موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (90-94)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

لَنْ نَبْرَحَ: أي: لن نَزالَ، وأصلُ (برح): يدلُّ على زوالٍ وبُروزٍ وانكشافٍ [792] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/144)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/238)، ((تفسير القرطبي)) (11/237)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312). .
عَاكِفِينَ: أي: مُقيمينَ، والعُكوفُ: الإقبالُ على الشَّيءِ، ومُلازمتُه على سَبيلِ التَّعظيمِ له، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على حَبسٍ [793] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/144)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 328)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 579)، ((تفسير القرطبي)) (11/237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 658). .
وَلَمْ تَرْقُبْ: أي: لم تُرْاعِ وتحفَظْ، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ [794] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/147)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427)، ((تفسير القرطبي)) (11/239)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا موقفَ هارونَ عليه السلامُ، مِن هؤلاءِ الجاهلينَ الذين عبَدوا العجلَ: ولقد قال هارونُ لبني إسرائيلَ مِن قَبلِ رُجوعِ موسى إليهم: يا قَومِ، إنَّما اختُبِرتُم بهذا العِجلِ؛ ليظهَرَ المؤمِنُ منكم مِن الكافِرِ، وإنَّ رَبَّكم الرَّحمنُ لا غَيرُه؛ فاتَّبِعوني فيما أدعوكم إليه مِن عبادةِ اللهِ، وأطيعوني فيما أمَرتُكم به. قال عَبَدةُ العِجلِ: لن نزالَ مُقيمينَ على عبادةِ العِجلِ حتى يرجِعَ إلينا موسى.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما قاله موسَى لأخيه هارونَ، وما فعَله به، لَمَّا رجَع ورأَى ما حدَثَ، فيقولُ تعالى: قال موسى لأخيه هارونَ: أيُّ شيءٍ مَنعَك مِن اتِّباعي حين رأيتَهم ضلُّوا عن طَريقِ الحَقِّ، أفعَصيتَ أمري؟ ثم أخَذَ موسى بلحيةِ هارونَ ورأسِه يجرُّه إليه، فقال له هارونُ مُستَعطِفًا: يا ابنَ أمِّي، لا تُمسِكْ بلِحيَتي ولا بشَعرِ رأسي، إنِّي خِفتُ إن تركْتُهم ولحِقْتُ بك أن تقولَ لي: فرَّقتَ بينَ بني إسرائيلَ، ولم تحفَظْ وصِيَّتي بحُسنِ رِعايتِهم!

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90).
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ.
أي: ولقد قال هارونُ لِعَبَدةِ العِجلِ مِن قَومِه، ناصحًا لهم مِن قَبلِ رُجوعِ موسى إليهم: يا قومِ، إنَّما اختبَرَكم اللهُ وابتلاكم بهذا العِجلِ؛ ليَظهرَ مَن يَثبُتُ منكم على إيمانِه بالله، ومَن يُفتَنُ بالعِجلِ فيَكفُرُ [795] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/144)، ((تفسير القرطبي)) (11/236)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/87). .
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
أي: وإنَّ رَبَّكم الرَّحمنُ الذي يَرحَمُكم، ويُنعِمُ عليكم بالنِّعَمِ الظاهرةِ والباطنةِ، لا العِجلُ الذي تَعبُدونَه؛ فاتَّبِعوني على ما آمُرُكم به مِن عِبادةِ الله، وتَرْكِ عبادةِ العِجلِ، وأطيعوني فيما أمَرتُكم به مِن طاعةِ الله، وإخلاصِ العبادةِ له، ولا تُطيعوا السَّامِريَّ [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/144)، ((تفسير القرطبي)) (11/236، 237)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/290). .
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91).
أي: قال عَبَدةُ العِجلِ: سنظَلُّ مُقيمينَ على عبادةِ العِجلِ، حتى يأتيَ إلينا موسى من الطُّورِ، فنسمَعَ كلامَه في شأنِ العِجلِ، أو ننظُرَ صنيعَه فيه [797] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/144)، ((تفسير القرطبي)) (11/237)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312). .
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93).
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ.
أي: قال موسى لأخيه لائمًا له لَمَّا رجَعَ إلى قَومِه، فرأى ما حَدَث فيهم مِن الخَطبِ العَظيمِ: يا هارونُ، أيُّ شَيءٍ مَنَعَك حين رأيتَ بني إسرائيلَ قد أخطؤوا طريقَ الحَقِّ بعبادتِهم العِجلَ وكَفَروا باللهِ: أن تلحَقَ بي [798] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/145)، ((الوسيط)) للواحدي (3/219)، ((البسيط)) للواحدي (14/503)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512). قال ابنُ عطية: (وقولُه تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ بمعنى: ما منَعك أن تتَّبِعَني). ((تفسير ابن عطية)) (4/60)، ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/89، 90). وممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: أَلَّا تَتَّبِعَنِ: أي: أنْ تتَّبعني وتلحقَ بي: ابنُ جريرٍ، والواحدي، وابنُ كثيرٍ. يُنظر المصادر السابقة. قال ابنُ كثيرٍ: (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي: فتُخبرني بهذا الأمرِ أولَ ما وقَع). ((تفسير ابن كثير)) (5/312). ويُنظر أيضًا: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 703)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512). وقال الألوسي: (كان موسى عليه السَّلامُ رأى أنَّ مُفارقةَ هارونَ لهم، وخُروجَه من بينِهم بعد تلك النَّصائحِ القَوليَّةِ: أزجَرُ لهم مِنَ الاقتصارِ على النَّصائحِ؛ لِما أنَّ ذلك أدَلُّ على الغضَبِ، وأشَدُّ في الإنكارِ، لا سيَّما وقد كان عليه السَّلامُ رئيسًا عليهم محبوبًا لديهم، وموسى يعلَمُ ذلك، ومُفارقةُ الرَّئيسِ المحبوبِ كراهةً لأمرٍ: تَشُقُّ جِدًّا على النُّفوسِ، وتستدعي تَرْكَ ذلك الأمرِ المكروهِ له الذي يوجِبُ مُفارقتَه، وهذا ظاهِرٌ لا غُبارَ عليه عند من أنصَفَ). ((تفسير الألوسي)) (8/560). وقال ابنُ الجوزي في بيانِ أقوالِ المفسِّرينَ في قولِه تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ: (وفي المعنى ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: تسيرُ ورائي بمن معك من المؤمِنينَ وتفارِقُهم. رواه سعيدُ بنُ جُبير عن ابنِ عبَّاسٍ. والثاني: أن تُناجِزَهم القِتالَ. رواه أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ. والثالث: في الإنكارِ عليهم. قاله مقاتِلٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/172). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/39). ؟
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي.
أي: هل عَصَيتَ -يا هارونُ- أمري لك بأن تَخلُفَني في قومي، وأن تُصلِحَ، ولا تتَّبِعَ سَبيلَ المُفسِدينَ [799] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/91). . وقيل: المرادُ: أنَّ مقامَك بينهم وقد عبدوا غيرَ الله تعالى عصيانٌ منك لي. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحدي، والقرطبي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 703)، ((تفسير القرطبي)) (11/237). ؟
كما قال الله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] .
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94).
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي.
أي: ثمَّ أخَذ موسى بلِحيةِ أخيه هارونَ ورأسِه يجُرُّه إليه، فقال هارونُ مُستَعطِفًا أخاه: يا ابنَ أمَّ، لا تأخُذْ بلِحيتي، ولا بشَعرِ رأسي [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/146)، ((الوسيط)) للواحدي (3/219)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير الشربيني)) (2/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512). .
إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أي: إنِّي خَشِيتُ أن تقولَ لي إن لحقتُ بك: فَرَّقْتَ بينَ جماعةِ بني إسرائيلَ [801] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/147)، ((تفسير القرطبي)) (11/239)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512). قيل: المعنى: إن لحقتُ بكَ مع الذين لم يعبدوا العجلَ أن تقولَ لي: فرقتَ بين بني إسرائيل بأن جئتَ ببعضِهم، وتركتَ بعضهم. وممن قال بذلك: ابنُ جريرٍ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/147)، ((تفسير القرطبي)) (11/239). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/146). قال القرطبي: (أي: خشيتُ أن أخرُجَ وأترُكَهم وقد أمرتَني أن أخرُجَ معهم؛ فلو خرجتُ لاتَّبَعني قومٌ ويتخَلَّف مع العِجلِ قومٌ، وربما أدَّى الأمرُ إلى سَفكِ الدماء، وخَشيتُ إن زجَرتُهم أن يقعَ قِتالٌ فتلومَني على ذلك). ((تفسير القرطبي)) (11/239). وقيل: المعنى: إنِّي خَشِيتُ إن لَحِقتُ بك لأخبِرَك بهذا الخَطبِ الذي وقع أن تقولَ لي: لم تركْتَهم وحدَهم وليس عندهم راعٍ ولا خليفةٌ؛ فإنَّ هذا يفَرِّقُهم ويشَتِّتُ شَملَهم. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512). .
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي.
أي: وخَشِيتُ أن تقولَ: ولم تحفَظْ وصِيَّتي وتعمَلْ بها، ولم تراعِ ما أمَرْتُك به حين استخلَفْتُك على قَومي [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/147)، ((تفسير القرطبي)) (11/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/91). .

الفوائد التربوية :

قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فيه أنَّ حِفظَ الأصلِ الأصيلِ للشَّريعةِ أهَمُّ مِن حِفظِ الأصولِ المتفَرِّعةِ عليه؛ لأنَّ مَصلحةَ صَلاحِ الاعتقادِ هي أمُّ المصالحِ التي بها صَلاحُ الاجتِماعِ؛ ولذلك لم يكُنْ موسى خافيًا عليه أنَّ هارونَ كان مِن واجِبِه أن يترُكَهم وضَلالَهم، وأن يلتَحِقَ بأخيه مع عِلمِه بما يُفضي إلى ذلك مِن الاختِلافِ بينهم؛ فإنَّ حُرمةَ الشَّريعةِ بحِفظِ أُصولِها، وعَدَمِ التَّساهُلِ فيها، وبحُرمةِ الشَّريعةِ يبقَى نفوذُها في الأمَّةِ، والعَمَلُ بها [803] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/293-294). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي هاهنا دقيقةٌ وهي أنَّ الرافضةَ تمسَّكوا بقولِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام لعليٍّ: ((أنت مني بمنزلةِ هارونَ مِن موسَى)) [804] أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404) واللفظ له، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ، ثم إنَّ هارونَ ما منَعته التقيةُ في مثلِ هذا الجمعِ، بل صعِد المنبرَ، وصرَّح بالحقِّ، ودعا الناسَ إلى متابعةِ نفسِه، والمنعِ مِن متابعة غيرِه، فلو كانت أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم على الخطأِ، لكان يجبُ على عليٍّ رضي الله عنه أن يفعلَ ما فعَله هارونُ عليه السلام، وأن يَصعدَ على المنبرِ مِن غيرِ تقيةٍ وخوفٍ، وأن يقولَ: فاتبعوني، وأطيعوا أمري. فلمَّا لم يفعَلْ ذلك، علِمْنا أنَّ الأمةَ كانوا على الصوابِ [805] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/91-92). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، سلَك هارونُ عليه السلامُ في هذا الوعظِ أحسنَ الوجوهِ؛ لأنَّه زجَرهم عن الباطلِ أولًا بقولِه: إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ، ثم دعاهم إلى معرفةِ الله تعالى ثانيًا بقولِه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ، ثم دعاهم ثالثًا إلى معرفةِ النبوةِ بقولِه: فَاتَّبِعُونِي، ثم دعاهم إلى الشرائعِ رابعًا بقولِه: وَأَطِيعُوا أَمْرِي، وهذا هو الترتيبُ الجيدُ؛ لأنَّه لا بدَّ قبلَ كلِّ شيءٍ مِن إماطةِ الأذَى عن الطريقِ، وهو إزالةُ الشبهاتِ في حالِ وجودِها، وكونِ الانحرافِ بسببِها، ثم معرفةُ الله تعالى هي الأصلُ، ثم النبوةُ، ثم الشريعةُ، فثبَت أنَّ هذا الترتيبَ على أحسنِ الوُجوهِ [806] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/92). .
3- قال اللهُ تعالى: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ذكَرَ وَصفَ (الرَّحمةِ)؛ تنبيهًا على أنَّهم متى تابوا قَبِلَهم، وتذكيرًا لتَخليصِهم مِن فِرعَونَ زمانَ لم يوجَدِ العِجلُ [807] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/374). .
4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى فيه دَلالةٌ على أنَّ (لن) لا تَقتَضي التأبيدَ -كما زعم الزَّمخشريُّ- إذ لو كان مِن مَوضوعِها التأبيدُ، لَما جازت التَّغيِيَةُ بـ (حتى)؛ لأنَّ التَّغيِيَةَ لا تكونُ إلَّا حيثُ يكونُ الشَّيءُ مُحتَمِلًا، فيزيلُ ذلك الاحتِمالَ بالتَّغيِيةِ [808] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/374). .
5- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دَلالةٌ على أنَّ كلَّ نهيٍ ففيه طلبٌ واستِدعاءٌ لِمَا يقصِدُه النَّاهي، فهو أمرٌ؛ فالأمرُ يتناولُ هذا وهذا، فالأمرُ أصلٌ، والنهيُ فرعٌ؛ فإنَّ النهيَ نوعٌ مِن الأمرِ؛ إذ الأمرُ هو الطلبُ والاستدعاءُ والاقتضاءُ، وهذا يدخلُ فيه طلبُ الفعلِ، وطلبُ التركِ، لكن خُصَّ النهيُ باسمٍ خاصٍّ؛ فإنَّ موسى قال لأخيه: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، وموسى قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] وهذا نهيٌ، وهو لامَه على أنَّه لم يَتَّبِعْه، وقال: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، وعُبَّادُ العِجْلِ كانوا مُفسِدينَ، وقد جَعَلَ هذا كلَّه أمرًا [809] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/673)، (20/119). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي هذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على اقتضاءِ الأمرِ للوجوبِ؛ لأنَّه أطلَق اسمَ المعصيةِ على عدمِ امتثالِ الأمرِ [810] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/91). ، فتاركُ المأمورِ به عاصٍ، والعاصي مستحقٌّ للعقابِ [811] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/93). .
7- إعفاءُ اللِّحيةِ هو مِن هَديِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، ففي قَولِه تعالى عن هارونَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي دَليلٌ على أنَّ لهارونَ لِحْيَةً يمكنُ الإمساكُ بها [812] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/126). ، وهذه الآيةُ الكريمةُ بضميمةِ آيةِ (الأنعام) إليها تدلُّ على لزومِ إعفاءِ اللحيةِ، فهي دليلٌ قرآنيٌّ على إعفاءِ اللحيةِ وعدمِ حلقِها. وآيةُ الأنعامِ المذكورةُ هي قولُه تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ... الآية [الأنعام: 84] . ثم إنَّه تعالى قال بعدَ أن عدَّ الأنبياءَ الكرامَ المذكورين: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، فدلَّ ذلك على أنَّ هارونَ من الأنبياءِ الذين أُمِر نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم بالاقتداءِ بهم، وأمرُه صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك أمرٌ لنا؛ لأنَّ أمرَ القدوةِ أمرٌ لأتباعِه [813] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/92). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
- قولُه: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ جُملةٌ قَسَميةٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا قبْلَها من الإنكارِ والتَّشنيعِ، ببَيانِ عُتوِّهم واستعصائِهم على الرَّسولِ إثْرَ بَيانِ مُكابَرَتِهم لقضيَّةِ العُقولِ [814] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/36). .
- وافتتاحُ خِطابه بـ يَا قَوْمِ تَمهيدٌ لمَقامِ النَّصيحةِ [815] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/290). .
- قولُه: إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ القصْرُ المُستفادُ من كَلمةِ إِنَّمَا إلى نفْسِ الفِعْلِ، على معنى: إنَّما فُعِلَ بكمُ الفِتْنةُ، لا الإرشادُ إلى الحقِّ [816] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/37). .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ إرشادٌ لهم إلى الحقِّ إثْرَ زجْرِهم عن الباطلِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ والرَّحمةِ؛ للاعتناءِ باستمالَتِهم إلى الحقِّ، وفي ذلك تذكيرٌ لتخليصِهم مِن فرعونَ زمانَ لم يُوجَدِ العجلُ. وكذا -على ما قيل- تنبيهٌ على أنَّهم متى تابوا قَبِلهم [817] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/37)، ((تفسير الألوسي)) (8/559). .
- والفاءُ في قولِه: فَاتَّبِعُونِي لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها من مَضمونِ الجُملتينِ، أي: إذا كان الأمْرُ كذلك، فاتَّبِعوني في الثَّباتِ على الدِّينِ [818] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/37). .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فيه توكيدٌ بـ (إنَّ)، والحصْرُ بتَعريفِ طرفَيِ الجُملةِ، أي: إنَّ ربَّكم المُستحِقَّ للعبادةِ هو الرَّحمنُ لا غيرُ [819] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/229)، ((تفسير الألوسي)) (8/559). .
- وفي إيثارِ المُضارعِ في قولِه: أَفَلَا يَرَوْنَ، وعطْفِ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ عليه؛ للدَّلالةِ على استحضارِ تلك الحالةِ الفظيعةِ في ذِهْنِ السَّامعِ، واستدعاءِ الأفكارِ عليهم [820] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/229). .
2- قوله تعالى: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
- قولُه: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ مُتعلِّقٌ بـ عَاكِفِينَ؛ قُدِّمَ على مُتعلَّقِه لتَقويةِ الحُكْمِ، أو أرادوا: لنْ نبرَحَ نخُصُّه بالعُكوفِ، لا نعكُفُ على غيرِه؛ فيكونُ التَّقديمُ للاختصاصِ [821] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/290). .
3- قولُه تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من حِكايةِ جَوابِهم لهارونَ عليه السَّلامُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذَا قال مُوسى لهارونَ عليهما السَّلامُ حين سمِعَ جوابَهم له؟ وهل رَضِيَ بسُكوتِه بعْدَما شاهَدَ منهم ما شاهَدَ؟ فقِيلَ: قال له وهو مُغتاظٌ قد أخَذَ بلِحْيَتِه ورأْسِه... [822] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/37). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فرجَعَ مُوسى، ووجَدَهم عاكِفينَ على عِبادةِ العِجْلِ، قال: يا هارونُ... [823] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/374). .
- والاستفهامُ في قولِه: مَا مَنَعَكَ إنكاريٌّ، أي: لا مانِعَ لك من اللَّحاقِ بي؛ لأنَّه أقامَهُ خليفةً عنه فيهم، فلمَّا لم يَمْتَثِلوا أمْرَه، كان عليه أنْ يرُدَّ الخِلافةَ إلى مَنِ استخلَفَه [824] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/291). .
4- قولُه تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي الاستفهامُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والفاءُ في أَفَعَصَيْتَ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: ألَمْ تتَّبِعني؟ أو أخالَفْتَني فعصَيْتَ أمْري [825] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/38). ؟
- والاستفهامُ في قولِه: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي مُفرَّعٌ على الإنكارِ، فهو إنكارٌ ثانٍ على مُخالَفةِ أمْرِه، مَشوبٌ بتَقريرٍ للتَّهديدِ [826] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/292). .
- و(لَا) في قولِه: أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدةٌ؛ للتَّوكيدِ، أي: ما مَنعَكَ أنْ تَتَّبِعني؛ فزِيادةُ لَفظةِ (لا) لتوكيدِ الكلامِ وتَقويتِه أسلوبٌ مِن أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ، وهو أغلبُ في النفيِ وما يُشبِهُه، كالمنعِ هنا في قولِه: مَا مَنَعَكَ [827] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/90). .
5- قوله تعالى: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
- قولُه: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ عدَلَ عن (يا أخِي) -وإنْ كان شقيقَه- إلى (ابنَ أُمَّ) فخَصَّ الأُمَّ بالإضافةِ؛ استِعظامًا لحَقِّها، واستِعْطافًا وتَرقيقًا لقَلْبِه؛ فذِكْرُ الأُمِّ هاهنا أَرَقُّ وأبلغُ، وهو تَذكيرٌ بأقْوى أواصرِ الأُخوَّةِ، وهي آصِرَةُ الوِلادةِ من بطْنٍ واحدٍ، والرَّضاعُ من لِبانٍ واحدٍ، ولأنَّ الأمَّ يَسوءُها ما يَسوءُه، وهي أرقُّ مِن الأبِ [828] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/37)، ((تفسير ابن كثير)) (5/312)، ((تفسير أبي السعود)) (6/38)، ((تفسير الشربيني)) (2/481)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/292). .
- وعطَفَ الرَّأسَ على اللِّحْيةِ؛ لأنَّ أخْذَه مِن لِحيَتِه أشَدُّ ألَمًا، وأنْكَى في الإذلالِ [829] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/292). .
- قولُه: إِنِّي خَشِيتُ استئنافٌ سِيقَ لتَعليلِ مُوجِبِ النَّهيِ، ببَيانِ الدَّاعي إلى ترْكِ المُقاتَلةِ، وتَحقيقِ أنَّه غيرُ عاصٍ لأمْرِه، بل مُمْتَثِلٌ به [830] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/38). .