موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (10-13)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

الْأَكْمَامِ: أي: الأَوعيةِ الَّتي يكونُ فيها الثَّمَرُ، واحِدُها «كِمٌّ»: وهو وعاءُ الطَّلعِ قبْلَ أن يَنشَقَّ، وأصلُ (كمم): يدُلُّ على غِطاءٍ [102] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 436)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 469)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/122)، ((البسيط)) للواحدي (21/142)، ((المفردات)) للراغب (ص: 726)، ((تفسير البغوي)) (7/442). .
الْعَصْفِ: أي: تِبنِ الزَّرعِ ووَرَقِه الَّذي تَعصِفُه الرِّياحُ، وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ [103] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 437)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 339)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 382)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 400). .
آَلَاءِ: الآلاءُ: النِّعَمُ [104] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((تفسير ابن جرير)) (22/229)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 59)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((المفردات)) للراغب (ص: 84)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 113). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى بأنَّه خفَضَ الأرضَ ومَهَّدَها لِخَلْقِه، وجَعَل فيها أنواعَ الفواكِهِ، والنَّخلَ ذا الأوعيةِ الَّتي يكونُ فيها الثَّمَرُ، والحُبوبَ المأكولةَ ذواتِ الوَرَقِ اليابسِ والتِّبنِ، والرَّيحانَ ذا الرَّائِحةِ الجَميلةِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ -يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر إنعامَه الدَّالَّ على اقتِدارِه، برَفعِ السَّماءِ؛ ذَكَر على ذلك الوَجهِ مُقابِلَها، بعدَ أنْ وَسَّط بيْنَهما ما قامتا به مِنَ العَدلِ؛ تنبيهًا على شِدَّةِ العنايةِ والاهتِمامِ، فقال [105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/149). :
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10).
أي: والأرضَ خفَضَها الرَّحمنُ، ووطَّأها لِخَلْقِه [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/179)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/492). قال الماوَرْدي: (في الأنامِ ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: أنَّهم النَّاسُ... الثَّاني: أنَّ الأنامَ الإنسُ والجِنُّ... الثَّالِثُ: أنَّ الأنامَ جميعُ الخَلقِ مِن كُلِّ ذي رُوحٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/425). وممَّن قال بالقَولِ الأوَّلِ: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/425). وممَّن قال بالقَولِ الثَّاني: الزَّجَّاجُ، والشربيني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/97)، ((تفسير الشربيني)) (4/160). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/180)، ((تفسير الثعلبي)) (9/178). وممَّن قال بالقَولِ الثَّالثِ، وهو أنَّ المرادَ الخلْقُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، وابن أبي زَمَنين، والثعلبي، والبغوي، والزمخشري، والخازن، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/196)، ((تفسير ابن جرير)) (22/179)، ((تفسير السمرقندي)) (3/379)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/326)، ((تفسير الثعلبي)) (9/178)، ((تفسير البغوي)) (4/331)، ((تفسير الزمخشري)) (4/444)، ((تفسير الخازن)) (4/226)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((تفسير العليمي)) (6/478)، ((تفسير الشوكاني)) (5/159). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، وابنُ زَيدٍ، والشَّعبيُّ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/180)، ((تفسير الثعلبي)) (9/178)، ((تفسير الماوردي)) (5/425). قال ابنُ عاشور: (معنى وَضَعَهَا: خَفَضَها لهم، أي: جعَلَها تحتَ أقدامِهم وجُنوبِهم؛ لِتَمكينِهم مِنَ الانتِفاعِ بها بجَميعِ ما لهم فيها مِن منافِعَ ومُعالجاتٍ، واللَّامُ في لِلْأَنَامِ للأَجْلِ. والأنامُ: اختَلَفَت أقوالُ أهلِ اللُّغةِ والتَّفسيرِ فيه... وفَسَّره الزَّمخشري بقَولِه: الخَلقُ، وهو كُلُّ ما ظَهَر على وَجهِ الأرضِ مِن دابَّةٍ فيها رُوحٌ، وهذا مَرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ وجَمعٍ مِن التَّابِعينَ. وعن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا: أنَّه الإنسانُ فقط. وهو اسمُ جَمعٍ لا واحِدَ له مِن لَفظِه، وسياقُ الآيةِ يُرَجِّحُ أنَّ المرادَ به الإنسانُ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). .
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11).
فِيهَا فَاكِهَةٌ.
أي: في الأرضِ أنواعُ الفواكِهِ المُختَلِفةِ الألوانِ والطُّعومِ والرَّوائِحِ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/181)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/493)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 304). قال ابنُ عاشور: (الفاكِهةُ: اسمٌ لِما يُؤكَلُ تفَكُّهًا لا قُوتًا، مُشتقَّةٌ مِن فَكِهَ كفَرِحَ: إذا طابت نَفْسُه بالحديثِ والضَّحِكِ؛ قال تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65] ؛ لأنَّ أكْلَ ما يَلَذُّ للآكِلِ وليس بضَروريٍّ له: إنَّما يكونُ في حالِ الانبِساطِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). .
كما قال تعالى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 19] .
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ.
أي: وفي الأرضِ شَجَرُ النَّخلِ المُغَطَّى ثَمَرُه بالأوعيةِ التي تَنْشَقُّ، فتَخرُجُ منها عُذوقُ التَّمْرِ [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/181، 182)، ((تفسير القرطبي)) (17/156)، ((تفسير ابن كثير)) (7/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). .
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر ما يُقتاتُ مِنَ الفَواكهِ -وهو في غايةِ الطُّولِ-؛ أتْبَعَه الأصلَ في الاقتياتِ للنَّاسِ والبَهائِمِ -وهو بمكانٍ مِنَ القِصَرِ-، فقال ذاكِرًا ثَمَرتَه؛ لأنَّها المقصودةُ بالذَّاتِ [109] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/150). :
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ.
أي: وفي الأرضِ الحُبوبُ المأكولةُ -كالبُرِّ والشَّعيرِ ونحوِهما- ذواتُ الورقِ اليابسِ، والتِّبنِ [110] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/196)، ((تفسير ابن جرير)) (22/183)، ((تفسير الرسعني)) (7/550)، ((تفسير العليمي)) (6/479)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/242)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/493). قال الشنقيطي: (وقولُه: ذُو الْعَصْفِ قال أكثرُ العلماءِ: العصفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، ومنه قولُه تعالَى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] . وقيلَ: العصفُ التِّبْنُ). ((أضواء البيان)) (7/493). وقال الواحدي: (العصف ورَقُ الزَّرعِ، ثمَّ إذا يَبِسَ ودِيسَ صار تِبنًا. وعلى هذا يَدورُ كلامُ المفسِّرينَ). ((البسيط)) (21/143). وقال العُلَيمي: (ذُو الْعَصْفِ التِّبنُ وورَقُ النَّباتِ اليابسِ). ((تفسير العليمي)) (6/479). وقال ابنُ عاشور: (هذا وَصفٌ لحَبِّ الشَّعيرِ والحِنطةِ، وبهما قِوامُ حياةِ مُعظَمِ النَّاسِ، وكذلك ما أشبَهَهما مِن نَحوِ السُّلْتِ [ضربٌ مِن الشَّعيرِ] والأَرُزِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/242). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33].
وَالرَّيْحَانُ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: وَالرَّيْحَانَ بفَتحِ النُّونِ، وكذلك بفَتحِ ما قَبْلَها وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ، أي: وخَلَق الحَبَّ ذا العَصْفِ، والرَّيحانَ الَّذي يُشَمُّ. وقيل: الرَّيحانُ: الرِّزقُ [111] قرأ بها ابنُ عامر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/380). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/114)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/44)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 690)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/494). .
2- قِراءةُ: وَالرَّيْحَانِ بكَسرِ النُّونِ عَطفًا على العَصْفِ، أي: وفيها الحَبُّ ذو العَصْفِ وذو الرَّيحانِ. فقيل: المرادُ هنا أنَّ العَصْفَ: ما تأكُلُه الأنعامُ، والرَّيحانُ: ما يأكُلُه النَّاسُ مِن نَفسِ الحَبِّ [112] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/380). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/188، 189)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 338)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/44)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 690، 691)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/494). .
3- قِراءةُ: وَالرَّيْحَانُ بضَمِّ النُّونِ عَطفًا على الحَبِّ، أي: وفيها الحَبُّ ذو العَصفِ، وفيها الرَّيحانُ الَّذي يُشَمُّ. وقيل: الرَّيحانُ: الرِّزقُ [113] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/380). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/188، 189)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 338)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/44)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 691)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/494). .
وَالرَّيْحَانُ.
أي: وفي الأرضِ الرَّيحانُ، وهو النَّبتُ ذو الرَّائِحةِ الجَميلةِ، الَّذي يُشَمُّ لطِيبِ رائِحتِه [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/188)، ((الوسيط)) للواحدي (4/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/493، 494)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). قال السعدي: (وَالرَّيْحَانُ يحتَمِلُ أنَّ المرادَ بذلك جميعُ الأرزاقِ الَّتي يأكُلُها الآدميُّونَ، فيَكونُ هذا مِن بابِ عَطفِ العامِّ على الخاصِّ، ويكونُ اللهُ قد امتَنَّ على عبادِه بالقُوتِ والرِّزقِ عُمومًا وخُصوصًا. ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ بالرَّيحانِ: الرَّيحانُ المعروفُ، وأنَّ اللهَ امتَنَّ على عبادِه بما يَسَّرَه في الأرضِ مِن أنواعِ الرَّوائِحِ الطَّيِّبةِ، والمشامِّ الفاخِرةِ الَّتي تَسُرُّ الأرواحَ، وتَنشَرِحُ لها النُّفوسُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 829). وقال الشنقيطي: (قَولُه: وَالرَّيْحَانُ: اختَلَف العُلَماءُ في معناه؛ فقال بَعضُ أهلِ العِلمِ: هو كُلُّ ما طاب رِيحُه مِن النَّبتِ، وصار يُشَمُّ للتَّمَتُّعِ برِيحِه. وقال بعضُ العُلَماءِ: الرَّيحانُ: الرِّزقُ... ويتعَيَّنُ كَونُ الرَّيحانِ بمعنى الرِّزقِ على قراءةِ حَمزةَ والكِسائيِّ [أي: بكسرِ النونِ]؛ وأمَّا على قراءةِ غَيرِهما فهو مُحتَمِلٌ للأمْرَينِ المذكورَينِ). ((أضواء البيان)) (7/493، 494). وممَّن قال بأنَّ المرادَ به النَّبتُ الطَّيِّبُ الرَّائِحةِ: ابنُ القيِّم، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/242)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه، والحسَنُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/187)، ((تفسير الثعلبي)) (9/179). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالرَّيحانِ: الرِّزقُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّي، والواحدي، والخازن، ونسَبَه الواحديُّ والبغويُّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/196)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7215)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1053)، ((تفسير الخازن)) (4/226)، ((الوسيط)) للواحدي (4/218)، ((تفسير البغوي)) (4/332). وممَّن قال مِن السَّلفِ إنَّ المرادَ بالرَّيحانِ: الرِّزقُ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/186)، ((تفسير الثعلبي)) (9/179). قال مقاتلٌ: (يعني الرِّزقَ -بلِسانِ حِمْيَرَ- الَّذي يخرجُ مِن الحبِّ مِن دَقيقٍ أو سَويقٍ أو غيرِه). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/196). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالرَّيحانِ: الرِّزقُ، وخَصَّه بالحَبِّ المأكولِ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/188). وقال الزمخشري: (والرَّيحانُ: الرِّزقُ، وهو اللُّبُّ، أراد: فيها ما يُتلذَّذُ به مِن الفَواكِهِ، والجامعُ بيْنَ التَّلذُّذِ والتَّغذِّي وهو ثمرُ النَّخلِ، وما يُتغذَّى به وهو الحَبُّ). ((تفسير الزمخشري)) (4/444). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن عُرِضَ عليه رَيحانٌ فلا يَرُدُّه [115] قال النووي: (فلا يردُّه برفعِ الدَّالِ على الفصيحِ المشهورِ). ((شرح النووي على مسلم)) (15/9). ؛ فإنَّه خَفيفُ المَحْمِلِ [116] أي: خفيفُ الحَملِ، ليس بثقيلٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/9). ، طَيِّبُ الرِّيحِ)) [117] رواه مسلم (2253). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَدَّد تعالى نِعَمَه، وكان الجِنُّ والإنسُ مِمَّن دَخَلوا في قَولِه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ؛ خاطبَهَما بقَولِه [118] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/58)، ((تفسير الشربيني)) (4/160). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/189، 191)، ((البسيط)) للواحدي (21/148)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/301-303)، ((تفسير ابن كثير)) (7/491)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). قال القرطبي: (الآلاءُ: النِّعَمُ، وهو قَولُ جَميعِ المفَسِّرينَ). ((تفسير القرطبي)) (17/159). وقال أيضًا: (قوله تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ خِطابٌ للإنسِ والجنِّ؛ لأنَّ الأنامَ واقعٌ عليهما. وهذا قولُ الجمهورِ). ((تفسير القرطبي)) (17/158). واختار ابن عاشور أنَّه خِطابٌ للمؤمنينَ والكافرين الذين يَنقسِمُ إليهما جنسُ الإنسانِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/243). ؟!
كما قال تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [النجم: 55].

الفوائد التربوية:

رُوِيَ عن الرَّبيعِ بنِ زيادٍ الحارثيِّ: (أنَّه قال لعلِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه: اعْدِني [120] أي: أَعِنِّي وانصُرْني عليه. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/398)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (39/10). على أخي عاصمٍ، قال: فما بالُه؟ قال: لَبِسَ العَباءةَ يُريدُ النُّسُكَ، فقال علِيٌّ رضِيَ اللهُ عنه: علَيَّ به. فأُتِيَ به مُؤتزِرًا بعَباءةٍ مُرتديًا لأُخرى، شَعْثَ الرَّأسِ واللِّحيةِ، فعبَسَ في وجْهِه، وقال: ويْحَك! أمَا استحْيَيْتَ مِن أهلِك؟ أمَا رحِمْتَ ولَدَك؟ أَترى اللهَ أباح لك الطَّيِّباتِ وهو يَكرَهُ أنْ تَنالَ منها شيئًا؟! بل أنتَ أهونُ على اللهِ مِن ذلك، أمَا سمِعْتَ اللهَ يقولُ في كتابِه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ إلى قولِه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 10 - 22]؟ أفَتَرى اللهَ أباح هذه لعِبادِه إلَّا ليَبتَذِلُوه [121] أي: إلَّا لِيَستَعمِلوه، فالابتِذالُ: ضِدُّ الصِّيانةِ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 965). ويَحمَدوا اللهَ عليه فيُثِيبَهم عليه، وإنَّ ابتِذالَك نِعَمَ اللهِ بالفِعلِ خَيرٌ منه بالقولِ؟ قال عاصمٌ: فما بالُكَ في خُشونةِ مَأْكَلِك وخُشونةِ مَلبَسِك؟ قال: ويْحَك! إنَّ اللهَ فرَضَ على أئمَّةِ الحقِّ أنْ يَقدُروا أنفُسَهم بضَعَفةِ النَّاسِ).
إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يُطالِبِ العبادَ بتركِ الملذوذاتِ! وإنَّما طالبَهم بالشُّكرِ عليها إذا تَناوَلوها، فالاقتِصارُ على البَشِعِ في المأكولِ مِن غيرِ عُذْرٍ، وكذلك الاقتصارُ على الخشِنِ في الملبسِ مِن غيرِ ضرورةٍ: هو مِن قَبيلِ التَّشديدِ والتَّنَطُّعِ المذمومِ [122] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 180)، ((الاعتصام)) للشاطبي (1/442)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/400). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ أخَذَ بَعضُ عُلَماءِ الأُصولِ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ وأمثالِها مِنَ الآياتِ، كقَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] : «أنَّ الأصلَ فيما على الأرضِ الإباحةُ حتَّى يَرِدَ دَليلٌ خاصٌّ بالمنعِ»؛ لأنَّ اللهَ تعالى امتَنَّ على الأنامِ بأنَّه وَضَع لهم الأرضَ، وجَعَل لهم فيها أرزاقَهم، وامتَنَّ عليهم بأنَّه خَلَق لهم ما في الأرضِ جَميعًا في قَولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، ومَعلومٌ أنَّه جَلَّ وعلا لا يمتَنُّ بحَرامٍ؛ إذْ لا مِنَّةَ في شَيءٍ مُحَرَّمٍ.
وفي هذه المسألةِ قَولانِ آخَرانِ:
أحدُهما: أنَّ الأصلَ فيما على الأرضِ التَّحريمُ حتَّى يدُلَّ دَليلٌ على الإباحةِ.
القَولُ الثَّاني: هو الوَقفُ وعَدَمُ الحُكمِ فيها بمَنعٍ ولا إباحةٍ حتَّى يقومَ الدَّليلُ.
فتَحَصَّل أنَّ في المسألةِ ثَلاثةَ مَذاهِبَ: المَنعُ، والإباحةُ، والوَقفُ.
والصَّوابُ هو التَّفصيلُ؛ لأنَّ الأعيانَ الَّتي خلَقَها اللهُ في الأرضِ للنَّاسِ فيها ثلاثُ حالاتٍ: الأُولى: أن يكونَ فيها نَفعٌ لا يَشوبُه ضَرَرٌ، كأنواعِ الفواكِهِ، وغَيرِها.
الثَّانيةُ: أن يكونَ فيها ضَرَرٌ لا يَشوبُه نَفعٌ،كأكلِ الأعشابِ السَّامَّةِ القاتِلةِ.
الثَّالِثةُ: أن يكونَ فيها نَفعٌ مِن جِهةٍ، وضَرَرٌ مِن جِهةٍ أُخرى.
فإنْ كان فيها نَفعٌ لا يَشوبُه ضَرَرٌ، فالتَّحقيقُ حَملُها على الإباحةِ حتَّى يقومَ دَليلٌ على خِلافِ ذلك؛ لِعُمومِ قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، وقَولِه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ.
وإنْ كان فيها ضَرَرٌ لا يَشوبُه نَفعٌ، فهي على التَّحريمِ.
وإن كان فيها نَفعٌ مِن جِهةٍ وضَرَرٌ مِن جِهةٍ أُخرى، فلها ثلاثُ حالاتٍ؛ الأُولى: أن يكونَ النَّفعُ أرجَحَ مِنَ الضَّرَرِ. والثَّانيةُ: عَكسُ هذا. والثَّالِثةُ: أن يَتساوى الأمْرانِ؛ فإن كان الضَّرَرُ أرجَحَ مِن النَّفعِ أو مُساويًا له فالمَنعُ؛ لأنَّ «دَرْءَ المفاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلبِ المصالِحِ»، وإن كان النَّفعُ أرجحَ فالأظهَرُ الجوازُ؛ لأنَّ المقَرَّرَ في الأُصولِ «أنَّ المَصلَحةَ الرَّاجِحةَ تُقَدَّمُ على المَفسَدةِ المَرجوحةِ» [123] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/495). .
2- في قَولِه تعالى: فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ما الحِكمةُ في ذِكرِ الفاكِهةِ باسمِها لا باسمِ أشجارِها، وذِكرِ النَّخلِ باسمِها لا باسْمِ ثَمَرِها؟
الجَوابُ: أنَّ شَجَرةَ العِنَبِ -وهي الكَرْمُ- بالنِّسبةِ إلى ثَمَرتِها -وهي العِنبُ- حقيرةٌ، وشَجَرةَ النَّخلِ بالنِّسبةِ إلى ثَمَرتِها عَظيمةٌ، وفيها مِن الفوائِدِ الكثيرةِ على ما عُرِفَ مِن اتِّخاذِ الظُّروفِ مِنها، والانتِفاعِ بجُمَّارِها [124] جُمَّارُ النَّخلةِ: قَلْبُها، ومِنه يَخرُجُ الثَّمَرُ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/108). ، وبالطَّلعِ والبُسرِ والرُّطَبِ، وغَيرِ ذلك؛ فثَمَرتُها في أوقاتٍ مُختَلِفةٍ كأنَّها ثَمَراتٌ مُختَلِفةٌ، فهي أتمُّ نِعمةً بالنِّسبةِ إلى الغَيرِ مِنَ الأشجارِ؛ فذَكَر النَّخلَ باسمِه، وذَكَر الفاكِهةَ دونَ أشجارِها؛ فإنَّ فوائِدَ أشجارِها في عَينِ ثِمارِها [125] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/345). .
3- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذِكرُ لَفظِ «الرَّبِّ»؛ إشعارًا بالرَّحمةِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/312). .
4- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أنَّ مُخاطَبتَه سُبحانَه بهذا للثَّقَلَينِ دَليلٌ على أنَّ هذه الأشياءَ تَعُمُّ على الجِنِّ كما أنَّها تَعُمُّ على الإنسِ، وأنَّ لهم مِن ذلك ما لهم [127] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/152). .
5- في ذِكرِه تعالى لهذه الآيةِ: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ بعدَ ذِكرِ هذا العَدَدِ مِن الآياتِ إشارةٌ إلى أنَّ زيادةَ النِّعَمِ: إلى حَدٍّ لا يُحصَى، بحيثُ إنَّ استيفاءَ عَدَدِها لا تُحيطُ به عُقولُ المكَلَّفينَ؛ لئلَّا يَظُنُّوا أنَّه لا نِعمةَ غَيرُ ما ذُكِرَ في هذه السُّورةِ [128] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/152). !
6- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذُكِرَتْ هذه الآيةُ إحدى وثلاثينَ مرَّةً؛ ثمانيةٌ منها ذُكِرَتْ عَقِبَ آياتٍ فيها تَعدادُ عَجائبِ خَلْقِ اللهِ، وبدائعِ صُنْعِه، ومَبْدَأِ الخَلْقِ ومَعادِهم، ثمَّ سَبعةٌ منها عَقِبَ آياتٍ فيها ذِكْرُ النَّارِ وشَدائدِها بعَدَدِ أبوابِ جهنَّمَ، وحَسُنَ ذِكْرُ الآلاءِ عَقِبَها؛ لأنَّ مِن جملةِ الآلاءِ رَفْعَ البلاءِ، وتأخيرَ العِقابِ، وبَعْدَ هذه السَّبعةِ ثمانيةٌ في وَصْفِ الجنَّتَينِ وأهلِهما بعَدَدِ أبوابِ الجَنَّةِ، وثمانيةٌ أُخرى بَعْدَها في الجنَّتَينِ اللَّتَينِ هما دونَ الجَنَّتَينِ الأُولَيَينِ؛ أَخْذًا مِن قَولِه تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62]؛ فمَنِ اعتقدَ الثَّمانيةَ الأُولى وعَمِلَ بموجَبِها استحقَّ هاتينِ الثَّمانِيَتَينِ مِن اللهِ، ووقاه السَّبعةَ السَّابِقةَ [129] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 544)، ((تفسير القاسمي)) (9/117). .
7- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أنَّ كُلَّ ما يَفعَلُه سُبحانَه هو إحسانٌ للعِبادِ ونِعمةٌ عليهم؛ ولهذا يَقولُ عَقِيبَ ما يُعَدِّدُه مِن النِّعَمِ على العِبادِ: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وآلاؤُه هي نِعَمُه، وهي مُتضَمِّنةٌ لقُدرتِه ومَشيئتِه، كما هي مُستَلزِمةٌ لرَحمتِه وحِكمتِه [130] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/161). .

بلاغة الآيات:

قولُه تعالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ عطْفٌ على وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا [الرحمن: 7]، وهو مُقابِلُه في المُزاوَجةِ، والوضْعُ يُقابِلُ الرَّفعَ؛ فحصَلَ مُحسِّنُ الطِّباقِ [131] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِنَ الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَقَ بيْن الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقونَ. ومنه: طِباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةً، فتَبدو المطابَقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإن إدخال النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 566). مرَّتَين [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). .
- وجُملةُ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ استِئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما أفادَتْه الجُملةُ السَّابقةُ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ؛ مِن كَونِ الأرضِ مَوضوعةً لمَنافعِ الأنامِ، وتَفصيلِ المنافعِ العائدةِ إلى البشرِ [133] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/178). .
- وجُملةُ فِيهَا فَاكِهَةٌ إلى آخِرِها، مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، ولَمَّا كان قولُه: وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ يَتضمَّنُ وضْعًا وعِلَّةً لذلك الوضْعِ، كانت الجُملةُ المُبيِّنةُ له مُشتمِلةً على ما فيه العِبرةُ والامتنانُ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). .
- وتَقديمُ فِيهَا على المُبتدأِ فَاكِهَةٌ؛ للاهتِمامِ بما تَحتوي عليه الأرضُ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/241). .
- ووصْفُ النَّخلِ بأنَّه ذَاتُ الْأَكْمَامِ وصْفٌ للتَّحسينِ؛ فليست الأكمامُ ممَّا يُنتفَعُ به، فتَعيَّنَ أنَّ ذِكرَها مع النَّخلِ للتَّحسينِ، فهو اعتبارٌ بأطوارِ ثَمَرِ النَّخلِ، وامتنانٌ بجَمالِه وحُسْنِه [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/242). .
- ووَصْفُ الحَبِّ بأنَّه ذُو الْعَصْفِ؛ للتَّحسينِ، وللتَّذكيرِ بمِنَّةِ جَمالِ الزَّرعِ حِينَ ظُهورِه في سُنبلِه في حُقولِه، ولأنَّ في الموصوفِ ووَصْفِه أقواتَ البشَرِ وحَيوانِهم [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/242). .
- والرَّيحانُ: ما له رائحةٌ ذَكيَّةٌ مِن الأزهارِ والحشائشِ، وهذا اعتبارٌ وامتنانٌ بالنَّباتِ المُودَعةِ فيه الأطيابُ؛ مِثلَ الورْدِ والياسَمينِ، وما يُسمَّى بالرَّيحانِ الأخضرِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/242). .
- قولُه: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، بدَأَ بقولِه: فَاكِهَةٌ؛ إذ هو مِن بابِ الابتداءِ بالأدْنى والتَّرقِّي إلى الأعْلى، ونكَّرَ لَفْظَها؛ لأنَّ الانتِفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما يُذكَرُ بعْدَها، ولِيَدُلَّ على كثرتِها، وقد صرَّح بالكثرةِ في مواضِعَ أُخَرَ. ثمَّ ثَنَّى بالنَّخلِ، فذكَرَ الأصلَ، ولم يَذكُرْ ثَمرَتَها -وهو الثَّمَرُ-؛ لكَثرةِ الانتفاعِ بها مِن لِيفٍ وسَعفٍ، وجَريدٍ وجُذوعٍ، وجُمَّارٍ وثمَرٍ. ثمَّ أتى ثالثًا بالحَبِّ الَّذي هو قِوامُ عَيشِ الإنسانِ في أكثَرِ الأقاليمِ، وهو البُرُّ والشَّعيرُ وكلُّ ما له سُنبلٌ وأوراقٌ مُتشعِّبةٌ على ساقِه، ووصَفَه بأنَّه ذُو الْعَصْفِ؛ تَنبيهًا على إنعامِه عليهم بما يَقُوتُهم مِن الحَبِّ، ويَقوتُ بَهائمَهم مِن ورَقِه الَّذي هو التِّبْنُ. وذكَرَ النَّخلَ باسْمِها، والفاكهةَ دونَ شَجَرِها؛ لعِظَمِ المَنفعةِ بالنَّخلِ مِن جِهاتٍ مُتعدِّدةٍ، وشَجرةُ الفاكهةِ بالنِّسبةِ إلى ثَمرتِها حَقيرةٌ، فنَصَّ على ما يَعظُمُ به الانتفاعُ مِن شَجرةِ النَّخلِ ومِن الفاكهةِ دونَ شَجَرتِها [139] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/57، 58). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/345). .
- وبَدَأ بالفاكِهةِ، وخَتَم بالمشمومِ، وبَيْنَهما النَّخلُ والحَبُّ؛ لِيَحصُلَ ما به يُتفَكَّهُ، وما به يُتَقَوَّتُ، وما به تَقَعُ اللَّذاذةُ مِنَ الرَّائِحةِ الطَّيِّبةِ [140] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/57). .
- ولَمَّا عدَّدَ تعالَى نِعَمَه، خاطَبَ الثَّقلَينِ -الإنسَ والجنَّ- بقولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، أي: إنَّ نِعَمَه كَثيرةٌ لا تُحصى، فبأيِّها تُكذِّبانِ؟ أي: مَن هذه نِعَمُه لا يُمكِنُ أنْ يُكذَّبَ بها [141] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/58). . وقيل: هو خِطابٌ للمؤمنينَ والكافرينَ الَّذين يَنقسِمُ إليهما جِنسُ الإنسانِ المذكور في قولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ [الرحمن: 3]، وهم المُخاطَبونَ بقولِه: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن: 8] الآيةَ، والمُنقسِمُ إليهما الأنامُ المُتقدِّمُ ذِكرُه، أي: إنَّ نِعَمَ اللهِ على النَّاسِ لا يَجحَدُها كافرٌ، بلْهَ المؤمنَ، وكلُّ فَريقٍ يَتوجَّهُ إليه الاستِفهامُ بالمعْنى الَّذي يُناسِبُ حالَه. والمَقصودُ الأصليُّ: التَّعريضُ بالمُشرِكين وتَوبيخُهم على أنْ أشْرَكوا في العِبادةِ مع المُنعِمِ غيرَ المُنعِمِ، والشَّهادةُ عليهم بتَوحيدِ المؤمنينَ. وقيل: التَّثنيةُ قائمةٌ مَقامَ تَكريرِ اللَّفظِ لتَأكيدِ المعْنى؛ مِثل: لبَّيكَ وسَعْدَيك، ومعْنى هذا أنَّ الخطابَ لواحدٍ، وهو الإنسانُ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/243). .
- والفاءُ في قولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ للتَّفريعِ على ما تَقدَّمَ مِن المِنَنِ المُدمَجةِ مع دَلائلِ صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَقِّيَّةِ وَحْيِ القرآنِ، ودَلائلِ عَظَمةِ اللهِ تعالى وحِكمتِه؛ باستفهامٍ عن تَعيينِ نِعمةٍ مِن نِعَمِ اللهِ يَتأتَّى لهم إنكارُها، وهو تَذييلٌ لِما قبْلَه. وحرْفُ (أيّ) استِفهامٌ عن تَعيينِ واحدٍ مِن الجِنسِ الَّذي تُضافُ إليه، وهي هنا مُستعمَلةٌ في التَّقريرِ بذِكرِ ضِدِّ ما يُقرِّبُه [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/243). .
- والفاءُ كذلِك لتَرتيبِ الإنكارِ والتَّوبيخِ على ما فُصِّلَ مِن فُنونِ النَّعماءِ وصُنوفِ الآلاءِ المُوجِبةِ للإيمانِ والشُّكرِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ المُنْبئةِ عن المالكيَّةِ الكُلِّيَّةِ والتَّربيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِهم؛ لتأْكيدِ النَّكيرِ، وتَشديدِ التَّوبيخِ [144] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/178). .
- ومعْنى تَكذيبِهم بآلائِه تعالى كفْرُهم بها، والتَّعبيرُ عن كُفرِهم المَذكورِ بالتَّكذيبِ؛ لِما أنَّ دَلالةَ الآلاءِ المَذكورةِ على وُجوبِ الإيمانِ والشُّكرِ شَهادةٌ منها بذلك، فكُفْرُهم بها تَكذيبٌ بها لا مَحالةَ، أي: فإذا كان الأمْرُ كما فُصِّلَ، فبأيِّ فرْدٍ مِن أفرادِ آلاءِ مالِكِكُما ومُربِّيكُما بتلكَ الآلاءِ تُكذِّبانِ، مع أنَّ كلًّا منها ناطقٌ بالحقِّ، شاهدٌ بالصِّدقِ [145] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/178). ؟! وقيل: تَكذيبُ الآلاءِ هو كِنايةٌ عن الإشراكِ باللهِ في الإلهيَّةِ، والمعْنى: فبأيِّ نِعمةٍ مِن نِعَم اللهِ عليكم تُنكِرون أنَّها نِعمةٌ عليكم، فأشْرَكْتُم فيها غيرَه، بلْهَ إنكارَ جَميعِ نِعَمِه؛ إذ تَعبُدون غيرَه دَوامًا [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/244). ؟!
- والتَّكريرُ في قولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَكريرٌ عذْبٌ، وفيه أوجُهٌ:
الأولُ: السِّرُّ في تَكريرِ الآيةِ عقِبَ آياتٍ فيها تَعدادُ عَجائبِ خلْقِ اللهِ وبَدائعِ صُنْعِه، وبعْدَ آياتٍ فيها ذِكرُ النَّارِ وشَدائدِها؛ لأنَّ مِن جُملةِ الآلاءِ رفْعَ البلاءِ، وتأْخيرَ العقابِ، والتَّقريرَ بالنِّعَمِ المَعدودةِ، والتَّأكيدَ في التَّذكيرِ بها كلِّها، ولأنَّ مِن عَلاماتِ العاطفةِ المُحتدِمةِ هذا التَّكريرَ [147] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 231)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 544)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/398). .
الثَّاني: أنَّ اللهَ تَعالى عدَّدَ في هذه السُّورة نَعماءَه، وذكَّرَ خلْقَه آلاءَه، ثمَّ أتْبَعَ كلَّ خَلَّةٍ وصَفَها بهذه الآيةِ، وجَعَلَها فاصِلةً بيْن كلِّ نِعمتَينِ؛ ليُنبِّهَهم على النِّعَمِ ويُقرِّرَهم بها، كما تقولُ -لِمَن تَتابَعَ فيه إحسانُك وهو يَكفُرُه ويُنكِرُه-: ألمْ تكُنْ فقيرًا فأغنَيْتُك؟! أفتُنكِرُ هذا؟! ألمْ تكُنْ خامِلًا فعزَّزْتُك؟! أفتُنكِرُ هذا؟! ألم تكُنْ راجِلًا فحمَلْتُك؟! أفتُنكِرُ هذا؟! والتَّكريرُ حَسَنٌ في مِثلِ هذا [148] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 151)، ((تفسير ابن عادل)) (18/312). .
الثَّالثُ: أنَّ المُنكِرَ إذا تَكرَّرَ إنكارُه جِدًّا بحيث أحرَقَ الأكبادَ في المُجاهَرةِ بالعِنادِ؛ حَسُنَ سَرْدُ ما أنكَرَه عليه، وكلَّما ذُكِّرَ بفرْدٍ منه قِيل له: لِمَ تُنكِرُه؟ سواءٌ أقرَّ به حالَ التَّقريرِ، أو استمرَّ على العِنادِ؛ فالتَّكرارُ حينَئذٍ يُفيدُ التَّعريفَ بأنَّ إنكارَه تَجاوَزَ الحدَّ.
الرَّابعُ: أنَّه لتَغايُرِ النِّعَمِ وتَعدُّدِها واختِلافِها حَسُنَ تَكريرُ التَّوقيفِ عليها واحدةً واحدةً؛ تَنبيهًا على جَلالتِها؛ فإنْ كانت نِعمةً فالأمرُ فيها واضحٌ، وإنْ كانت نِقمةً فالنِّعمةُ دَفْعُها، أو تأخيرُ الإيقاعِ بها [149] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/153). .