موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ:


الدُّنيا دارُ تَكليفٍ وابتِلاءٍ، والآخِرةُ دارُ جَزاءٍ، ولا يُمكِنُ أن تَصفوَ الدُّنيا لأحَدٍ كائِنًا من كان، إنَّما يَتَقَلَّبُ المَرءُ فيها بَينَ سَعادةٍ وحُزنٍ، وكَربٍ وفرَجٍ، وسَرَّاءَ وضَرَّاءَ، وعافيةٍ وبَلاءٍ، والنَّاسُ في العافيةِ سَواءٌ، فإذا نَزَل البَلاءُ تَمايَزوا وتبايَنوا.
لمَّا ذَكَر الحَسَنُ البَصريُّ أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ أن يَسألوا رَبَّهمُ اليَقينَ والعافيةَ؛ إذ لم يُؤتَ أحَدٌ قَطُّ بَعدَ اليَقينِ خَيرًا مِنَ العافيةِ [205] لفظُه: عن رِفاعةَ بنِ رافِعٍ، قال: قامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ على المِنبَرِ، ثُمَّ بَكى فقال: ((قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الأوَّلِ على المِنبَرِ، ثُمَّ بَكى فقال: اسألوا اللَّهَ العَفوَ والعافيةَ؛ فإنَّ أحَدًا لم يُعطَ بَعدَ اليَقينِ خَيرًا مِنَ العافيةِ)). أخرجه الترمذي (3558). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3558)، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((بذل الماعون)) (214): مِن طُرُقٍ بَعضُها صحيحٌ. وأخرجه مِن طَريقِ أوسَطَ البَجَليِّ عن أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ابنُ ماجه (3849)، وأحمد (17)، ولفظُ ابن ماجه: عن أوسَطَ بنِ إسماعيلَ البَجَليِّ أنَّه سَمِعَ أبا بَكرٍ حينَ قُبضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ ((... وسَلوا اللَّهَ المُعافاةَ؛ فإنَّه لم يُؤتَ أحَدٌ بَعدَ اليَقينِ خَيرًا مِنَ المُعافاةِ)). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (952)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (3849)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1962)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/31)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17). ، قال: (صَدَقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ باليَقينِ طُلِبَتِ الجَنَّةُ، وباليَقينِ هُرِبَ مِنَ النَّارِ، وباليَقينِ أُدِّيَت الفرائِضُ، وباليَقينِ صُبِرَ على الحَقِّ، وفي مُعافاةِ اللَّهِ خَيرٌ كَثيرٌ، قد واللَّهِ رَأيناهم يَتَقارَبونَ في العافيةِ، فلمَّا نَزَل البَلاءُ تَفارَقوا) [206] ((اليقين)) لابن أبي الدنيا (13). .
وقد قال ربُّنا تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] ، وقال جَلَّ ثناؤه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2 - 3] .
فأمَّا غَيرُ المؤمِنِ فكما قال رَبُّنا تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 10 - 11] .
وأمَّا المُؤمِنُ فهو بخَيرٍ على كُلِّ حالٍ؛ إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَر فكان خَيرًا له، وإن أصابَته ضَرَّاءُ صَبَر فكان خَيرًا له.
قال تعالى عن نَبيِّه سُليمانَ الذي وهَبَ له مُلكًا لا يَنبَغي لأحَدٍ مِن بَعدِه: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] ، وقال عن نبيِّه أيُّوبَ الذي ابتلاه: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] .
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُؤمِنُ بخَيرٍ على كُلِّ حالٍ، تُنزَعُ نَفسُه مِن بَينِ جَنبَيه وهو يَحمَدُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ)) [207] أخرجه النسائي (1843) واللفظ له، وأحمد (2475). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (2914)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1843)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2914)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/158). .
(وكان يُقالُ: المِحَنُ آدابُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لخَلقِه، وتَأديبُ اللهِ يَفتَحُ القُلوبَ والأسماعَ والأبصارَ.
ووصَف الحَسَنُ بنُ سَهلٍ المِحَنَ، فقال: فيها تَمحيصٌ مِنَ الذَّنبِ، وتَنبيهٌ مِنَ الغَفلةِ، وتَعَرُّضٌ للثَّوابِ بالصَّبرِ، وتَذكيرٌ بالنِّعمةِ، واستِدعاءٌ للمَثوبةِ، وفي نَظَرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وقَضائِه الخيارُ.
وقال أبو ذكوانَ القاسِمُ بنُ إسماعيلَ، سَمِعتُ أبا إسحاقَ إبراهيمَ بنَ العَبَّاسِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ صولٍ الكاتِبَ، يَصِفُ الفَضلَ بنَ سَهلٍ، ويَذكُرُ تَقدُّمَه وعِلمَه وكَرَمَه، وكان مِمَّا حَدَّثَني به: أنَّه بَرِئَ مِن عِلَّةٍ كان فيها، فجَلسَ للنَّاسِ، وهَنَّوه بالعافيةِ، فلمَّا فرَغَ النَّاسُ مِن كَلامِهم، قال الفضلُ: إنَّ في العِلَلِ لنِعَمًا لا يَنبَغي للعاقِلِ أن يَجهَلَها: تَمحيصٌ للذَّنبِ، وتَعَرُّضٌ لثَوابِ الصَّبرِ، وإيقاظٌ مِنَ الغَفلةِ، وإذكارٌ بالنِّعمةِ في حالِ الصِّحَّةِ، واستِدعاءٌ للمَثوبةِ، وحَضٌّ على الصَّدَقةِ، وفي قَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِه بَعدُ الخيارُ) [208] يُنظر: ((الفرج بعد الشدة)) للتنوخي (1/ 168). .
وفيما يلي نذكرُ أهَمَّ الآدابِ المتعلِّقةِ بنُزولِ المصائبِ وحُلولِ الكُرَبِ:

انظر أيضا: