موسوعة التفسير

سُورةُ القَمَرِ
الآيات (47-55)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غريب الكلمات:

مَسَّ: أي: إصابةَ وألَمَ، وأصلُ (مسس): يدُلُّ على جَسِّ الشَّيءِ باليَدِ .
سَقَرَ: أي: جَهنَّمَ، وهي عَلَمٌ مُشتَقٌّ مِنَ السَّقْرِ: وهو التِهابُ النَّارِ، وأصلُ (سقر): يدُلُّ على إحراقٍ .
بِقَدَرٍ: أي: بقَضاءٍ مَعلومٍ سابِقٍ في الأزَلِ، وبتَقديرٍ وحِكمةٍ، أو: بمِقدارٍ قدَّرْناه وقضَيْناه، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه .
كَلَمْحٍ: أي: كخَطْفةٍ، واللَّمحُ: النَّظرُ بسُرعةٍ، وأصلُ ذلك مِن لَمَحْتُ البَرقَ، أي: أبصرتُ لَمعانَه، وهو أسرَعُ الأشياءِ زَوالًا .
أَشْيَاعَكُمْ: أي: أشباهَكم ونُظراءَكم في الكُفرِ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ .
مُسْتَطَرٌ: أي: مَكتوبٌ مَسطورٌ، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على الاصطفافِ .
وَنَهَرٍ: أي: أنهارٍ، وحَّدَ وأراد الجَمْعَ، والنَّهْرُ: مَجرى الماءِ؛ وسُمِّيَ نهْرًا لأنَّه يَنهَرُ الأرضَ، أي: يَشُقُّها، وأصلُه يدُلُّ على تفتُّحٍ شَيءٍ أو فَتْحِه .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
قَولُه تعالى: كُلَّ شَيْءٍ: كُلَّ: مَنصوبٌ على الاشتِغالِ ؛ مَفعولٌ به لفِعلٍ مَحذوفٍ تقديرُه «خلَقْنا» يُفَسِّرُه ما بَعْدَه، والفِعلُ المقدَّرُ مع مَفعولِه في محلِّ رَفعٍ خَبَرُ «إنَّ»، أي: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَدَرٍ. خَلَقْنَاهُ جُملةٌ تَفسيريَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. بِقَدَرٍ: جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ حالٌ، أي: مُقَدَّرًا مُحكَمًا، أو مُلتَبِسًا بقَدَرٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا ما سينزِلُ بالمشركينَ مِن عذابٍ يومَ القيامةِ، ومفصِّلًا في ذلك: إنَّ المُشرِكينَ في ضَلالٍ وفي عَناءٍ وشَقاءٍ وعَذابٍ يومَ يُسحَبونَ في النَّارِ على وُجوهِهم، ويُقالُ لهم: ذُوقوا ألَمَ النَّارِ وعَذابَها.
ثمَّ يبيِّنُ تعالى مَظاهِرَ كمالِ قدرتِه وحِكمتِه، فيقولُ: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَضاءٍ سابِقٍ مُحكَمٍ، وما أمْرُنا إذا أرَدْنا شَيئًا إلَّا كَلِمةٌ واحِدةٌ -كُنْ- فيُوجَدُ ما أرَدْناه كلَمْحِ البَصَرِ!
ثمَّ يبيِّنُ تعالى ما يدُلُّ على نفاذِ هذه القدرةِ وسرعتِها، فيقولُ: ولقد أهلَكْنا أشباهَكم وأمثالَكم في الكُفرِ -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي كفَرَت باللهِ، وكَذَّبت رُسُلَها، فهل مِن مُتذَكِّرٍ مُعتَبِرٍ بإهلاكِ اللهِ للكُفَّارِ السَّابِقينَ؛ فيَحذَرَ أن يحُلَّ به ما حَلَّ بهم؟!
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ أعمالَ الإنسانِ مسجلةٌ عليه، فيقولُ: وكُلُّ شَيءٍ فَعَلوه موجودٌ في صحائفِ أعمالِهم الَّتي تُحصِيها الملائِكةُ عليهم، وكُلُّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مِنَ الأشياءِ مَكتوبٌ مَسطورٌ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ ببِشارةٍ عظيمةٍ للمتَّقينَ، فيقولُ: إنَّ المتَّقينَ في جَنَّاتٍ وأنهارٍ؛ في مَجلِسِ حَقٍّ ثابتٍ، كامِلٍ في نَعيمِه، عِندَ مَلِكٍ عَظيمٍ بالِغِ القُدرةِ سُبحانَه!

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47).
أي: إنَّ المُشرِكينَ في ضَلالٍ، وفي عَناءٍ وشَقاءٍ وعَذابٍ .
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48).
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
أي: يومَ يُجَرُّ أولئك المُجرِمونَ في النَّارِ على وُجوهِهم الَّتي هي أشرَفُ أعضائِهم الظَّاهِرةِ، فيُهانونَ بذلك ويُخْزَونَ !
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.
أي: يُقالُ لهم: ذُوقوا ألَمَ النَّارِ وعَذابَها .
قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30].
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء مُشرِكو قُرَيشٍ يُخاصِمونَ رَسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في القَدَرِ، فنَزَلَت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) .
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49).
أي: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَضاءٍ سابِقٍ مَضبوطٍ مُحكَمٍ .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كَتَب اللهُ مَقاديرَ الخَلائِقِ قبْلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ، وعَرشُه على الماءِ )) .
وعن طاوسٍ، قال: أدرَكْتُ ناسًا مِن أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولونَ: كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ، قال: وسَمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يَقولُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزُ والكَيْسُ ) .
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ تعالى أنَّ كُلَّ شَيءٍ بفِعْلِه؛ بَيَّن يُسْرَ ذلك وسُهولتَه عليه، فقال :
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50).
أي: وما أمْرُنا إذا أرَدْنا شَيئًا إلَّا أن نَقولَ له مَرَّةً واحِدةً: كُنْ، فيُوجَدُ ما أرَدْناه كسُرعةِ اللَّمْحِ بالبَصَرِ بلا تأخيرٍ !
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ بتَمامِ قُدرتِه، وكان إهلاكُ مَن ذُكِرَ مِن الكُفَّارِ، وإنجاءُ مَن ذُكِرَ مِن الأبرارِ في هذه السُّورةِ نَحوًا مِمَّا ذُكِرَ مِن أَمرِ السَّاعةِ في السُّهولةِ والسُّرعةِ- دَلَّ على ذلك بإنجاءِ أوليائِه، وإهلاكِ أعدائِه؛ فذَكَّرَ بهم جُملةً، وبما كان مِن أحوالِهم .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ.
أي: ولقد أهلَكْنا أشباهَكم وأمثالَكم في الكُفرِ -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي كفَرَت باللهِ، وكَذَّبت رُسُلَها .
قال الله تبارك وتعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: 54] .
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أي: فهل مِن مُتذَكِّرٍ يَعلَمُ أنَّ سُنَّةَ اللهِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ واحِدةٌ، ويتَّعِظُ ويَعتَبِرُ بإهلاكِ اللهِ للكُفَّارِ السَّابِقينَ، فيَحذَرَ أن يكونَ مِثْلَهم ؟!
كما قال تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16 - 18] .
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَمَّت الدَّلالةُ على إحاطةِ القُدرةِ بما شُوهِدَ مِن الأفعالِ الهائِلةِ الَّتي لا تَسَعُها قُدرةُ غَيرِه سُبحانَه، وكانوا يَظُنُّونَ أنَّ أحوالَه غَيرُ مَضبوطةٍ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ ضَبطُها، ولا يَسَعُها عِلمُ عالمٍ، ولا سيَّما إذا ادَّعى أنَّه واحِدٌ؛ شَرَع في إتمامِ الإخبارِ بعَظَمةِ القدرةِ، بالإخبارِ بأنَّ أفعالَهم كُلَّها مكتوبةٌ، فَضلًا عن كَونِها محفوظةً؛ فقال :
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52).
أي: وكُلُّ شَيءٍ فَعَلوه موجودٌ في الصَّحائِفِ والدَّواوينِ الَّتي تُحصِي الحَفَظةُ مِنَ الملائكةِ أعمالَهم فيها .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70].
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خَصَّهم عَمَّ بقَولِه -واعِظًا ومُخَوِّفًا ومُحَذِّرًا- بأنَّ كُلَّ شَيءٍ مَحفوظٌ فمَكتوبٌ فمَعروضٌ على الإنسانِ يومَ الجَمعِ :
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53).
أي: وكُلُّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مِنَ الأشياءِ مَكتوبٌ مَسطورٌ .
كما قال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال سُبحانَه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54).
أي: إنَّ الَّذين اتَّقَوا سَخَطَ اللهِ وعَذابَه بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه- في جَنَّاتٍ وأنهارٍ جاريةٍ فيها .
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ.
أي: في مَجلِسِ حَقٍّ، ثابتٍ لا يَزولُ، كامِلٍ في نَعيمِه، لا باطِلَ فيه ولا لَغْوَ ولا آثامَ .
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
أي: عِندَ مَلِكٍ عَظيمٍ تامِّ المُلْكِ، بالِغِ القُدرةِ على كلِّ شَيءٍ، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ للهِ تعالى، وأنَّ أفعالَه مخلوقةٌ للهِ، وأنَّ كلَّ شيءٍ قد قُدِّرَ وانتهى، وإذا كان كذلك فلْيَلْجأِ الإنسانُ إذا أصابتْه ضَرَّاءُ إلى اللهِ الخالقِ، وإذا أراد السَّرَّاءَ أيضًا يلتجِئُ إلى اللهِ الخالقِ، لا يَفْخَرَنَّ ويُعْجَبَنَّ بنَفْسِه إذا حَصَلَ له مطلوبٌ، ولا ييأسَنَّ إذا أصابَه المكروبُ؛ فالأمرُ بيدِ اللهِ .
2- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أنَّه يَجِبُ الحذَرُ مِن المخالفةِ؛ فإيَّاك أنْ تُخالِفَ بقَولِك، أو فِعْلِك، أو تَرْكِك؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ مَكتوبٌ !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أنَّ الضَّلالَ والشَّقاءَ مُتلازِمانِ، لا يَنفكُّ أحدُهما عن الآخَرِ .
2- قَول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ نصٌّ في أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خالقُ كُلِّ شيءٍ، ومُقَدِّرُه .
فالآية حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ؛ لأنَّ أفعالَنا شَيءٌ، فتكونُ داخِلةً في كُلِّ شَيءٍ، فتكونُ مَخلوقةً للهِ تعالى .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يُنكِرونَ أنَّ اللهَ تعالى يشاءُ أفعالَ العِبَادِ، ويقولونَ: إنَّ الإنسانَ خالِقُ عَمَلِه، مُريدٌ له، مُستَقِلُّ به، وأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا إرادةَ له به ؛ فإنَّ قَولَه تعالى: كُلَّ شَيْءٍ يعني: من الأشياءِ المخلوقةِ -صَغيرِها وكَبيرِها- خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أي: قَضاءٍ وحُكمٍ وقياسٍ مَضبوطٍ، وقِسمةٍ مَحدودةٍ، وقوَّةٍ باِلغةٍ، وتدبيرٍ مُحكَمٍ، في وَقتٍ مَعلومٍ، ومكانٍ مَحدودٍ، مكتوبٌ ذلك في اللَّوحِ قبلَ وُقوعِه .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أنَّ خَلْقَ اللهِ تعالى الأشياءَ مُصاحِبٌ لقوانينَ جاريةٍ على الحِكمةِ، وهذا المعنى قد تكَرَّرَ في القُرآنِ، كقَولِه تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] ، ومِمَّا يَشملُه عُمومُ كُلِّ شَيءٍ خَلقُ جَهنَّمَ للعَذابِ، وفيه إحاطةُ عِلمِ اللهِ تعالى بكُلِّ مَوجودٍ، وإيجادُ الموجوداتِ بحِكمةٍ، وصُدورُها عن إرادةٍ وقُدرةٍ .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أنَّ كلَّ شيءٍ وَقَعَ في السَّمَواتِ والأرضِ فإنَّه مُطابِقٌ لعِلْمِه السَّابقِ، ولِمَا كَتَبَه في اللَّوحِ المحفوظِ .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى إذا أمَرَ بشَيءٍ كَونًا فإنَّه لا يُعيدُ الأمرَ مرَّةً ثانيةً، بل يكونُ الشَّيءُ بأوَّلِ أمْرٍ، والَّذي يُعيدُ الأمرَ والكَلامَ هو العاجِزُ، وأمَّا القادِرُ فلا يُعيدُه .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ دَلالةٌ على كَمالِ قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ أمْرَه التَّكوينيَّ كَلِمةٌ واحِدةٌ، وقد يُورَدُ على المَرءِ سؤالٌ: لماذا خَلَقَ اللهُ تعالى السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: 38] ؟ وهل هذا يُنافي قَولَه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ؟ ولماذا يَخلُقُ الجنينَ في بطْنِ أمِّه لمدَّةِ تِسعةِ أشهُرٍ، وما أشْبَهَ ذلك؟
الجوابُ: أنَّ أفعالَه سُبحانَه مَقرونةٌ بحِكمةٍ، وأنَّه سُبحانَه وتعالى جَعَل الأسبابَ مَربوطةً بمُسبَّباتِها؛ فلا بُدَّ مِن أنْ يكونَ هناك سَبَبٌ، ويَنتُجَ عنه مُسبَّبٌ، ولا بُدَّ مَن أنْ يكونَ هذا السَّببُ مُطابِقًا مُوافِقًا؛ حتَّى يَتِمَّ الخَلقُ على كَمالِه، فهذا الخَلقُ يحتاجُ إلى مُقدِّماتٍ وأسبابٍ يَحصُلُ بها كَمالُ الخَلقِ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى قادِرٌ على أن يَخلُقَ الجَنينَ في بَطنِ أُمِّه بدونِ أنْ يَتناوَلَها الرَّجُلُ -كما حَصَلَ في عيسى عليه السَّلامُ- ومع هذا فإنَّ اللهَ تعالى قد جعَلَ لهذا أسبابًا: اتِّصالُ ماءِ الرَّجُلِ بالمرأةِ، ثمَّ بعدَ ذلك الجنَينُ يَتطوَّرُ شيئًا فشيئًا حتَّى يَصِلَ إلى الغايةِ، ثمَّ إذا كان قابِلًا لأنْ يَخرُجَ إلى الدُّنيا خرَجَ، ثمَّ مع ذلك يَنمو شيئًا فشيئًا، لا يأتيه العَقلُ كامِلًا دَفعةً واحِدةً، ولا يأتيه النُّمُوُّ دَفعةً واحِدةً، ولكِنَّه على وَفْقِ الحِكمةِ، كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6] ؛ فكُلُّ خَلقٍ منها يَحصُلُ بكَلِمةٍ واحِدةٍ كلَمحِ البَصَرِ، على أنَّ بَعضَ المخلوقاتِ تتولَّدُ منه أشياءُ وآثارٌ، فيُعتبَرُ تَكوينُه عندَ إيجادِ أوَّلِه . ومِن جِهةٍ ثانيةٍ: أنَّه سُبحانَه أراد أن يُعَلِّمَ خَلْقَه التَّمَهُّلَ في الأُمورِ، والتَّدَرُّجَ فيها .
8- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ تعميمٌ للحُكمِ، أي: ليست الكِتابةُ مُقتَصِرةً على ما فَعَلوه، بل ما فعَلَه غَيرُهم أيضًا مَسطورٌ؛ فلا يَخرُجُ عن الكُتُبِ صَغيرةٌ ولا كبيرةٌ .
9- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أنَّ الذُّنوبَ في نفْسِها تنَقِسمُ إلى كبائرَ وصغائِرَ .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ سؤالٌ: أنَّه ذَكَر هنا نَهَرًا واحِدًا، وفي مَواضِعَ أُخَرَ ذَكَرَ أنهارًا.
الجوابُ: أنَّ الإفرادَ باعتِبارِ الجِنسِ؛ فلا يُنافي التَّعَدُّدَ، فالمرادُ جِنسُ الأنهارِ .
11- في قَولِه تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ لم يقُلْ: «في مَجلِسِ صِدقٍ»؛ لأنَّ القُعودَ جُلوسٌ فيه مُكثٌ، ومنه: «قواعِدُ البَيتِ»، وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور: 60] ، ولا يُقالُ: «جوالِسُ»، فأشار إلى دَوامِه وثَباتِه، ولأنَّ حُروفَ «ق ع د» كيف دارت تدُلُّ على ذلك، والاستِعمالُ في القُعودِ يدُلُّ على ذلك، ومنه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 95] ، وقَولُه: مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران: 121] إشارةً إلى الثَّباتِ، وكذا قَولُه: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق: 17] ، فذَكَر المَقعَدَ؛ لِدَوامِه أو لطُولِه، وقال في المجلِسِ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ [المجادلة: 11] إشارةً إلى الحَرَكةِ، وقال: انْشُزُوا [المجادلة: 11] إشارةً إلى تَركِ الجُلوسِ، أي: هو مَجلِسٌ؛ فلا يَجِبُ مُلازَمتُه، بخِلافِ المَقعَدِ .
12- في قَولِه تعالى: مُقْتَدِرٍ إشارةٌ إلى مُخالَفةِ مَعنى القُربِ منه مِن معنى القُربِ مِن الملوكِ؛ فإنَّ الملوكَ يُقَرِّبونَ مَن يكونُ مِمَّن يُحِبُّونَه، ومِمَّن يَرهَبونَه؛ مخافةَ أن يَعصَوا عليه، ويَنحازُوا إلى عَدُوِّه فيَغلِبوه، واللهُ تعالى قال: مُقْتَدِرٍ لا يُقَرِّبُ أحَدًا إلَّا بفَضلِه !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ بَيانٌ لقولِه: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46]. واقترانُ الكلامِ بحرْفِ (إنَّ) لفائدتَينِ؛ إحداهُما: الاهتِمامُ بصَريحِه الإخباريِّ. وثانِيهما: تأْكيدُ ما تَضمَّنَه مِن التَّعريضِ بالمُشرِكين؛ لأنَّ الكلامَ وإنْ كان مُوجَّهًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو لا يَشُكُّ في ذلك، فإنَّ المُشرِكين يَبلُغُهم ويَشيعُ بيْنَهم وهم لا يُؤمِنون بعَذابِ الآخرةِ، فكانوا جَديرين بتأْكيدِ الخبَرِ في جانبِ التَّعريضِ؛ فتَكونُ (إنَّ) مُستعمَلةً في غرَضَيها مِن التَّوكيدِ والاهتمامِ .
- والتَّعبيرُ بالمُجرمينَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإلْصاقِ وصْفِ الإجرامِ بهم .
- و(سُعُر) جمْع سَعيرٍ، وهو النَّارُ، وجُمِعَ السَّعيرُ؛ لأنَّه قَويٌّ شَديدٌ ، وذلك على قول في التَّفسيرِ.
- قولُه: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ السَّحْبُ: الجَرُّ، وهو في النَّارِ أشدُّ مِن مُلازَمةِ المكانِ؛ لأنَّه به يَتجدَّدُ مُماسَّةُ نارٍ أُخرى؛ فهو أشدُّ تَعذيبًا. وجُعِل السَّحبُ على الوُجوهِ؛ إهانةً لهم .
- وقولُه: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ، والجُملةُ مُستأنَفةٌ .
- وصِيغةُ الأمْرِ ذُوقُوا مُستعمَلةٌ في الإهانةِ والمُجازاةِ .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ استِئنافٌ وقَعَ تذْييلًا لِما قبْلَه مِن الوعيدِ والإنذارِ والاعتِبارِ بما حلَّ بالمُكذِّبين، وهو أيضًا تَوطئةٌ لقولِه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، والمعْنى: إنَّا خلَقْنا وفعَلْنا كلَّ ما ذُكِرَ مِن الأفعالِ، وأسبابِها، وآلاتِها، وسلَّطْناه على مُستحقِّيه؛ لأنَّا خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بقدَرٍ، أي: فإذا علِمْتُم هذا فانتَبِهوا إلى أنَّ ما أنتم عليه مِن التَّكذيبِ والإصرارِ مُماثلٌ لِما كانت عليه الأُمَمُ السَّالفةُ .
- ولَمَّا تَضمَّنتِ الآياتُ السَّابقةُ معْنى ادِّعاءِ المُشرِكين القُدرةَ والقُوى لأنفُسِهم، والوعيدَ بالإهلاكِ عاجِلًا وآجلًا، والوعْدَ للمؤمنينَ بالانتصارِ منهم؛ جِيءَ بقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ تَوكيدًا للوعْدِ والوعيدِ؛ يعْني: أنَّ هذا الوعدَ حقٌّ، وصِدقُ الموعدِ والموعودِ مُثبَتٌ في اللَّوحِ، مُقدَّرٌ عندَ اللهِ، لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، وذلك على اللهِ يَسيرٌ .
- واقتِرانُ الكَلامِ بحرْفِ (إنَّ) للتَّوكيدِ والاهتمامِ .
- وقد أشار إلى أنَّ الجزاءَ مِن مُقتضَى الحِكمةِ قولُه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 85، 86]، وقولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 38- 40]، فتَرى هذه الآياتِ وأشباهَها تُعقِّبُ ذِكرَ كَونِ الخلْقِ كلِّه لحِكمةٍ بذِكرِ السَّاعةِ ويومِ الجزاءِ. فهذا وَجْهُ تَعقيبِ آياتِ الإنذارِ والعِقابِ المذكورةِ في هذه السُّورةِ بالتَّذييلِ بقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ بعْدَ قولِه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]، وسيَقولُ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ [القمر: 51].
- والباءُ في بِقَدَرٍ للمُلابَسةِ، والمَجرورُ ظرْفٌ مُستقَرٌّ ؛ فهو في حُكْمِ المَفعولِ الثَّاني لفِعلِ خَلَقْنَاهُ؛ لأنَّه مَقصودٌ بذاتِه؛ إذ ليس المَقصودُ الإعلامَ بأنَّ كلَّ شَيءٍ مَخلوقٌ للهِ؛ فإنَّ ذلك لا يَحتاجُ إلى الإعلامِ به بلْهَ تأْكيدَه، بلِ المَقصودُ إظهارُ معْنى العِلمِ والحِكمةِ في الجَزاءِ .
- وقدِ انتصَبَ كُلِّ شَيْءٍ على المَفعوليَّةِ لـ خَلَقْنَاهُ على طَريقةِ الاشتِغالِ ، وتَقديمُه على خَلَقْنَاهُ؛ ليَتأكَّدَ مَدلولُه بذِكرِ اسمِه الظَّاهرِ ابتداءً، وذِكرِ ضَميرِه ثانيًا، وذلك هو الَّذي يَقْتضي العُدولَ إلى الاشتِغالِ في فَصيحِ الكلامِ العرَبيِّ، فيَحصُلَ تَوكيدٌ للمَفعولِ بعْدَ أنْ حصَلَ تَحقيقُ نِسبةِ الفِعلِ إلى فاعِلِه بحرْفِ (إنَّ) المُفيدِ لتَوكيدِ الخبَرِ، ولِيَتَّصِلَ قولُه: بِقَدَرٍ بالعامِلِ فيه، وهو خَلَقْنَاهُ؛ لئلَّا يَلتبِسَ بالنَّعتِ لـ شَيْءٍ، لو قِيل: إنَّا خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بقدَرٍ، فيُظَنُّ أنَّ المُرادَ: إنَّا خلَقْنا كلَّ شيءٍ مُقدَّرٍ، فيَبْقى السَّامعُ مُنتظِرًا لخبَرِ (إنَّ) .
3- قولُه تعالَى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ عطْفٌ على قولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]؛ فهو داخلٌ في التَّذييلِ، أي: خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بعِلمٍ، فالمَقصودُ منه وما يَصلُحُ له مَعلومٌ لنا، فإذا جاء وقْتُه الَّذي أعدَدْناه حصَلَ دَفْعةً واحدةً، لا يَسبِقُه اختبارٌ ولا نظَرٌ ولا بَداءٌ . والغرَضُ مِن هذا تَحذيرُهم مِن أنْ يَأخُذَهم العَذابُ بَغتةً في الدُّنيا عندَ وُجودِ مِيقاتِه، وسبْقِ إيجادِ أسبابِه ومُقوِّماتِه الَّتي لا يَتفطَّنون لوُجودِها، وفي الآخرةِ بحُلولِ الموتِ، ثم بقِيامِ الساعةِ .
- وعطْفُ هذا عَقِبَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، مُشعِرٌ بتَرتُّبِ مَضمونِه على مَضمونِ المَعطوفِ عليه في التَّنبيهِ والاستدلالِ، حسَبَ ما هو جارٍ في كَلامِ البُلغاءِ مِن مُراعاةِ تَرتُّبِ مَعاني الكلامِ بَعضِها على بعْضٍ .
- صِفةُ وَاحِدَةٌ وصْفٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه الكلامُ هو خبَرٌ عن أَمْرِنَا، والتَّقديرُ: إلَّا كَلمةٌ واحدةٌ، وهي كَلمةُ (كُنْ)، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
- وصحَّ الإخبارُ عن (أمْر) -وهو مُذكَّرٌ- بـ وَاحِدَةٌ -وهو مُؤنَّثٌ- باعتبارِ أنَّ ماصَدَقَ (الأمْر) هنا هو أمْرُ التَّسخيرِ، وهو الكلِمةُ، أي: كَلمةُ (كُنْ) .
- وقولُه: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في مَوضعِ الحالِ مِن أَمْرِنَا باعتِبارِ الإخبارِ عنه بأنَّه كَلمةٌ واحدةٌ، أي: حُصولُ مُرادِنا بأمْرِنا كلَمْحٍ بالبصَرِ، وهو تَشبيهٌ في سُرعةِ الحُصولِ، أي: ما أمْرُنا إلَّا كلمةٌ واحدةٌ سَريعةُ التَّأثيرِ في المُتعلِّقةِ هي به كسُرعةِ لَمْحِ البصَرِ، وهذا التَّشبيهُ في تَقريبِ الزَّمانِ أبلَغُ ما جاء في الكَلامِ العرَبيِّ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وقال في سُورةِ (النَّحلِ): وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] ؛ فزِيدَ هنالك: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ لأنَّ المَقامَ للتَّحذيرِ مِن مُفاجَأةِ النَّاسِ بها قبْلَ أنْ يَستعِدُّوا لها؛ فهو حَقيقٌ بالمُبالَغةِ في التَّقريبِ، بخِلافِ ما في هذه الآيةِ؛ فإنَّه لتَمثيلِ أمْرِ اللهِ، وذلك يَكفي فيه مُجرَّدُ التَّنبيهِ؛ إذ لا يَتردَّدُ السَّامعُ في التَّصديقِ به .
4- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الْتُفِتَ مِن طَريقِ الغَيبةِ إلى الخِطابِ، ومَرجِعُ الخِطابِ هم المُشرِكون؛ لظُهورِ أنَّهم المَقصودُ بالتَّهديدِ، وهو تَصريحٌ بما تَضمَّنَه قولُه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]؛ فهو بمَنزِلةِ النَّتيجةِ لقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ إلى كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 49، 50].
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ بالإهلاكِ، وبأنَّه يُفاجِئُهم قياسًا على إهلاكِ الأُمَمِ السَّابقةِ، وهذا المَقصَدُ هو الَّذي مِن أجْلِه أُكِّدَ الخبَرُ بلامِ القسَمِ وحرْفِ (قدْ)، أمَّا إهلاكُ مَن قبْلَهم فهو مَعلومٌ لا يَحتاجُ إلى تأْكيدٍ. ويجوزُ جعْلُ مَناطِ التَّأكيدِ إثباتَ أنَّ إهلاكَهم كان مِن أجْلِ شِركِهم وتَكذيبِهم الرُّسلَ. وتَفريعُ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَرينةٌ على إرادةِ المَعنيَينِ؛ فإنَّ قومَ نوحٍ بقُوا أزمانًا، فما أقْلَعوا عن إشراكِهم حتَّى أخَذَهم الطُّوفانُ بَغتةً، وكذلك عادٌ وثَمودُ كانوا غيرَ مُصدِّقينَ بحُلولِ العَذابِ بهم، فلمَّا حلَّ بهم العذابُ حلَّ بهم بَغتةً، وقومُ فِرعون خرَجوا مُقتَفينَ مُوسى وبني إسرائيلَ، واثِقينَ بأنَّهم مُدرِكوهم، واقتَرَبوا منهم، وظَنُّوا أنَّهم تَمكَّنوا منهم، فما راعَهُم إلَّا أنْ أنْجى اللهُ بني إسرائيلَ، وانطبَقَ البحرُ على الآخَرينَ .
5- قولُه تعالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ يَجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ المَرفوعُ في قولِه: فَعَلُوهُ عائدًا إلى أَشْيَاعَكُمْ [القمر: 51]، والمعْنى: أهلَكْناهم بعَذابِ الدُّنيا وهيَّأْنا لهم عَذابَ الآخِرةِ، فكُتِبَ في صَحائفِ الأعمالِ كلُّ ما فَعَلوه مِن الكُفْرِ وفُروعِه؛ فالكتابةُ في الزُّبُرِ -مع ثُبوتِها حقيقةً- وقَعَت هنا كِنايةً عن لازِمِها، وهو المُحاسَبةُ به فيما بعْدُ، وعن لازِمِ لازِمِها، وهو العِقابُ بعْدَ المُحاسَبةِ .
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالمُخاطَبين بأنَّهم إذا تَعرَّضوا لِما يُوقِعُ عليهم الهلاكَ في الدُّنيا، فليس ذلك قُصارى عَذابِهم؛ فإنَّ بعْدَه حِسابًا عليه في الآخرةِ يُعذَّبون به .
- والزُّبُرِ جمْعُ زَبورٍ، وهو الكِتابُ، مُشتَقٌّ مِن الزَّبْرِ، وهو الكِتابةُ، وجُمِعَت الزُّبرُ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ كِتابَ أعمالِه .
6- قولُه تعالَى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ كالتَّذييلِ لقولِه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر: 52]؛ فـ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أعمُّ مِن وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ، والمعْنى: وكلُّ شَيءٍ حَقيرٍ أو عظيمٍ مَكتوبٌ مَسطورٌ، أي: في عِلمِ اللهِ تعالى، أي: كلُّ ذلك يَعلَمُه اللهُ ويُحاسِبُ عليه، وذلك كِنايةٌ عن الجَزاءِ عليه؛ فكانَ ذلك جامِعًا للتَّبشيرِ والإنذارِ .
7- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّ كلَّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مُستطَرٌ على إرادةِ أنَّه مَعلومٌ ومُجازًى عليه، وقد عُلِمَ جَزاءُ المُجرِمين مِن قولِه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47]؛ كانت نفْسُ السَّامعِ بحيث تَتشوَّفُ إلى مُقابِلِ ذلك مِن جَزاءِ المُتَّقينَ، وجرْيًا على عادةِ القُرآنِ مِن تَعقيبِ النِّذارةِ بالبِشارةِ والعكْسِ .
- وافتِتاحُ هذا الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به .
- و(فِي) للظَّرفيةِ الَّتي هي بمعْنى التَّلبُّسِ القَويِّ كتَلبُّسِ المَظروفِ بالظَّرفِ، والمُرادُ في نَعيمِ جنَّاتٍ ونهَرٍ، وبهذا الاعتِبارِ عُطِفَ (نَهَرٍ) على جَنَّاتٍ؛ إذ ليس المُرادُ الإخبارَ بأنَّهم ساكِنون جنَّاتٍ؛ فإنَّ ذلك يُغْني عنه قولُه بعْدُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، ولا أنَّهم مُنغمِسون في أنهارٍ؛ إذ لم يكُنْ ذلك ممَّا يَقصِده السَّامِعون .
- قولُه: وَنَهَرٍ، أي: أنهارٍ كذلكَ، والإفرادُ للاكتِفاءِ باسمِ الجنسِ مُراعاةً للفواصلِ . والتَّنكيرُ فيه للتَّعظيمِ .
- وجُمِعَت الجنَّاتُ هنا إشارةً إلى سَعتِها وتَنوُّعِها، وأُفرِدَ النَّهَرُ قيل: لأنَّ المعْنى: «في خِلالِه»، فاستُغْنِيَ عن جَمْعِه، وجُمِعَ في قولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25] وغيرِه؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّه ليس في الجنَّةِ إلَّا نَهرٌ .
8- قولُه تعالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ إضافةُ مَقْعَدِ إلى صِدْقٍ مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى صِفتِه؛ للمُبالَغةِ في تَمكُّنِ الصِّفةِ منه، والمعْنى: هم في مَقعدٍ يَشتمِلُ على كلِّ ما يَحمَدُه القاعدُ فيه .
- ومَلِيكٍ: فَعيلٌ بمعْنى المالِكِ مُبالَغةً، وهو أبلَغُ مِن (مَلِكٍ) .
- ومُقْتَدِرٍ أبلَغُ مِن قادِرٍ .
- وتَنكيرُ مَلِيكٍ ومُقْتَدِرٍ؛ للتَّعظيمِ .