موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (36-39)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

غريب الكلمات :

فَلَا تَبْتَئِسْ: أي: لا تَحْزَن، مِن البُؤسِ: وهو الضُّرُّ والشِّدَّةُ .
وَوَحْيِنَا: أي: أمرِنا وتعليمِنا، والوحيُ: الإشارةُ، وأيضًا: الكتابُ والرسالةُ، وكلُّ ما ألقيتَه إلى غيرِك حتى علِمه فهو وحيٌ كيف كان، وأصلُ (وحي): يدلُّ على إلقاءِ علمٍ في إخفاءٍ .
مُقِيمٌ: أي: دائمٌ سرمديٌّ أبديٌّ، وأصلُ (قوم): انْتِصابٌ أو عَزْمٌ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أوحَى إلى نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ مِن قومِك إلا مَن قد آمنَ مِن قبلُ، فلا تَحزَنْ على ما كانوا يفعلونَ، واصنَعِ السفينةَ بمرأًى منَّا وبأمْرِنا لك تحتَ حِفظنا وكِلاءَتِنا، ولا تطلُبْ مني العفوَ عن هؤلاء الذين ظَلَموا أنفُسَهم من قومِك بكُفرِهم؛ فإنَّهم مُغرَقون بالطُّوفانِ.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ نوحًا عليه السلامُ شرع يَصنَعُ السفينةَ كما أُمِر، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ مِن كُبَراءِ قَومِه سَخِروا منه، قال لهم نوحٌ رادًّا عليهم: إن تسخَروا منَّا اليومَ لجَهلِكم بصِدقِ وعدِ اللهِ، فإنَّا نسخَرُ منكم كما تسخرونَ منَّا، فسوف تعلمون مَن الذي يأتيه في الدُّنيا عذابُ اللهِ الذي يُهينُه، ويَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا انقِطاعَ له؟

تفسير الآيات:

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36).
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ.
أي: وأوحَى اللهُ إلى نبيِّه نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ ويتَّبِعَك من قومِك إلَّا مَن سبق أن آمَن مِن قَبلُ .
فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ.
أي: فلا تَحزَنْ- يا نوحُ- بما كان يفعَلُ قَومُك من الكُفرِ والتكذيبِ، ولا يُهمَّنَّك أمرُهم؛ فإنِّي مُهلِكُهم .
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان نهيُه تعالى نوحًا عليه السَّلامُ عن الابتئاسِ بفِعلِهم- مع شِدَّةِ جُرمِهم- مؤذِنًا بأنَّ الله ينتَصِرُ له؛ أعقَبَه بالأمرِ بصُنعِ الفُلكِ؛ لتهيئةِ نجاتِه، ونجاةِ مَن قد آمنَ به من العذابِ الذي قدَّرَه الله لِقَومِه .
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.
أي: واصنَعِ السَّفينةَ بمرأًى منَّا، وتحت حِفْظنا، وبتعليمِنا لك كيفيَّةَ صِناعتِها .
وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ.
أي: ولا تسألْني- يا نوحُ- العفوَ عن قَومِك المُشرِكينَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكفرِ؛ إنَّهم محكومٌ عليهم بالغَرَقِ بالطوفانِ، فلا سبيلَ إلى طلَبِ الشفاعةِ لهم .
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38).
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ.
أي: وطَفِقَ نوحٌ يصنَعُ السَّفينةَ، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ من كُبَراءِ قَومِه المشركينَ ورأَوْا ما يصنَعُ هَزِئوا منه .
قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ.
أي: قال نوحٌ لِقَومِه: إن تستَهزِئوا بنا عند بناءِ السَّفينةِ، فإنَّا نستهزِئُ بكم كما تستَهزِئونَ بنا .
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39).
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ.
أي: قال نوحٌ مهدِّدًا قومَه: فسوف تعلمونَ إذا نزل بكم عِقابُ اللهِ مَن يأتيه عذابٌ يُهينُه في الدُّنيا .
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.
أي: ومَن يَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا ينقَطِعُ .

الفوائد التربوية :

قال الله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ في إسنادِ (العِلمِ) إلى ضَميرِ المخاطَبين دونَ الضَّميرِ المشارِكِ- بأن يُقالَ: (فسوف نَعلَمُ)- إيماءٌ إلى أنَّ المخاطَبين هم الأحَقُّ بعِلْمِ ذلك، وهذا يُفيدُ أدَبًا شَريفًا بأنَّ الواثِقَ بأنَّه على الحَقِّ لا يُزَعزِعُ ثِقتَه مُقابَلةُ السُّفهاءِ أعمالَه النَّافعةَ بالسُّخريةِ، وأنَّ عليه وعلى أتباعِه أن يَسْخَروا مِن السَّاخِرين .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُ الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ يدلُّ على إثباتِ القضاءِ والقَدَرِ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ بأنَّهم لا يؤمنونَ بعدَ ذلك .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
- قولُه: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، الهاءُ في أَنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، وهو دالٌّ على أنَّ الجُملةَ بعدَه أمْرُها خطيرٌ؛ لأنَّها تأييسٌ له مِن إيمانِ بقيَّةِ قومِه، وذلك شديدٌ عليه؛ ولذلك عُقِّب بتَسْليتِه بجملةِ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ؛ فالفاءُ لِتَفريعِ التَّسليةِ على الخبَرِ المحزِنِ .
- قولُه: مَنْ قَدْ آمَنَ فيه تأكيدُ الفعلِ بـ قَدْ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ المرادَ مَن حصَل مِنهم الإيمانُ يَقينًا دونَ الَّذين ترَدَّدوا .
2- قولُه تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- قوله: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ جملةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليليَّةٌ للنَّهيِ في وَلَا تُخَاطِبْنِي؛ عَلَّل منْعَ مُخاطَبتِه بأنَّه حَكَم عليهم بالغرَقِ في قولِه: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وفيها إخبارٌ بما سيَقَعُ، وبيانٌ لِسَببِ الأمرِ بصُنعِ الفُلكِ .
- وقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه مجيءُ الخبرِ إنكاريًّا مؤكَّدًا بـ (إنَّ) تأكيدًا للكلام، وتنزيلًا للسَّامِعِ مَنزلةَ المتردِّد؛ لأنَّه للنَّفسِ اليقْظَى مَظِنَّةُ التردُّدِ في حُكمِ الخَبرِ ومَؤونةِ الطَّلبِ له؛ فقال أولًا: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: لا تَدْعُني يا نوحُ في استدفاعِ العذابِ عنهم، ثم قال: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ؛ لأنَّ الكلامَ مَظِنَّةُ أنْ يَتردَّدَ نوحٌ بأنَّه هلْ يُصيبُهم بأسٌ، بل بأنَّهم هل هم مُغرَقون بملاحظةِ ما تَقدَّم من قولِه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ؛ فأوردَ الخبرَ مؤكَّدًا، فقال: إنَّهم محكومٌ عليهم بالإغراقِ .
3- قولُه تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
فيه التَّعبيرُ عن صُنعِه الفُلْكَ بصيغةِ المضارِعِ في وَيَصْنَعُ؛ وذلك لاستِحْضارِ الحالةِ؛ لِتَخْييلِ السَّامِعِ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ بصَدَدِ العمَلِ .
- وجَمْعُ الضَّميرِ في قولِه: مِنَّا يُشيرُ إلى أنَّهم يَسْخَرون مِنه في عمَلِ السَّفينةِ، ومِن الَّذين آمَنوا به؛ إذ كانوا حوْلَه واثِقين بأنَّه يَعمَلُ عَملًا عَظيمًا، وكذلك جمعُه في قولِه: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ .
-  قولُه: كَمَا تَسْخَرُونَ فيه تشبيهٌ، ووجهُه أنَّه تشبيهٌ في السَّببِ الباعثِ على السُّخريةِ، وإن كان بينَ السَّببَينِ بَوْنٌ، ويجوزُ أن تكونَ كافُ التَّشبيهِ مُفيدةً معنى التَّعليلِ كالَّتي في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة: 198] ؛ فيُفيدُ التَّفاوُتَ بينَ السُّخرِيَتينِ؛ لأنَّ السُّخريَةَ المعلَّلَةَ أحَقُّ مِن الأُخرَى؛ فالكُفَّارُ سَخِروا مِن نوحٍ عليه السَّلامُ لِعَملٍ يَجهَلون غايتَه، ونوحٌ عليه السَّلامُ وأتباعُه سَخِروا مِن الكفَّارِ؛ لعِلْمِهم بأنَّهم جاهِلون في غُرورٍ .
4- قولُه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
- قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ تفريعٌ على جملةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، أي: سيَظهَرُ مَن هو الأحَقُّ بأن يُسخَرَ منه .