعدَ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يُعدُّ مُؤمنًا مَن لم يُؤمنْ برِسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولم يَعملْ بمقتضاها [1343] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/156) (1/284- 285)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/168). .
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: فلا خَوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونه، ولا هُم يَحزنونَ على ما يُخلِّفونَه [1344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/575)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 235)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/169). .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كانتِ البِشارةُ في الآيةِ السابقةِ مُوجِبةً للدُّخولِ في الإيمانِ، والتعجُّبِ ممَّن لم يُسارعْ إليه، وكان أكثرُ أهلِ الكتابِ إنَّما يُسارِعون في الكُفرِ، كان الحالُ مقتضيًا لتذكُّرِ ما مضَى مِن أخْذِ الميثاقِ عليهم، وزِيادةِ العَجَبِ منهم مع ذلِك، فأعادَ سبحانه الإخبارَ به مؤكِّدًا له؛ تحقيقًا لأمْره، وتفخيمًا لشأنه، مُلتفِتًا مع التذكيرِ بأوَّلِ قَصصِهم في هذه السُّورةِ إلى أوَّلِ السُّورةِ أَوْفُوا بِالعُقُودِ [1345] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/243) وينظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (12/404). [المائدة: 1] ، فقال:
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا.
أي: واللهِ لقدْ أخَذْنا على اليهودِ عهدًا ثَقيلًا مؤكَّدًا، بالإيمانِ باللهِ تعالى وتوحيدِه، والقيامِ بما أوجبَه عليهم، وأَرسَلْنا إليهم بذلك رُسلًا، يَتَوالَون عليهم بالدَّعوة، ويتعاهدونهم بالتوجيهِ، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [1346] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/182- 183). [المائدة: 12] .
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
أي: كلَّما أتاهم رسولٌ مِن أولئك الرُّسلِ الكِرامِ عليهم السَّلام، بما لا تَشتهيه نُفوسُهم، ولا يُوافق رَغباتِهم، نقَضوا تلك العُهودَ والمواثيقَ، وعانَدوا تِلك الرُّسلَ وعادَوْهم، فقاموا بتكذيبِ بعضِهم، وقتَلوا بعضًا آخَرين [1347] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/183- 184). .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71).
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ.
أي: وظنَّ بنو إسرائيلَ ألَّا يترتَّبَ- جرَّاءَ ما كانوا يَفعلونَ مِن نَقضِ المواثيقِ، وتكذيبِ رُسلِ الله تعالى وقتْلهم- شرٌّ وعُقوباتٌ تَحيقُ بهم [1348] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/188). .
فَعَمُوا وَصَمُّوا.
أي: فترتَّبَ على ظنِّهم الفاسدِ هذا: أنِ استمرُّوا على طُغيانهم، فَعَمُوا عن رُؤيةِ الحقِّ، وَصَمُّوا عن سَماعِه، فلا يَسمعونَ حقًّا، ولا يَهتدُون إليه [1349] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/188). .
ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أي: ثمَّ وفَّقهم اللهُ تعالى للتَّوبةِ، وقَبِلَها منهم، ورفَعَ عنهم الفتنةَ التي عاقَبَهم بها، فأنابوا ورَجَعوا عمَّا كانوا عليه من الهَوى إلى الهُدَى [1350] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/277)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/188- 189). .
ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
أي: ثمَّ بعدَ توبةِ اللهِ تعالى عليهم، واستنقاذِهم من الهَلَكةِ لم يَستمرَّ كثيرٌ منهم على التَّوبةِ، فانقلبوا إلى حالِهم القبيحةِ الأولى، وعادوا إلى ضلالِهم القديمِ، فعَمُوا مجدَّدًا عن رؤيةِ الحقِّ، وصمُّوا عن سماعِه [1351] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/277). قال ابنُ عاشور: (وقد وقَف الكلامُ عند هذا العَمى والصَّمم الثاني، ولم يذكرْ أنَّ الله تابَ عليهم بعده؛ فدلَّ على أنهم أعرضوا عن الحقِّ إعراضًا شديدًا مرةً ثانيةً، فأصابتهم فتنةٌ لم يتُبِ اللهُ عليهم بعدها) ((تفسير ابن عاشور)) (6/277). وقال الشِّنقيطيُّ: (ذكَر تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ بني إسرائيل عَمُوا وصمُّوا مرَّتين، تَتخلَّلهما توبةٌ من الله عليهم، وبيَّن تفصيلَ ذلك في قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء: 4 - 7] ، وبيَّن التوبةَ التي بينهما بقولِه: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، ثم بيَّن أنَّهم إنْ عادُوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقامِ منهم بقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء: 8] ، فعادوا إلى الإفسادِ بتكذيبه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكتْمِ صِفاته التي في التوراة، فعاد اللهُ إلى الانتقامِ منهم، فسلَّط عليهم نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فذَبح مُقاتِلةَ بني قريظة، وسبَى نساءَهم وذراريَّهم، وأجْلى بني قَيْنُقاع وبني النَّضير، كما ذكَر تعالى طرفًا من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيانُ الذي ذَكَرْنا في هذه الآية ذكَرَه بعضُ المفسَّرين، وكثيرٌ منهم لم يَذكُرْه، ولكن ظاهر القرآن يَقتضيه; لأنَّ السياق في ذِكر أفعالهم القبيحة الماضية، من قتْل الرسل، وتكذيبهم؛ إذ قبل الآية المذكورة: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُون) ((أضواء البيان)) (1/417- 418) وينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/277- 278). .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى مُطَّلعٌ على جميعِ أَعمالِهم لا يَخفَى عليه شيءٌ منها، ويُجازِيهم عليها يومَ القيامةِ [1352] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/577)، ((تفسير ابن كثير)) (3/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 239)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/279)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/190). .

الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ من قولِه: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أنَّ ثواب اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَنبني على حَسَبٍ ولا نَسبٍ، وإنَّما يَنبني على الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ؛ كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [1353] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/170). [الحجرات: 13] .
2- يُستفادُ من قولِه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ التَّحذيرُ ممَّا فعلتْ بنو إسرائيلَ مِن تكذيبِ الرُّسلِ والعُدوانِ عليهم؛ لأنَّ اللهَ لم يقُصَّ قَصصَ الأنبياءِ وقَومِهم للعِلمِ بالتَّاريخِ فقط؛ بل للاعتبارِ بها؛ كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأِوْلِي الأَلْبَابِ [1354] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/186). [يوسف: 111] .
3- الحذرُ مِن هوى النَّفْس، وأنَّ هوى النَّفْسِ قد يؤدِّي إلى الهلاكِ، وإلى فِعْلِ ما يَقبُحُ شرعًا وعقلًا؛ لقوله: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا [1355] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/186). .
4- التحذيرُ مِن الأمنِ مِن مَكْرِ اللهِ، وأنَّ ذلك مِن خُلُقِ اليهودِ؛ وذلك بأنْ يأمنَ الإنسانُ مِن مكرِ الله، ويظنَّ أنَّ معصيتَه لا يَعقبُها عقابٌ؛ لقوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [1356] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/191). .
5- أنَّ الله تعالى قد يتوبُ على المرءِ بعدَ عَمَاهُ وصَمَمِه؛ لقوله: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعدَ أنْ ذكَر أنَّهم عَمُوا وصمُّوا [1357] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/191). .
6- الحذرُ مِن بَطَرِ النِّعمةِ بالعَوْدِ إلى الفُسوقِ والكُفرانِ؛ لأنَّ اللهَ هدَّدَهم بقولِه: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [1358] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/191). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِن قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى أنَّه يَنبغي التعبيرُ عن اليهودِ بـ(اليهود) وعن النَّصارى بـ(النَّصارى)؛ لأنَّ ذلك استخدامُ القُرآنِ واستعمالُه [1359] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/170). .
2- قال تعالى في سُورةِ البَقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:63] ، وهنا قال في سورةِ المائدة: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى؛ فإنَّ النصارى أفضلُ مِن الصَّابئين، فلمَّا قُدِّموا عليهم نصبَ لفظ (الصَّابئين)، ولكن (الصَّابئون) أقدمُ في الزَّمان فقُدِّموا هاهنا؛ لتقدُّمِ زمنِهم، ورُفِعَ اللَّفظ؛ ليكونَ ذلك عَطفًا على المحلِّ؛ فإنَّ المعطوفَ على المحلِّ مرتبتُه التأخيرُ؛ ليُشعِرَ أنَّهم مؤخَّرون في المرتبةِ، وإنْ قُدِّموا في الزمنِ واللَّفظ [1360] ينظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/304). .
3- يُستفادُ مِن قولِه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا أنَّه مِن رحمةِ اللهِ تبارَك وتعالى بعبادِه أنَّه لم يَكِلْهم سبحانه وتعالى إلى ما عَلِموه بفِطَرِهم، بل أرسلَ إليهم الرُّسلَ؛ لتؤكِّدَ ذلك [1361] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/185) .
4- أنَّ المتكلِّمين الذين بنَوا أصولَ عَقيدتِهم على العقلِ فيهم شَبَهٌ من اليهود؛ لقوله: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا إلى آخِرِه؛ فإنَّهم إذا أتاهم النصُّ بما لا يَرَون كذَّبوه إنِ استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، أو حرَّفوه إنْ لم يستطيعوا إلى ذلِك سبيلًا؛ لأنَّهم يرون مرجعَ ما أخبَر الله به عن نفْسِه العقلَ، فإذا جاءَ النصُّ بما لا يَهْوَونَ حسَبَ عقولهم كذَّبوه وأَنكروه [1362] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/186). .
5- في قولِه تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ لطيفةٌ جليلةٌ؛ حيث بُدِئ بالعَمى لأنَّ أوَّلَ ما يَعرِض للمُعرِض عن الشَّرائعِ أنْ لا يُبصِر مَن أتاه بها مِن عند الله، ثم لو أبْصَره لم يَسمَعْ كلامَه، فعرَض لهم الصَّممُ عن كلامِه، ولَمَّا كانوا قبلَ ذلك على طريقِ الهدايةِ، ثم عرَضَ لهم الضَّلالُ، نُسِبَ الفعلُ إليهم وأُسْنِد لهم، فقال: عَمُوا وَصَمُّوا، ولم يقُلْ سبحانَه وتعالى: (فأَعْماهُم اللهُ وأصمَّهم) [1363] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/328). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى فيه: تقديمٌ وتأخير- على أحدِ أوجهِ الإعرابِ في الآية-، كأنَّه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا والنَّصارى حُكمُهم كذا، والصَّابِئون كذلك، وفائدتُه: التنبيهُ على أنَّ الصَّابئين يُتابُ عليهم إنْ صَحَّ مِنهم الإيمانُ والعَملُ الصَّالح؛ فما الظنُّ بغَيرِهم [1364] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/660). وهذا الوجْهُ على القَولِ بأنَّ الصَّابئين مِن المشرِكينَ كانوا يَعبُدون الملائكةَ أو الكواكبَ؛ فيكون الصَّابئونَ أشدَّ الفِرَقِ المذكورينَ في هذِه الآيةِ ضلالًا، فكأنَّه قيل: كلُّ هؤلاء الفِرق إنْ آمنوا وعمِلوا صالحًا قَبِلَ اللهُ توبتَهم وأزالَ ذَنبَهم، حتى الصَّابئون؛ فإنَّهم إنْ آمنوا كانوا أيضًا كذلك. ينظر:  ((تفسير الرازي)) (12/402). وأمَّا على القولِ بأنَّ الصابئةَ حُنفاءُ مِن الذين بَقُوا على فِطرتهم بتوحيدِ اللهِ تعالى؛ فليس فيه هذا الوجهُ. ؟!
2- قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه: تكريرٌ؛ حيث قال في أوَّل الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال في آخِرها: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وفي هذا التكريرِ فائدتان؛ الأولى: أنَّ المنافقين كانوا يَزعُمون أنَّهم مؤمنونَ، فالفائدةُ في هذا التكريرِ إخراجُهم عن وعْدِ عدمِ الخوفِ، وعدمِ الحُزن. الفائدة الثَّانية: أنَّه تعالى أطْلَقَ لفْظَ الإيمان، والإيمان يَدخُلُ تحتَه أقسامٌ، وأشرفُها الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخِر، فكانتِ الفائدةُ في الإعادةِ التنبيهَ على أنَّ هذينِ القِسمينِ أشرفُ أقسامِ الإيمانِ [1365] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/404). .
3- قوله: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا استئنافٌ عادَ به الكلامُ على أحوالِ اليهودِ وجَراءتِهم على اللهِ وعلى رُسلِه، وفيه: تعريضٌ باليأس مِن هَديهِم بما جاء به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبأنَّ ما قابَلوا به دَعوتَه ليس بِدْعًا منهم، بل ذلك دأْبُهم جيلًا بعدَ جيلٍ [1366] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/272). .
4- قوله: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ: عبَّر أوَّلًا بالفِعلِ الماضي كَذَّبُوا لتقريرِ الأمْرِ الواقِع، ثمَّ عبَّر بالفِعل المضارِعِ يَقْتُلُونَ على حِكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعًا للقتْلِ، واستحضارًا لتِلك الحالِ الشَّنيعةِ؛ للتعجُّب منها، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك دَيْدنُهم المستمِرُّ؛ ففيه تصويرُ جُرمِ القَتلِ الشَّنيع، واستحضارُ هَيئتِه المنكَرَة كأنَّه واقعٌ في الحال؛ للمبالغة في النَّعيِ عليهم، والتوبيخِ لهم؛ فقد أفادت الآيةُ أنَّهم بلغوا من الفسادِ، واتِّباعِ أهوائهم مبلغًا كبيرًا، حتى لم يَعُدْ يؤثِّر في قلوبِهم وعْظُ الرسل وهديُهم، بل صارَ يُغريهم بزيادةِ الكُفر والتكذيبِ، وقتْل أولئك الهُداةِ الأخيارِ، وفيه إشارةٌ إلى استمرارِ قتْلِهم للأنبياءِ، وأنه أصبح دَيدنَهم المستمرَّ؛ لأنَّ الفعلَ المضارع يدلُّ على الاستمرارِ. أو يكونُ الفِعل المضارع يَقْتُلُونَ حالًا على حقيقتِه؛ لأنَّهم حاوَلَوْا قتْلَ نَبيِّنا مُحمَّدٍ عليه أفضلُ الصلاةُ والسَّلام؛ فيكونُ في هذا- والله أعلم- إشارةٌ إلى أنَّهم لا يَزالون يَقتُلون الأنبياءَ حتى آخِرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وفي التعبيرِ بالفِعلِ المضارِعِ يَقْتُلُونَ أيضًا مُحافظةٌ على رُؤوس الآي الكريمةِ [1367] ينظر: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (1/662- 663)، ((تفسير أبي السعود)) (3/63)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/398)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/274)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/184)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/530)، وينظر: ((تفسير الرازي)) (12/405). .
- وقوله: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ أيضًا فيه نوعٌ مِنَ الالتِفات، وهو التفاتٌ مِن الإخبارِ بالفِعل الماضي إلى الإخبارِ بالفِعلِ المضارع، وهذا مِن أدقِّ الأمورِ، ولا يُتاحُ في الاستعمالِ إلَّا للعارفِ برموزِ الفصاحةِ والبلاغةِ [1368] ينظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/530). .
- وتقديمُ المفعولِ فَرِيقًا في الموضعَينِ؛ للاهتِمامِ به، وتشويقِ السَّامعِ إلى ما فَعَلوا به لا للقَصر [1369] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/63). ؛ فقدَّم المفعولَ هنا؛ لأنَّ التقديمَ إنَّما يكونُ لشِدَّة العنايةِ؛ فالتكذيبُ والقتلُ وإنْ كانَا مُنكَرينِ إلَّا أنَّ تكذيبَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقتلهم أقبحُ، فكان التقديمُ لهذه الفائدةِ [1370] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/405). .
5- قوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فيه: إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه ثَمَّةَ مجرورٌ مُقدَّرٌ دالٌّ عليه السِّياق، أي: ظنُّوا ألَّا تَنزِلَ بِهم مَصائبُ في الدنيا، فأَمِنوا عِقابَ الله في الدنيا، بعد أن استخفُّوا بعذاب الآخِرة، وتوهَّموا أنَّهم ناجون منه؛ لأنَّهم أبناءُ اللهِ وأحباؤه، وأنَّهم لن تمسَّهم النارُ إلَّا أيامًا معدودة؛ فمِن بديع إيجاز القرآن أنْ أوْمَأَ إلى سُوءِ اعتقادِهم في جزاءِ الآخِرة، وأنَّهم نبَذوا الفِكرةَ فيه ظِهريًّا، وأنَّهم لا يُراقبون اللهَ في ارْتِكابِ القبائحِ، وإلى سوءِ غَفلتِهم عن فِتنة الدُّنيا، وأنَّهم ضالُّون في كِلا الأمْرَينِ [1371] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/276). .
- وعطَف فَعَمُوا على حَسِبُوا بالفاءِ؛ للدَّلالةِ على تَرتيبِ ما بعدَها على ما قَبْلَها، أي: أمِنوا بأسَ الله تعالى، فتمادَوا في فُنونِ الغَيِّ والفساد، وعمُوا عن الدِّينِ بعدما هداهم الرُّسل إلى معالِمه الظَّاهرة، وبيَّنوا لهم مناهِجَه الواضِحَة [1372] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/64). .
- وعطَفَ قولَه: فَعَمُوا وَصَمُّوا الأوَّل بالفاءِ، وعَطَفَ قولَه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا الثاني بـ(ثم)، وهو معنًى حَسَنٌ؛ ففي العَطفِ بالفاءِ دليلٌ على أنَّهم عَقيبَ الحُسبانِ، حصَل لهم العَمى والصَّمم من غيرِ تراخٍ، وفي العطف بـثُمَّ دليلٌ على أنَّهم تَمادَوْا في الضلالِ زمانًا إلى أنْ تابَ اللهُ عليهم [1373] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/328)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/373)، ((تفسير ابن عادل)) (7/457). .
- وأَسْنَدَ الفِعلَ الحسَنَ الشَّريفَ تَابَ في قوله: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إلى نَفْسِه سُبحانَه، ولم يقُل: (تَابُوا)؛ إظهارًا للاعتناءِ بهم، ولُطفِه تعالى بِهم. وأَسْندَ الفِعلَينِ عَمُوا وَصَمُّوا إليهم، بخِلافِ قولِه: فَأَصَمَّهُمْ وَأْعَمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 23] ؛ لأنَّ هذا فيمَن لم يَسْبِقْ له هِدايةٌ [1374] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/328)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/373)، ((تفسير ابن عادل)) (7/457). .
6- قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: الجُملةُ تذييلٌ أُشيرَ به إلى بُطلانِ حُسبانِهم المذكورِ، ووقوعِ العذابِ مِن حيثُ لم يَحتسِبوا؛ إشارةً إجماليَّةً اكتُفيَ بها تعويلًا على ما فُصِّل نوعَ تفصيلٍ في سورة بني إسرائيل، والتقدير: حسِبوا ألَّا يُصيبَهم عذابٌ ففَعلوا ما فعَلوا من الجناياتِ العظيمةِ المستوجبةِ لأشدِّ العقوباتِ، واللهُ بصيرٌ بتفاصيلِها؛ فكيفَ لا يُؤاخِذُهم بها، ومِن أينَ لهم ذلِك الحسبانُ الباطلُ [1375] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/65)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/279). ؟!
- وناسَب ختْمُ الآيةِ بهذه الجُملةِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ المشتمِلةِ على بَصِير؛ إذ تَقدَّم قبلَه فَعَمُوا [1376] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/328). .
- وقوله: يَعْمَلُونَ جاءَ على صِيغةِ المضارعِ لحِكايةِ الحالِ الماضية؛ استحضارًا لصورَتِها الفَظيعة، ورِعايةً للفَواصِل [1377] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/65)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/279). ؛ ففائدةُ التعبيرِ بقولِه: يَعْمَلُونَ بمعنى الماضي، استحضارُ صُورةِ أعمالِهم في ماضيهم، وتمثيلُها لهم ولغيرِهم في حاضرِهم، وإنَّما تَحسُنُ هذه النكتةُ في العملِ المعيَّنِ المهمِّ الذي يُراد التذكيرُ به بعدَ وقوعِه، بجَعْل الزمنِ الحاضرِ مرآةً للزمنِ الغابرِ، ولا يظهرُ هذا الحُسن في الأعمالِ المطلَقةِ المُبهمَةِ [1378] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/399). .