الموسوعة الحديثية


- جاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: دُلَّني على عَمَلٍ يُقَرِّبُني منَ الجَنَّةِ، ويُباعِدُني منَ النَّارِ، قال: لَئنْ كُنتَ أقصَرْتَ الخُطْبةَ، لقد أعرَضْتَ المَسْألةَ، أعْتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ، قال: يا رسولَ اللهِ، أوَلَيستَا واحِدًا؟ فقال: لا، عِتقُ الرَّقَبةِ أنْ تَفرَّدَ بعِتْقِها، وفَكُّ الرَّقَبةِ أنْ تُعينَ في ثَمَنِها، والمِنْحةُ الوَكوفُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فإنْ لم تُطِقْ، فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا من خَيرٍ.
الراوي : البراء | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سنن الدارقطني | الصفحة أو الرقم : 2055 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كانَ الناسُ يَسألونَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن كُلِّ طُرُقِ الخَيرِ وما يُؤَدِّي إلى الجَنَّةِ، وكان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُهم ويُرشِدُهم، وفي ذلك إرشادٌ وتَعليمٌ لِكُلِّ الأُمَّةِ. وفي هذا الحَديثِ يقولُ البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه: "جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: دُلَّني على عَمَلٍ يُقَرِّبُني مِنَ الجَنَّةِ ويُباعِدُني مِنَ النارِ"، والمَعنى: عَلِّمْني عَمَلًا مُؤَكَّدًا يَكونُ سَبَبًا في دُخولِ الجَنَّةِ ابتِداءً، وأكونُ مع النَّاجينَ والمُبعَدينَ عنِ النارِ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لَئِن كُنتَ أقصَرتَ الخُطبةَ، لقد أعرَضتَ المَسألةَ"، وهذا مِن فَصيحِ كَلامِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَحاسِنِ كَلامِه، والمَعنى: إنَّك وإنْ جِئتَ بعِبارةٍ قَصيرةٍ فقد طَلَبتَ أمْرًا عَظيمًا، ثم بَيَّنَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا العَمَلَ الذي يَدخُلُ به الجَنَّةَ بقَولِه: "أعتِقِ النَّسَمةَ" وهي الرُّوحُ أوِ النَّفْسُ، والمُرادُ بها هنا: العَبدُ والأَمةُ المَملوكَيْنِ، والمُرادُ بعِتقِهم: تَحريرُهم مِنَ العُبوديَّةِ، بأنْ تَشتَريَه مِن مالِكِه وتُحَرِّرَه، "وفُكَّ الرَّقَبةَ" ادفَعِ المالَ الذي يُخَلِّصُ إنسانًا مِن دَيْنٍ أو رَهْنٍ أو أسْرٍ أو عُبوديَّةٍ ورِقٍّ، فكَأنَّه كانَ مَربوطًا ومَحبوسًا لِحينِ دَفعِ هذا المالِ، "فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أوَلَيسَتا واحِدًا؟" وهذا سُؤالٌ لِبَيانِ اللَّبسِ الحاصِلِ عِندَه في المَعنيَيْنِ، وهلِ الإعتاقُ والفَكُّ بمَعنًى واحِدٍ؟ "فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا"؛ فبَيَّنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الفَرقَ بَينَ الكَلِمتَيْنِ، "عِتقُ النَّسَمةِ: أنْ تُفرَدَ بعِتقِها"؛ فتَنفَرِدَ وَحدَكَ بعِتقِها كامِلةً مِن مالِكَ، "وفَكُّ الرَّقَبةِ أنْ تُعينَ في ثَمَنِها"، أنْ تُشارِكَ في عِتقِها، "والمِنحةُ الوَكوفُ"، وهي العَطيُّةُ، والمُرادُ هنا ناقةٌ أو شاةٌ أو حَيوانٌ حَلوبٌ، يُعطيها صاحِبُها لِغَيرِه لِيَنتَفِعَ بلَبَنِها ووَبَرِها مادامَتْ تُدِرُّ لَبَنًا، ثم يَرُدُّها إلى صاحِبِها إذا جَفَّ لَبَنُها، ومعنى (الوَكوفُ): كَثيرةُ اللَّبَنِ "والفَيءُ" التَّعَطُّفُ والرُّجوع بالبِرِّ "على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ" على القَريبِ الظَّالِمِ لكَ بقَطعِ الصِّلةِ وغَيرِه، "فإنْ لم تُطِقْ" فإن لم يَكُنْ في استِطاعَتِكَ فِعلُ شَيءٍ مِمَّا سَبَقَ، "فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا مِن خَيرٍ"، فامنَعْ لِسانَكَ عن قَولِ الشَّرِّ، واكتَفِ بقَولِ الخَيرِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ ذلك أضعَفُ الإيمانِ. وفي الحَديثِ: تَوجيهٌ لِلمُسلِمِ بأنْ يَتتَبَّعَ أسبابَ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وبالسُّؤالِ عنها. وفيه: بَيانُ فَضلِ عِتقِ المَماليكِ وتَحريرِهم. وفيه: بَيانُ فَضلِ فَكِّ الرَّقَبةِ مِمَّا يَربِطُها عِندَ غَيرِها مِنَ الدُّيونِ والأسْرِ والعِتقِ أيضًا. وفيه: بَيانُ فَضلِ العَطيَّةِ والصَّدَقةِ مِن ألبانِ الحَيواناتِ. وفيه: بَيانُ فَضيلةِ إمساكِ اللِّسانِ عنِ الشَّرِّ مع نُطقِه بالخَيرِ.