موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (1-9)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريب الكلمات:

الْبَيَانَ: أي: النُّطقَ والتَّمييزَ، والفَهمَ والإبانةَ، وأصلُ (بين): يدُلُّ على الانكِشافِ والظُّهورِ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/170)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/327)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 382)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 230). .
بِحُسْبَانٍ: أي: بحِسابٍ، ومَنازِلَ لا تَعْدوها الشَّمسُ ولا القمرُ، ولا يَحيدان عنها، وأصلُ (حسب): يدُلُّ على عَدَدٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 436)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/59)، ((تفسير الثعلبي)) (25/291)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 382). .
وَالنَّجْمُ: يُطلَقُ النَّجمُ على النبَّتِ على الأرضِ ليس له ساقٌ، وسُمِّيَ نَجمًا لأنَّه نَجَمَ، أي: ظَهَر وطَلَع. ويُطلَقُ على الكَوكَبِ، وهو اسمُ الجِنسِ مِن نُجومِ السَّماءِ. وأصلُ (نجم): يدُلُّ على طُلوعٍ وظُهورٍ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/396)، ((البسيط)) للواحدي (21/135)، ((المفردات)) للراغب (ص: 791)، ((تفسير البغوي)) (7/442)، ((تفسير ابن عطية)) (5/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/236). .
تَطْغَوْا: أي: تُجاوِزوا العَدْلَ، وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوَزةُ الحَدِّ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 436)، ((تفسير ابن جرير)) (22/178)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((البسيط)) للواحدي (21/138)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 382)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 400). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ
قَولُه: وَالسَّمَاءَ: مَنصوبةٌ على الاشتِغالِ [10] الاشتِغالُ: هو أن يتقَدَّمَ اسمٌ واحِدٌ، ويتأخَّرَ عنه عامِلٌ مُشتَغِلٌ عن العَمَلِ في ذلك الاسمِ بالعَمَلِ في ضَميرِه مُباشَرةً، أو في سَبَبِه -أي: كلِّ شَيءٍ له صِلةٌ وعَلاقةٌ به؛ مِن قَرابةٍ، أو صداقةٍ، أو عَمَلٍ-، بحيثُ لو فُرِّغ مِن ذلك المعمولِ وسُلِّطَ على الاسمِ المتقَدِّمِ، لعَمِلَ فيه النَّصبُ لَفظًا أو محَلًّا. وأركانُ الاشتِغالِ ثلاثةٌ؛ هي: أ- مَشغولٌ عنه: وهو الاسمُ المتقَدِّمُ. ب- مشغولٌ: وهو الفِعلُ المتأخِّرُ. ج- ومَشغولٌ به: وهو الضَّميرُ الَّذي تعدَّى إليه الفِعلُ بنَفْسِه أو بالوَساطةِ. يُنظر: ((أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)) لابن هشام (2/139). بفِعلٍ مُضمَرٍ على شَريطةِ التَّفسيرِ، أي: ورفَعَ السَّماءَ.
وقَولُه: أَلَّا تَطْغَوْا: في «أنْ» هذه وَجهانِ؛ أحدُهما: أنَّها النَّاصبةُ وقَبْلَها لامُ عِلَّةٍ مُقَدَّرةٌ، و«لا» بعْدَها نافيةٌ، وتَطْغَوْا مَنصوبٌ بـ «أنْ»، والجارُّ والمجرورُ «لِئَلَّا تَطْغَوا» مُتعَلِّقُ بقَولِه: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، والتَّقديرُ: ووَضَعَ المِيزانَ؛ لئَلَّا تَطْغَوا. والثَّاني: أنْ تكونَ المُفسِّرةَ؛ لأنَّ وَضْعَ الميزانِ يَستَدعي الأمرَ بالعَدْلِ، وفي الأمرِ بالعَدلِ مَعنى القَولِ دُونَ حُروفِه، وعلى هذا تكونُ «لا» ناهيةً، والفِعلُ مجزومٌ بها [11] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/113)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/96)، ((التبيان)) للعكبري (2/1197)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/154-156)، ((تفسير الألوسي)) (14/101)، ((المفردات)) للراغب (ص: 791)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (27/89). .

المعنى الإجمالي:

بدأ الله تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ باسمِه «الرَّحمن» الدَّالِّ على سَعةِ رحمتِه، وعمومِ إحسانِه، وجزيلِ بِرِّه، وواسعِ فضلِه، ثمَّ ذكَر ما يدُلُّ على رحمتِه وأثَرِها الَّذي أوصَله إلى عبادِه مِن النِّعمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، فذكَر أنَّه تعالى علَّم عِبادَه القُرآنَ، ويَسَّرَه لهم، وأنَّه تعالى خَلَق آدَمَ وذُرِّيَّتَه، وأنَّه تعالى علَّم الإنسانَ النُّطقَ والإبانةَ عَمَّا في نَفْسِه.
ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ يَجريانِ بحِسابٍ دَقيقٍ مُتقَنٍ، وأنَّ جَميعَ النُّجومِ والأشجارِ تَسجُدُ للرَّحمنِ، وأنَّه تعالى رَفَع السَّماءَ فَوقَ الأرضِ، ووَضَع العَدْلَ بيْنَ خَلْقِه؛ لِئَلَّا يَتجاوَزوا الحَدَّ فيَجوروا، ثمَّ يأمُرُ تعالى عِبادَه بأن يُقيموا وَزْنَ الأشياءِ بالعَدلِ التَّامِّ، وألَّا يَنقُصوا الوَزنَ.

تفسير الآيات:

الرَّحْمَنُ (1).
أي: اللهُ: الواسِعُ الرَّحمةِ، المُنعِمُ على عبادِه بالنِّعَمِ الكَثيرةِ في دِينِهم ودُنياهم وأُخراهم [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/168)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 301). قال ابنُ عاشور: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ هذه آيةٌ واحِدةٌ عندَ جمهورِ العادِّينَ، ووقَعَ في المصاحِفِ الَّتي بروايةِ حَفصٍ عن عاصِمٍ علامةُ آيةٍ عَقِبَ كَلِمةِ الرَّحْمَنُ؛ إذ عَدَّها قُرَّاءُ الكوفةِ آيةً؛ فلذلك عَدَّ أهلُ الكوفةِ آيَ هذه السُّورةِ ثمانيًا وسَبعينَ، فإذا جُعِلَ اسمُ الرَّحْمَنُ آيةً تعَيَّنَ أن يكونَ اسمُ الرَّحْمَنُ: إمَّا خبَرًا لمُبتدَأٍ محذوفٍ تقديرُه: هو الرَّحمنُ، أو مبتدأً خَبَرُه محذوفٌ يُقَدَّرُ بما يُناسِبُ المقامَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/230). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/223). وهذا الاختِلافُ في عدِّ الآياتِ لا تأثيرَ له في النَّصِّ القُرآنيِّ زيادةً أو نقصًا، بل النَّصُّ القُرآنيُّ كما أنزله الله لم يَتغيَّرْ منه شَيءٌ. .
كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] .
وقال سُبحانَه حاكيًا دُعاءَ مَلائِكتِه: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ للهِ مِئةَ رَحمةٍ، أنزَلَ منها رَحمةً واحِدةً بيْنَ الجِنِّ والإنسِ والبهائِمِ والهَوامِّ، فبها يَتعاطَفونَ، وبها يَتراحَمونَ، وبها تَعطِفُ الوَحشُ على وَلَدِها، وأخَّرَ اللهُ تِسعًا وتِسعينَ رَحمةً، يَرحَمُ بها عِبادَه يومَ القيامةِ )) [13] رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) واللَّفظُ له. .
عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2).
أي: علَّم الرَّحمنُ -سُبحانَه- عِبادَه ألفاظَ القُرآنِ ومَعانيَه، ويَسَّرَها لهم [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/168)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/95)، ((تفسير ابن عطية)) (5/223)، ((تفسير القرطبي)) (17/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/488)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 301). قال ابن عثيمين: (عَلَّمَ الْقُرْآَنَ أي: علَّمه مَن شاءَ مِن عبادِه، فعلَّمه جِبريلَ عليه السَّلامُ أوَّلًا، ثمَّ نزَل به جبريلُ على قلبِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثانيًا، ثمَّ بلَّغه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم ثالثًا إلى جميعِ النَّاسِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 301). وقال ابن الجوزي: (في قولِه: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ قولان؛ أحدُهما: علَّمه محمَّدًا، وعلَّمه محمدٌ أمَّتَه، قاله ابنُ السَّائبِ. والثاني: يسَّر القرآنَ، قاله الزَّجَّاجُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/205). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/95). وقال الشنقيطي: (قولُه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ أي: علَّم نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم القرآنَ، فتلقَّتْه أمَّتُه عنه). ((أضواء البيان)) (7/488). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/337). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57، 58].
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17].
وعن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيْرُكم مَن تَعلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه )) [15] رواه البخاري (5027). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثَبَت كَونُه الرَّحمنَ، وأشار إلى ما هو شِفاءٌ ورَحمةٌ -وهو القُرآنُ-؛ ذكَرَ نِعَمَه، وبدأ بخَلْقِ الإنسانِ؛ فإنَّه نِعمةٌ تَتِمُّ جميعُ النِّعَمِ به، ولولا وُجودُه لَما انتَفَع بشَيءٍ [16] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/339). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تَعليمَ القُرآنِ ولم يَذكُرِ المُعَلَّمَ؛ ذكَرَه بَعْدُ لِيُعلَمَ أنَّه المقصودُ بالتَّعليمِ [17] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/54). .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3).
أي: خَلَق الرَّحمنُ آدَمَ وذُرِّيَّتَه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/168، 169)، ((تفسير ابن عطية)) (5/223)، ((تفسير ابن جزي)) (2/327)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489)، ((تفسير الشوكاني)) (5/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 301). .
كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل: 4] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
ذَكَر تعالى الوَصفَ الَّذي يتمَيَّزُ به الإنسانُ مِن المَنطِقِ المُفصِحِ عن الضَّميرِ، والَّذي به يُمكِنُ قَبولُ التَّعليمِ، وهو البَيانُ [19] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/54). .
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4).
أي: علَّم الرَّحمنُ الإنسانَ النُّطقَ والفَهمَ، والإبانةَ عَمَّا في نَفْسِه بالكَلامِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/223)، ((تفسير القرطبي)) (17/152، 153)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/233)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/489)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 302). قال ابن عاشور: (والبيانُ: الإعرابُ عمَّا في الضَّميرِ مِن المقاصِدِ والأغراضِ، وهو النُّطْقُ، وبه تَمَيُّزُ الإنسانِ عن بَقِيَّةِ أنواعِ الحيوانِ، فهو مِن أعظَمِ النِّعَمِ. وأمَّا البيانُ بغيرِ النُّطقِ مِن إشارةٍ وإيماءٍ ولمحِ النَّظرِ فهو أيضًا مِن مُمَيِّزاتِ الإنسانِ، وإنْ كان دونَ بيانِ النُّطقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). وقال السعدي: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أي: التَّبيينَ عمَّا في ضميرِه، وهذا شاملٌ للتَّعليمِ النُّطقيِّ والتَّعليمِ الخطِّيِّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 828). وقال ابن عثيمين: (الْبَيَانَ أي: ما يُبِينُ به عمَّا في قَلبِه، وأيضًا ما يَستَبينُ به عندَ المُخاطَبةِ؛ فهنا بيانانِ: البَيانُ الأوَّلُ مِن المتكَلِّمِ، والبَيانُ الثَّاني مِن المخاطَبِ؛ فالبَيانُ مِن المتكلِّمِ يعني التَّعبيرَ عمَّا في قَلبِه، ويكونُ باللِّسانِ نُطْقًا، ويكونُ بالبَنانِ كتابةً...، وأيضًا عَلَّمَهُ الْبَيَانَ كيف يَستبينُ الشَّيءَ، وذلك بالنِّسبةِ للمُخاطَبِ، يَعلَمُ ويَعرِفُ ما يقولُ صاحِبُه، ولو شاء اللهُ تعالى لأسمعَ المخاطَبَ الصَّوتَ دون أنْ يَفهَمَ المعنى). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 302). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] .
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى ما أنعَمَ به على الإنسانِ مِن تَعليمِه البَيانَ؛ ذكَرَ ما امتَنَّ به مِن وُجودِ الشَّمسِ والقَمَرِ، وما فيهما مِنَ المنافِعِ العَظيمةِ للإنسانِ؛ إذ هما يَجريانِ على حِسابٍ مَعلومٍ وتَقديرٍ سَوِيٍّ في بُروجِهما ومَنازِلِهما [21] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/55). .
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5).
أي: الشَّمسُ والقَمَرُ يَجريانِ بحِسابٍ دَقيقٍ مُتقَنٍ لا يَختَلِفُ ولا يَضطَرِبُ، ولا يُجاوِزانِ مَنازِلَهما، ولا يتأخَّرانِ في جَرَيانِهما، فيَحسِبُ النَّاسُ بهما السِّنينَ والشُّهورَ والأيَّامَ والأوقاتَ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/173)، ((الوسيط)) للواحدي (4/217)، ((تفسير الزمخشري)) (4/443)، ((تفسير القرطبي)) (17/153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/235)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/491)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 302، 303). .
كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] .
وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6).
أي: وجَميعُ النُّجومِ والأشجارِ تَسجُدُ للرَّحمنِ [23] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/197، 226)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/491)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 303). قال ابن جرير: (اخْتَلَف أهلُ التَّأويلِ في معنَى النَّجْمِ في هذا الموضعِ، معَ إجماعِهم على أنَّ الشَّجَرَ ما قامَ على ساقٍ؛ فقال بعضُهم: عُنِيَ بالنَّجمِ في هذا الموضعِ مِن النَّباتِ: ما نَجَم مِن الأرضِ، ممَّا يَنْبَسِطُ عليها، ولم يَكُنْ على ساقٍ، مِثلَ البَقْلِ ونحوِه... وقال آخَرونَ: عُنِيَ بالنَّجمِ في هذا الموضعِ: نَجْمُ السَّماءِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/173، 174). وقال الزَّجَّاجُ: (قال أهلُ اللُّغةِ وأكثَرُ أهلِ التَّفسيرِ: النَّجمُ: كُلُّ ما نَبَت على وَجهِ الأرضِ مِمَّا ليس له ساقٌ، والشَّجَرُ: كُلُّ ما له ساقٌ، ومعنى سُجودِهما: دَوَرانُ الظِّلِّ معهما، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ [النحل: 48] . وقد قيلَ: إنَّ النَّجمَ أيضًا يرادُ به النُّجومُ. وهذا جائِزٌ أن يكونَ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد أعلَمَنا أنَّ النَّجَمَ يَسجُدُ، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ [الحج: 18] . ويجوزُ أن يكونَ النَّجمُ هاهنا يعني به: ما نَبَت على وَجهِ الأرضِ، وما طَلَع مِن نُجومِ السَّماءِ؛ يُقالُ لكُلِّ ما طَلَع: قد نَجَم). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/96). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالنَّجْمِ: النَّجمُ الَّذي في السَّماءِ: ابنُ القيِّم، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/197، 226)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/491)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 303). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: مجاهدٌ، وقَتادةُ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/174)، ((تفسير الماوردي)) (5/424)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/206)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489). قال ابنُ عثيمين: («النَّجْمُ» اسمُ جِنسٍ، والمرادُ به النُّجومُ... النُّجومُ العُلْيا الَّتي نشاهِدُها في السَّماءِ تَسجُدُ لله عَزَّ وجَلَّ سجودًا حقيقيًّا، لكِنَّنا لا نعلَمُ كيفيَّتَه؛ لأنَّ هذا مِنَ الأمورِ الَّتي لا تُدرِكُها العُقولُ، والشَّجَرُ يَسجُدُ لله عزَّ وجَلَّ سُجودًا حقيقيًّا، لكِنْ لا ندري كيف ذلك، واللهُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 303). وقد ذهب مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ، والبغوي، والزمخشري، وأبو حيَّان، والشوكاني: إلى أنَّ المرادَ بالنَّجْمِ: نَباتُ الأرضِ الَّذي ليس له ساقٌ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/195)، ((تفسير ابن جرير)) (22/176)، ((تفسير السمرقندي)) (3/378)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/325)، ((الوسيط)) للواحدي (4/218)، ((تفسير البغوي)) (4/331)، ((تفسير الزمخشري)) (4/443)، ((تفسير أبي حيان)) (10/56)، ((تفسير الشوكاني)) (5/158). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والسُّدِّيُّ، وسُفْيانُ الثَّوْريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/174)، ((تفسير الماوردي)) (5/424)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/206)، ((تفسير ابن كثير)) (7/489). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ للنَّجْمِ: البِقاعي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/236). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج: 18] .
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7).
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا.
أي: ورَفَع الرَّحمنُ السَّماءَ فَوقَ الأرضِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/177)، ((الوسيط)) للواحدي (4/218)، ((تفسير ابن عرفة)) (4/122)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 303). قال البِقاعي: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا أي: حِسًّا بعدَ أن كانت مُلتَصِقةً بالأرضِ، ففَتَقَها منها، وأعلاها عنها). ((نظم الدرر)) (19/147). .
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] .
وَوَضَعَ الْمِيزَانَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
فيها مُقابَلةٌ عَظيمةٌ بيْنَ رَفعِ السَّماءِ -الَّذي هو حَقٌّ وعَدلٌ وقُدرةٌ- والميزانِ الَّذي وَضَعه في الأرضِ؛ لِتَقوموا بالعَدلِ والإنصافِ، وبهذا العَدلِ قامت السَّمَواتُ والأرضُ [25] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/457). .
وَوَضَعَ الْمِيزَانَ.
أي: ووَضَع الرَّحمنُ العَدْلَ بيْنَ خَلْقِه في الأرضِ، والآلةَ الَّتي يُعرَفُ بها العَدلُ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/177)، ((تفسير ابن عطية)) (5/224)، ((تفسير القرطبي)) (17/154)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/237، 238)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/491)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 303، 304). قال ابنُ القيِّم: (الميزانُ يُرادُ به العَدلُ والآلةُ الَّتي يُعرَفُ بها العَدلُ وما يُضادُّه). ((إعلام الموقعين)) (1/103). وقال ابن تيميَّةَ: (قال تعالى: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وقال كثيرٌ مِن المفسِّرينَ: هو العدلُ. وقال بعضُهم: ما يوزَنُ به ويُعرَفُ العدلُ. وهما مُتلازِمانِ). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 384). وقال السعدي: (ووضَعَ اللهُ الميزانَ، أي: العَدلَ بيْنَ العِبادِ في الأقوالِ والأفعالِ، وليس المرادُ به الميزانَ المعروفَ وَحْدَه، بل... يَدخُلُ فيه الميزانُ المعروفُ، والمكيالُ الَّذي تُكالُ به الأشياءُ والمقاديرُ، والمِساحاتُ الَّتي تُضبَطُ بها المجهولاتُ، والحقائِقُ الَّتي يُفصَلُ بها بيْنَ المخلوقاتِ، ويُقامُ بها العَدلُ بَيْنَهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 829). .
كما قال تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف: 29] .
وقال سُبحانَه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] .
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8).
أي: لِئَلَّا تَتجاوزوا الحَدَّ فتَجوروا [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/178)، ((تفسير البغوي)) (4/331)، ((تفسير ابن عطية)) (5/225)، ((تفسير القرطبي)) (17/155)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 304). قال القرطبي: (الطُّغْيانُ: مُجاوَزةُ الحَدِّ. فمَن قال: الميزانُ: العَدلُ، قال: طُغيانُه: الجَورُ. ومَن قال: إنَّه الميزانُ الَّذي يُوزَنُ به، قال: طُغيانُه: البَخسُ). ((تفسير القرطبي)) (17/155). وقال ابنُ عاشور: (ولَفظُ الميزانِ يَسمَحُ بإرادةِ المَعنَيينِ، على طريقةِ استِعمالِ المُشتَرَكِ في معنَيَيه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/239). وممَّن قال بأنَّ المرادَ التَّعليلُ، أي: وَضَع الميزانَ لئَلَّا تَطْغَوا: البغويُّ، وابن عطية، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/331)، ((تفسير ابن عطية)) (5/225)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 304). قال ابنُ عاشور: (ويجوزُ أن تكونَ «أنْ» مَصدريَّةً بتَقديرِ لامِ الجَرِّ محذوفةً قَبْلَها. والتَّقديرُ: لئَلَّا تَطغَوا في الميزانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/238). وقيل: «أنْ» مُفَسِّرةٌ، و«لا» ناهيةٌ، والمعنى: النَّهيُ عن الطُّغيانِ. وممَّن جوَّز ذلك: ابنُ عطية، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/238). وقال البِقاعي: (أَلَّا تَطْغَوْا أي: لا تَتجاوَزوا الحدودَ فِي الْمِيزَانِ أي: الأشياءِ الموزونةِ مِن الموزوناتِ المعروفةِ، والعِلمِ والعملِ المقدَّرِ أحدُهما بالآخَرِ، وفي مساواةِ الظَّاهرِ والباطنِ والقولِ والفعلِ، فالميزانُ الثَّاني عامٌّ لميزانِ المعلوماتِ، وميزانِ المحسوساتِ). ((نظم الدرر)) (19/148). .
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9).
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ.
أي: وأقيموا وَزْنَ الأشياءِ بالعَدلِ التَّامِّ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/179)، ((تفسير ابن عطية)) (5/224)، ((تفسير القرطبي)) (17/154)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 304). .
كما قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] .
وقال سُبحانَه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] .
وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ.
أي: ولا تَنقُصوا الوَزنَ، بل أعطُوا الحُقوقَ كامِلةً وافِيةً [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/179)، ((الوسيط)) للواحدي (4/218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829). قال ابن عاشور: (إنْ حُمِلَ الْمِيزَانَ فيه على معنى العَدلِ كان المعنى: النَّهيَ عن التَّهاوُنِ بالعَدلِ؛ لغَفلةٍ أو تسامُحٍ بعدَ أنْ نهى عن الطُّغيانِ فيه، ... وإنْ حُمِلَ فيه على آلةِ الوَزنِ كان المعنى: النَّهيَ عن غَبْنِ النَّاسِ في الوَزنِ لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/240). .
كما قال شُعَيبٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود: 84] .
وقال سُبحانَه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 1 - 6] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وُجوبُ العَدلِ في الوَزنِ، وتحريمُ البَخْسِ فيه [30] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 253). .
2- عَن قَتادةَ في قَولِه تعالى: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ قال: (اعْدِلْ يا ابنَ آدَمَ كما تُحِبُّ أن يُعدَلَ عليك، وأَوْفِ كما تُحِبُّ أن يُوفَى لك؛ فإنَّ العَدلَ يُصلِحُ النَّاسَ) [31] أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (22/178)، وابن المنذر كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/692). .
3- لَمَّا كانت السَّماءُ مع عُلُوِّها الدَّالِّ على عِزَّةِ مُوجِدِها ومُدَبِّرِها دالَّةً على عَدْلِه باعتِدالِ جميعِ أحوالِها مِنَ الحَرِّ والبَردِ، والمطَرِ والثَّلجِ، والنَّدى والطَّلِّ وغَيرِ ذلك؛ في أنَّ كُلَّ فَصلٍ منها معادِلٌ لضِدِّه، وأنَّها لا يُنزِلُها سُبحانَه إلَّا بقَدَرٍ مَعلومٍ، وإلَّا لفَسَدت الأرضُ كُلُّها- دَلَّنا على أنَّه شَرَعَ لنا مِثلَ ذلك العَدلِ؛ لِتَقومَ أحوالُنا، وتَصلُحَ أقوالُنا وأفعالُنا بما قامت به السَّمَواتُ والأرضُ- فقال: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أي: العَدْلَ [32] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/147، 148). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ ابتدأَ سُبحانَه هذه السُّورة بـ الرَّحْمَنُ؛ عُنوانًا على أنَّ ما بَعْدَه كلَّه مِن رَحمةِ اللهِ تعالى [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 301). .
2- في قَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَصَّ سُبحانَه مِن أسمائِه الحُسنى هذا الاسمَ؛ إشعارًا برَحمتِه بالكِتابِ، وعَظيمِ إحسانِه به [34] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/142). .
3- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ردٌّ على الكُفَّارِ في قَولِهم: «إنَّه تعَلَّمَ هذا القُرآنَ مِن بَشَرٍ»؛ ففيه إشارةٌ إلى أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ تعالى، لا كَلامُ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/337)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/488). .
4- قال تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ فدلَّ تعليمُه القرآنَ على أنَّه يقدِرُ أنْ يعلِّمَ ما أراد مَن أراد، وكما قال تعالى: وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [36] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/141). [البقرة: 31] .
5- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ أنَّ اللهَ تعالى يَبدأُ بالشَّرائعِ قبْلَ ذِكْرِ الخَلْقِ وما يَتعَلَّقُ به؛ لأنَّ المخلوقاتِ إنَّما سُخِّرَتْ للقيامِ بطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال اللهُ تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 17). [الذاريات: 56].
6- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ دَلَّتْ هذه الكَلِماتُ على إعطائِه سُبحانَه مراتِبَ الوُجودِ بأَسْرِها؛ فقَولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ إخبارٌ عن الإيجادِ الخارجيِّ العَينيِّ، وخَصَّ الإنسانَ بالخَلْقِ؛ لأنَّه مَوضِعُ العِبْرةِ، والآيةُ فيه عَظيمةٌ، وقَولُه: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ إخبارٌ عن إعطاءِ الوُجودِ العِلميِّ الذِّهنيِّ، فإنَّما تَعَلَّمَ الإنسانُ القُرآنَ بتَعليمِه، كما أنَّه إنَّما صار إنسانًا بخَلْقِه، فهو الَّذي خَلَقَه وعَلَّمَه، ثمَّ قال: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ والبَيانُ يَتناوَلُ مراتبَ ثلاثةً كلٌّ منها يُسمَّى بيانًا؛ أحدُها: البيانُ الذِّهنيُّ الَّذي يُميِّزُ فيه بيْنَ المعلوماتِ. الثَّاني: البيانُ اللَّفظيُّ الَّذي يُعَبِّرُ به عن تلك المعلوماتِ، ويُتَرجِمُ عنها فيه لغَيرِه. الثَّالثُ: البيانُ الرَّسميُّ الخَطِّيُّ الَّذي يَرسُمُ به تلك الألفاظَ؛ فيَتبيَّنُ النَّاظِرُ معانيَها كما يَتبيَّنُ للسَّامعِ معاني الألفاظِ. فهذا بَيانٌ للعَينِ، وذاك بَيانٌ للسَّمعِ، والأوَّلُ بَيانٌ للقَلبِ، وكثيرًا ما يَجمَعُ سُبحانَه بيْنَ هذه الثَّلاثةِ، كقَولِه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] ، وقولِه: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، ويَذُمُّ مَن عَدِمَ الانتِفاعَ بها في اكتِسابِ الهُدى والعِلمِ النَّافِعِ، كقَولِه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] ، وقَولِه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [38] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/279). [البقرة: 7] .
7- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ بَدَأَ اللهُ تعالى بتعليمِ القُرآنِ قَبْلَ خَلْقِ الإنسانِ؛ إشارةً إلى أنَّ نِعمةَ اللهِ علينا بتعليمِ القرآنِ أشدُّ وأبلغُ مِن نعمتِه بخَلْقِ الإنسانِ، وإلَّا فمِنَ المعلومِ أنَّ خَلْقَ الإنسانِ سابِقٌ على تعليمِ القُرآنِ، لكنْ لَمَّا كان تَعليمُ القرآنِ أعظمَ مِنَّةٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ على العَبدِ، قَدَّمَه على خَلْقِه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 302). ؛ لأنَّ أصلَ النِّعَمِ الدِّينيَّةِ وأجَلَّها هو إنعامُه بالقُرآنِ وتَنزيلُه وتعليمُه؛ فإنَّه أساسُ الدِّينِ، ومَنشأُ الشَّرعِ، وأعظَمُ الوَحيِ، وأعزُّ الكُتُبِ؛ إذ هو بإعجازِه واشتِمالِه على خُلاصتِها مُصَدِّقٌ لِنَفْسِه ومِصْداقٌ لها [40] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/170). .
8- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ تعالى، وكَلامُ اللهِ صفةٌ مِن صفاتِ ذاتِه، وليس شيءٌ مِن صفاتِ ذاتِه مَخلوقًا ولا مُحدَثًا ولا حادِثًا، فخَصَّ سُبحانَه القُرآنَ بالتَّعليمِ؛ لأنَّه كَلامُه وصِفتُه، وخَصَّ الإنسانَ بالتَّخليقِ؛ لأنَّه خَلْقُه ومَصنوعُه، ولولا ذلك لَقال: «خَلَقَ القُرآنَ والإنسانَ» [41] يُنظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 94). ، واللهُ تعالى ذَكَر القُرآنَ في كِتابِه في أربعةٍ وخمسينَ مَوضِعًا، ما فيها موَضِعٌ صَرَّح فيه بلَفظِ الخَلْقِ، ولا أشار إليه، وذكَرَ الإنسانَ على الثُّلُثِ مِن ذلك؛ في ثمانيةَ عَشَرَ مَوضِعًا، كُلُّها نَصَّت على خَلْقِه، وقد اقتَرَن ذِكرُهما في هذه السُّورةِ على هذا النَّحوِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/223). .
9- تأمَّلْ قَولَه تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ كيفَ جَعَل الخَلْقَ والتَّعليمَ ناشِئًا عن صِفةِ الرَّحمةِ، مُتعَلِّقًا باسمِ الرَّحمنِ، وجَعَل معانيَ السُّورةِ مُرتَبِطةً بهذا الاسمِ، وختَمَها بقَولِه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 78]؛ فالاسمُ الَّذي تبارَكَ هو الاسمُ الَّذي افتَتَح به السُّورةَ؛ إذ مجيءُ البَرَكةِ كُلِّها منه، وبه وُضِعَت البَرَكةُ في كُلِّ مُبارَكٍ، فكُلُّ ما ذُكِرَ عليه بُورِكَ فيه، وكُلُّ ما خَلِيَ منه نُزِعَت منه البَرَكةُ؛ فإنْ كان مُذَكًّى وخَلِيَ منه اسمُه، كان مَيتةً، وإن كان طعامًا، شارَكَ صاحِبَه فيه الشَّيطانُ، وإن كان مَدخَلًا، دَخَل معه فيه، وإن كان حَدَثًا، لم يُرفَعْ عندَ كثيرٍ مِن العُلَماءِ، وإن كان صَلاةً، لم تَصِحَّ عندَ كَثيرٍ منهم [43] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 369). !
10- في قَولِه تعالى: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ إلى قَولِه: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ مُناسَبةٌ بيْنَ القُرآنِ والميزانِ؛ فإنَّ القُرآنَ فيه مِنَ العِلمِ ما لا يُوجَدُ في غَيرِه مِنَ الكُتُبِ، والميزانَ فيه مِنَ العَدلِ ما لا يُوجَدُ في غَيرِه مِنَ الآلاتِ [44] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/344). .
11- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ لم يَذكُرْ سُبحانَه خَلْقَ غيرِ الإنسانِ؛ لأنَّ أشرَفَ المخلوقاتِ جِنسًا هم البَشَرُ، مِن حيثُ الجِنسُ لا مِن حيثُ الأفرادُ؛ لأنَّ بَعضَ البَشَرِ أخَسُّ مِن الأنعامِ؛ قال اللهُ تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] ، لكِنَّ البَشَرَ مِن حيثُ الجنسُ هم أفضلُ أجناسِ المَخلوقاتِ [45] يُنظر: ((دروس الحرم المدني)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 2). .
12- استدَلَّ بَعضُهم بقَولِه تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ على أنَّ الألفاظَ تَوقيفيَّةٌ [46] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/338)، ((تفسير ابن عادل)) (18/295). قال الطُّوفي: (هذه المسألةُ مِن مسائلِ اللُّغاتِ مِن أصولِ الفقهِ، وقد اختُلِف فيها؛ فقيل: اللُّغاتُ توقيفٌ، وقيل: اصْطِلاحٌ، وقيل: القَدْرُ المعرِّفُ للتَّخاطُبِ توقيفٌ، والباقي اصطلاحٌ، وقيل غيرُ ذلك، وهذه المسألةُ مِن رياضاتِ الفنِّ، لا مِن ضَروريَّاتِه). ((الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية)) (ص: 49). ويُنظر: ((روضة الناظر وجنة المناظر)) لابن قدامة (1/485)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/90) و(12/446)، ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (1/12)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 205). .
13- في قَولِه تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أنَّ عدَمَ البيانِ صِفةُ نَقصٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى مَيَّزَ الإنسانَ بالنُّطقِ والبَيانِ، الَّذي فَضَّلَه به على سائرِ الحَيوانِ [47] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/365). .
14- في قَولِه تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ إشارةٌ إلى أنَّ نِعمةَ البَيانِ مِن أجَلِّ النِّعَمِ على الإنسانِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
15- في قَولِه تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ تَنويهٌ بالعُلومِ الزَّائدةِ في بيانِ الإنسانِ، وهي خصائِصُ اللُّغةِ وآدابُها [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
16- قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ بعدَ ذِكرِ القُرآنِ، وكان هو كافيًا لا يُحتاجُ معه إلى دليلٍ آخَرَ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ بَعضَ النَّاسِ إنْ لم تكُنْ له النَّفْسُ الزَّكيَّةُ الَّتي يُغنيها اللهُ بالدَّلائِلِ الَّتي في القُرآنِ، فله في الآفاقِ آياتٌ: منها الشَّمسُ والقَمَرُ [50] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/339). .
17- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ سؤالٌ: ما معنى الجَمعِ بيْنَ آلةِ الوَزنِ والسَّماءِ؟ وأين الميزانُ مِنَ السَّماءِ؟! وإنَّما يُوصَلُ الشَّيءُ بجِنسِه وشِبْهِه!
الجوابُ: أنَّ الجَمعَ لم يكُنْ مِن قِبَلِ النَّظَرِ في شَخصِ الميزانِ وصِغَرِه، ولو نُظِرَ إلى مَبلغِ الحاجةِ إليه لَاستُعظِمَ مِن أمرِه ما استُصغِرَ، معَ ما في النُّفوسِ مِن الظُّلمِ ما يُبعِدُ عن العَدلِ في التَّعامُلِ لولا الميزانُ؛ ألَا ترَى إلى قَولِه تعالى: أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى: 17] ؛ إذ كان الكِتابُ يتضَمَّنُ حِفظَ العَدلِ، والميزانُ يُظهِرُ العَدْلَ؛ فقَرَن آلةَ العَمَلِ إلى آلةِ العِلمِ، ومَنِ اعتبَرَ حالَ الميزانِ بحَجْمِه دونَ مَنافِعِه كان كمَن اعتبَرَ القَلَمَ بشَخصِه إذ رآه قِطعةَ قَصَبٍ! وقد عَظَّمَه اللهُ في قَولِه: ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] ، وقَولِه: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [51] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1426). [العلق: 4] .
18- قال تعالى: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ أي: أنزَلَ اللهُ الميزانَ؛ لئلَّا تَتجاوَزوا الحَدَّ في الميزانِ؛ فإنَّ الأمرَ لو كان يَرجِعُ إلى عُقولِكم وآرائِكم لحَصَل مِنَ الخَلَلِ ما اللهُ به عليمٌ، ولفَسَدت السَّمَواتُ والأرضُ [52] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 829). .
19- في قَولِه تعالى: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ إشارةٌ إلى العَدلِ، وفيه لطيفةٌ: وهي أنَّه تعالى بدأ أوَّلًا بالعِلمِ، ثمَّ ذَكَر ما فيه أشرَفُ أنواعِ العُلومِ، وهو القُرآنُ، ثمَّ ذَكَر العَدلَ، وذَكَر أخَصَّ الأُمورِ له، وهو الميزانُ، وهو كقَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25] ؛ لِيَعمَلَ النَّاسُ بالكِتابِ، ويَفعَلوا بالميزانِ ما يأمُرُهم به الكِتابُ [53] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/342). .
20- في قَولِه تعالى: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ سُؤالٌ عن الميزانِ: أنَّه ما الَّذي فيه مِنَ النِّعَمِ العظيمةِ الَّتي بسَبَبِها يُعَدُّ في الآلاءِ؟
 الجَوابُ: النُّفوسُ تأبى الغَبْنَ، ولا يَرضى أحدٌ بأن يَغلِبَه الآخَرُ -ولو في الشَّيءِ اليَسيرِ-، ويَرى أنَّ ذلك استِهانةٌ به؛ فلا يَترُكُه لخَصمِه لغَلَبةٍ، فلا أحَدَ يَذهَبُ إلى أنَّ خَصْمَه يَغلِبُه، فلولا التَّبيينُ ثمَّ التَّساوي لأوقَعَ الشَّيطانُ بيْنَ النَّاسِ البَغضاءَ -كما وَقَع عندَ الجَهلِ، وزَوالِ العَقلِ، والسُّكْرِ-، فكما أنَّ العَقلَ والعِلمَ صارا سَبَبًا لبَقاءِ عِمارةِ العالَمِ؛ فكذلك العَدلُ في الحِكمةِ سَبَبٌ، وأخَصُّ الأسبابِ الميزانُ؛ فهو نِعمةٌ كامِلةٌ، ولا يُنظَرُ إلى عدَمِ ظُهورِ نِعمَتِه لكَثرتِه، وسُهولةِ الوُصولِ إليه،كالهَواءِ والماءِ اللَّذَينِ لا يتبَيَّنُ فَضلُهما إلَّا عندَ فَقدِهما [54] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/342). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
- قولُه: الرَّحْمَنُ إمَّا خبَرٌ لمُبتدأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: هو الرَّحمنُ، أو مُبتدأٌ خبَرُه مَحذوفٌ، يُقدَّرُ بما يُناسِبُ المَقامَ. ويجوزُ أنْ يكونَ واقعًا مَوقعَ الكلماتِ الَّتي يُرادُ لفْظُها؛ للتَّنبيهِ على غلَطِ المُشرِكين؛ إذ أنْكَروا هذا الاسمَ؛ قال تعالَى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] ، فيَكونَ مَوقعُه شَبيهًا بمَوقعِ الحروفِ المُقطَّعةِ الَّتي يُتهجَّى بها في أوائلِ بعضِ السُّوَرِ -على أظهَرِ الوجوهِ في تأْويلِها-، وهو التَّعريضُ بالمُخاطَبينَ بأنَّهم أخْطؤوا في إنكارِهم الحقائقَ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/230). .
- ومِن بَديعِ أُسلوبِ السُّورة افتتاحُها الباهرُ باسمِه الرَّحمنِ، وهي السُّورة الوَحيدةُ المُفتتَحةُ باسمٍ مِن أسماءِ اللهِ لم يَتقدَّمْه غيرُه. وكان في افتِتاحِ السُّورة باسمِ الرَّحمنِ تَشويقُ جَميعِ السَّامِعينَ إلى الخبَرِ الَّذي يُخبَرُ به عنه؛ إذ كان المُشرِكون لا يأْلَفون هذا الاسمَ؛ قال تعالى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] ، فهُمْ إذا سَمِعوا هذه الفاتحةَ تَرقَّبوا ما سيَرِدُ مِن الخبَرِ عنه، والمؤمنونَ إذا طرَقَ أسماعَهم هذا الاسمُ، استَشْرَفوا لِما سيَرِدُ مِن الخبرِ المناسِبِ لوصْفِه هذا ممَّا هم مُتشوِّقون إليه مِن آثارِ رَحمتِه [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/229، 230). .
- وأُوثِرَ استِحضارُ الجَلالةِ باسْمِ الرَّحْمَنُ دونَ غيرِه مِن الأسماءِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ يَأبَونَ ذِكرَه، فجُمِعَ في هذه الجُملةِ بيْنَ رَدَّينِ عليهم، معَ ما للجُملةِ الاسميَّةِ مِن الدَّلالةِ على ثَباتِ الخبَرِ. ولأنَّ مُعظَمَ هذه السُّورةِ تَعدادٌ للنِّعمِ والآلاءِ؛ فافتِتاحُها باسمِ الرَّحمنِ بَراعةُ استِهلالٍ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/230، 231). .
- وفي قولِه: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ جِيءَ بالمُسنَدِ عَلَّمَ فِعلًا مُؤخَّرًا عن المُسنَدِ إليه الرَّحْمَنُ؛ لإفادةِ التَّخصيصِ، أي: هو علَّمَ القرآنَ، لا بشَرٌ علَّمَه [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/230). .
- وحُذِفَ المفعولُ الأوَّلُ لفِعلِ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ؛ لظُهورِه لدَلالةِ المعْنى عليه، فقيل: التَّقديرُ: علَّمَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم ادَّعَوا أنَّه مُعلَّمٌ، وإنَّما أنْكَروا أنْ يكونَ مُعلِّمُه القرآنَ هو اللهَ تعالى، وهذا تَبكيتٌ أوَّلُ. وقيل: علَّمَ جِبريلَ، أو الإنسانَ [59] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/231). .
- وفي قولِه: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ أُسنِدَ تَعليمُ القرآنِ إلى اسمِ الرَّحمنِ؛ للإيذانِ بأنَّه مِن آثارِ الرَّحمةِ الواسعةِ وأحْكامِها، وقد اقتُصِرَ على ذِكرِه؛ تَنبيهًا على أصالتِه، وجَلالةِ قَدْرِه [60] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/176). .
- وقولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ خبَرٌ ثانٍ، والمُرادُ بالإنسانِ جِنسُ الإنسانِ، وهذا تَمهيدٌ للخبَرِ الآتي، وهو عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 4]، وهذه قَضيَّةٌ لا يُنازِعون فيها، ولكنَّهم لَمَّا أعْرَضوا عن مُوجَبِها -وهو إفرادُ اللهِ تعالى بالعِبادةِ-، سِيقَ لهم الخبَرُ بها على أُسلوبِ التَّعديدِ بدونِ عطْفٍ، كالَّذي يَعُدُّ للمُخاطَبِ مَواقعَ أخطائِه وغَفلتِه، وهذا تَبكيتٌ ثانٍ؛ ففي خلْقِ الإنسانِ دَلالتانِ؛ أُولاهما: الدَّلالةُ على تَفرُّدِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ. وثانيتُهما: الدَّلالةُ على نِعمةِ اللهِ على الإنسانِ، والخلْقُ نِعمةٌ عَظيمةٌ؛ لأنَّ فيها تَشريفًا للمخلوقِ بإخراجِه مِن غَياهِبِ العدَمِ إلى مَبْرَزِ الوجودِ في الأعيانِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/232، 233). .
- وقُدِّمَ خَلْقُ الإنسانِ على خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ لِمُناسَبةِ إردافِه بتَعليمِ القُرآنِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
- وأيضًا في قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ جِيءَ بالمُسنَدِ فِعلًا بعْدَ المُسنَدِ إليه الرَّحْمَنُ، وهو يُفيدُ تَقوِّي الحُكمِ، أو للتَّخصيصِ؛ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ خلَقَ الإنسانَ؛ لأنَّهم عَبَدوا غيرَه [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
- وفي قولِه: عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ (العَلَقِ): اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] ، ثمَّ قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 3، 4]، فقدَّمَ الخلْقَ على التَّعليمِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه في تلك السُّورةِ لم يُصرِّحْ بتَعليمِ القُرآنِ؛ فهو كالتَّعليمِ الَّذي ذَكَرَه في هذه السُّورة بقولِه: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ بعدَ قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ [64]() يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/338). .
وقيل: لأنَّ سورةَ (العَلَقِ) أوَّلُ ما نزَل مِن القرآنِ، ولم يكُنِ القرآنُ معهودًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا لغيرِه، وسورةُ (الرحمنِ): نزَلت بعدَ معرفةِ القرآنِ، وشهرتِه عندَهم، فكان الابتداءُ بما يعرِفُه مِن تقديمِ الخلقِ في سورةِ (العلقِ) أنسبُ مِن القرآنِ الذي لم يعهَدْه، وكان الابتداءُ بتعليمِ القرآنِ الذي نعرِفُه، والمنَّةُ به في سورةِ (الرحمنِ) أنسبُ لسياقِ ما ورَدت به السُّورةُ مِن عظيمِ المنَّةِ على العبادِ [65] يُنظر: ((كشف المعانى فى المتشابه من المثانى)) لابن جماعة (ص: 346). .
- وقولُه: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ خبَرٌ ثالثٌ تضمَّنَ الاعتِبارَ بنِعمةِ الإبانةِ عن المُرادِ، والامتِنانَ بها بعْدَ الامتنانِ بنِعمةِ الإيجادِ، أي: علَّم جِنسَ الإنسانِ أنْ يُبِينَ عمَّا في نفْسِه ليُفيدَ غيرَه ويَستفيدَ هو [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
- وكذلك قولُه: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ فيه مَجيءُ المُسنَدِ فِعلًا بعدَ المُسنَدِ إليه؛ لإفادةِ تَقوِّي الحُكمِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233). .
- وفي قولِه: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ تَبْكيتٌ؛ ووجْهُه أنَّهم لم يَشكُروه على نِعمةِ البيانِ؛ إذ صَرَفوا جُزءًا كبيرًا مِن بَيانِهم فيما يُلْهِيهم عن إفرادِ اللهِ بالعبادةِ، وفيما يُنازِعون به مَن يَدْعوهم إلى الهُدى [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/233، 234). .
- وفي قولِه: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ عدَّدَ اللهُ عزَّ وعَلا آلاءَه، فأرادَ أنْ يُقدِّمَ أوَّلَ شَيءٍ ما هو أسبَقُ قِدَمًا مِن ضُروبِ آلائِه، وأصنافِ نَعمائِه، وهي نِعمةُ الدِّينِ، فقدَّمَ مِن نِعمةِ الدِّينِ ما هو في أعْلى مَراتبِها، وأقْصى مَراقِيها؛ وهو إنعامُه بالقرآنِ وتَنزيلِه وتَعليمِه؛ لأنَّه أعظَمُ وَحْيِ اللهِ رُتبةً، وأعلاه مَنزلةً، وأحسَنُه في أبوابِ الدِّينِ أثرًا، وهو سَنامُ الكتُبِ السَّماويَّةِ، ومِصداقُها والعِيارُ [69] العِيَارُ: مصدرُ عايَرَ المَكاييلَ؛ إذا عدَّلها، والمُعَدِّلُ يكون حفيظًا على المُعدَّلِ ومُهَيْمِنًا عليه، أي: القرآنُ عِيارٌ على سائرِ الكتبِ كلِّها، ومُصَدِّقُها، ومُهَيْمِنٌ عليها. يُنظر: ((حاشية الطِّيبي على الكشاف)) (15/146، 147). عليها. وأخَّر ذِكرَ خلْقِ الإنسانِ عن ذِكرِه، ثمَّ أتْبَعَه إيَّاه؛ لِيُعْلِمَ أنَّه إنَّما خلَقَه للدِّينِ، وليُحيطَ عِلمًا بوَحْيِه وكُتبِه وما خُلِقَ الإنسانُ مِن أجْلِه، وكأنَّ الغرَضَ في إنشائِه كان مُقدَّمًا عليه، وسابقًا له، ثمَّ ذكَرَ ما تَميَّزَ به عن سائرِ الحيوانِ مِن البَيانِ، وهو المنطِقُ الفَصيحُ المُعرِبُ عمَّا في الضَّميرِ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/443)، ((تفسير البيضاوي)) (5/170)، ((تفسير أبي السعود)) (8/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/229، 232). .
2- قولُه تعالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
- قولُه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ خبَرٌ رابعٌ عن الرَّحْمَنُ، ورابطُ الجُملةِ بالمُبتدأِ تَقديرُه: بحُسبانِه، أي: حُسبانِ الرَّحمنِ وضبْطِه، وهذا استِدلالٌ على التَّفرُّدِ بخلْقِ كوكبِ الشمسِ وكُرةِ القمَرِ، وامتِنانٌ بما أُودِعَ فيهما مِن مَنافعَ للنَّاسِ، ونِظامِ سَيرِهما الَّذي به تَدقيقُ نِظامِ مُعاملاتِ النَّاسِ واستِعْدادهم لِما يَحتاجون إليه عندَ تَغيُّراتِ أجْوائهم وأرزاقِهم، ويَتضمَّنُ الامتِنانَ بما في ذلك مِن مَنافعِهم [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/234). .
- وفيه تَبكيتٌ، ووجْهُه: أنَّهم غَفَلوا عمَّا في نِظامِ الشَّمسِ والقَمرِ مِن الحِكمةِ، وما يدُلُّ عليه ذلك النِّظامُ مِن تَفرُّدِ اللهِ بتَقديرِه، فاشتغَلَ بعضُهم بعِبادةِ الشَّمسِ، وبعضُهم بعِبادةِ القمرِ، كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/234). [فصلت: 37].
- وأيضًا في قولِه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ جِيءَ بهذه الجُملةِ اسميَّةً؛ للتَّهويلِ بالابتداءِ باسمِ الشَّمسِ والقمرِ، وللدَّلالةِ على أنَّ حُسبانَهما ثابتٌ لا يَتغيَّرُ منذُ بَدْءِ الخلْقِ، مُؤْذِنٌ بحِكمةِ الخالقِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/234). .
- واستُغْنِيَ بجَعْلِ اسمِ الشَّمسِ والقمَرِ مُسنَدًا إليهما عن تَفكيكِ المُسنَدِ إلى مُسندَينِ: أحدُهما يدُلُّ على الاستِدلالِ، والآخَرُ يدُلُّ على الامتِنانِ، كما وقَعَ في قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/234). [الرحمن: 3، 4].
- قولُه: بِحُسْبَانٍ الباءُ للمُلابَسةِ، وهي ظرْفٌ مُستقَرٌّ [75]  الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). هو خبَرٌ عن الشَّمسِ والقمَرِ، والتَّقديرُ: كائنانِ بحُسبانٍ، أي: بمُلابَسةِ حُسبانٍ، أي: لحِسابِ النَّاسِ مَواقِعَ سَيرِهما [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/234). .
- والحُسبانُ كِنايةٌ عن انتظامِ سَيرِ الشَّمسِ والقمَرِ انتظامًا مُطَّرِدًا، لا يَختلُّ حِسابُ النَّاسِ له، والتَّوقيتُ به [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/235). .
- واقتُصِرَ على ذِكرِ الشَّمسِ والقمرِ دونَ بَقيَّةِ الكواكبِ، وإنْ كان فيها حُسبانُ الأنواءِ، والحَرِّ والبرْدِ -مِثل الجَوزاءِ، والشِّعْرى، ومَنزلةِ الأسَدِ، والثُّرَيَّا-؛ لأنَّ هذَين الكوكبَينِ هما الباديانِ لجميعِ النَّاسِ، لا يَحتاجُ تَعقُّلُ أحوالِهما إلى تَعليمِ تَوقيتٍ مِثلَ الكواكبِ الأُخرى، ولأنَّ السُّورةَ هذه بُنِيَت على ذِكرِ الأُمورِ المُزدوَجةِ، والشَّمسُ والقمرُ مُزدوجانِ في مَعارفِ عُمومِ النَّاسِ، فذِكْرُ الشَّمسِ والقمرِ كذِكْرِ السَّماءِ والأرضِ، والمَشرِقِ والمَغربِ، والبحرَينِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/235). .
أو: خَصَّهما بالذِّكْرِ؛ لأنَّ حَرَكتَهما بحُسبانٍ تدُلُّ على فاعلٍ مُختارٍ سَخَّرَهما على وَجهٍ مَخصوصٍ [79] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/339). .
- قولُه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ اتَّصَلت هاتانِ الجُملتانِ بـ الرَّحْمَنُ، واستُغْنِيَ فيهما عن الوصْلِ اللَّفظيِّ بالوصْلِ المَعنويِّ، وكان حقُّ النَّظمِ في الجُملتينِ أنْ يُقالَ: وأجْرى الشَّمسَ والقمَرَ، وأسجَدَ النَّجمَ والشَّجرَ، أو الشَّمسُ والقَمَرُ بحُسبانِه، والنَّجمُ والشَّجرُ يَسجُدانِ له؛ إشعارًا بأنَّ وُضوحَه يُغْنيهِ عن البيانِ، ولِما عُلِمَ أنَّ الحُسبانَ حُسبانُه، والسُّجودَ له لا لغيرِه. وللتَّناسُبِ بيْن هاتَين الجُملتَينِ وُسِّط بيْنَهما العاطفُ؛ لأنَّ الشَّمسَ والقمرَ سَماويَّانِ، والنَّجمَ والشَّجرَ أرضيَّانِ، -على قولٍ في النَّجمِ- فبيْن القَبيلَينِ تَناسُبٌ مِن حيث التَّقابُلُ، ولأنَّ السَّماءَ والأرضَ لا تَزالانِ تُذْكَرانِ قَرينتَينِ، ولأنَّ جَرْيَ الشَّمسِ والقمرِ بحُسبانٍ مِن جِنسِ الانقيادِ لأمْرِ اللهِ، فهو مُناسِبٌ لسُجودِ النَّجمِ والشَّجرِ [80] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/443، 444)، ((تفسير البيضاوي)) (5/170)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/147)، ((تفسير أبي السعود)) (8/177). .
- قولُه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ عطْفٌ على جُملةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]، عطْفَ الخبَرِ على الخبرِ؛ لأنَّ سُجودَ الشَّمسِ والقمرِ للهِ تعالى، وهو انتقالٌ مِن الامتنانِ بما في السَّماء مِن المنافعِ إلى الامتنانِ بما في الأرضِ، وجُعِلَ لَفظُ (النَّجم) واسِطةَ الانتِقالِ لصَلاحيَّتِه لأنْ يُرادَ منه نُجومُ السَّماءِ، وما يُسمَّى نَجْمًا مِن نباتِ الأرضِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/235). .
- وعُطِفت جُملةُ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ولم تُفصَلْ، فخرَجَت مِن أُسلوبِ تَعدادِ الأخبارِ إلى أُسلوبِ عطْفِ بَعضِ الأخبارِ على بعْضٍ؛ لأنَّ الأخبارَ الواردةَ بعْدَ حُروفِ العطفِ لم يُقصَدْ بها التَّعدادُ؛ إذ ليس فيها تَعريضٌ بتَوبيخِ المُشرِكين، فالإخبارُ بسُجودِ النَّجمِ والشَّجرِ أُرِيدَ به الإيقاظُ إلى ما في هذا مِن الدَّلالةِ على عَظيمِ القدرةِ دَلالةً رمْزيَّةً، ولأنَّه لَمَّا اقْتَضى المَقامُ جمْعَ النَّظائرِ مِن المُزاوَجاتِ بعْدَ ذِكرِ الشَّمسِ والقمرِ، كان ذلك مُقتضيًا سُلوكَ طَريقةِ الوصْلِ بالعطْفِ بجامِعِ التَّضادِّ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/235، 236). .
- قولُه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ عطْفٌ على جُملةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]؛ ليُؤْذِنَ بأنَّ الأصلَ: أجْرى الشَّمسَ والقمَرَ، وأسجَدَ النَّجمَ والشجَرَ، فعُدِلَ إلى معْنى دَوامِ التَّسخيرِ والانقِيادِ في الجُملتينِ الأُولَيَين، ومعْنى التَّوكيدِ في الأخيرةِ؛ فدَلَّ الاختلافُ في الأخبارِ المُتواليةِ لـ الرَّحْمَنُ على مَعانٍ تَبْهَرُ ذا اللُّبِّ [83] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/151). !
- ولَمَّا ذكَرَ ما به حياةُ الأرواحِ مِن تَعليمِ القُرآنِ، ذكَرَ ما به حَياةُ الأشباحِ مِن النَّباتِ الَّذي له ساقٌ، وكان تَقديمُ النَّجمِ -وهو ما لا ساقَ له- وذلك على قولٍ؛ لأنَّه أصلُ القُوتِ، والَّذي له ساقٌ ثَمرُه يُتفكَّهُ به غالبًا [84] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/56). .
- ويُطلَقُ النَّجْمُ على النَّباتِ والحَشيشِ الَّذي لا سُوقَ له، فهو مُتَّصِلٌ بالتُّرابِ؛ فحصَلَ مِن قولِه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ بعْدَ قولِه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ قَرينتانِ مُتوازِيتانِ في الحرَكةِ والسُّكونِ، وهذا مِن المحسِّناتِ البَديعيَّةِ الكامِلةِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/236). . وذلك على قولٍ.
- وجُعِلَتِ الجُملةُ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ مُفتتَحةً بالمُسنَدِ إليه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ؛ لتكونَ على صُورةِ فاتحةِ الجُملةِ الَّتي عُطِفَتْ هي عليها [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/236). .
- وأُتِيَ بالمُسنَدِ فِعلًا مُضارِعًا يَسْجُدَانِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ هذا السُّجودِ وتَكرُّرِه [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/236). .
- قولُه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ على القولِ بأنَّ المرادَ بالنَّجمِ هنا: النَّباتُ الَّذي لا ساقَ له؛ ففيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بإيهامِ التَّناسُبِ، وهو أن يُجمَعَ بيْنَ معنيَينِ غيرِ مُتناسِبَينِ بلَفظَينِ يكونُ لهما مَعنَيانِ مُتناسِبانِ وإن لم يَكونا مَقصودَينِ هاهنا، كقولِه تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر لفظَ الشَّمسِ والقمرِ، وذكَر النَّجمَ بعدَهما في قولِه: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ فإنَّه أوْهَمَ أنَّ المرادَ بالنَّجمِ نَجمُ السَّماءِ؛ لِمُناسَبةِ الشَّمسِ والقمرِ، ولأنَّه أكثَرُ ما يُطلَقُ النَّجمُ على نَجمِ السَّماءِ، فتُوهمَ أنَّ المُناسَبةَ هنا هي مِن بابِ مُراعاةِ النَّظيرِ أو الائتِلافِ، بَيْدَ أنَّ المرادَ بالنَّجمِ هنا هو النَّباتُ الَّذي لا ساقَ له، وعلى ذلك ففي النَّصِ إيهامٌ للتَّناسُبِ بيْنَ النَّجمِ والشَّمسِ والقمرِ، وتَناسُبٌ واضحٌ بيْنَ النَّجمِ بمعناه الَّذي ذكَرْناه وبيْنَ الشَّجرِ.
 ويمكنُ أن يكونَ بيْنَ النَّجمِ بالمعنى المذكورِ وبيْنَ الشَّمسِ والقمرِ تَناسُبٌ لكنْ بطريقِ التَّقابُلِ أو المُضادَّةِ؛ لأنَّ الشَّمسَ والقمرَ سَماويَّانِ، والنَّجمَ والشَّجرَ أرْضيَّانِ [88] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/101)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/399)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/196). .
- وأخبَرَ عن اسمِ الرَّحْمَنُ بأربعةِ أخبارٍ مُتتاليةٍ غيرِ مُتعاطِفةٍ، رابعُها هو جُملةُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]؛ لأنَّها جِيءَ بها على نمَطِ التَّعديدِ في مَقامِ الامتِنانِ، وللتَّوقيفِ على الحَقائقِ، والتَّبكيتِ للخَصمِ في إنكارِهم صَريحَ بعْضِها، وإعراضِهم عن لَوازمِ بَعضِها، كما تقولُ: زَيدٌ أغناكَ بعْدَ فقْرٍ، أعَزَّك بعْدَ ذُلٍّ، كثَّرَك بعْدَ قِلَّةٍ، فعَلَ بك ما لم يَفعَلْ أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكِرُ مِن إحسانِه؟! ففَصْلُ جُملتَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 3، 4] عن جُملةِ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خِلافُ مُقْتضى الظَّاهرِ لنُكتةِ التَّعديدِ؛ للتَّبكيتِ. وعطَفَ عليها أربعةً أُخَرَ بحرْفِ العطفِ مِن قولِه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ إلى قولِه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرحمن: 6- 10]، وكلُّها دالَّةٌ على تَصرُّفاتِ اللهِ؛ ليُعلِمَهم أنَّ الاسمَ الَّذي استَنْكَروه هو اسمُ اللهِ، وأنَّ المُسمَّى واحدٌ [89] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/443)، ((تفسير البيضاوي)) (5/170)، ((تفسير أبي حيان)) (10/55)، ((تفسير أبي السعود)) (8/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/231)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/397). .
3- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ
- في قولِه: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ اطَّرَدَ أُسلوبُ المقابَلةِ بيْن ما يُشبِهُ الضِّدَّينِ بعْدَ مُقابَلةِ ذِكرِ الشَّمسِ والقَمرِ بذِكرِ النَّجْمِ والشَّجرِ؛ فجِيءَ بذِكرِ خلْقِ السَّماءِ وخلْقِ الأرضِ، وعاد الكلامُ إلى طَريقةِ الإخبارِ عن المسنَدِ إليه بالمسنَدِ الفِعليِّ؛ كما في قولِه: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ [الرحمن: 1، 2]، وهذا مَعطوفٌ على الخبرِ؛ فهو في معْناهُ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/237). .
- ورفْعُ السَّماءِ يَقْتضي خَلْقَها، وذُكِرَ رفْعُها؛ لأنَّه مَحلُّ العِبرةِ بالخلْقِ العجيبِ، ومعْنى رَفْعِها: خلْقُها مَرفوعةً؛ إذ كانت مَرفوعةً بغيرِ أعمدةٍ، كما يُقال للخيَّاطِ: وسِّعْ جَيبَ القميصِ، أي: خِطْهُ واسعًا، على أنَّ في مُجرَّدِ الرَّفعِ إيذانًا بسُموِّ المنزلةِ وشرَفِها [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/237). .
- وتَقديمُ (السَّمَاءَ) على الفِعلِ النَّاصبِ له رَفَعَهَا زِيادةٌ في الاهتِمامِ بالاعتبارِ بخلْقِها [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/237). .
- والمِيزانُ هنا مُرادٌ به العدْلُ -على قولٍ-، مِثلَ الَّذي في قولِه تعالَى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25]؛ لأنَّه الَّذي وضَعَه اللهُ، أي: عيَّنَه لإقامةِ نِظامِ الخلْقِ؛ فالوضْعُ هنا مُعبَّرٌ به عن الجَعْلِ، فهو كالإنزالِ في قولِه: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/238). .
- وفي قولِه: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ قرَنَ وَضْعَ الميزانِ مع رفْعِ السَّماءِ؛ تَنويهًا بشأْنِ العدلِ؛ بأنْ نُسِبَ إلى العالَمِ العُلويِّ، وهو عالَمُ الحقِّ والفضائلِ، وأنَّه نزَلَ إلى الأرضِ مِن السَّماءِ، أي: هو ممَّا أمَرَ اللهُ به؛ ولذلك تَكرَّرَ ذلك العدلُ مع ذِكرِ خلْقِ السَّماءِ، كما في قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونسَ: 5]، وقولِه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الحِجرِ: 85]، وقولِه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: 38، 39]، وإذ قد كان الأمرُ بإقامةِ العدْلِ مِن أهمِّ ما أَوصى اللهُ به إلى رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُرِنَ ذِكرُ جَعْلِه بذِكرِ خلْقِ السَّماءِ، فكأنَّه قِيل: ووضَعَ فيها الميزانَ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/238). . وأيضًا قُرِنَ برفعِ السَّماءِ؛ لأنَّه تعالى عدَّدَ نِعَمَه على عِبادِه، ومِن أجَلِّ هذه النِّعَمِ الميزانُ، الَّذي هو العدلُ، الَّذي به نِظامُ العالَمِ وقِوامُه [95] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 543). .
- و(أنْ) في قولِه: أَلَّا تَطْغَوْا يَجوزُ أنْ تكونَ تَفسيريَّةً؛ لأنَّ فِعلَ (وَضَعَ الْمِيزَانَ) فيه معْنى أمْرِ النَّاسِ بالعَدلِ، وفي الأمرِ معْنى القولِ دونَ حُروفِه؛ فهو حَقيقٌ بأنْ يأتِيَ تَفسيرُه بحرْفِ (أنْ) التَّفسيريَّةِ، فكان النَّهيُ عن إضافةِ العدلِ في أكثرِ المُعامَلاتِ تَفسيرًا لذلك؛ فتَكونَ (لا) ناهيةً. ويَجوزُ أنْ تكونَ (أنْ) مَصدريَّةً، بتَقديرِ لامِ الجرِّ مَحذوفةً قبْلَها، والتَّقديرُ: لئلَّا تَطْغَوا في الميزانِ، وتكونَ (لا) نافيةً، وفِعلُ تَطْغَوْا مَنصوبًا بـ(أنْ) المصدريَّةِ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/238). .
- والمُرادُ بالميزانِ ما يَشملُ العدلَ، ويَشملُ ما به تَقديرُ الأشياءِ الموزونةِ ونحْوِها في البيعِ والشِّراءِ، أي: مِن فوائدِ تَنزيلِ الأمرِ بالعدْلِ أنْ تَجتَنِبوا الطُّغيانَ في إقامةِ الوزنِ في المعامَلةِ، ولفظُ الميزانِ يَسمَحُ بإرادةِ المعْنيَينِ على طَريقةِ استِعمالِ المُشتركِ في مَعنيَيْه. وفي لَفظِ الميزانِ وما قارَنَه مِن فِعلِ (وَضَعَ) وفِعلَيْ أَلَّا تَطْغَوْا وَأَقِيمُوا، وحرْفِ الباءِ في قولِه: بِالْقِسْطِ، وحرْفِ (في) مِن قولِه: فِي الْمِيزَانِ، ولفظِ بِالْقِسْطِ؛ كلُّ هذه تَظاهَرَت على إفادةِ هذه المعاني، وهذا مِن إعجازِ القرآنِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/238، 239). .
- وحرْفُ (في) للظَّرفيَّةِ الَّتي تُفيدُ النَّهيَ عن أقلِّ طُغيانٍ على الميزانِ، أي: ليس النَّهيُ عن إضاعةِ الميزانِ كلِّه، بلِ النَّهيُ عن كلِّ طُغيانٍ يَتعلَّقُ به [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/239). .
- قولُه: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ عطْفٌ على جُملةِ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ على احتِمالِ كَونِ المعطوفِ عليها تَفسيريَّةً، وعلى جُملةِ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ على احتِمالِ كَونِ المعطوفِ عليها تَعليلًا [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/239). .
- والباءُ في بِالْقِسْطِ للمُصاحَبةِ، والمعْنى: اجْعَلوا العدْلَ مُلازِمًا لِما تُقوِّمونه مِن أُمورِكم. أو الباءُ للسَّببيَّةِ، أي: راعُوا في إقامةِ التَّمحيصِ ما يَقْتضيهِ العدْلُ. وقد كان المُشرِكون يَعهَدون إلى التَّطفيفِ في الوزْنِ، كما جاء في قولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1- 3]، فلمَّا كان التَّطفيفُ سُنَّةً مِن سُنَنِ المشركين، تَصدَّتِ الآيةُ للتَّنبيهِ عليه، ويَجِيءُ على الاعتِبارَينِ تَفسيرُ قولِه: وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ؛ فإنْ حُمِلَ الميزانُ فيه على معْنى العدْلِ، كان المعْنى النَّهْيَ عن التَّهاوُنِ بالعدْلِ لغَفلةٍ أو تَسامحٍ بعْدَ أنْ نَهى عن الطُّغيانِ فيه، ويَكونُ إظهارُ لفظِ (الميزان) في مَقامِ ضَميرِه تَنبيهًا على شِدَّةِ عِنايةِ اللهِ بالعدلِ، وإنْ حُمِلَ فيه على آلةِ الوزْنِ، كان المعْنى النَّهيَ عن غَبْنِ الناسِ في الوزْنِ لهم، كما قال تعالى في سُورةِ (المطفِّفين): وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/240). [المطففين: 3] .
- وفائدةُ تَكرارِ لَفظِ الميزانِ ثَلاثَ مرَّاتٍ: التَّشديدُ؛ للتَّوصيةِ به، ولتَقويةِ الأمْرِ باستِعمالِه والحثِّ عليه، ولتوكيدِ إيفاءِ الحقوقِ وعدَمِ التَّطفيفِ لِفَرطِ الحاجةِ إليه في المعاملاتِ الجاريةِ بيْنَ الناس، وبيانِ أنَّ كلًّا مِن الآياتِ مُستقِلَّةٌ بنفْسِها، أو أنَّ كلًّا مِن الألفاظِ الثَّلاثةِ مُغايرٌ لكلٍّ مِن الآخَرَينِ؛ فالأوَّلُ: هو الآلةُ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، والثَّاني: بمعْنى المصدَرِ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، أي: الوزْنِ، والثَّالثُ: للمفعولِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، أي: الموزونَ، وذَكَرَ الكلَّ بلَفظِ «الميزانِ»؛ لأنَّ الميزانَ أشمَلُ للفائدةِ. وقيل: الأوَّلُ: مِيزانُ الدُّنيا، والثَّاني: مِيزانُ الآخرةِ، والثَّالثُ: مِيزانُ العقْلِ [101] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 231)، ((تفسير الرازي)) (29/343)، ((كشف المعاني في المتشابه من المثاني)) لابن جَمَاعة (ص: 347)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 543). .