موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: الصَّبرُ والاحتِسابُ


مَن نَزَلت به مُصيبةٌ أو حَلَّ به كَربٌ فعليه أن يَصبرَ [226] قال ابنُ حَجَرٍ: (أحسَنُ ما وُصِف به الصَّبرُ أنَّه حَبسُ النَّفسِ عنِ المَكروهِ، وعَقدُ اللِّسانِ عنِ الشَّكوى، والمُكابَدةُ في تَحَمُّلِه وانتِظارُ الفَرَجِ). ((فتح الباري)) (11/ 303). هذا، والصَّبرُ المانِعُ مِنَ المُحَرَّمِ واجِبٌ؛ قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] . ونَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القَيِّمِ. قال ابنُ تَيميَّةَ: (الإنسانُ إذا ابتُليَ فعليه أن يَصبرَ ويَثبُتَ ولا يَتَّكِلَ؛ حتَّى يَكونَ مِنَ الرِّجالِ الموقِنينَ القائِمينَ بالواجِباتِ، ولا بُدَّ في جَميعِ ذلك مِنَ الصَّبرِ؛ ولهذا كان الصَّبرُ واجِبًا باتِّفاقِ المُسلمينَ على أداءِ الواجِباتِ وتَركِ المَحظوراتِ، ويَدخُلُ في ذلك الصَّبرُ على المَصائِبِ عن أن يَجزَعَ فيها). ((مجموع الفتاوى)) (10/39). وقال ابنُ القَيِّمِ: (ومِن مَنازِلِ: إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستَعينُ مَنزِلةُ الصَّبرِ. قال الإمامُ أحمَدُ رَحِمَه اللهُ تعالى: الصَّبرُ في القُرآنِ في نَحوِ تِسعينَ مَوضِعًا. وهو واجِبٌ بإجماعِ الأُمَّةِ). ((مدارج السالكين)) (2/151). ويَحتَسِبَ [227] قال ابنُ الأثيرِ: (الاحتِسابُ في الأعمالِ الصَّالحةِ، وعِندَ المَكروهاتِ هو البدارُ إلى طَلَبِ الأجرِ وتَحصيلِه بالتَّسليمِ والصَّبرِ، أو باستِعمالِ أنواعِ البرِّ ومُراعاتِها والقيامِ بها على الوَجهِ المَرسومِ فيها طَلبًا للثَّوابِ المَرجوِّ مِنها. ومِنه يُقالُ: احتَسَبَ فلانٌ ابنًا له: إذا ماتَ كَبيرًا، وافتَرَطَه: إذا ماتَ صَغيرًا، ومَعناه: اعتَدَّ مُصيبَتَه به في جُملةِ بَلايا اللَّهِ التي يُثابُ على الصَّبرِ عليها، وجَعَل أجرَه له عِندَ اللهِ ذَخيرةً). يُنظر: ((النهاية)) (1/ 382)، ((جامع الأصول)) (2/ 583). وقال ابنُ حَجَرٍ: (أصلُ الحِسبةِ -بالكَسرِ- الأُجرةُ. والاحتِسابُ: طَلَبُ الأجرِ مِنَ اللهِ تعالى خالصًا). ((فتح الباري)) (11/ 242، 243). .
الأدِلَّةُ على ذلك من الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 - 157] .
اشتمَلتِ الآيتانِ على توطينِ النُّفوسِ على المصائبِ قَبلَ وقوعِها؛ لتخفَّ وتسهُلَ إذا وقعَتْ، وبيانُ ما تُقابَلُ به، وهو الصَّبرُ، وبيانُ ما يُعين على الصَّبرِ، وما للصَّابرِ من الأجْرِ [228] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 76). .
2- قال تعالى مُثنيًا على نَبيِّه أيُّوبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأحسَنِ الثَّناءِ على صَبرِه: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] .
 (فأطلقَ عليه نِعْمَ العَبدُ، بكَونِه وجدَه صابرًا، وهذا يَدُلُّ على أنَّ مَن لم يَصبِرْ إذا ابتُليَ فإنَّه بئسَ العَبدُ) [229] ((عدة الصابرين)) (ص: 75). .
3- قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .
وفيه فضيلةُ الصَّبرِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 120). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَجَبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمرَه كُلَّه خَيرٌ، وليسَ ذاكَ لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَر فكان خَيرًا له، وإن أصابَته ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خَيرًا لهـ)) [231] أخرجه مسلم (2999). .
2- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال: ((عَجِبتُ للمُسلمِ إذا أصابَه خَيرٌ حَمِدَ اللَّهَ وشَكَرَ، وإذا أصابَته مُصيبةٌ احتَسَبَ وصَبَرَ، المُسلِمُ يُؤجَرُ في كُلِّ شَيءٍ حتَّى في اللُّقمةِ يَرفعُها إلى فيهـ)) [232] أخرجه أحمد (1531) واللَّفظُ له، والطيالسي (208)، والبيهقي (6629). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (3986)، وصَحَّحَ إسنادَه البَزَّارُ في ((البحر الزخار)) (4/28)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/66)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1531). .
3- عن مَحمودِ بنِ لَبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ قَومًا ابتَلاهم، فمَن صَبَر فله الصَّبرُ، ومَن جَزِعَ فله الجَزَعُ)) [233] أخرجه أحمد (23623)، وابن شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (275) واللَّفظُ لهما، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9327). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1706)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (4/177). .
وفي حَديثِ أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ قَومًا ابتَلاهم، فمَن رَضيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ)) [234] أخرجه الترمذي بَعدَ حَديث (2396)، وابن ماجه (4031). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (285)، وصَحَّحه بشَواهدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((منهاج القاصدين)) (349). .
4- عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ قال: قال لي ابنُ عبَّاسٍ: ألا أريكَ امرأةً من أهلِ الجنَّةِ؟! قلتُ: بلى، قال: هذه المرأةُ السَّوداءُ، أتت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: إني أصرَعُ، وإني أتكَشَّفُ، فادعُ اللهَ لي، قال: ((إن شئتِ صَبرتِ ولكِ الجنَّةُ، وإن شئتِ دعَوتُ اللهَ أن يعافيكِ، فقالت: أصبِرُ، فقالت: إني أتكَشَّفُ، فادعُ اللهَ لي أن لا أتكَشَّفَ، فدعا لها)) [235] أخرجه البخاري (5652) واللَّفظُ له، ومسلم (2576). .
وفي حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَتِ امرَأةٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها لَمَمٌ [236] اللَّمَمُ: طَرَفٌ مِنَ الجُنونِ يُلمُّ بالإنسانِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 251)، ((الغريبين)) للهروي (5/ 1706). ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، ادعُ اللَّهَ أن يَشفيَني، قال: إن شِئتِ دَعَوتُ اللَّهَ أن يَشفيَك، وإن شِئتِ فاصبِري ولا حِسابَ عليكِ، قالت: بَل أصبرُ ولا حِسابَ عليَّ)) [237] أخرجه أحمد (9689) واللفظ له، والبزار (7980)، وابن حبان (2909). حسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1376)، وحسَّن إسنادَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/119)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/16)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9689). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ حبان. وأخرجه الحاكِمُ (7718) بلفظ: عن أبي هرَيرةَ، رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَتِ امرَأةٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكَرَت أنَّ بها طَيفًا مِنَ الشَّيطانِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن شِئتِ دَعَوتُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فبَرَّأكِ، وإن شِئتِ فلا حِسابَ ولا عَذابَ» قالت: يا رَسولَ اللهِ، فدَعْني إذًا)). صَحَّحه الحاكِمُ، وقال: (على شَرط مُسلم)، وابن القَطَّان في ((النظر في أحكام النظر)) (254). .
عن أبي سَعيدٍ، وأبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما سَمِعا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما يُصيبُ المُؤمِنَ مِن وَصَبٍ [238] الوَصَبُ: المَرَضُ والألمُ، وقيل: هو لُزومُ الوجَعِ، ومِنه قَولُه عَزَّ وجَلَّ: وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات: 9] أي: لازِمٌ ثابتٌ. يُنظر: ((المعلم)) للمازري (3/ 292)، ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 43)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 403). ولا نَصَبٍ [239] النَّصَبُ: الإعياءُ والتَّعَبُ. يُنظر: ((المعلم)) للمازري (3/ 292)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 403). ، ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتَّى الهَمِّ يُهَمُّه، إلَّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِه [240] أخرجه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573) واللفظ له. .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا نَزَلت: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] بَلغَت مِنَ المُسلمينَ مَبلغًا شَديدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قارِبوا وسَدِّدوا، ففي كُلِّ ما يُصابُ به المُسلِمُ كَفَّارةٌ، حتَّى النَّكبةِ يُنكَبُها، أوِ الشَّوكةِ يُشاكُها)) [241] أخرجه مسلم (2574). .
6- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ قال: إذا ابتَلَيتُ عَبدي بحَبيبَتَيه فصَبَرَ عَوَّضتُه مِنهما الجَنَّةَ، يُريدُ: عَينَيهـ)) [242] أخرجه البخاري (5653). .
وفي رِوايةٍ: ((إنَّ اللَّهَ يَقولُ: إذا أخَذتُ كَريمَتَي عَبدي في الدُّنيا لم يَكُنْ له جَزاءٌ عِندي إلَّا الجَنَّةُ)) [243] أخرجها الترمذي (2400) واللفظ له، وعبد بن حميد (1225)، وأبو يعلى (4211). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2400). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في هذا الحَديثِ حُجَّةٌ في أنَّ الصَّبرَ على البَلاءِ ثَوابُه الجَنَّةُ، ونِعمةُ البَصَرِ على العَبدِ وإن كانت مِن أجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى فعَوضُ اللَّهِ عليها الجَنَّةَ أفضَلُ مِن نِعمتِها في الدُّنيا؛ لنَفادِ مُدَّةِ الالتِذاذِ بالبَصَرِ في الدُّنيا، وبَقاءِ مُدَّةِ الالتِذاذِ به في الجَنَّةِ) [244] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 377). .
7- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَقولُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى: إذا أخَذتُ كَريمَتَي عَبدي فصَبَرَ واحتَسَبَ [245] أي: صَبَر راضيًا بقَضاءِ اللهِ راجيًا فَضلَه ورَحمَتَه وغُفرانَه، طالبًا الاحتِسابَ، أي: الثَّوابَ والأجرَ. يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (7/ 58)، ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 119)، ((التيسير)) للمناوي (1/ 264). لم أرضَ له ثَوابًا دونَ الجَنَّةِ)) [246] أخرجه أبو يعلى (2365)، وابن حبان (2930)، والطبراني (12/54) (12452). صَحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الموارد)) (582)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (644)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2930). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ حبان. .
وفي حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَذهَبُ اللهُ بحَبيبَتَي عَبدٍ فيَصبرُ ويَحتَسِبُ إلَّا أدخَله اللهُ الجَنَّةَ)) [247] أخرجه الترمذي (2401)، وأحمد (7597)، وابن حبان (2932) واللفظ له.  صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2401)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1421)، وقال الترمذي: (حَسَنٌ صحيحٌ). .
8- عن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَمِدَت عَيني، فعادَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قال: يا زَيدُ، لو أنَّ عَينَك لِمَا بها [248] مِن لمَّ به: إذا نَزَل، أي: لو كان مَلمومًا بها، أي: نَزَل بها العَمى. يُنظر: ((حاشية السندي على مسند الإمام أحمد)) (3/ 255، 264). كَيف كُنتَ تَصنَعُ؟ قال: كُنتُ أصبرُ وأحتَسِبُ، قال: لو أنَّ عَينَك لَمَا بها ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ كان ثَوابُك الجَنَّةَ)) [249] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (532). حَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (343). وقَوله: "رَمِدَت عَيني، فعادَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". صَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (413). .
وفي رِواية: ((أصابَني رَمَدٌ فعادَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فلمَّا بَرَأتُ خَرَجتُ، قال: فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرَأيتَ لو كانت عَيناك لِما بهما ما كُنتَ صانِعًا؟ قال: قُلتُ: لو كانتا عَينايَ لِما بهما صَبَرتُ واحتَسَبتُ، قال: لو كانت عَيناك لِما بهما ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ للقِيتَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ولا ذَنبَ لك))، وفي لفظٍ: ((ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ، لأوجَبَ اللَّهُ لك الجَنَّةَ)) [250] أخرجها أحمد (19348) واللَّفظُ له، والبزار (4341)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8757). حَسَّنها الذَّهَبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) (9/331)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (343)، وحسَّن إسنادَها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19348). وأخرجها أبو داود (3102)، والحاكم (1283)، والبيهقي (6662) مُختَصَرًا بلفظِ: عن زَيدِ بنِ أرقَمَ، قال: "عادَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وجَعٍ كان بعَيني". حَسَّنها المُنذِريُّ في ((مختصر سنن أبي داود)) (2/364)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3102)، وصَحَّحَ إسنادَها النوويُّ في ((المجموع)) (5/112)، وذَهَبَ إلى تَصحيحِها الحاكِمُ، وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، وابنُ دَقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (97). .
وفي حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دَخَلتُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَعودُ زَيدَ بنَ أرقَمَ وهو يَشتَكي عَينَه، فقال له: يا زَيدُ، لو كان بَصَرُك لِما به، كَيف كُنتَ تَصنَعُ؟ قال: إذًا أصبِرُ وأحتَسِبُ. قال: إن كان بَصَرُك لِما به ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ، لتَلقَيَنَّ اللَّهَ وليسَ لك ذَنبٌ)) [251] أخرجه أحمد (12586). حَسَّنه لغَيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12586). .
9- عن فاطِمةَ الخُزاعيَّةِ، قالت: ((عادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم امرَأةً مِنَ الأنصارِ وهيَ وَجِعةٌ، فقال لها: كَيف تَجِدينَك؟ قالت: بخَيرٍ إلَّا أنَّ أُمَّ مِلدَمٍ [252] أمُّ مِلدَمٍ: كُنيةُ الحُمَّى، والعَرَبُ تَقولُ: قالتِ الحُمَّى: أنا أمُّ مِلدَمْ آكُلُ اللَّحمَ وأمَصُّ الدَّمْ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/ 95). قد بَرَّحَت [253] بَرَّحَ به الأمرُ تَبريحًا، أي: جَهَدَه وشَقَّ عليه وأضَرَّ به ولقيَ مِنه شِدَّةً، ويُقالُ: لَقِيتُ مِنه بَرْحًا بارِحًا، أي: شِدَّةً شَديدةً، وبُرَحاءُ الحُمَّى وغَيرِها: شِدَّةُ الأذى. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 355)، ((الغريبين)) للهروي (1/ 162)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 234). بي -يَعني: الحُمَّى-، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اصبري؛ فإنَّها تُذهِبُ خَبَثَ ابنِ آدَمَ كَما يُذهِبُ الكيرُ [254] الكِيرُ: شَيءٌ يَنفُخُ فيه الحَدَّادُ في النَّارِ؛ ليَزولَ خَبَثُ الحَديدِ عنِ الحَديدِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (2/ 398). خَبَثَ الحَديدِ)) [255] أخرجه عبد الرزاق (20306)، والطبراني (24/405) (984) واللَّفظُ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9380). حَسَّنه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (3440). .
وعن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَل على أُمِّ السَّائِبِ أو أمِّ المُسَيَّبِ، فقال: ما لكِ يا أمَّ السَّائِبِ أو يا أمَّ المُسَيَّبِ تُزَفْزِفينَ [256] تُزَفزِفينَ، أي: تُرعِدينَ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 312)، ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 44). ؟! قالت: الحُمَّى، لا بارَكَ اللَّهُ فيها! فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خَطايا بَني آدَمَ كما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحَديدِ)) [257] أخرجه مسلم (2575). .
10- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَقولُ اللهُ تعالى: ما لعَبدي المُؤمِنِ عِندي جَزاءٌ إذا قَبَضتُ صَفِيَّه [258] صَفيَّه: أي: حَبيبَه ومَن يَعِزُّ عليه ويُصافيه الوُدَّ، وصَفوةُ كُلِّ شَيءٍ: خالِصُه، وصَفيُّ الرَّجُلِ: مَن يُصافيه ويَختَصُّه ويُصفِي له وُدَّه، والصَّفيُّ: المُصطَفى كالوَلَدِ والأخِ وكُلِّ مَحبوبٍ مُؤثَرٍ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (2/ 50)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 304)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 533). مِن أهلِ الدُّنيا ثُمَّ احتَسَبَه إلَّا الجَنَّةُ)). [259] أخرجه البخاري (6424).
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «إذا قَبَضتُ صَفيَّه» بفتحِ الصَّادِ المُهمَلةِ وكَسرِ الفاءِ وتَشديدِ التَّحتانيَّةِ وهو الحَبيبُ المُصافي كالولدِ والأخِ وكُلِّ مَن يُحِبُّه الإنسانُ، والمُرادُ بالقَبضِ قَبضُ رُوحِه، وهو المَوتُ.
قَولُه: «ثُمَّ احتَسَبَه إلَّا الجَنَّةُ» ... المُرادُ بـ "احتَسَبه" صَبَرَ على فقدِه راجيًا الأجرَ مِنَ اللهِ على ذلك، وأصلُ الحِسبةِ -بالكَسرِ-: الأُجرةُ، والاحتِسابُ: طَلَبُ الأجرِ مِنَ اللهِ تعالى خالصًا) [260] ((فتح الباري)) (11/ 242، 243). .
خامسًا: تَركُ التَّسَخُّطِ وشَقِّ الجُيوبِ ولطمِ الخُدودِ ودَعوى الجاهليَّةِ
يَجِبُ تَركُ التَّسَخُّطِ، واجتِنابُ شَقِّ الجُيوبِ ولَطمِ الخُدودِ والدُّعاءِ بدَعوى الجاهليَّةِ عِندَ نُزولِ الكَربِ والمُصيبةِ، ويَحفَظُ جَوارِحَه كُلَّها عَمَّا يُغضِبُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1-عن أنَسِ بنِ مالكٍ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال: ((إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ قَومًا ابتَلاهم، فمَن رَضيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ)) [261] أخرجه الترمذي بعد حديث (2396)، وابن ماجه (4031). صَحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (285)، وصَحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((منهاج القاصدين)) (349). .
2-عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليسَ مِنَّا مَن لطَمَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودَعا بدَعوى الجاهليَّةِ)) [262] أخرجه البخاري (1294) واللَّفظُ له، ومسلم (103). .
3- عن أبي بُردةَ بنِ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((وجِعَ أبو موسى وجَعًا شَديدًا، فغُشِيَ عليه ورَأسُه في حِجرِ امرَأةٍ مِن أهلِه، فلم يَستَطِعْ أن يَرُدَّ عليها شَيئًا [263] في روايةِ مسلم: (( فغُشِيَ عليه ورَأسُه في حِجرِ امرَأةٍ مِن أهلِه فصاحَتِ امرأةٌ مِن أهلِه، فلم يَستَطِعْ أن يَرُدَّ عليها شَيئًا)). ، فلمَّا أفاقَ قال: أنا بَريءٌ مِمَّن بَرِئَ مِنه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرِئَ مِنَ الصَّالقةِ [264] الصَّلقُ: الصِّياحُ الشَّديدُ، وكذلك السَّلقُ، ومِنه قَولُه تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب: 19] ، فالصَّالِقةُ: الصَّائِحةُ بالصَّوتِ الشَّديدِ. وقيل: أن تَصُكَّ المَرأةُ وَجهَها، وأن تَخدِشَه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403)، ((عمدة القاري)) للعيني (8/ 85). والحالقةِ [265] الحالقةُ: التي تَحلِقُ شَعرَها عِندَ المُصيبةِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 104). والشَّاقَّةِ [266] الشَّاقَّةُ: التي تَخرِقُ الثِّيابَ للمُصابِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403). ) [267] أخرجه البخاري (1296) واللَّفظُ له، ومسلم (104). .
وفي رِوايةٍ: ((ليسَ مِنَّا [268] ليسَ مِنَّا: أي: ليسَ على سيرَتِنا ومَذهَبِنا، والتَّمَسُّكِ بسُنَّتِنا، كَما يَقولُ الرَّجُلُ: أنا مِنك وإليك، يُريدُ المُتابَعةَ والموافَقةَ. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 366). مَن حَلَق [269] أي: مَن حَلَق شَعرَه عِندَ المَصائِبِ إذا حَلَّت به. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483). ومَن سَلَق [270] أي: رَفعَ صَوتَه. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 403). ومَن خَرَق [271] أي: شَقَّ ثيابَه عِندَ المُصيبةِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (8/ 85). ) [272] أخرجها مِن طُرُقٍ: أبو داود (3130) واللَّفظُ له، والنسائي (1866)، وأحمد (19690). صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3130)، وشُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((سنن أبي داود)) (3130). .
فائدةٌ: الأسبابُ المعينةُ على مواجهةِ المصائبِ والصَّبرِ عليها [273] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/ 174-180)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 276-278)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 165، 166).
1- أن يَعلمَ عِلمَ اليَقينِ أنَّ ما أصابَه لم يَكُنْ ليُخطِئَه، وما أخطَأه لم يَكُنْ ليُصيبَه، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22 - 23] ، وقال عزَّ وجَلَّ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11] .
عن عَلقَمةَ بنِ قَيسٍ في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] ، قال: (هيَ المُصيبةُ تُصيبُ الرَّجُلَ فيَعلمُ أنَّها مِن عِندِ اللهِ فيُسَلِّمُ لها ويَرضى) [274] ((الرضا عن الله بقضائهـ)) لابن أبي الدنيا (7). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال: ((كُنتُ رَديفَ [275] الرَّديفُ والرِّدفُ: هو الرَّاكِبُ خَلفَ الرَّاكِبِ، يُقالُ مِنه: رَدِفَه يَردَفُه، بكَسرِ الدَّالِ في الماضي وفتحِها في المُضارِعِ: إذا رَكِبَ خَلفَه، وأردَفتُه أنا، وأصلُه مِن رُكوبِه على الرِّدفِ، وهو العَجُزُ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (1/ 259، 260)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 139)، ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (6/ 219). رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا غُلامُ -أو يا غُلَيِّمُ- ألا أعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟ قُلتُ: بلى، فقال: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْك في الشِّدَّةِ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ باللهِ؛ فقد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، فلو أنَّ الخَلقَ كُلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفَعوك بشيءٍ لم يَقضِه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، وإن أرادوا أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يَقضِه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرَهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكَربِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا)) [276] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمد (2803) واللفظ له، والطبراني (11/223) (11560)، والحاكم (6449). صَحَّحه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803)، وحَسَّنه وجَوَّده ابنُ رَجَب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). وأخرجه بنحوه الترمذي (2516)، وأحمد (2669)، ولفظُ الترمذيِّ: (كُنتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشَيءٍ لم ينفَعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ)). صَحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (1/160)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصَحَّحه لغَيرِه الوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699). .
وعن أبي حَفصةَ، قال: قال عُبادةُ بنُ الصَّامِتِ لابنِه: يا بُنَيَّ، إنَّك لن تَجِدَ طَعمَ حَقيقةِ الإيمانِ حتَّى تَعلمَ أنَّ ما أصابَك لم يَكُنْ ليُخطِئَك، وما أخطَأك لم يَكُنْ ليُصيبَك، سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أوَّلَ ما خَلق اللهُ تعالى القَلَمُ، فقال له: اكتُبْ، فقال: رَبِّ وماذا أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ مَقاديرَ كُلِّ شَيءٍ حتَّى تَقومَ السَّاعةُ)). يا بُنَيَّ، إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن ماتَ على غَيرِ هذا فليسَ مِنِّي)) [277] أخرجه أبو داود (4700) واللَّفظُ له، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (59)، والبيهقي (20914). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4700)، وحَسَّنه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((سُنَن أبي داود)) (4700). .
2- أن يَعلمَ أنَّ اللهَ يُرَبِّي عَبدَه على السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والنِّعمةِ والبَلاءِ، فيستَخرِجُ مِن عُبوديَّتِه في جَميعِ الأحوالِ؛ فإنَّ العَبدَ على الحَقيقةِ مَن قامَ بعُبوديَّةِ اللهِ على اختِلافِ الأحوالِ، وأمَّا عَبدُ السَّرَّاءِ والعافيةِ الذي يعبُدُ اللهَ على حَرفٍ، فإن أصابَه خَيرٌ اطمَأنَّ به، وإن أصابَته فِتنةٌ انقَلبَ على وجهِه، فليس مِن عَبيدِه الذين اختارَهم لعُبوديَّتِه، فلا رَيبَ أنَّ الإيمانَ الذي يَثبُتُ على مَحَلِّ الابتِلاءِ والعافيةِ هو الإيمانُ النَّافِعُ وقتَ الحاجةِ، وأمَّا إيمانُ العافيةِ فلا يكادُ يصحَبُ العَبدَ ويُبلِّغُه مَنازِلَ المُؤمِنينَ، وإنَّما يصحَبُه إيمانٌ يَثبُتُ على البَلاءِ والعافيةِ؛ فالابتِلاءُ كِيرُ العَبدِ ومحَكُّ إيمانِه.
3- أن يَنظُرَ إلى ما أُصيبَ به، فيَجِدَ رَبَّه قد أبقَى عليه مِثلَه، أو أفضَلَ مِنه، وادَّخَرَ له -إن صَبَرَ ورَضيَ- ما هو أعظَمُ مِن فواتِ تلك المُصيبةِ بأضعافٍ مُضاعَفةٍ.
فيَنغي أن يوازِنَ بَينَ ما عِندَه مِن نِعَمٍ كَثيرةٍ وما كان فيه مِن عافيةٍ، وبَينَ ما حَلَّ به مِن مُصيبةٍ ونَزَل به مِن كَربٍ سَيَزولُ عَمَّا قَريبٍ، ويَأنَفَ أن يَكونَ مِمَّن يُعَدِّدُ المُصيباتِ ويَنسى النِّعَمَ.
وعنِ الحَسَنِ البَصريِّ، في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ، قال: (يُعَدِّدُ المَصائِبَ، ويَنسى النِّعَمَ) [278] ((المرض والكفارات)) لابن أبي الدنيا (222)، ((الشكر)) لابن أبي الدنيا (62)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (6/ 348) و (12/ 383). .
وقال ابنُ أبي الدُّنيا: أنشَدَنا مَحمودٌ الورَّاقُ:
يا أيُّها الظَّالمُ في فِعلِه
والظُّلمُ مَردودٌ على مَن ظَلَم
إلى مَتى أنتَ وحتَّى مَتى
تَشكو المُصيباتِ وتَنسى النِّعَم [279] ((الشكر)) (63)، ومن طريقه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 348). ؟
قال ابنُ القَيِّمِ: (تَهوينُ البَليَّةِ بأمرَينِ:
أحَدُهما: أن يَعُدَّ نِعَمَ اللهِ عليه وأياديَه عِندَه، فإذا عَجَزَ عن عَدِّها، وأيِسَ مِن حَصرِها، هانَ عليه ما هو فيه مِنَ البَلاءِ ورَآه -بالنِّسبةِ إلى أيادي اللهِ ونِعَمِه- كَقَطرةٍ مِن بَحرٍ.
الثَّاني: تَذكُّرُ سَوالِفِ النِّعَمِ التي أنعَمَ اللهُ بها عليه، فهذا يَتَعَلَّقُ بالماضي، وتَعدادُ أيادي المِنَنِ يَتَعَلَّقُ بالمُستَقبَلِ) [280] ((الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)) (ص: 21). .
وقال السَّعديُّ: (مَعرِفةُ نِعَمِ اللهِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ والتَّحَدُّثُ بها يَدفَعُ اللهُ به الهَمَّ والغَمَّ، ويُحِثُّ العَبدَ على الشُّكرِ الذي هو أرفعُ المَراتِبِ وأعلاها، حتَّى ولو كان العَبدُ في حالةِ فقرٍ أو مَرَضٍ أو غَيرِهما مِن أنواعِ البَلايا؛ فإنَّه إذا قابَل بَينَ نِعَمِ اللهِ عليه التي لا يُحصى لها عَدٌّ ولا حِسابٌ، وبَينَ ما أصابَه مِن مَكروهٍ، لم يَكُنْ للمَكروهِ إلى النِّعَمِ نِسبةٌ.
بَل المَكروهُ والمَصائِبُ إذا ابتَلى اللهُ بها العَبدَ، وأدَّى فيها وظيفةَ الصَّبرِ والرِّضا والتَّسليمِ، هانَت وَطأتُها، وخَفَّت مُؤنَتُها، وكان تَأمُّلُ العَبدِ لأجرِها وثَوابِها والتَّعَبُّدُ للهِ بالقيامِ بوظيفةِ الصَّبرِ والرِّضا، يَدَعُ الأشياءَ المُرَّةَ حُلوةً، فتُنسيه حَلاوةُ أجرِها مَرارةَ صَبرِها) [281] ((مدارج السالكين)) (2/ 166). .
ويُروى عن هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه: (أنَّه خَرَجَ إلى الوليدِ بنِ عَبدِ المَلكِ حتَّى إذا كان بوادي القُرى وجَدَ في رِجلِه شَيئًا فظَهَرَت به قُرحةٌ، وكانوا على رَواحِلَ، فأرادوه على أن يَركَبَ مَحمَلًا، فأبى عليهم، ثُمَّ غَلبوه، ورَحَلوا ناقةً له بمَحمَلٍ فرَكِبَها، ولم يَركَبْ محمَلًا قَبلَ ذلك، فلمَّا أصبَحَ تَلا هذه الآيةَ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر: 2] حتَّى إذا فرَغَ مِنها قال: لقد أنعَمَ اللهُ على هذه الأُمَّةِ في هذه المَحامِلِ بنِعمةٍ لا يُؤَدُّونَ شُكرَها، ورَقى في رِجلِه الوجَعُ حتَّى قدِمَ على الوليدِ، فلمَّا رَآه الوليدُ قال: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، اقطَعْها؛ فإنِّي أخافُ أن يَبلُغَ فوقَ ذلك. قال: فدونَك. قال: فدَعا له الطَّبيبَ، وقال له: اشرَبِ المُرقِدَ [282] المُرقِدُ بالضَّمِّ-: دَواءٌ يُرقِدُ مَن شَرِبَه. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 476). ، قال: لا أشرَبُ مُرقِدًا أبَدًا. قال: فقدَّرَها الطَّبيبُ، واحتاطَ بشَيءٍ مِنَ اللَّحمِ الحَيِّ مَخافةَ أن يَبقى مِنها شَيءٌ، فرَقِيَ فأخَذَ مِنشارًا فأمَسَّه النَّارَ، واتَّكَأ له عُروةُ فقَطَعَها مِن نِصفِ السَّاقِ، فما زادَ على أن يَقولَ: حَسِّ حَسِّ. فقال الوليدُ: ما رَأيتُ شَيخًا قَطُّ أصبَرَ مِن هذا!
إذ أُصيبَ عُروةُ بابنٍ له -يُقالُ له: مُحَمَّدٌ- في ذلك السَّفَرِ، دَخَل إصطَبلَ دَوابَّ مِنَ اللَّيلِ ليَبولَ فرَكَضَته بَغلةٌ فقَتَلَته، وكان مِن أحَبِّ وَلَدِه إليه، فلم يُسمَعْ مِن عُروةَ في ذلك كُلِّه كَلمةٌ حتَّى يرجعَ، فلمَّا كان بوادي القُرى قال: لقد لَقِينا مِن سَفَرِنا هذا نَصبًا، اللهُمَّ كان لي بنونَ سَبعةٌ، فأخَذتَ مِنهم واحِدًا وأبقَيتَ سِتَّةً، وكانت لي أطرافٌ أربَعةٌ فأخَذتَ مِنها طَرَفًا وأبقَيتَ لي ثَلاثةً، وايمُكَ لئِنِ ابتَلَيتَ لقد عافَيتَ، ولئِن أخَذتَ لقد أبقَيتَ.
فلمَّا قَدِمَ المَدينةَ جاءَه رَجُلٌ مِن قَومِه يُقالُ له: عَطاءُ بنُ أبي ذُؤَيبٍ، فقال: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، واللَّهِ ما كُنَّا نَحتاجُ أن نُسابقَ بك، ولا أن نُصارِعَ بك، ولكِنَّا كُنَّا نَحتاجُ إلى رَأيِك والأُنسِ بك، فأمَّا ما أُصِبتَ به فهو أمرٌ دَخَره اللَّهُ لك، وأمَّا ما كُنَّا نُحِبُّ أن يَبقى لنا مِنك فقد بَقِيَ) [283] ((المرض والكفارات)) لابن أبي الدنيا (132)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (12/ 346، 347). .
وجاءَ رَجُلٌ إلى يونُسَ بنِ عبيدٍ فشَكا إليه ضِيقًا مِن حالِه ومَعاشِه، واغتِمامًا مِنه بذلك، فقال له يونُسُ: أيَسُرُّك ببَصَرِك هذا الذي تُبصِرُ به مِائةَ ألفٍ؟ قال: لا، قال: فسَمعُك الذي تَسمَعُ به يَسُرُّك به مِائةُ ألفٍ؟ قال: لا، قال: فلسانُك الذي تَنطِقُ به مِائةُ ألفٍ؟ قال: لا، قال: ففُؤادُك الذي تَعقِلُ به مِائةُ ألفٍ؟ قال: لا، قال: فيَداك يَسُرُّك بهما مِائةُ ألفٍ؟ قال: لا؟ قال: فرِجْلاك؟ قال: فذَكَّرَه نِعَمَ اللهِ عليه، فأقبَل عليه يونُسُ، قال: أرى لك مئينَ أُلوفًا، وأنتَ تَشكو الحاجةَ [284] ((الشكر)) لابن أبي الدنيا (101)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/ 22)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (6/ 266). !
4-أن يُفكِّرَ أنَّه لو شاءَ اللهُ لجَعَل المُصيبةَ أعظَمَ مِمَّا هيَ، فيَشهَدَ ما للهِ عليه فيها مِن نِعَمٍ.
عن عَبدِ العَزيزِ بنِ أبي رُوادٍ، قال: (رَأيتُ في يَدِ مُحَمَّدِ بنِ واسِعٍ قُرحةً، فكَأنَّه رَأى ما قد شَقَّ عليَّ مِنها، فقال لي: تَدري ماذا للهِ عليَّ في هذه القُرحةِ مِن نِعمةٍ؟ قال: فسَكَتُّ، قال: حَيثُ لم يَجعَلْها على حَدَقَتي ولا على طَرَفِ لِساني ولا على طَرَفِ ذَكَري. فهانَت عليَّ قُرحَتُهـ) [285] ((الشكر)) لابن أبي الدنيا (152)، ((الصبر والثواب عليهـ)) لابن أبي الدنيا (ص: 126)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 352). .
ويُروى عن عُمَرَ رضيَ اللهُ تعالى عنه: (ما ابتُليتُ ببَليَّةٍ إلَّا كان للهِ عليَّ فيها أربَعُ نِعَمٍ: إذ لم تَكُنْ في ديني، وإذ لم أُحرَمِ الرِّضا، وإذ لم تَكُنْ أعظَمَ، وإذ رَجَوتُ الثَّوابَ عليها) [286] ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 134). وأورَدَه صاحِبُ ((أنس المسجون وراحة المحزون)) (ص: 37) بلفظ: (قال بَعضُ الصَّالحينَ: إنِّي لأُصابُ بالمُصيبةِ فأشكُرُ اللَّهَ تعالى عليها أربَعَ مِرارٍ: شُكرًا إذ لم تَكُنْ أعظَمَ مِمَّا هيَ، وشُكرًا إذ رَزَقَني الصَّبرَ عليها، وشُكرًا لِما أرجوه مِن زَوالِها، وشُكرًا إذ لم تَكُنْ في ديني). .
وقال بَعضُهم: (إذا دَهَمَنا أمرٌ تَصَوَّرناه في أسوأِ حالاتِه، فما نَقَصَ مِنها كان سُرورًا مُعَجَّلًا) [287] ((الآداب النافعة)) لابن شمس الخلافة (ص: 24). .
5-أن يَشهَدَ تَرَتُّبَ المُصيبةِ عليه بذَنبِه، كَما قال اللهُ تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، فهذا عامٌّ في كُلِّ مُصيبةٍ دَقيقةٍ وجَليلةٍ، فيَشغَلُه شُهودُ هذا السَّبَبِ بالاستِغفارِ الذى هو أعظَمُ الأسبابِ في دَفعِ تلك المُصيبةِ. قال عليُّ بنُ أبى طالبٍ: (ما نَزَل بَلاءٌ إلَّا بذَنبٍ، ولا رُفِع بَلاءٌ إلَّا بتَوبةٍ).
وأن يَعلمَ أنَّ تَعجيلَ العُقوبةِ له في الدُّنيا على ذَنبِه خَيرٌ مِن أن يُؤاخَذَ به في الآخِرةِ؛ ففي الحَديثِ: ((إذا أرادَ اللهُ بعَبدٍ خَيرًا عَجَّل له عُقوبَتَه في الدُّنيا، وإذا أرادَ به شَرًّا أمسَكَ عنه عُقوبَتَه، فيَرِدُ القيامةَ بذُنوبِهـ)) [288] أخرجه الترمذي (2396)، وأبو يعلى (4254)، والحاكم (9025) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ التِّرمِذيِّ: عن أنَسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أرادَ اللهُ بعَبدِه الخَيرَ عَجَّل له العُقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ اللَّهُ بعَبدِه الشَّرَّ أمسَكَ عنه بذَنبِه حتَّى يوافيَ به يَومَ القيامةِ)). صَحَّحه ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (7/730)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2396): حَسَنٌ صحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (2050). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَجُلًا لقيَ امرَأةً كانت بَغيًّا في الجاهليَّةِ، فجَعَل يُلاعِبُها حتَّى بَسَط يَدَه إليها، فقالتِ المَرأةُ: مَهْ! فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قد ذَهَبَ بالشِّركِ -وفي لفظٍ: ذَهَبَ بالجاهليَّةِ- وجاءَنا بالإسلامِ. فولَّى الرَّجُلُ، فأصابَ وَجهَه الحائِطُ، فشَجَّه، ثُمَّ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَه، فقال: أنتَ عَبدٌ أرادَ اللَّهُ بك خَيرًا؛ إذا أرادَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بعَبدٍ خَيرًا عَجَّل له عُقوبةَ ذَنبِه، وإذا أرادَ بعَبدٍ شَرًّا أمسَكَ عليه بذَنبِه حتَّى يوافى به يَومَ القيامةِ كَأنَّه عَيرٌ [289] أي: كأنَّ ذَنبَه مِثلُ عَيرٍ، وهو جَبَلٌ بالمَدينةِ. يُنظر: ((حاشية السندي على مسند الإمام أحمد)) (4/ 119). ) [290] أخرجه أحمد (16806) واللفظ له، وابن حبان (2911)، والحاكم (1309). صَحَّحه لغَيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16806). وذَهَب إلى تَصحيحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح الجامع)) (308). .
6-أن يَتَأسَّى بأهلِ المَصائِبِ [291] قال السَّمَرقَنديُّ: (الواجِبُ على العَبدِ أن يَصبرَ على ما يُصيبُه مِنَ الشِّدَّةِ، ويَعلمَ أنَّ ما دَفعَ اللهُ عنه مِنَ البَلاءِ أكثَرُ مِمَّا أصابَه، ويَحمَدَ اللَّهَ تعالى على ذلك. ويَنبَغي للعَبدِ أن يَقتَديَ بنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَنظُرَ إلى صَبرِه على أذى المُشرِكينَ... وكان أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شِدَّةٍ مِن أذى الكُفَّارِ ومِنَ الجوعِ، فصَبَروا على ذلك حتَّى فرَّجَ اللهُ عنهم، وكُلُّ مَن صَبَرَ فرَّجَ اللهُ عنه؛ فإنَّ الفرَجَ مَعَ الصَّبرِ، وإنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا. وكان الصَّالحونَ -رَحِمَهمُ اللهُ- يَفرَحونَ بالشِّدَّةِ؛ لِما يَرجونَ مِن ثَوابِها). ((تنبيه الغافلين)) (ص: 249، 254). ، وليَعلَمْ أنَّه في كُلِّ وادٍ بَنو سَعدٍ [292] يُضْربُ مَثلًا لاسْتِواءِ القومِ في الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ. ينظر: ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/ 61). ، وليَنظُرْ يَمنةً فهَل يَرى إلَّا مِحنةً؟ ثُمَّ ليَعطِفْ يَسرةً فهَل يَرى إلَّا حَسرةً؟ وأنَّه لو فتَّشَ العالمَ لم يَرَ فيهم إلَّا مُبتَلًى؛ إمَّا بفواتِ مَحبوبٍ، أو حُصولِ مَكروهٍ، وأنَّ شُرورَ الدُّنيا أحلامُ نَومٍ، أو كَظِلٍّ زائِلٍ، إن أضحَكَت قَليلًا أبكَت كَثيرًا، وإن سَرَّت يَومًا ساءَت دَهرًا، وإن مَتَّعَت قَليلًا مَنَعَت طَويلًا، وما مَلأَت دارًا خيرةً إلَّا مَلأَتها عَبرةً، ولا سَرَّته بيَومِ سُرورٍ إلَّا خَبَّأَت له يَومَ شُرورٍ، قال ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "لكُلِّ فَرحةٍ تَرحةٌ، وما مُلئَ بَيتٌ فَرَحًا إلَّا مُلئَ تَرَحًا"، وقال ابنُ سِيرينَ: "ما كان ضَحِكٌ قَطُّ إلَّا كان مِن بَعدِه بُكاءٌ".
7-أن يَعلمَ أنَّ الجَزَعَ لا يَرُدُّها، بَل يُضاعِفُها، وهو في الحَقيقةِ مِن تَزايُدِ المَرَضِ.
8-أن يَعلمَ أنَّ فوتَ ثَوابِ الصَّبرِ والتَّسليمِ -وهو الصَّلاةُ والرَّحمةُ والهدايةُ التي ضَمِنَها اللهُ على الصَّبرِ والاستِرجاعِ- أعظَمُ مِنَ المُصيبةِ في الحَقيقةِ.
9-أن يَعلمَ أنَّ الجَزَعَ يُشمِتُ عَدوَّه، ويَسوءُ صَديقَه، ويُغضِبُ رَبَّه، ويَسُرُّ شَيطانَه، ويُحبطُ أجرَه، ويُضعِفُ نَفسَه، وإذا صَبَرَ واحتَسَبَ أنضى [293] أنضاه: هَزَلَه وأتعَبَه. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 313)، ((المعجم الوسيط)) (2/ 929). شَيطانَه، ورَدَّه خاسِئًا، وأرضى رَبَّه، وسَرَّ صَديقَه، وساءَ عَدوَّه، وحَمَل عن إخوانِه، وعَزَّاهم هو قَبلَ أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثَّباتُ والكَمالُ الأعظَمُ، لا لطمُ الخُدودِ، وشَقُّ الجُيوبِ، والدُّعاءُ بالوَيلِ والثُّبورِ، والسَّخَطُ على المَقدورِ.
ويُروى أنَّ عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ مَهديٍّ ماتَ له ابنٌ، فجَزِعَ عليه جَزَعًا شَديدًا حتَّى امتَنَعَ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ، فبَلغَ ذلك مُحَمَّدَ بنَ إدريسَ الشَّافِعيَّ، فكَتَبَ إليه:
(أمَّا بَعدُ، فعَزِّ نَفسَك بما تُعَزِّي غَيرَك، واستَقبِحْ مِن فِعلِك ما تَستَقبحُه مِن فِعلِ غَيرِك، واعلَمْ أن أمَضَّ المَصائِبِ فقدُ سُرورٍ مَعَ حِرمانِ أجرٍ، فكَيف إذا اجتَمَعا على اكتِسابِ وِزرٍ؟! وأقولُ:
إنِّي مُعَزِّيك لا أنِّي على طَمَعٍ
مِنَ الخُلودِ ولكِن سُنَّةُ الدِّينِ
فما المُعَزَّى بباقٍ بَعدِ صاحِبِه
ولا المُعَزِّي ولو عاشا إلى حينِ) [294] ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 90). .
10-أن يَتَفكَّرَ في ثَوابِ المَصائِبِ والصَّبرِ عليها [295] قال السَّمَرقَنديُّ: (نبغي للعاقِلِ أن يتَفكَّرَ في ثَوابِ المُصيبةِ فتَسهُلَ عليه المُصيبةُ؛ فإنَّ ثَوابَ المُصيبةِ إذا استَقبَله يومَ القيامةِ يودُّ أن يكونَ جَميعُ أقارِبِه وجَميعُ أولادِه ماتوا قَبلَه لينالَ الأجرَ وثَوابَ المُصيبةِ. وقد وعَدَ اللهُ تعالى في المُصيبةِ ثَوابًا عَظيمًا إذا صَبَرَ واحتَسَبَ). ((تنبيه الغافلين)) (ص: 260). وعنِ الحَسَنِ البَصريِّ أنَّ رَجُلًا جَزِع على وَلَدِه، وشَكا ذلك إليه، فقال الحَسَنُ: كان ابنُك يَغيبُ عنك؟ قال: نَعَمْ، كانت غَيبَتُه أكثَرَ مِن حُضورِه، قال: فاترُكه غائِبًا؛ فإنَّه لم يَغِبْ عنك غيبةً الأجرُ لك فيها أعظَمُ مِن هذه، فقال: يا أبا سَعيدٍ، هَوَّنتَ عنِّي وَجْدي على ابني. ((الأذكار)) للنووي (ص: 152). ويُنظر: ((الكامل في اللغة والأدب)) للمبرد (4/ 15)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (7/ 189). ، وأنَّ في ذلك خَيرًا كَثيرًا، مِن تَكفيرِ السَّيِّئاتِ، ورَفعِ الدَّرَجاتِ [296] ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 90). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مُصيبةٍ تُصيبُ المُسلمَ إلَّا كَفَّرَ اللهُ بها عنه، حتَّى الشَّوكةِ يُشاكُها)) [297] أخرجه البخاري (5640). .
وفي رِوايةٍ: ((ما يُصيبُ المُؤمِنَ مِن شَوكةٍ فما فوقَها إلَّا رَفعَه اللهُ بها دَرَجةً، أو حَطَّ عنه بها خَطيئةً)) [298] أخرجها مسلم (2572). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِه، وهو يُوعَكُ [299] الوَعْكُ: الألمُ، وقيل: ألمُ الحُمَّى، وقيل: تَمريغُ الحُمَّى، يُقالُ: وَعَكَته الحُمَّى، تَعِكُه، وَعكًا، فهو مَوعوكٌ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 581)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 544). وَعْكًا شَديدًا، وقُلتُ: إنَّك لتُوعَكُ وَعْكًا شَديدًا، قُلتُ: إنَّ ذاكَ بأنَّ لك أجرَينِ؟ قال: أجَلْ، ما مِن مُسلمٍ يُصيبُه أذًى إلَّا حاتَّ [300] أي: فتَّت، وهي كنايةٌ عن إذهابِ الخطايا. ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 111). اللَّهُ عنه خَطاياه كَما تَحاتُّ ورَقُ الشَّجَرِ)) [301] أخرجه البخاري (5647) واللفظ له، ومسلم (2571). .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ يا رَسولَ اللهِ: أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بَلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثُمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ، فيُبتَلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دينِه؛ فإن كان دِينُه صُلبًا اشتَدَّ بَلاؤُه، وإن كان في دينِه رِقَّةٌ ابتُليَ على حَسَبِ دينِه، فما يَبرَحُ البَلاءُ بالعَبدِ حتَّى يَترُكَه يمشي على الأرضِ ما عليه خَطيئةٌ)) [302] أخرجه الترمذي (2398) واللفظ له، وابن ماجه (4023)، وأحمد (1494).  صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (2901)، وقال الترمذي والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2398): (حَسَنٌ صحيحٌ)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (371). .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا ابتَلى اللهُ العَبدَ المُسلِمَ ببَلاءٍ في جَسَدِه، قال للمَلَكِ: اكتُبْ له صالِحَ عَمَلِه الذي كان يَعمَلُ، فإن شَفاه غَسَله وطَهَّره، وإن قَبَضَه غَفرَ له ورَحِمَهـ)) [303] أخرجه أحمد (13712) واللفظ له، وابن أبي شيبة (10936)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9464). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3422): (حَسَنٌ صحيحٌ)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (1430). وذهب إلى تصحيحه الوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (36). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزالُ البَلاءُ بالمُؤمِنِ أوِ المُؤمِنةِ، في جَسَدِه، وفي مالِه، وفي وَلَدِه، حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليه مِن خَطيئةٍ)) [304] أخرجه الترمذي (2399)، وأحمد (7859) واللَّفظُ له. حسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7859). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (2924)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1299)، وقال الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2399): (حَسَنٌ صحيحٌ). وأخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/265) بلفظِ: عن أبي هرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما يَزالُ العَبدُ المُؤمِنُ يُصابُ في مالِه وحُشاشَتِه حتَّى يَلقى اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ وليسَ عليه خَطيئةٌ)). صَحَّحه أبو نُعيم. .
وعنه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال: رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الرَّجُلَ لتَكونُ له عِندَ اللهِ المَنزِلةُ فما يَبلُغُها بعَمَلٍ، فلا يَزالُ اللهُ يَبتَليه بما يَكرَهُ حتَّى يُبَلِّغَه إيَّاها)) [305] أخرجه ابن حبان (2908) واللفظ له، والحاكم (1292)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9392). صَحَّحه بشَواهدِه الألبانيُّ في ((سِلسِلة الأحاديث الصحيحة)) (2599)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكم، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2908). وذهب إلى تصحيحه ابنُ حبان. .
وعنه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيرًا يُصِبْ مِنهـ)) [306] أخرجه البخاري (5645). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيرًا يُصِبْ مِنه» كَذا للأكثَرِ بكَسرِ الصَّادِ، والفاعِلُ اللَّهُ، قال أبو عُبَيدٍ الهَرَويُّ: مَعناه: يَبتَليه بالمَصائِبِ ليُثيبَه عليها، وقال غَيرُه: مَعناه: يُوَجِّهُ إليه البَلاءَ فيُصيبُه... وفي هذه الأحاديثِ بشارةٌ عَظيمةٌ لكُلِّ مُؤمِنٍ؛ لأنَّ الآدَميَّ لا يَنفَكُّ غالبًا مِن ألمٍ بسَبَبِ مَرَضٍ أو همٍّ أو نَحوِ ذلك مِمَّا ذُكِرَ، وأنَّ الأمراضَ والأوجاعَ والآلامَ -بَدَنيَّةً كانت أو قَلبيَّةً- تُكَفِّرُ ذُنوبَ مَن تَقَعُ لهـ) [307] ((فتح الباري)) (10/ 108). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ما يُصيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتَّى الشَّوكةِ يُشاكُها، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها مِن خَطاياهـ)) [308] أخرجه البخاري (5641، 5642) واللفظ له، ومسلم (2573). .
فيَنبَغي أن يلاحظَ حُسنَ الجَزاءِ، ويَعلَمَ أنَّ ما يُعقِبُه الصَّبرُ والاحتِسابُ مِنَ اللَّذَّةِ والمَسَرَّةِ أضعافُ ما كان يَحصُلُ له ببَقاءِ ما أُصيبَ به لو بَقيَ عليه، ويَكفيه مِن ذلك بَيتُ الحَمدِ الذي يُبنى له في الجَنَّةِ على حَمدِه لرَبِّه، واستِرجاعِه فليَنظُرْ: أيُّ المُصيبَتَينِ أعظَمُ: مُصيبةُ العاجِلةِ، أو مُصيبةُ فَواتِ بَيتِ الحَمدِ في جَنَّةِ الخُلدِ؟ وقال بَعضُ السَّلَفِ: لولا مَصائِبُ الدُّنيا لورَدنا القيامةَ مَفاليسَ.
وعلى حَسَبِ حُسنِ الجَزاءِ والوُثوقِ به ومُطالعَتِه يُخَفِّفُ حِملَ البَلاءِ، لشُهودِ العِوَضِ، وهذا كَما يَخِفُّ على كُلِّ مُتَحَمِّلِ مَشَقَّةٍ عَظيمةٍ حَملُها، لِما يُلاحِظُه مِن لذَّةِ عاقِبَتِها وظَفَرِه بها، ولولا ذلك لتَعَطَّلت مَصالحُ الدُّنيا والآخِرةِ، وما أقدَمَ أحَدٌ على تَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ عاجِلةٍ إلَّا لثَمَرةٍ مُؤَجَّلةٍ، فالنَّفسُ مُولَعةٌ بحُبِّ العاجِلِ، وإنَّما خاصَّةُ العَقلِ تَلمُّحُ العَواقِبِ، ومُطالعةُ الغاياتِ.
وأجمَعَ عُقَلاءُ كُلِّ أُمَّةٍ على أنَّ النَّعيمَ لا يُدرَكُ بالنَّعيمِ، وأنَّ مَن رافقَ الرَّاحةَ فارَقَ الرَّاحةَ، وحَصَل على المَشَقَّةِ وقتَ الرَّاحةِ في دارِ الرَّاحةِ؛ فإنَّه على قَدرِ التَّعَبِ تَكونُ الرَّاحةُ.
ويُحكى عنِ امرَأةٍ مِنَ العابداتِ أنَّها عَثَرَت فانقَطَعَت إصبَعُها، فضَحِكَت، فقال لها بَعضُ مَن مَعَها: أتضحَكينَ، وقدِ انقَطَعَت إصبَعُك؟ فقالت: (أُخاطِبُك على قَدرِ عَقلِك: حَلاوةُ أجرِها أنسَتني مَرارةَ ذِكرِها) [309] يُنظر: ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 359)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 167). ؛ إشارةً إلى أنَّ عَقلَه لا يَحتَمِلُ ما فوقَ هذا المَقامِ مِن مُلاحَظةِ المُبتَلي، ومُشاهَدةِ حُسنِ اختيارِه لها في ذلك البَلاءِ، وتَلذُّذِها بالشُّكرِ له، والرِّضا عنه، ومُقابَلةِ ما جاءَ مِن قِبَلِه بالحَمدِ والشُّكرِ، كَما قيل:
لئِن ساءَني أن نِلتَني بمَساءةٍ
فقد سَرَّني أنِّي خَطَرتُ ببالِكا
11-أن يَعلَمَ أنَّ في عُقبى هذا الدَّواءِ مِنَ الشِّفاءِ والعافيةِ والصِّحَّةِ وزَوالِ الألمِ ما لم تَحصُلْ بدونِه، فإذا طالعَت نَفسُه كراهةَ هذا الدَّاءِ ومَرارَتَه فلينظُرْ إلى عاقِبَتِه وحُسنِ تَأثيرِه؛ قال تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19] ، وقال عزَّ وجَلَّ: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
قال الثَّعلبيُّ في تَفسيرِ هذه الآيةِ الكَريمةِ: (قال الحَسَنُ: لا تَكرَهِ المُلمَّاتِ الواقِعةَ والبَلايا الحادِثةَ؛ فلرُبَّ أمرٍ تَكرَهُه فيه نَجاتُك، ولرُبَّ أمرٍ تَرجوه فيه عَطَبُك.
وأنشَدَ أبو سَعيدٍ الضَّريرُ:
رُبَّ أمرٍ تَتَّقيه
جَرَّ أمرًا تَرتَضيه
خَفِيَ المَحبوبُ مِنه
وبَدا المَكروهُ فيه
وأنشَدَ مُحَمَّدُ بنُ عَرَفةَ لعَبدِ اللَّهِ بنِ المُعتَزِّ:
لا تَكرَهِ المَكروهَ عِندَ نُزولِه
إنَّ الحَوادِثَ لم تَزَلْ مُتَبايِنَه
كَم نِعمةٍ لا تَستَقِلُّ بشُكرِها
للهِ في دَرجِ الحَوادِثِ كامِنَه
عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي حاتِمٍ عن أبيه، قال: بَعَثَ المُتَوكِّلُ إلى مُحَمَّدِ بنِ اللَّيثِ رَسولًا، وقد كان بَقيَ مُدَّةً في مَنزِلِه، فلمَّا أتاه الرَّسولُ امتَثَل فرَكِبَ بلا روحٍ خَوفًا، فمَرَّ به رَجُلٌ، وهو يَقولُ:
كَم مَرَّةٍ حُفَّت بك المَكارِهُ
خارَ لك اللَّهُ وأنتَ كارِهُ
فلمَّا دَخَل على المُتَوكِّلِ ولَّاه مِصرَ وأمَرَ له بمِائةِ ألفٍ وجَميعِ ما يَحتاجُ إليه مِنَ الآلاتِ والدَّوابِّ والغِلمانِ...
وأنشَدَ مُحَمَّدُ بنُ الفَرحانِ:
كَم فرحةٍ مَطويَّةٍ
لك بَينَ أثوابِ النَّوائِبِ
ومَسَرَّةٍ قد أقبَلَت
مِن حَيثُ تُنتَظَرُ المَصائِبُ
وأنشَدَ أبو عَبدِ اللَّهِ الوَضاحيُّ:
رُبَّما خُيِّرَ الفتى وهو للخَيرِ كارِهُ
ثُمَّ يَأتي السُّرورُ مِن حَيثُ تَأتي المَكارِهُ) [310] يُنظر: ((الكشف والبيان عن تفسير القرآن)) (2/ 138). وينظر أيضًا: ((الفرج بعد الشدة)) للتنوخي (5/ 26)، ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (2/ 367)، ((الآداب النافعة)) لابن شمس الخلافة (ص: 85)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (3/ 39). .
12-أن يُرَوِّحَ قَلبَه برَوحِ رَجاءِ الخَلَفِ مِنَ اللهِ؛ فإنَّه مِن كُلِّ شَيءٍ عِوَضٌ إلَّا اللهَ، فما مِنه عِوَضٌ، كَما قيل:
مِن كُلِّ شَيءٍ إذا ضَيَّعتَه عِوَضُ
وما مِنَ اللهِ إن ضَيَّعتَه عِوَضُ
وانتِظارُ رَوحِ الفرَجِ -أي: راحَتِه ونَسيمِه ولذَّتِه- ومُطالعَتُه وتَرَقُّبُه يُخَفِّفُ حَملَ المَشَقَّةِ، ولا سيَّما عِندَ قوَّةِ الرَّجاءِ، أوِ القَطعِ بالفرَجِ؛ فإنَّه يَجِدُ في حَشوِ البَلاءِ مِن رَوحِ الفرَجِ ونَسيمِه وراحَتِه ما هو مِن خَفيِّ الألطافِ، وما هو فرَجٌ مُعَجَّلٌ، وبه وبغَيرِه يُفهَمُ مَعنى اسمِه تعالى: اللَّطيفِ.
13-أن يَعلمَ أنَّ حَظَّه مِنَ المُصيبةِ ما تُحدِثُه له؛ فمَن رَضيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ، فحَظُّك مِنها ما أحدَثَته لك، فاختَرْ خَيرَ الحُظوظِ أو شَرَّها؛ فإن أحدَثَت له سَخَطًا وكُفرًا كُتِبَ في ديوانِ الهالِكينَ، وإن أحدَثَت له جَزَعًا وتَفريطًا في تَركِ واجِبٍ أو فِعلِ مُحَرَّمٍ كُتِبَ في ديوانِ المُفرِّطينَ، وإن أحدَثَت له شِكايةً وعَدَمَ صَبرٍ كُتِبَ في ديوانِ المَغبونينَ، وإن أحدَثَت له اعتِراضًا على اللهِ وقَدحًا في حِكمَتِه فقد قَرَعَ بابَ الزَّندَقةِ أو ولَجَه، وإن أحدَثَت له صَبرًا وثَباتًا للَّهِ كُتِبَ في ديوانِ الصَّابرينَ، وإن أحدَثَت له الرِّضا عنِ اللهِ كُتِبَ في ديوانِ الرَّاضينَ، وإن أحدَثَت له الحَمدَ والشُّكرَ كُتِبَ في ديوانِ الشَّاكِرينَ، وكان تَحتَ لواءِ الحَمدِ مَعَ الحَمَّادينَ، وإن أحدَثَت له محبَّةً واشتياقًا إلى لقاءِ رَبِّه كُتِبَ في ديوان المُحِبِّينَ المُخلِصينَ.
وفي الحَديثِ: ((إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ قَومًا ابتَلاهم، فمَن رَضيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ)) [311] أخرجه الترمذي بعد حديث (2396)، وابن ماجه (4031) من حديثِ مَحمودِ بنِ لَبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (285)، وصَحَّحه بشَواهدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((منهاج القاصدين)) (349). ، وفي رِوايةٍ: ((ومَن جَزِعَ فله الجَزَعُ)) [312] أخرجها أحمد (23623)، وابن شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (275)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9327) من حديثِ مَحمودِ بنِ لَبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1706)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (4/177). .
14-أن يَعلمَ أنَّه وإن بَلَغَ في الجَزَعِ غايَتَه، فآخِرُ أمرِه إلى صَبرِ الاضطِرارِ، وهو غَيرُ مَحمودٍ ولا مُثابٍ، قال بَعضُ الحُكَماءِ: العاقِلُ يَفعَلُ في أوَّلِ يَومٍ مِنَ المُصيبةِ ما يَفعَلُه الجاهِلُ بَعدَ أيَّامٍ، ومَن لم يَصبِرْ صَبرَ الكِرامِ، سَلا سُلوَّ البَهائِمِ.
وفي الحَديثِ: ((الصَّبرُ عِندَ الصَّدمةِ الأُولى)) [313] أخرجه البخاري (1302)، ومسلم (926) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال الأشعَثُ بنُ قَيسٍ: إنَّك إن صَبَرتَ إيمانًا واحتِسابًا، وإلَّا سَلوتَ سُلُوَّ البَهائِمِ.
15-أن يَعلمَ أنَّ اللَّهَ قدِ ارتَضى له ما أصابَه له واختارَه وقَسَمَه، وأنَّ العُبوديَّةَ تَقتَضي رِضاه بما رَضيَ له به سَيِّدُه ومَولاه، وأنَّ أنفعَ الأدويةِ له موافَقةُ رَبِّه وإلهِه فيما أحَبَّه ورَضيَه له، وأنَّ خاصِّيَّةَ المَحَبَّةِ وسِرَّها موافَقةُ المَحبوبِ، فمَنِ ادَّعى مَحَبَّةَ مَحبوبٍ ثُمَّ سَخِطَ ما يُحِبُّه وأحَبَّ ما يُسخِطُه، فقد شَهدَ على نَفسِه بكَذِبه، وتَمقَّتَ إلى مَحبوبِه.
وقال أبو الدَّرداءِ: إنَّ اللَّهَ إذا قَضى قَضاءً أحَبَّ أن يَرضى به.
وكان عِمرانُ بنُ حُصَينٍ يَقولُ في عِلَّتِه: أحَبُّه إليَّ أحَبُّه إليه. وكذلك قال أبو العاليةِ.
وهذا دَواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمَلُ إلَّا مَعَ المُحِبِّينَ، ولا يُمكِنُ كُلَّ أحَدٍ أن يَتَعالَجَ به.
16-أن يوازِنَ بَينَ أعظَمِ اللَّذَّتَينِ والمُتعَتَينِ وأدوَمِهما: لذَّةُ تَمَتُّعِه بما أُصيبَ به، ولذَّةُ تَمَتُّعِه بثَوابِ اللهِ له، فإن ظَهَرَ له الرُّجحانُ فآثَرَ الرَّاجِحَ فليَحمَدِ اللَّهَ على تَوفيقِه، وإن آثَرَ المَرجوحَ مِن كُلِّ وَجهٍ فليَعلَمْ أنَّ مُصيبَتَه في عَقلِه وقَلبِه ودينِه أعظَمُ مِن مُصيبَتِه التي أُصيبَ بها في دُنياه.
17-أن يَعلمَ أنَّ الذي ابتَلاه بها أحكَمُ الحاكِمينَ، وأرحَمُ الرَّاحِمينَ، وأنَّه سُبحانَه لم يُرسِلْ إليه البَلاءَ ليُهلِكَه به، ولا ليُعَذِّبَه به، ولا ليَجتاحَه، وإنَّما افتَقدَه به ليَمتَحِنَ صَبرَه ورِضاه عنه وإيمانَه وليَسمَعَ تَضَرُّعَه وابتِهالَه، وليَراه طَريحًا ببابِه، لائِذًا بجَنابِه، مَكسورَ القَلبِ بَينَ يَدَيه، رافِعًا قِصَصَ الشَّكوى إليه، فالمُصيبةُ هيَ دَواءٌ نافِعٌ ساقَه إليه الطَّبيبُ العليمُ بمَصلحَتِه الرَّحيمُ به؛ فليَصبرْ على تَجَرُّعِه، ولا يتَقَيَّاه بتَسَخُّطِه وشَكواه؛ فيَذهَبَ نَفعُه باطِلًا.
قال الشَّيخُ عَبدُ القادِرِ: يا بُنَيَّ، إنَّ المُصيبةَ ما جاءَت لتُهلِكَك، وإنَّما جاءَت لتَمتَحِنَ صَبرَك وإيمانَك، يا بُنَيَّ، القَدَرُ سَبُعٌ، والسَّبُعُ لا يَأكُلُ المَيتةَ.
والمَقصودُ: أنَّ المُصيبةَ كِيرُ [314] الكِيرُ: شَيءٌ يَنفُخُ فيه الحَدَّادُ في النَّارِ؛ ليَزولَ خَبَثُ الحَديدِ عنِ الحَديدِ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (2/ 398). العَبدِ الذي يَسبُكُ به حاصِلَه، فإمَّا أن يَخرُجَ ذَهَبًا أحمَرَ، وإمَّا أن يَخرُجَ خَبَثًا كُلُّه، كَما قيل:
سَبَكناه ونَحسَبُه لُجَينًا [315] اللُّجَينُ: الفِضَّةُ. يُنظر: ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/ 158).
فأبدى الكِيرُ عن خَبَثِ الحَديدِ
فإن لم يَنفَعْه هذا الكِيرُ في الدُّنيا، فبَينَ يَدَيه الكِيرُ الأعظَمُ، فإذا عَلمَ العَبدُ أنَّ إدخالَه كيرَ الدُّنيا ومَسبَكَها خَيرٌ له مِن ذلك الكيرِ والمَسبَكِ، وأنَّه لا بُدَّ مِن أحَدِ الكيرَينِ، فليَعلَمْ قَدْرَ نِعمةِ اللهِ عليه في الكيرِ العاجِلِ.
18-أن يَعلَمَ أنَّه لولا مِحَنُ الدُّنيا ومَصائِبُها لأصابَ العَبدَ مِن أدِواء الكِبرِ والعُجبِ والفَرعَنةِ وقَسوةِ القَلبِ ما هو سَبَبُ هَلاكِه عاجِلًا وآجِلًا، فمِن رَحمةِ أرحَمِ الرَّاحِمينَ أن يَتَفقَّدَه في الأحيانِ بأنواعٍ مِن أدويةِ المَصائِبِ، تَكونُ حِميةً له مِن هذه الأدواءِ، وحِفظًا لصِحَّةِ عُبوديَّتِه، واستِفراغًا للمَوادِّ الفاسِدةِ الرَّديئةِ المُهلِكةِ مِنه، فسُبحانَ مَن يَرحَمُ ببَلائِه، ويَبتَلي بنَعمائِه، كَما قيل:
قد يُنعِمُ بالبَلوى وإن عَظُمَت
ويَبتَلي اللهُ بَعضَ القَومِ بالنِّعَمِ
فلولا أنَّه سُبحانَه يُداوي عِبادَه بأدويةِ المِحَنِ والابتِلاءِ لطَغَوا وبَغَوا وعَتَوا، واللَّهُ سُبحانَه إذا أرادَ بعَبدٍ خَيرًا سَقاه دَواءً مِنَ الابتِلاءِ والامتِحانِ على قَدرِ حالِه، يَستَفرِغُ به مِنَ الأدواءِ المُهلِكةِ، حتَّى إذا هَذَّبَه ونَقَّاه وصَفَّاه أهَّلَه لأشرَفِ مَراتِبِ الدُّنيا -وهيَ عُبوديَّتُه- وأرفَعِ ثَوابِ الآخِرةِ، وهو رُؤيَتُه وقُربُه.
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (اعلَمْ أنَّ سَلامةَ البَدَنِ والمالِ توجِبُ غَفلةً وإعراضًا، فإن وُجِدَ الشُّكرُ فلا عن حُرقةٍ، والبَلاءُ يَكسِرُ النَّفسَ عن أشَرِها وشَرِّها وشَرَهِها، ويُثمِرُ صِدقَ اللَّجَأِ إلى اللهِ سُبحانَه، ويُحَصِّلُ ثَوابَ الآخِرةِ) [316] ((كشف المشكل)) (3/ 529). .
19-أن يَعلَمَ أنَّ مَرارةَ الدُّنيا هيَ بعَينِها حَلاوةُ الآخِرةِ، يَقلِبُها اللهُ سُبحانَه كذلك، وحَلاوةَ الدُّنيا بعَينِها مَرارةُ الآخِرةِ، ولَأَن يَنتَقِلَ مِن مَرارةٍ مُنقَطِعةٍ إلى حَلاوةٍ دائِمةٍ خَيرٌ له مِن عَكسِ ذلك، فإن خَفِيَ عليك هذا فانظُرْ إلى قَولِ الصَّادِقِ المَصدوقِ: ((حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ)) [317] أخرجه مسلم (2822) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال ابنُ شَمسِ الخِلافةِ:
هيَ شِدَّةٌ يَأتي الرَّخاءُ عَقيبَها
وأسًى يُبَشِّرُ بالسُّرورِ العاجِلِ
وإذا نَظَرتَ فإنَّ بُؤسًا زائِلًا
للمَرءِ خَيرٌ مِن نَعيمٍ زائِلِ [318] ((الآداب النافعة)) (ص: 84).
20-أن يَعلَمَ أنَّ الفرَجَ مَعَ الكَربِ، وأنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا، ومِنَ المِحَنِ تَأتي المِنَحُ، فليَستَبشِرْ ولا يَيأسْ.
قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5 - 6] .
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تَكرَهُ خَيرًا كَثيرًا، وأنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مَعَ الكَربِ، وأنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا)) [319] أخرجه من طرقٍ: أحمد (2803) واللفظ له، والحاكم (6449)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9528) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803)، وحَسَّنه وجَوَّده ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). .
وعن إبراهيمَ بنِ مَسعودٍ قال: (كان رَجُلٌ مِن تُجَّارِ المَدينةِ يختَلفُ إلى جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ فيُخالِطُه، ويُعَرِّفُه بحُسنِ الحالِ، فتَغَيَّرَت حالُه، فجَعَل يشكو ذلك إلى جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، فقال جَعفَرٌ:
فلا تَجزَعْ وإن أعسَرتَ يومًا
فقد أيسَرتَ في الزَّمَنِ الطَّويلِ
ولا تَيأسْ فإنَّ اليأسَ كُفرٌ
لعَلَّ اللهَ يُغني عن قَليلِ
ولا تَظُنَّن برَبِّك ظَنَّ سَوءٍ
فإنَّ اللهَ أَولى بالجَميلِ
قال: فخَرَجتُ مِن عِندِه وأنا أغنى النَّاسِ) [320] ((الإشراف في منازل الأشراف)) لابن أبي الدنيا (520)، ((الفرج بعد الشدة)) لابن أبي الدنيا (97)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (12/ 363). .
وعن مُحَمَّدِ بنِ أبي رَجاءٍ مَولى بَني هاشِمٍ، قال: (أصابَني غَمٌّ شَديدٌ لأمرٍ كُنتُ فيه، فرَفَعتُ مَقعَدًا كُنتُ جالسًا عليه، فإذا رُقعةٌ مَكتوبةٌ، فنَظَرتُ فيها، فإذا فيها مَكتوبٌ:
يا صاحِبَ الهَمِّ إنَّ الهَمَّ مُنقَطِعُ
لا تَيأسَنَّ كأنْ قد فرَّجَ اللهُ
قال: فذَهَبَ عنِّي ما كُنتُ أجِدُ مِنَ الغَمِّ، ولم ألبَثْ أن فرَّجَ اللهُ) [321] ((الفرج بعد الشدة)) لابن أبي الدنيا (85). .
وقال ابنُ دُرَيدٍ: أنشَدَني أبو حاتِمٍ السِّجِستانيُّ:
إذا اشتَمَلَت على اليأسِ القُلوبُ
وضاقَ لِما به الصَّدرُ الرَّحيبُ
وأوطَأتِ المَكارِهُ واطمَأنَّت
وأرسَت في أماكِنِها الخُطوبُ
ولم تَرَ لانكِشافِ الضُّرِّ وجهًا
ولا أغنى بحيلتِه الأريبُ
أتاك على قُنوطٍ مِنك غَوثٌ
يمُنُّ به اللَّطيفُ المُستَجيبُ
وكُلُّ الحادِثاتِ إذا تَناهَت
فمَوصولٌ بها الفرَجُ القَريبُ [322] ((إثارة الفوائد)) للعلائي (1/ 292، 293)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/432- 433).
وقال إبراهيمُ بنُ العبَّاسِ الصُّوليُّ:
ولرُبَّ نازِلةٍ يَضيقُ بها الفتى
ذَرعًا وعِندَ اللهِ منها المَخرَجُ
ضاقَت فلمَّا استَحكَمَت حَلقاتُها
فُرِجَت وكان يظُنُّها لا تُفرَجُ [323] ((الآداب النافعة)) لابن شمس الخلافة (ص: 84).
وقال ابنُ شَمسِ الخِلافةِ:
سَأصبرُ حتَّى يَأتيَ اللهُ بالذي
يَشاءُ وحتَّى يَعجَبَ الدَّهرُ مِن صَبري
فكَم فاقةٍ باتَ الغِنى مِن خِلالِها
يَلوحُ، وكَم عُسرٍ تَكشَّفَ عن يُسرِ [324] ((الآداب النافعة)) (ص: 84).
وقال آخَرُ:
هيَ الأيَّامُ والغِيَرُ
وأمرُ اللهِ مُنتَظَرُ
أتَيأسُ أن تَرى فَرَجًا
فأينَ اللهُ والقَدَرُ [325] ((الآداب النافعة)) لابن شمس الخلافة (ص: 84).
وكان القاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ جَعفرٍ يتَمَثَّلُ كثيرًا، ويقولُ:
عَسى ما تَرى ألَّا يدومَ وأن تَرى
له فرَجًا مِمَّا ألحَّ به الدَّهرُ
عَسى فرَجٌ يأتي به اللهُ إنَّه
له كُلَّ يومٍ في خَليقَتِه أمرُ
إذا لاحَ عُسرٌ فارجُ يُسرًا فإنَّه
قَضى اللهُ أنَّ العُسرَ يتبَعُه اليُسرُ [326] ((الفرج بعد الشدة)) لابن أبي الدنيا (ص: 91)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (12/ 362، 363). وذكر ابنُ عبد البر في ((بهجة المجالس)) (1/ 177) أنَّ الأبياتَ تُروى لأبي مِحجَنٍ الثَّقَفيِّ. ويُنظَر: ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 159).

انظر أيضا: