موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (98-99)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريبُ الكَلِمات:

تَبْغُونَهَا: تَطلُبونها .
عِوَجًا: أي: زيغًا وتحريفًا، واعوجاجًا في الدِّين؛ فالعِوَج- بالكَسر- يُقال فيما كانَ في أَرضٍ أو دِينٍ أَو مَعاشٍ، والعَوَج- بالفتْح- يُقال فيما يَنْتَصِب كالحائطِ والعُود. ومنهم مَن خَصَّ المكسورَ بالمعاني، والمفتوحَ بالأعيانِ، وأصْل (عوج): الميل في الشَّيء .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسألَ اليهودَ والنَّصارى مُوبِّخًا لهم: ما الذي يَحمِلهم على إنكارِ حُجَج الله التي أتت بها كُتُبُهم، والتي فيها إثبات نُبوَّته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصِدْق ما جاء به، والله تعالى لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالِهم.
ويأمُره أيضًا أنْ يقول لهم مُوبِّخًا لهم: لمَ يُضِلُّون المؤمنين عن سبيل الله؛ يُريدون بذلك الانحرافَ والميلَ بهذا السَّبيلِ عن استقامتِه، وهم يَعلمون الحقَّ، ويَعرِفون سوءَ ما يَقومون به، وليس الله بغافلٍ عمَّا يقومون به؟!

تفسير الآيتين:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98).
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأصحابِ التَّوراة والإنجيل مُوبِّخًا لهم: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، ما الذي يَحمِلكم على جحْد حُجَج الله تعالى التي جاءت بها كُتُبكم، التي تُثْبِت نبوَّتي وصِدْقَ ما جئتُ به من الله تعالى؛ فلمَ تَجْحَدون ذلك وأنتُم على عِلْم بالحقِّ، والله تعالى شهيدٌ على كُفْركم؟! فإنَّه سبحانه لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازيكم على كُفْركم بما تَستحِقُّون .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99).
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتوبيخِ أهلِ الكتابِ على كُفْرهم القاصِر عليهم، أمَرَه أيضًا بتوبيخِهم على عُدوانهم على الغيرِ، بصدِّهم عن الإيمان ، فقال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأهل الكتاب مُوبِّخًا: يا معشرَ اليهود والنَّصارى لِمَ تُضِلُّون عِبادَ الله المؤمنين عن طريقِ الله الذي جئتُ به من عندِ الله والمُوصِل إلى الله، تُريدون انحرافَ هذا الطريق عن استقامتِه؛ ليَزيغَ بالمؤمنين مِن الهدى إلى الضَّلال، والحال أنَّكم تعلمون الحقَّ؛ مِصداقًا لِما تَجِدونه في كُتُبكم كصِفة محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعلَمون سوءَ ما تَصْنعون ؟!
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أي: ليس الله عزَّ وجلَّ بغافلٍ-أيُّها اليهود والنَّصارى- عن ضلالِكم وإضلالكِم، بل يُحصي أعمالَكم، وعليها يُجازيكم .

الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا، الحثُّ على الاستقامة بلُزوم الشَّرع، وتَرْك العِوَج والزَّيغ عن شريعةِ اللهِ تعالى في الأوامرِ بالتَّفريط، والتَّهاون، أو بالغُلُوِّ والإفراط، وفي النَّواهي بانتهاكِها، والتَّهاون بها، وكلُّ إنسانٍ عاقلٍ فإنَّه يَسعى إلى الوصولِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه غايةُ المطالِب، ولا وصولَ إلى الله إلَّا بسلوك شَرْعه وسبيله الذي يُوصِل إليه .
2- في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...؛ الحَذرُ من التَّثبيطِ عن فِعْل الخير أو التَّرغيب في فِعْل الشَّرِّ؛ لأنَّ مَن صَدَّ عن سبيلِ الله من المسلمين يكونُ فيه شَبَهٌ من اليهود والنَّصارى؛ فهذا سبيلُهم

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: قُلْ افتَتَح بفِعْل (قُلْ)؛ اهتمامًا بالمقُول .
2- قوله الله تعالى: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ؛ يُستَفاد منه أنَّ اللهَ تعالى لا يُحاسِب العبدَ على ما حدَّث به نَفْسَه؛ فالوَساوس التي تكون في الصَّدر لا يُؤاخَذ عليها الإنسانُ إلَّا إذا ترتَّب عليها عملٌ، أو ركَن إليها واعتَقدها، وجعَلَها من أعمالِ القلب، فحينئذٍ يُحاسَب عليها، وكذلك إذا نطَق بها لسانُه، أو عمِل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذٍ يُحاسَب عليها .
3- قوله تعالى: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ؛ إنَّما ذكَر مَنْ آمن مع أنهم يَصُدُّون مَنْ لم يؤمن-أيضًا- حتى لا يَدخُل في الإيمان؛ وذلك لأنَّ صدَّ مَن آمن أشدُّ عُدوانًا من صدِّ مَن لم يؤمن؛ فالبقاءُ على الكُفْر أهونُ من الرِّدة؛ لأنَّ هذا مَنْع، والأوَّل رَفْع، ورَفْع الخيرِ أشدُّ عقوبةً مِن مَنْعه .
4- ختَم اللهُ تعالى الآيةَ الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ، والآية الثانية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يُظهِرون الكُفْرَ بنُبوَّة محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما كانوا يُظهِرون إلقاءَ الشُّبهِ في قلوب المسلمين، بل كانوا يَحتالون في ذلك بضُروب من المكايد والحيل الخفيَّة التي لا تَروُج إلا على الغافل، فلا جَرَم قال فيما أَظهَروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ، وفيما أَضمَروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
5- قوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ؛ أحالَهم في هذا الكلامِ على ما في ضمائرِهم ممَّا لا يَعلَمه إلَّا اللهُ؛ لأنَّ ذلك هو المقصودُ مَن وخْزِ قلوبهم، وانثنائِهم باللائمةِ على أنفسهم .
6- قوله الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ يَتضمَّن نَفْي الغَفْلةِ عن الله، وكذلك ثبوتَ كمال المراقبة؛ لأنَّ مَن كان كامِل المراقبة، فإنَّه ليس عنده غَفْلة .

بلاغة الآيتين:

1- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فيه تخصيصُ أهلِ الكتاب بالخِطاب؛ للدَّلالةِ على أنَّ كُفْرهم أَقْبح؛ لأنَّ معرفتَهم بالآيات أقوى، ولأنَّ كونهم أهلَ كتابٍ يُوجِب الإيمانَ بما يُصدِّق ما معهم، وهم- وإنْ زعَموا أنهم مؤمنون بالتَّوراة والإنجيل- فهم كافرون بهما .
- وكرَّرها في الآيتين؛ لأنَّ المقصودَ التوبيخُ على أَلْطف الوجوه، وتكريرُ هذا الخطابِ اللَّطيف أقربُ إلى التلطُّف في صَرْفهم عن طريقتِهم في الضَّلال والإضلال، وأدلُّ على النُّصح لهم في الدِّين والإشفاق .
2- قوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ: استفهامٌ للتَّوبيخ والإنكار؛ لأنْ يكونَ لكُفْرهم بها سببٌ من الأسباب، وتحقيقٌ لِما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكُليَّة .
3- قوله: وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ الجملة حالٌ مِن فاعِل تَكفُرون وهي مفيدةٌ لتشديد التَّوبيخِ، وتأكيدِ الإنكار .
- وإظهارُ لفْظ الجلالةِ (والله) في موقعِ الإضمار- حيث لم يَقُل: (وهو)-؛ لتربية المهابة، وتهويلِ الخَطْبِ .
- وصيغةُ المبالغةِ في شهيدٌ؛ للتَّشديدِ في الوعيد .
- قوله الله تعالى: مَا تَعْمَلُونَ؛ (ما) اسم موصول يُفيد العُموم، فتُفيد الآيةُ إثباتَ شهادة الله تعالى على كلِّ ما يَعمَل بنو آدم .
4- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ: أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثْر توبيخِهم بالضَّلال، والتَّكريرُ للمُبالَغة في حَمْله عليه السَّلام على تقريعهم وتَوبيخِهم، وتَرْكُ عطفِه على الأمر السَّابقِ؛ حيث لم يَقُل: (وقل يا أهل..)؛ للإيذان باستقلالهم، كما أنَّ قطْعَ- أي: عدم عطف- قوله تعالى: لِمَ تَصُدُّونَ عن قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ فيه إشعارٌ بأنَّ كلَّ واحدٍ مِن كُفْرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها، مُستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتَّقريعِ، وتكريرُ الخطابِ بعُنوان أهليَّةِ الكتابِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ؛ لتَّأكيد الاستقلالِ، وتشديدِ التَّشنيع، فإنَّ ذلك العُنوانَ كما يَستدعي الإيمانَ بما هو مُصدِّقٌ لِمَا معهم، يَستدِعي ترغيبَ النَّاسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ .
5- قوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: اعتراضٌ تذييليٌّ، فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديد، وتذكيرٌ لأنَّهم يعلمون أنَّ الله يعلم ما تُخفي الصُّدور، وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، إلا أنَّ هذا أغلظُ في التَّوبيخ؛ لِما فيه من إبطال اعتقاد غفْلته سبحانه؛ لأنَّ حالهم كانت بمَنزِلة حالِ مَن يَعتقِد ذلك .