موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (51-54)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَلَا فَوْتَ: أي: فلا نجاةَ ولا هربَ، والفَوتُ: التَّفَلُّتُ والخلاصُ مِن العِقابِ، وأصلُه يدُلُّ على خِلافِ إدراكِ الشَّيءِ، والوُصولِ إليه [810] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/314)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/457)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/242). .
التَّنَاوُشُ: أي: التَّناوُلُ، وإدراكُ ما يُريدونَ، أو التَّناوُلُ السَّهلُ أو الخَفيفُ، وأكثرُ وُرودِه في شُرْبِ الإبلِ شُرْبًا خَفيفًا مِن الحوضِ ونحوِه، وأصلُ (نوش): يدُلُّ على تَناوُلِ الشَّيءِ [811] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 358)، ((تفسير ابن جرير)) (19/318)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/243). .
وَحِيلَ : أي: حُجِزَ ومُنِعَ، وأصلُ (حول): يدُلُّ على انفِصالِ الشَّيءِ عن غَيرِه [812] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تفسير النسفي)) (3/73). .
بِأَشْيَاعِهِمْ: أي: بأشباهِهم مِن كَفَرةِ الأُمَمِ؛ جمعُ شِيَعٍ، وشِيعٌ: جَمعُ شِيعةٍ، وهم كُلُّ قَومٍ اجتَمَعوا على أمرٍ، وأصلُه مِنَ التَّشييعِ، وهو التَّتَبُّعُ والتَّقويةُ [813] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 470)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 309)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (8/204)، ((تفسير النيسابوري)) (5/504). .
مُرِيبٍ: أي: مُوقِعٍ للتُّهمةِ، والرِّيبةُ: التُّهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قِسمٌ مِن الشَّكِّ، والرِّيبةُ: قَلَقُ النَّفْسِ، وانتفاءُ الطُّمَأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ [814] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/454)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/182)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((البسيط)) للواحدي (2/37)، ((تفسير البغوي)) (4/185)، ((تفسير الشوكاني)) (2/576)، ((مفردات القرآن)) للفراهي (ص: 358). .

المعنى الإجماليُّ:

يختمُ الله تعالى السُّورةَ بذِكْرِ حالِ الكافرينَ يومَ القيامةِ، فيقولُ: ولو تَرى -يا محمَّدُ- أولئك الكافِرينَ حينَ فَزِعوا عندَ رُؤيةِ عَذابِ اللهِ، فلا يَستَطيعونَ منه هَرَبًا، وأُخِذوا مِن مَكانٍ قَريبٍ، وقالوا: آمَنَّا بالحَقِّ! وكيف لهم تَناوُلُ الإيمانِ النَّافعِ في الآخرةِ، وقد ضيَّعوا وقتَ إمكانِه في دارِ الدُّنيا بكفرِهم فيها؟! وهم قد كَفَروا بالحَقِّ قبْلَ ذلك، ويَرمونَ بالغَيبِ مِن مَوضِعٍ بَعيدٍ!
ومُنِعوا عمَّا يَشتَهونَ كما فعَلَ اللهُ بنُظَرائِهم وأشباهِهم مِن الكُفَّارِ مِن قَبْلِهم؛ إنَّهم كانوا في شَكٍّ مُوقعٍ لهم الرِّيبةَ والتُّهمةَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا جاءهم التَّعريضُ بالتَّهديدِ مِن لازمِ المُتارَكةِ المدلولِ عليها بقَولِه: فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50] ؛ للعِلمِ بأنَّ الضَّالَّ يَستَحِقُّ العِقابَ؛ أتْبَعَ حالَهم حينَ يحُلُّ بهم الفَزَعُ مِن مُشاهَدةِ ما هُدِّدوا به [815] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/241). .
وأيضًا لَمَّا أبطل اللهُ تعالى شُبَهَ الكافرينَ، وخَتَم مِن صِفاتِه بما يَقتضي البَطشَ بمَن خالَفَه؛ قال عاطِفًا على: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ... [سبأ: 31] [816] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/536). :
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51).
أي: ولو تَرى الَّذين كَفَروا -يا محمَّدُ- حينَ فزَعِهم عندَ رُؤيتِهم عذابَ اللهِ [817] قال القرطبي: (المعنى: لو ترى إذا فَزِعوا في الدُّنيا عندَ نزولِ الموتِ أو غيرِه مِن بأسِ اللهِ تعالى بهم. رُوِي معناه عن ابنِ عبَّاسٍ. الحسَنُ: هو فزَعُهم في القُبورِ مِن الصَّيحةِ. وعنه: أنَّ ذلك الفزَعَ إنَّما هو إذا خرَجوا مِن قبورِهم. وقاله قَتادةُ. وقال ابنُ مَعْقِلٍ: إذا عايَنوا عِقابَ اللهِ يومَ القيامةِ. السُّدِّيُّ: هو فزَعُهم يومَ بدرٍ حينَ ضُرِبَت أعناقُهم بسيوفِ الملائكةِ، فلم يَستطيعوا فِرارًا ولا رجوعًا إلى التَّوبةِ). ((تفسير القرطبي)) (14/314). وقال ابنُ الجوزي: (قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: هو الجَيشُ الذي يُخسَفُ به بالبَيْداءِ، يَبقى منهم رجُلٌ فيُخبِرُ النَّاسَ بما لَقُوا، وهذا حديثٌ مشروحٌ في التَّفسيرِ، وأنَّ هذا الجَيشَ يَؤُمُّ البَيتَ الحرامَ لتخريبِه، فيُخسَفُ بهم). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/503). وقال ابنُ عثيمين عندَ تفسيرِ قَولِ الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ: (هذا يؤيِّدُ ما ذكره بعضُ المفَسِّرين -رحِمَهم اللهُ- بأنَّ قَولَه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ: 51] يعني: عندَ الموتِ؛ لأنَّه قال: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وهذا فِعلٌ ماضٍ يدُلُّ على أنَّ هذا أمرٌ قد مضَى على مَن سَبَق، ولو كان يومَ القيامةِ لم يكُنْ قد مضى مِن قبْلُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 318). ، فلا يَستطيعون منه بُعدًا، وأُخِذوا مِن موضِعٍ قَريبٍ، فلم يَتمَكَّنوا مِنَ الفِرارِ بَعيدًا [818] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/308، 313)، ((تفسير القرطبي)) (14/314)، ((تفسير ابن كثير)) (6/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/241، 242)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 309). قال ابنُ جرير: (وأخَذَهم اللهُ بعذابِه مِن موضعٍ قَريبٍ؛ لأنَّهم حيث كانوا فهم مِن اللهِ قريبٌ، لا يَبعُدونَ عنه). ((تفسير ابن جرير)) (19/314). .
وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52).
وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ.
أي: وقالوا: آمَنَّا بالحَقِّ [819] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/314)، ((تفسير القرطبي)) (14/315)، ((تفسير ابن كثير)) (6/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 684)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/242). قال ابن الجوزي: (في هاءِ الكنايةِ أربعةُ أقوالٍ: أحدها: أنَّها تعودُ إلى الله عزَّ وجلَّ، قاله مجاهدٌ. والثاني: إِلى البعثِ، قاله الحسنُ. والثالثُ: إِلى الرَّسولِ، قاله قتادةُ. والرابعُ: إِلى القرآنِ، قاله مقاتلٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/504). قال ابنُ جريرٍ: (آَمَنَّا بِهِ، يعني: آمنَّا باللهِ وبكتابِه ورسولِه). ((تفسير ابن جرير)) (19/314)، ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/528). وقال ابن عاشور: (وضميرُ بِهِ للوعيدِ أو ليومِ البعثِ أو للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو القرآنِ، إذا كان الضميرُ محكيًّا مِن كلامِهم؛ لأنَّ جميعَ ما يصِحُّ معادًا للضميرِ مشاهدٌ لهم وللملائكةِ، فأجمَلوا فيما يُرادُ الإيمانُ به؛ لأنَّهم ضاق عليهم الوقتُ، فاستعجَلوه بما يحسبونَه منجيًا لهم مِن العذابِ، وإن كان الضميرُ مِن الحكايةِ فهو عائدٌ إلى الحقِّ مِن قولِه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ [سبأ: 48] ؛ لأنَّ الحقَّ يتضمَّنُ ذلك كلَّه). ((تفسير ابن عاشور)) (22/242). .
وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
أي: وكيف لهم تناوُلُ الإيمانِ النَّافعِ في الآخرةِ، وقد ضيَّعوا وقتَ إمكانِه في دارِ الدُّنيا بكفرِهم فيها، وبَعُدوا عن محلِّ قَبولِه منهم، وصاروا إلى الدَّارِ الآخرةِ، فحِيلَ بيْنَهم وبيْنَه [820] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/316)، ((تفسير ابن كثير)) (6/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 684)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/275)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 311-313). قال الشنقيطي: (والمعنى: أنَّه يُستبعَدُ كلَّ الاستِبعادِ، ويَبعُدُ كلَّ البُعدِ أن يَتناوَلَ الكفَّارُ الإيمانَ النَّافِعَ في الآخرةِ بعدَما ضَيَّعوا ذلك وقتَ إمكانِه في دارِ الدُّنيا. وقيل: الاستِبعادُ لِرَدِّهم إلى الدُّنيا مرَّةً أخرى ليؤمِنوا. والأوَّلُ أظهَرُ، ويدُلُّ عليه قولُه قبْلَه: وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ، ومَن أراد تَناوُلَ شَيءٍ مِن مكانٍ بعيدٍ لا يُمكِنُه ذلك، والعِلمُ عندَ الله تعالى). ((أضواء البيان)) (6/275). وقال ابن جرير: (وأنَّى لهم التَّوبةُ والرَّجْعةُ الَّتي قد بَعُدَتْ منهم، وصاروا منها بمَوضِعٍ بعيدٍ أن يَتناوَلوها؛ وإنَّما وصَفَ ذلك المَوضِعَ بالبُعدِ؛ لأنَّهم قالوا ذلك في القيامةِ، فقال الله: أنَّى لهم بالتَّوبةِ المقبولةِ؟! والتَّوبةُ المقبولةُ إنَّما كانت في الدُّنيا، وقد ذهبتْ الدُّنيا، فصارتْ بعيدًا مِن الآخرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/316). ؟!
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53).
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.
أي: وهم قد كفَروا بالحَقِّ قبْلَ ذلك [821] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/319)، ((تفسير القرطبي)) (14/317)، ((تفسير ابن كثير)) (6/528)، ((تفسير الشوكاني)) (4/385). .
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
أي: ويَرمُونَ [822] قال ابنُ جرير: (يقول: وهم اليَومَ يَقذِفونَ بالغَيبِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/320). وقال ابنُ عاشور: (وَيَقْذِفُونَ عَطفٌ على كَفَرُوا، فهي حالٌ ثانية، والتَّقديرُ: وكانوا يَقذِفونَ بالغَيبِ. واختيارُ صيغةِ المضارعِ؛ لحكايةِ الحالةِ، كقَولِه تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/244). وقيل: المرادُ أنَّهم يَقذِفونَ بالغَيبِ في الآخرةِ. وممَّن رُوِيَ عنه هذا المعنى: ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/504). بالغَيبِ مِن مَوضِعٍ بعيدٍ [823] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/320)، ((الوسيط)) للواحدي (3/499)، ((تفسير ابن كثير)) (6/528، 529)، ((تفسير السعدي)) (ص: 684). قال ابن الجوزي: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي: يَرمونَ بالظَّنِّ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ، وهو بُعدُهم عن العِلمِ بما يقولونَ. وفي المرادِ بمقالتِهم هذه ثلاثةُ أقوال؛ أحدُها: أنَّهم يَظُنُّون أنَّهم يُرَدُّون إِلى الدُّنيا. قاله أبو صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ. والثَّاني: أنَّه قولُهم في الدُّنيا: لا بَعْثَ لنا ولا جنَّةَ ولا نارَ. قاله الحسَنُ وقَتادةُ. والثَّالث: أنَّه قَولُهم عن رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: هو ساحِرٌ، هو كاهِنٌ، هو شاعِرٌ. قاله مجاهِدٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/504). !
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54).
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ.
أي: ومُنِعوا عمَّا يَشتَهونَ [824] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/217، 218). في معنى قوله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ أقوالٌ؛ منها: أنَّ المرادَ: ما يَشتَهونَ مِن الإيمانِ وقَبولِه ونَفْعِه حينَئذٍ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: يحيى بنُ سلام، وابنُ جرير، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/772)، ((تفسير ابن جرير)) (19/321)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 570)، ((تفسير العليمي)) (5/436). وممَّن قال بهذا القولِ ونحوِه مِن السَّلفِ: الحسَنُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان (2/39، 40)، ((تفسير ابن جرير)) (19/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/529). وقيل: المرادُ: الشَّهواتُ واللَّذَّاتُ؛ كالأولادِ، والأموالِ، والخَدَمِ، والجنودِ. وممَّن قال بهذا القولِ: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 684). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمَر، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/529). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ: ابنُ كثير، فقال: (والصَّحيحُ: أنَّه لا مُنافاةَ بينَ القولَينِ؛ فإنَّه قد حِيل بيْنَهم وبيْنَ شَهَواتِهم في الدُّنيا، وبينَ ما طلَبوه في الآخرةِ فمُنِعوا منه). ((تفسير ابن كثير)) (6/529). وقيل: المرادُ بـ مَا يَشْتَهُونَ: الرُّجوعُ إلى الدُّنيا. وممَّن اختاره: السمرقندي، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/97)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 309). وقيل: المرادُ: التَّوبةُ والإيمانُ والرُّجوعُ إلى الدُّنيا. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، والثعلبيُّ، والبغويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/259)، ((تفسير الثعلبي)) (8/96)، ((تفسير البغوي)) (3/686)، ((تفسير الخازن)) (3/451). كما فَعَل اللهُ بنُظَرائِهم وأشباهِهم مِن الكافِرينَ مِن قَبْلِهم [825] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/321، 323)، ((تفسير الماتريدي)) (8/464)، ((تفسير القرطبي)) (14/318)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/155)، ((تفسير ابن كثير)) (6/529، 531)، ((تفسير السعدي)) (ص: 684). قال ابن الجوزي: (قال المفسِّرونَ: والمعنى: كما فُعِل بنُظَرائهم مِن الكفارِ، مِنْ قَبْلِ هؤلاء، فإنَّهم حِيل بيْنَهم وبينَ ما يَشتَهونَ. وقال الضَّحَّاكُ: هم أصحابُ الفيلِ حينَ أرادوا خرابَ الكعبةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/504). وقال ابنُ جُزَي: (و مِنْ قَبْلُ يحتمِلُ أن يتعلَّقَ بـ فُعِلَ، أو بِأَشْيَاعِهِمْ؛ على حسَبِ معنى ما قبْلَه). ((تفسير ابن جزي)) (2/170). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/427). وقال الألوسي: (مِنْ قَبْلُ متعلِّقٌ بِأَشْيَاعِهِمْ على أنَّ المرادَ مَن اتَّصفَ بصفتِهم مِنْ قَبْلُ أي: في الزَّمانِ الأوَّلِ، ويرجِّحُه أنَّ ما يُفعَلُ بجميعِهم في الآخرةِ إنَّما هو في وقتٍ واحدٍ. أو متعلِّقٌ بـ فُعِلَ إذا كانت الحيلولةُ في الدُّنيا). ((تفسير الألوسي)) (11/332). .
إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
أي: إنَّهم كانوا في شَكٍّ يُوجِبُ لهم الارتيابَ والتُّهمةَ والاضطِرابَ في شأنِ الحَقِّ [826] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/324)، ((الوسيط)) للواحدي (3/499)، ((تفسير القرطبي)) (14/318)، ((تفسير ابن كثير)) (6/531)، ((تفسير الشوكاني)) (4/386)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 319، 321). قال الشوكاني: (جملةُ: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ تعليلٌ لِما قَبْلَها). ((تفسير الشوكاني)) (4/386). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 319). قيل: المرادُ بشَكِّهِم المُريبِ: شَكُّهم في شأنِ العذابِ ونُزولِه بهم. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/540)، ((تفسير ابن جرير)) (19/324)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5946). وقيل: المرادُ: شَكُّهم في البَعثِ ونزولِ العذابِ. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، والبغويُّ، وابنُ الجوزي، والخازنُ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/499)، ((تفسير البغوي)) (3/687)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/504)، ((تفسير الخازن)) (3/451). وقيل: المرادُ: في أمرِ الرُّسُلِ والبَعثِ، والجنَّةِ والنَّارِ. وممَّن قال بهذا: القرطبي، والنسفي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/318)، ((تفسير النسفي)) (3/74). وقال البِقاعي: (أي: في جميعِ ما يُخبِرُهم به رُسُلُنا عنَّا مِن الجزاءِ أو غيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (15/540). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أنَّ الإيمانَ بعدَ مُعايَنةِ العذابِ لا يُفيدُ، وإنَّما كان غيرَ مفيدٍ؛ لأنَّ الإيمانَ بالمُشاهَدِ لا قيمةَ له؛ فالشَّيءُ المُشاهَدُ لا بُدَّ أنْ يُؤمِنَ به كلُّ إنسانٍ، لكنَّ المحنةَ والابتِلاءَ إنَّما تكونُ في الإيمانِ بالغَيبِ؛ قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [827] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 313). [البقرة: 3] .
2- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فيه سؤالٌ: إنْ قيلَ: إنَّ الآخرةَ قَريبٌ، قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1]، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء: 1] ، وقال: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] ، فكيف قال: مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ؟
فالجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الماضيَ كالأمسِ الدَّابرِ، وهو مِن أبعَدِ ما يكونُ؛ إذْ لا وُصولَ إليه، والمُستقبَلَ وإن كان بيْنَه وبيْنَ الحاضِرِ سِنونَ فإنَّه آتٍ؛ فيومُ القيامةِ الدُّنيا بعيدةٌ منه؛ لِمُضِيِّها، ويومُ القيامةِ في الدُّنيا قريبٌ؛ لإتيانِه [828] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/258). .
الوجهُ الثَّاني: أنَّ ذلك قريبٌ عندَ مَنْ آمَنَ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، أمَّا مَن لم يؤمِنْ فلا يُمكِنُه التَّصديقُ به، فيكونُ بعيدًا عندَه.
الوجهُ الثَّالِثُ: أنَّ الحِكايةَ يومَ القيامةِ، فكأنَّه قال: كانوا يَقذِفونَ مِن مكانٍ بعيدٍ، وهو الدُّنيا.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّهم في الآخرةِ يقولونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة: 12] ، وهو قَذْفٌ بالغَيبِ مِن مكانٍ بعيدٍ، وهو الدُّنيا [829] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/218). .
3- في قَولِه تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أنَّ هؤلاء لم يُحاوِلوا القُرْبَ والنَّظَرَ فيما جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، بل كانوا كالَّذي يَرمي بالحِجارةِ مِن بُعدٍ، ولا يريدُ أنْ يَقتَرِبَ لِيَتبيَّنَ الأمرَ! وهذا سوءُ أدبٍ منهم؛ لأنَّ العَقلَ يَقتضي أنْ يَدنُوا مِن الشَّيءِ لِيَتعرَّفوا إليه؛ حتَّى لا يَقذِفوه مِن بعيدٍ، لكنْ هم كانوا يَقذِفونَ بالغَيبِ مِن مَكانٍ بعيدٍ، وهذا يُبعِدُ أنْ يكونَ الإيمانُ مَقبولًا منهم [830] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 316). .
4- قال الله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ... ثمَّ قال في آخِرِ الآيةِ: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ احتَجَّ بهذه الآيةِ بَعضُ المفَسِّرينَ أنَّ الشَّاكَّ كافِرٌ، ورَدَّ بها على مَن زعَمَ أنَّه ليس بكافرٍ، واللهُ لا يُعَذِّبُ على الشَّكِّ [831] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/446). ، فالشَّكُّ مُنافٍ للإيمانِ فيما يجِبُ الإيمانُ به؛ فلو أنَّ أحدًا شَكَّ في يومِ القيامةِ وفي البَعثِ؛ ما نفَى وجَزمَ بالنَّفيِ، ولا أقَرَّ وجَزَم بالإقرارِ: فهذا في حُكْمِ المُنكِرِ تمامًا؛ فهو كافِرٌ [832] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 321). .
5- قال الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه شَرِب ماءً باردًا فبكَى، فاشتدَّ بُكاؤُه، فقيل له: ما يُبكيكَ؟ فقال: ذكَرْتُ آيةً في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، فعرَفْتُ أنَّ أهلَ النَّارِ لا يَشتَهونَ إلَّا الماءَ البارِدَ، وقال اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف: 50] ) [833] رواه عبد الله بن أحمدَ في زوائد ((الزهد)) (1055)، ومن طريقه البيهقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (4294). .
6- في قَولِه تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ أنَّ مُفارَقةَ المُشتهَياتِ هو مِن أعظَمِ العُقوباتِ؛ فالفَرَحُ والسُّرورُ: بالظَّفَرِ بالمحبوبِ، والهَمُّ والغَمُّ والحزنُ والأسَفُ: بفَواتِ المحبوبِ، فأطيبُ العَيشِ عَيشُ المُحِبِّ الواصلِ إلى محبوبِه، وأمَرُّ العَيشِ عَيشُ مَن حِيلَ بيْنَه وبينَ محبوبِه [834] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/178). .
7- في قَولِه تعالى: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ استِعمالُ القياسِ [835] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 320). .
8- في قَولِه تعالى: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ الإشارةُ إلى الاعتبارِ بمَن مضى وسَبَقَ، سواءٌ كانوا مِن أهلِ الخَيرِ أو مِن أهلِ الشَّرِّ [836] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 320). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ
- الخِطابُ في قولِه: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ... للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تَسليةً له، أو لكلِّ مَن يَتأتَّى منه النَّظرُ؛ لِعِظَمِ الأمْرِ، وفَخامةِ الشَّأنِ. وحُذِفَ جَوابُ (لو)؛ للتَّهويلِ [837] والقاعدةُ في هذا: أنَّ حذفَ جوابِ الشَّرطِ يدُلُّ على تعظيمِ الأمرِ وشِدَّتِه في مقاماتِ الوعيدِ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (ص: 372، 373). ، والتَّقديرُ: لَرأيتَ أمْرًا فَظيعًا، وحالًا هائلةً [838] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/592)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/588)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/241). ، ففيه إشارةٌ إلى عظيمِ ما سيَقَعُ بهؤلاء عندَ الموتِ أو يومَ القيامةِ؛ فحَذْفُ جوابِ الشَّرطِ أعظَمُ في التَّهويلِ والتَّفخيمِ، حتَّى يَذهَبَ الذِّهْنُ كلَّ مَذهَبٍ في تقديرِ ما يمكِنُ أنْ يكونَ جوابًا [839] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 309). .
- والكلماتُ (لو، وإذ، فَزِعوا، وأُخِذوا، وحِيل)، كلُّها للمُضيِّ، والمُرادُ بها الاستِقبالُ؛ لأنَّ ما اللهُ فاعِلُه في المُستقبَلِ بمَنزلةِ ما كان ووُجِدَ؛ لِتَحقُّقِه [840] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/592)، ((تفسير أبي حيان)) (8/564)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/242). .
2- قَولُه تعالى: وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
- قولُه: وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ أي: بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -على قولٍ-؛ لمُرورِ ذِكْرِه في قولهِ: مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى بَيانِ النَّظمِ؛ وذلك أنَّ كُلًّا مِن الآياتِ المُصَدَّرةِ بـ قُلْ مِن قَولِه: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فيه تَذكيرٌ بَليغٌ، ووَعظٌ شافٍ كافٍ. فلمَّا خُتِمتْ هذه الآياتُ بقولِه: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي -وفيه إيماءٌ إلى مَعنى المشارَكةِ، وأنَّ تلك النَّصيحةَ ما نَفَعَتْ فيهم- قيل له مُسلِّيًا والتفتَ إلى كُلِّ مَنْ يَتأتَّى منه النَّظَرُ مُخاطبًا بقولِه: وَلَوْ تَرَى؛ لِعِظَمِ الأمرِ، وفَخامةِ الشأنِ، أي: ولو تَرى -أيُّها النَّاظرُ- وَقْتَ فَزَعِهم وأخْذِهم فلا فَوْتَ لهم، ووقْتَ قولِهم: آمَنَّا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يَنفعُهُم إيمانُهم حينَئذٍ؛ لَرأيْتَ خَطْبًا جليلًا، وأمرًا هائلًا [841] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/595)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/588). .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مُستعمَلٌ في الإنكارِ [842] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/252)، ((تفسير أبي السعود)) (7/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/243). .
- وأيضًا قولُه: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ تمثيلٌ لطَلَبِهم ما لا يكونُ، وهو أنْ يَنفعَهم إيمانُهم في ذلك الوقتِ، كما يَنفَعُ المؤمنينَ إيمانُهم في الدُّنيا؛ مُثِّلتْ حالُهم بحالِ مَن يُريدُ أنْ يَتناوَلَ الشَّيءَ مِن غَلْوةٍ -أي: مِن نُقطةٍ بعيدةٍ- كما يَتناوَلُه الآخَرُ مِن قَيسِ ذِراعٍ -أي: مِن قريبٍ- تَناوُلًا سهلًا لا تَعَبَ فيه، وهو مُرَكَّبٌ تَمثيليٌّ يُفِيدُ تَشبيهَ حالِهم -إذ فَرَّطوا في أسبابِ النَّجاةِ وقْتَ المُكْنةِ منها، حينَ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدْعوهم ويُحرِّضُهم ويُحذِّرُهم، وقد عمَّرهم اللهُ ما يَتذكَّرُ فيه مَن تَذكَّرَ، ثمَّ جاؤوا يَطلُبون النَّجاةَ بعْدَ فواتِ وَقتِها- بحالِهم كحالِ مَن يُرِيدُ تَناوُشَها وتَناوُلَها وهو في مكانٍ بعيدٍ عن مُرادِه الَّذي يجِبُ تَناوُلُه، وهذا التَّمثيلُ قابلٌ لِتَفريقِ أجْزائِه؛ بأنْ يُشَبَّهَ السَّعيُ بما يَحصُلُ بسُرعةٍ بالتَّناوُشِ، ويُشَبَّهَ فواتُ المطلوبِ بالمكانِ البعيدِ كالحوضِ [843] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/593)، ((تفسير البيضاوي)) (4/252)، ((تفسير أبي حيان)) (8/566)، ((تفسير أبي السعود)) (7/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/243)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/116). .
3- قَولُه تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
- يجوزُ جَعْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ تَمثيلًا لِحالِهم؛ شُبِّهوا بحالِ مَن يَقذِفُ شيئًا وهو غائبٌ عنه لا يَراهُ؛ فهو لا يُصِيبُه ألْبتَّةَ [844] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/252)، ((تفسير أبي السعود)) (7/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/244). .
4- قَولُه تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ
- قَولُه: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ لم يَقُلْ: «وحَالَ اللهُ تعالى بيْنَهم»، ولا قال: «وحَالَ الكفرُ»! والنُّكتةُ في عدَمِ بيانِ الفاعلِ لأَجْلِ أنْ يكونَ الحائلُ صالحًا لأنْ تُقَدِّرَهُ بكلِّ ما يُناسِبُ الحالَ؛ إنْ شئتَ فقُلْ: حَالَ بيْنَهم وبيْنَ ما يَشتهون كُفْرُهم في الدُّنيا، وإنْ شئتَ فقُلْ: حَالَ بيْنَهم وبيْنَ ما يَشتهون تقديمُ شَهَواتِهم في الدُّنيا؛ فمَنَعَهم شهواتِهم في الآخرةِ [845] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 319). .
- وفائدةُ التَّشبيهِ في قولِه: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ تَذكيرُ الأحياءِ منهم -وهم مُشرِكو أهلِ مكَّةَ- بما حلَّ بالأُمَمِ مِن قبْلِهم؛ لِيُوقِنوا أنَّ سُنَّةَ اللهِ واحدةٌ، وأنَّهم لا تَنفَعُهم أصنامُهم الَّتي زَعَموها شُفعاءَ عندَ اللهِ [846] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/245). .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مَسوقةٌ لِتَعليلِ الجُمَلِ الَّتي قبْلَها، وإنَّما جُعِلَت حالتُهم شكًّا؛ لأنَّهم كانوا في بعضِ الأُمورِ شاكِّينَ، وفي بعضِها مُوقِنينَ، كما حكى الله عنهم: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مُستأْنَفةً استئنافًا بَيانيًّا، ناشئةً عن سُؤالٍ يُثِيرُه قولُه: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ؛ كأنَّ سائلًا سألَ: هل كانوا طامِعينَ في حُصولِ ما تَمَنَّوه؟ فأُجِيبَ بأنَّهم كانوا يَتمَنَّون ذلك، ويَشُكُّون في استِجابتِه، فلمَّا حِيلَ بيْنَهم وبيْنَه غَشِيَهم اليأْسُ، واليأْسُ بعْدَ الشَّكِّ أوقَعُ في الحُزنِ مِن اليأْسِ المُتأصِّلِ [847] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/245، 246). .
- والمُرِيبُ: المُوقِعُ في الرَّيبِ. والرَّيبُ: الشَّكُّ؛ فوَصْفُ الشَّكِّ به وَصْفٌ له بما هو مُشتَقٌّ مِن مادَّتِه أو معناهُ؛ لإفادةِ المُبالَغةِ، كقَولِهم: شِعرٌ شاعرٌ، ولَيْلٌ ألْيَلُ، أو لَيْلٌ داجٍ [848] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/246). .