الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الأوَّلُ: أدِلَّةُ البَعثِ من القُرآنِ الكَريمِ

سَلَك القُرآنُ الكَريمُ في إثباتِ البَعثِ وتَأكيدِ وُقوعِه طُرُقًا مُتَنَوِّعةً؛ منها:
أوَّلًا: الإقسامُ على وُقوعِ البَعثِ
قال اللهُ تعالى: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53] .
قال السَّعديُّ: (يَقولُ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ويَستَنبِئونَك أحَقٌّ هو أي: يَستَخبِرُك المُكَذِّبونَ على وَجهِ التَّعنُّتِ والعنادِ، لا على وجه التَّبَيُّنِ والرَّشادِ أَحَقٌّ هُوَ أي: أصحيحٌ حَشرُ العِبادِ، وبَعثُهم بَعدَ مَوتِهم ليَومِ المَعادِ، وجَزاءُ العِبادِ بأعمالِهم؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ؟ قُلْ لهم مُقسِمًا على صِحَّتِه، مُستَدِلًّا عليه بالدَّليلِ الواضِحِ والبُرهانِ: إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ لا مِرْيَةَ فيه ولا شُبْهَةَ تَعتَريه. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لله أن يَبعَثَكم، فكَما ابتَدَأ خَلقَكم ولَم تَكونوا شَيئًا، كذلك يُعيدُكم مَرَّةً أخرى ليُجازيَكم بأعمالِكم) [3037] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 366). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ: 3] .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذه إحدى الآياتِ الثَّلاثِ التي لا رابِعَ لهنَّ، مِمَّا أمرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقسِمَ برَبِّه العَظيمِ على وُقوعِ المَعادِ لَمَّا أنكَرَه من أنكَرَه من أهلِ الكُفرِ والعنادِ، فإحداهُنَّ في سورةِ يونُسَ: ويَستَنبِئونَك أحَقٌّ هُوَ قَلْ إِيْ وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونُس: 53] ، والثَّانيةُ هذه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، والثَّالِثةُ في التَّغابُنِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] ...
قال مُجاهدٌ وقتادةُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يَغيبُ عنه، أي: الجَميعُ مُندَرِجٌ تَحتَ عِلمِه، فلا يَخفى عليه منه شَيءٌ، فالعِظامُ وإن تَلاشَتْ وتَفَرَّقَت وتَمَزَّقَت، فهو عالِمٌ أينَ ذَهَبَت وأينَ تَفَرَّقَت، ثُمَّ يُعيدُها كما بَدَأها أوَّلَ مَرَّةٍ، فإنَّه بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ) [3038] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 495). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: زَعَمَ الذينَ كَفَروا بالله أن لَن يَبعَثَهمُ اللهُ إليه من قُبورِهم بَعدَ مَمَاتِهم... وقَولُه: قَلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ يَقولُ لنَبيِّهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ لهم يا مُحَمَّدُ: بَلى ورَبي لتُبعَثُنَّ من قُبورِكم ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ يَقولُ: ثُمَّ لتُخبَرُنَّ بأعمالِكم التي عَمِلتُموها في الدُّنيا وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يَقولُ: وبَعثُكم من قُبورِكم بَعدَ مَمَاتِكم على الله سَهلٌ هَيِّنٌ) [3039] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 9). .
ثانيًا: التَّنبيهُ بالنَّشأةِ الأُولى على النَّشأةِ الثَّانيةِ
قال اللهُ تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 49-52] .
قال البَيضاويُّ: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظامًا ورُفاتًا حُطامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثونَ خَلقًا جَديدًا على الإنكارِ والِاستِبعادِ لِما بينَ غَضاضةِ الحَيِّ ويُبوسةِ الرَّميمِ من المُباعَدةِ والمُنافاةِ... قُلْ جَوابًا لهم: كُونُوا حِجارةً أو حَديدًا أو خَلقًا مِمَّا يَكبُرُ في صُدورِكم أي: مِمَّا يَكبُرُ عِندَكم عن قَبولِ الحَياةِ؛ لكَونِه أبعَدَ شَيءٍ منها، فإنَّ قُدرَتَه تعالى لا تَقصُرُ عن إحيائِكم لاشتِراكِ الأجسامِ في قَبولِ الأعراضِ، فكَيفَ إذا كُنتُم عِظامًا مَرفوتةً وقد كانت غَضَّةً مَوصوفةً بالحَياةِ قَبلُ، والشَّيءُ أقبَلُ لِما عُهدَ فيه مِمَّا لَم يُعهَد. فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وكُنتُم تُرابًا وما هو أبعَدُ منه من الحَياةِ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ فسَيُحَرِّكونَها نَحوك تَعَجُّبًا واستِهزاءً وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا فإنَّ كُلَّ ما هو آتٍ قَريبٌ) [3040] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 257). .
وقال اللهُ سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 77 - 80] .
قال النَّسَفيُّ: (وضَرَبَ لَنا مَثَلًا بِفَتِّه العَظْمَ ونَسِيَ خَلْقَهُ من المَنيِّ، فهو أغرَبُ من إحياءِ العَظْمِ... قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ هو اسمٌ لما بَلِيَ من العِظامِ... قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا خَلَقَها أوَّلَ مَرَّةٍ أي: ابتِداءً وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ مَخلوقٍ عَلِيمٌ لا تَخفى عليه أجزاؤُه وإن تَفَرَّقَت في البَرِّ والبَحرِ، فيَجمَعُه ويُعيدُه كما كان) [3041] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/ 113). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (هيَ عامَّةٌ في كُلِّ من أنكَرَ البَعثَ. والألِفُ واللامُ في قَولِه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ للجِنسِ، يَعُمُّ كُلَّ مُنكِرٍ للبَعثِ. أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي: أولَم يَستَدِلَّ من أنكَرَ البَعثَ بالبَدءِ على الإعادةِ؟... فالذي خَلَقَه من هذه النُّطفةِ الضَّعيفةِ أليسَ بقادِرٍ على إعادَتِه بَعدَ مَوتِه؟) [3042] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 594). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 - 40] .
قال ابنُ كثيرٍ: (المَقصودُ هنا إثباتُ المَعادِ، والرَّدُّ على مَن أنكَرَه من أهلِ الزَّيغِ والجَهلِ والعِنادِ؛ ولِهذا قال مُستَدِلًّا على الإعادةِ بالبداءةِ، فقالَ: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَنِيٍّ يُمْنَى؟ أي: أمَّا كان الإنسانُ نَطفةً ضَعيفةً من ماءٍ مُهَيَّنٍ، يُمنى يُراقُ من الأصلابِ في الأرحامِ. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى أي: فصارَ عَلقةً، ثُمَّ مُضغةً، ثُمَّ شُكِّلَ ونُفِخَ فيه الرُّوحُ، فصارَ خَلقًا آخَرَ سَويًّا سَليمَ الأعضاءِ، ذَكَرًا أو أنثى بإذْنِ الله وتَقديرِه؛ ولِهذا قال: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ثُمَّ قال: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى أي: أمَا هذا الذي أنشَأ هذا الخَلقَ السَّويَّ من هذه النُّطفةِ الضَّعيفةِ بقادِرٍ على أن يُعيدَه كما بَدَأه؟ وتَناوُلُ القُدرةِ للإعادةِ إمَّا بطَريقِ الأَولى بالنِّسبةِ إلى البداءةِ، وإمَّا مُساوية على القَولينِ في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه وَهُوَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ [الروم: 27] . والأوَّلُ أشهَرُ) [3043] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 283). .
وقال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 13-16] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: ثُمَّ إنَّكم أيُّها النَّاسُ من بَعدِ إنشائِكم خَلقًا آخَرَ وتَصييرناكم إنسانًا سَويًّا ميِّتونَ وعائِدونَ تُرابًا كما كُنتُم، ثُمَّ إنَّكم بَعدَ موتِكم وعَودِكم رُفاتًا باليًا مَبعوثونَ من التُّرابِ خَلقًا جَديدًا كما بَدَأناكم أوَّلَ مَرَّةٍ) [3044] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 26). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 5 -9] .
قال ابنُ جَريرٍ: (قَولُه: فليَنظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ يَقولُ تعالى ذِكرُه: فليَنظُرِ الإنسانُ المُكَذِّبُ بالبَعثِ بَعدَ المَمَاتِ، المُنكِرُ قُدرةَ اللهِ على إحيائِه بَعدَ مَمَاتِه مِمَّ خُلِقَ يَقولُ: من أيِّ شَيءٍ خَلَقَه رَبُّه؟ ثُمَّ أخبَرَ جَلَّ ثَناؤُه عَمَّا خَلقَه منه، فقال: خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ يَعني: من ماءٍ مَدفوقٍ... وقَولُه: يَخرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائِبِ يَقولُ: يَخرُجُ من بينِ ذلك...
وقَولُه: إنَّه عَلَى رَجْعِه لَقَادِرٌ يَقولُ تعالى ذِكرُه: إنَّ هذا الذي خَلَقَكم أيُّها النَّاسُ من هذا الماءِ الدَّافِقِ، فجَعَلَكم بَشَرًا سَويًّا، بَعدَ أن كُنتُم ماءً مَدفوقًا، على رَجعِه لقادِرٌ) [3045] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 292-297). .
ثالِثًا: التَّنبيهُ بإحياءِ الأرضِ بَعدَ مَوتِها على إحياءِ المَوتى
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [الحج: 5-7] .
قال السَّعديُّ: (يَقولُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ إنْ كُنتُم في رَيبٍ من البَعثِ أي: شَكٍّ واشتِباهٍ، وعَدَمِ عِلمٍ بوُقوعِه، مَعَ أنَّ الواجِبَ عليكم أن تُصَدِّقوا رَبَّكم، وتُصَدِّقوا رُسُلَه في ذلك، ولَكِن إذا أبيتُم إلَّا الرَّيبَ، فهاكم دَليلينِ عَقليِّينِ تُشاهِدونَهما، كُلُّ واحِدٍ منهما يَدُلُّ دَلالةً قَطعيَّةً على ما شَكَكتُم فيه، ويُزيلُ عن قُلوبِكمُ الرَّيبَ. أحَدُهما: الِاستِدلالُ بابتِداءِ خَلقِ الإنسانِ، وأنَّ الذي ابتَدَأه سَيُعيدُه... والدَّليلُ الثَّاني، إحياءُ الأرضِ بَعدَ مَوتِها، فقال اللهُ فيه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً أي: خاشِعةً مُغبَرةً لا نَباتَ فيها ولا خَضرَ، فإذا أنزَلْنَا عليها الماءَ اهتَزَّتْ أي: تَحَرَّكَت بالنَّباتِ ورَبَتْ أي: ارتَفَعَت بَعدَ خُشوعِها، وذلك لزيادةِ نَباتِها، وأنبِتَتْ من كُلِّ زَوجٍ أي: صِنْفٍ من أصنافِ النَّباتِ بَهِيجٍ أي: يُبهِجُ النَّاظِرينَ، ويَسُرُّ المُتَأمِّلينَ، فهذانِ الدَّليلانِ القاطِعانِ يَدُلَّانِ على هذه المَطالِبِ الخَمسةِ، وهيَ هذه: ذَلِكَ الذي أنشَأ الآدَميَّ ممَّا وصفَ لَكم، وأحيا الأرضَ بَعدَ مَوتِها بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ أي: الرَّبُّ المَعبودُ، الذي لا تَنبَغي العِبادةُ إلَّا له، وعِبادَتُه هيَ الحَقُّ، وعِبادةُ غَيرِه باطِلةٌ. وأنَّه يُحْيِي المَوتَى كما ابتَدَأ الخَلقَ، وكَما أحيا الأرضَ بَعدَ مَوتِها. وأنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ كما أشهَدَكم من بَديعِ قُدرَتِه وعَظيمِ صَنْعَتِه ما أشهَدَكم. وأنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها فلا وَجهَ لاستِبعادِها. وأنَّ الله يَبعَثُ من في القُبورِ فيُجازيكم بأعمالِكم حَسَنِها وسَيِّئِها) [3046] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 533). .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] .
قال ابنُ كثيرٍ: (فانظُر إلى آثارِ رَحمتِ الله يَعني: المَطَرَ كيفَ يُحيي الأرضَ بَعدَ مَوتِها.
ثُمَّ نَبَّهَ بذلك على إحياءِ الأجسادِ بَعدَ مَوتِها وتَفَرُّقِها وتَمَزُّقِها، فقال: إنَّ ذلك لمُحيي المَوتى أي: إنَّ الذي فَعَلَ ذلك لقادِرٌ على إحياءِ الأمواتِ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) [3047] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 323). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى: ومن آياتِه أنَّك تَرى الأرضَ خاشِعةً الخِطابُ لكُلِّ عاقِلٍ، أيْ «ومِن آياتِه» الدَّالَّةِ على أنَّه يُحيي الموتى أنَّك تَرى الأرضَ خاشِعةً أي: يابِسةً جَدْبةً... فإذا أنزَلنا عليها الماءَ اهتَزَّتَ أي بالنَّباتِ... ورَبَتْ أي انتَفَخَت وعَلتَ قَبلَ أن تُنبِتَ) [3048] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/ 365). .
وقال السَّعديُّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ على كمالِ قُدرَتِه، وانفِرادِه بالمُلكِ والتَّدبيرِ والوَحدانيَّةِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً أي: لا نباتَ فيها فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ أي: المطَرَ اهْتَزَّتْ أي: تحرَّكت بالنباتِ وَرَبَتْ ثم: أنبَتَت من كُلِّ زَوجٍ بهيجٍ، فيُحيي به العِبادَ والبِلادَ. إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا بعد موتِها وهموِدها، لَمُحْيِي الْمَوْتَى من قبورِهم إلى يومِ بَعْثِهم ونُشورِهم إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكَما لَم تَعجِزْ قُدرَتُه عن إحياءِ الأرضِ بَعدَ مَوتِها، لا تَعجِزُ عن إحياءِ المَوتى) [3049] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 750). .
رابِعًا: التَّنبيهُ بخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ على إحياءِ المَوتى
قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: أولَم يَنظُرْ هؤلاء المُنكِرونَ إحياءَ الله خَلقَه من بَعدِ وفاتِهم وبَعثَه إيَّاهم من قُبورِهم بَعدَ بلائِهم، القائِلونَ لآبائِهم وأمَّهاتِهم أفٍّ لَكما أتعِدَانِني أن أُخرَجَ وقد خَلَتِ القُرونُ من قَبلي [الأحقاف: 17] فلَم يُبعَثوا بأبصارِ قُلوبِهم، فيَرَوا ويَعلَموا أنَّ اللهَ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ السَّبعَ والأرضَ، فابتَدَعَهنَّ من غَيرِ شَيءٍ، ولَم يَعْيَ بإنشائِهنَّ، فيَعجِز عن اختِراعِهنَّ وإحداثِهنَّ بقادِرٍ على أنْ يُحييَ المَوتى فيُخرِجَهم من بَعدِ بلائِهم في قُبورِهم أحياءً كهيئَتِهم قَبلَ وفاتِهم... وقَولُه: بَلى إنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ يَقولُ تعالى ذِكرُه: بلى، يَقْدِرُ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ على إحياءِ المَوتى: أي الذي خَلَقَ ذلك على كُلِّ شَيءٍ شاءَ خَلْقَه وأرادَ فِعلَه، ذو قُدرةٍ لا يَعجِزُه شَيءٌ أرادَه، ولا يُعْيِيه شَيءٌ أرادَ فِعلَه، فيُعيَيه إنشاءُ الخَلقِ بَعدَ الفَناءِ؛ لأنَّ من عَجزَ عن ذلك فضَعيفٌ، فلا يَنبَغي أن يَكونَ إلهًا مَن كان عَمَّا أرادَ ضَعيفًا) [3050] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 173-176). .
وقال اللهُ سُبحانَه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يَقولُ تعالى مُنبِّهًا على قُدرَتِه العَظيمةِ في خَلقِ السَّمَواتِ السَّبعِ بما فيها من الكَواكِبِ السَّيَّارةِ والثَّوابِتِ، والأرَضِينَ السَّبعِ وما فيها من جِبالٍ ورمالٍ، وبِحارٍ وقِفَارٍ، وما بينَ ذلك، ومُرشِدًا إلى الِاستِدلالِ على إعادةِ الأجسادِ بخَلقِ هذه الأشياءِ العَظيمةِ، كقَولِه تعالى: لخَلقُ السَّمَواتِ والأرضِ أكبَرُ من خَلقِ النَّاسِ [غافر: 57] . وقال هاهنا: أولَيسَ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أن يَخلُقَ مِثلَهم أي: مِثلَ البَشَرِ، فيُعيدَهم كما بَدَأهم. قاله ابنُ جَرير. وهذه الآيةُ كقَولِه تعالى: أولَم يَرَوا أنَّ اللهَ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ ولَم يَعْيَ بخَلقِهنَّ بقادِرٍ على أنْ يُحْيِيَ المَوْتَى بَلَى إنَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ [الأحقاف: 33] ) [3051] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 595). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: وَقَالوا أئِذَا كُنَّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلَّا كُفُورًا [الإسراء: 99] .
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أولَم يَنظُرْ هؤلاء القائِلونَ من المُشرِكينَ أئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثونَ خَلقًا جَديدًا بعُيونِ قُلوبِهم، فيَعلَمونَ أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، فابتَدَعَها من غَيرِ شَيءٍ، وأقامَها بقُدرَتِه، قادِرٌ بتِلك القُدرةِ على أن يَخلُقَ مِثلَهم أشكالَهم وأمثالَهم من الخَلقِ بَعدَ فنائِهم وقَبلَ ذلك، وأنَّ من قَدرَ على ذلك فلا يَمتَنِعُ عليه إعادَتُهم خَلقًا جَديدًا، بَعدَ أن يَصيروا عِظامًا ورُفاتًا) [3052] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 97). .
خامِسًا: إخبارُ الله تعالى بما وقَعَ من البَعثِ الحِسِّيِّ المُشاهَدِ في الحَياةِ الدُّنيا
ومن ذلك:
1- قِصَّةُ الذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها
قال اللهُ تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259] .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (قَولُه تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ... في المَرادِ بالقَريَةِ قَولانِ: أحَدُهما: أنَّها بَيتُ المَقدِسِ لَمَّا خَرَّبَه بُختنَصَّر، قاله وهَبٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ بن أنسٍ. والثَّاني: أنَّها التي خَرَجَ منها الألوفُ حَذَرَ المَوتِ، قاله ابنُ زيدٍ. وفي الذي مَرَّ عليها ثَلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه عُزَيرٌ، قاله عليُّ بن أبي طالِبٍ، وأبو العاليةِ، وعِكرِمةُ، وسَعيدُ بن جُبيرٍ، وناجيةُ بن كعبٍ، وقتادةُ، والضَّحَّاك، والسُّدِّي، ومُقاتِلٌ. والثَّاني: أنَّه أرمياءُ، قاله وهَبٌ، ومَجاهدٌ وعَبدُ الله بن عُبيدِ بنِ عُمَيرٍ. والثَّالِثُ: أنَّه رَجُلٌ كافِرٌ شَكَّ في البَعثِ، نُقِلَ عن مَجاهدٍ أيضًا... قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ، أي: كيفَ يُحْييها؟ فإن قُلنا: إنَّ هذا الرَّجُلَ نَبيٌّ، فهو كلامُ مَن يُؤَثِرُ أن يَرى كيفيَّةَ الإعادةِ، أو يَستَهولها، فيُعظِّمُ قُدرةَ اللهِ، وإن قُلنا: إنَّه كان رَجُلًا كافِرًا، فهو كلامُ شاكٍّ، والأوَّلُ أصَحُّ) [3053] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (1/ 233). .
وقال السَّعديُّ: (ولِنَجعَلَكَ آيةً للنَّاسِ على قُدرةِ الله وبَعثِه الأمواتَ من قُبورِهم، لتَكُونَ أنموذَجًا مَحسوسًا مُشاهَدًا بالأبصارِ، فيَعلَموا بذلك صِحَّةَ ما أخبَرَت به الرُّسُلُ) [3054] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 112). .
2- طلبُ إبراهيمَ مِن رَبِّه مُشاهدةَ إحياءِ الموتى
قال اللهُ تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260] .
قال السَّعديُّ: (هذا فيه أيضًا أعظَمُ دَلالةٍ حِسِّيَّةٍ على قُدرةِ الله وإحيائِه الموتى للبَعثِ والجَزاءِ، فأخبَرَ تعالى عن خَليلِه إبراهيمَ أنَّه سَألَه أن يُريَهُ ببَصَرِه كيفَ يُحيي المَوتى؛ لأنَّه قد تَيَقَّنَ ذلك بخَبرِ الله تعالى، ولَكِنَّه أحَبَّ أن يُشاهِدَه عِيانًا ليَحصُلَ له مرتبةُ عَينِ اليَقينِ)  [3055]يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 112). .
3- مَوتُ بني إسرائيلَ الذينَ طَلَبوا رُؤيةَ رَبِّهم، فأخذَتهمُ الصَّاعِقةُ، ثُمَّ بَعثَهمُ اللهُ
قال اللهُ سُبحانَه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 55] .
قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكم من بَعدِ مَوتِكم: أصلُ «البَعثِ» في اللُّغةِ: الإخراجُ، ويُطلَقُ على الإحياءِ، كما هذه الآية، ويَدُلُّ على أنَّ المُرادَ به الإحياءُ هنا قَولُه تعالى: مِن بَعدِ مَوتِكم وهو مَوتٌ حَقيقيٌّ، وليس نَومًا؛ لأنَّ النَّومَ يُسَمَّى وفاةً ولا يُسَمَّى مَوتًا، كما في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكَمُ باللَّيْلِ ويَعلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنَّهَارِ [الأنعام: 60] ، وقَولِه تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حينَ مَوْتِهَا والَّتِي لَم تَمُتْ في مَنامِها [الزمر: 42] . وقَولُه تعالى: بَعَثْناكم من بَعدِ مَوتِكم: هذه نَعمةٌ كبيرةٌ عليهم أنَّ اللهَ تعالى أخذَهم بهذه العُقوبةِ، ثُمَّ بَعثَهم ليَرتَدِعوا ويَكونَ كفَّارةً لهم؛ ولِهذا قال تعالى: لَعَلَّكمُ تَشْكُرونَ أيْ: تَشْكُرونَ اللهَ سُبحانَه وتعالى، و«لَعَلَّ» هنا للتَّعليلِ. وهذه إحدى الآياتِ الخَمسِ التي في سورةِ البَقرةِ التي فيها إحياءُ الله تعالى المَوتى، والثَّانيةُ: في قِصَّةِ صاحِبِ البَقرةِ، والثَّالِثةُ: في الذينَ خَرجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حَذَرَ المَوتِ، فقال اللهُ لهم: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة: 243] ، والرَّابِعةُ: في قِصَّةِ الذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِه اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه [البقرة: 259] ، والخامِسةُ في قِصَّةِ إبراهيمَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَم تُؤمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... [البقرة: 260] الآية. واللهُ تعالى على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) [3056] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/ 192). .
4- إخبارُ اللهِ عن قَتيلِ بني إسرائيلَ الذي أعادَ اللهُ إليه الحَياةَ بَعدَ ما قُتِلَ وأخبَرَ عن قاتِلِه
قال اللهُ تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 73] .
قال السَّمعانيُّ: (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى لأنَّه أراهم إحياءَ المَقتولِ حينَ ضُربَ ببَعضِ البَقرةِ) [3057] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 94). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى أي: فضَربوه فحَيِيَ. ونَبَّه تعالى على قُدرَتِه وإحيائِه الموتى بما شاهدوه من أمرِ القَتيلِ، جَعَلَ تَبارَك وتعالى ذلك الصُّنعَ حُجَّةً لهم على المَعادِ، وفاصِلًا ما كان بينَهم من الخُصومةِ والفَسادِ) [3058] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 303). .
5- إخبارُ اللهِ تعالى عن إماتةِ آلافٍ من النَّاسِ خَرجوا من ديارِهم حَذَرَ المَوتِ، فأماتهمُ اللهُ ثُمَّ أحياهم
قال اللهُ تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] .
قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه تعالى: إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ لَم يُبَيِّنِ اللهُ عزَّ وجَلَّ مَن هؤلاء الذينَ خَرَجوا؛ فقيلَ: إنَّهم من بني إسرائيلَ، وقيلَ: إنَّهم من غَيرِهم، والمُهمُّ القِصَّةُ والقَضيَّةُ التي وقَعَت، ومِن ديارِهم أي: من بُيوتِهم، وأحيائِهم التي يَأوُونُ إليها، وهم أُلُوفٌ: الجُملةُ في مَوضِعِ نَصْبٍ على الحالِ من الواوِ في خَرَجوا، وكَلِمةُ: ألوفٌ جَمعُ ألْفٍ، وهو من صيَغِ جُموعِ الكَثرةِ؛ فقيلَ: إنَّهم ثَمانيةُ آلافٍ، وقيلَ: ثَمانونَ ألفًا، وإذا نَظَرتَ إلى صيغةِ اللفظِ -وهم ألوفٌ- تَجِدُ أنَّها تَدُلُّ على أنَّهم أكثَرُ من ثَمانيةِ آلافٍ، وأنَّهم عالَمٌ كثيرٌ، وحَذَرَ المَوتِ مَفعولٌ لأجلِه،... وهَل هذا المَوتُ طَبيعيٌّ؛ لأنَّه نَزَلَ في أرضِهم وباءٌ، أوِ المَوتُ بالقِتالِ في سَبيلِ الله؟ في ذلك قَولانِ لأهلِ العِلمِ: فمنهم مَن يَقولُ -وهم أكثَرُ المُفَسِّرينَ-: إنَّ المُرادَ: خَرَجوا من ديارِهم خَوفًا من المَوتِ لوباءٍ وقَعَ في البِلادِ، فخَرَجوا فرارًا من قَدَرِ الله، فأرادَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أن يُريَهم أنَّه لا مَفرَّ منه إلَّا إليه، وقيلَ: إنَّ المُرادَ: خَرجوا حَذَرَ المَوتِ بالقَتْلِ؛ لأنَّهم دَهمَهمُ العَدُوُّ، ولَكِنَّهم جَبُنوا، وخَرجوا خَوفًا من أن يَقتُلَهمُ العَدُوُّ؛ فالذينَ قالوا بالأوَّلِ قالوا: لأنَّا إذا أخَذنا الآيةَ بظاهرِها -حَذَرَ المَوتِ- تَبَيَّنَ أنَّه نَزَلَ في أرضِهم وباءٌ، فخَرَجوا من ديارِهم خَوفًا من الوَباءِ، والذينَ قالوا بالثَّاني قالوا: لأنَّ الله سُبحانَه وتعالى قال بَعدَها: وَقَاتِلُوا في سَبيلِ اللهِ [البقرة: 244] ؛ فكَأنَّ اللهَ عَرضَ قِصَّةَ هؤلاء الذينَ جَبُنوا وهَرَبوا تَوطِئةً لأمرِنا بالقِتالِ في سَبيلِ الله، وأن نَصبِرَ.
قَولُه تعالى: فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا أي: قال لهم قَولًا كونيًّا، كقَولِه تعالى: إنَّما أمْرُه إذا أرادَ شَيئًا أن يَقولَ له كُن فيَكونَ [يس: 82] . قَولُه تعالى: ثُمَّ أحياهم ثُمَّ تَدُلُّ على التَّراخي، وأنَّ الله سُبحانَه وتعالى أحياهم بَعدَ مُدَّةٍ، وقيلَ: إنَّه أحياهمٌ لسَبَبٍ، وهو أنَّ نَبيًّا من الأنبياءِ مَرَّ بهم وهَم ألوفٌ مُؤَلَّفةٌ جُثَثٌ هامِدةٌ، فدَعا اللهَ أن يُحييَهم فأحياهمُ اللهُ، وقال بَعضُ المُفَسِّرينَ: إنَّ الله أحياهمُ بدونِ دَعوةِ نَبيٍّ، وهذا هو ظاهِرُ اللفظِ، وأمَّا الأوَّلُ فلا دَلالةَ عليه. وعليه فنَقولُ: إنَّ اللهَ أحياهم ليُريَ العِبادَ آياتِه... مِن فوائِدِ الآيةِ:... تَمامُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ بإماتةِ الحَيِّ، وإحياءِ المَيِّتِ؛ لقَولِه تعالى: مُوتُوا، فماتوا بدَليلِ قَولِه تعالى: ثُمَّ أَحْيَاهُمْ. ومنها: أنَّ فيها دَلالةً على البَعثِ، وَجْهُه: أنَّ اللهَ أحياهم بَعدَ أن أمَاتَهم) [3059] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/ 194-196). .
6- إخبارُ اللهِ تعالى عن أصحابِ الكَهفِ حَيثُ أنامَهمُ اللهُ تعالى فيه مُدَّةً طَويلةً ثُمَّ بَعثَهم من نَومِهم:
قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 9- 12] .
قال البَيضاويُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى فيهم: وكَذلك بَعَثْنَاهم ليَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ: (وكَذلك بَعَثْنَاهُمْ وكَما أنَمناهم آيةً بَعَثناهم آيةً على كمالِ قُدرَتِنا. ليَتَساءَلوا بينَهم ليَسألَ بَعضُهم بَعضًا فتَعَرِفوا حالَهم وما صَنَعَ اللهُ بهم فيزدادوا يَقينًا على كمالِ قُدرةِ الله تعالى، ويَستَبصِروا به أمرَ البَعثِ ويَشْكُروا ما أنعَمَ اللهُ به عليهم) [3060] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 276). .

انظر أيضا: