موسوعة الفرق

البابُ الرَّابعُ: الحُكمُ على الجَهْميَّةِ


يتورَّعُ السَّلَفُ عن تكفيرِ أيِّ جماعةٍ أو فَردٍ، ويخشَونَ إطلاقَ التكفيرِ، فلا يتسَرَّعون فيه كما تفعلُ الفِرَقُ المُبطِلةُ في تكفيرِ النَّاسِ، إلَّا أنَّ السَّلَفَ في ذاتِ الوَقتِ لا يتورَّعون عن إطلاقِ كلمةِ الكُفرِ على من جاءت النُّصوصُ بتكفيرِهم؛ عملًا بالنُّصوصِ ووقوفًا عِندَ مفهومِها الصَّحيحِ؛ لذا فالسَّلَفُ حينما يُطلِقون الكُفرَ على فَردٍ أو جماعةٍ تكونُ لهم ضوابِطُ قويَّةٌ ودرَجاتٌ مُحكَمةٌ في التكفيرِ، ومن لا يفطِنُ لها قد يقَعُ في الخطَأِ.
وقد ذهب كثيرٌ من عُلَماءِ السَّلَفِ إلى تكفيرِ الجَهْميَّةِ وإخراجِهم من أهلِ القِبلةِ، وذكَروا مناطَ الحُكمِ بتكفيرِهم.
ومن هؤلاء العُلَماءِ عُثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّارميُّ؛ حيث قال: (بابُ الاحتجاجِ في إكفارِ الجَهْميَّةِ... ناظَرَني رجُلٌ ببغدادَ منافِحًا عن هؤلاء الجَهْميَّةِ، فقال لي: بأيَّةِ حُجَّةٍ تُكَفِّرونَ هؤلاء الجَهْميَّةَ، وقد نُهِيَ عن إكفارِ أهلِ القِبلةِ؟ بكِتابٍ ناطِقٍ تُكفِّرونَهم، أم بأثَرٍ، أم بإجماعٍ؟ فقُلتُ: ما الجَهْميَّةُ عِندَنا من أهلِ القِبلةِ، وما نُكفِّرُهم إلَّا بكِتابٍ مسطورٍ، وأثرٍ مأثورٍ، وكفرٍ مشهورٍ!
أمَّا الكِتابُ فما أخبَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ عن مُشرِكي قُرَيشٍ من تكذيبِهم بالقُرآنِ، فكان من أشَدِّ ما أخبَرَ عنهم من التكذيبِ أنَّهم قالوا: هو مخلوقٌ، كما قالت الجَهْميَّةُ سواءً. قال الوحيدُ، وهو الوليدُ بنُ المغيرةِ المخزوميُّ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] . وهذا قولُ جَهْمٍ: إنْ هذا إلَّا مخلوقٌ، وكذلك قَولُ من يقولُ بقولِه، وقولُ من قال: إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ [الفرقان: 4] ، إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25] ، وإِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7] . معناهم في جميعِ ذلك ومعنى جَهْمٍ في قَولِه يرجعانِ إلى أنَّه مخلوقٌ، ليس بينهما فيه من البَونِ كغَرزِ إبرةٍ، ولا كقِيسِ شَعرةٍ.
فبهذا نُكَفِّرُهم كما أَكْفَرَ اللهُ به أئمَّتَهم من قُرَيشٍ، فقال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] ؛ إذ قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 25] ؛ لأنَّ كُلَّ إفكٍ وتقوُّلٍ وسِحرٍ واختلاقٍ وقَولِ البَشَرِ، كُلُّه لا شَكَّ في شيءٍ منه أنَّه مخلوقٌ، فاتَّفَق من الكُفرِ بَينَ الوليدِ بنِ المغيرةِ وجَهْمِ بنِ صَفوانَ الكَلِمةُ، والمرادُ في القرآنِ أنَّه مخلوقٌ، فهذا الكِتابُ النَّاطِقُ في إكفارِهم.
وأما الأثَرُ: ... عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أُتيَ بقومٍ من الزَّنادقةِ، فحرَقَهم، فبلغ ذلك ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فقال: أمَّا أنا فلو كنتُ لقتَلْتُهم؛ لقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من بدَّل دينَه فاقتُلوه )) [296] أخرجه البخاري (3017). ، ولَمَا حَرقْتُهم؛ لنهيِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولا تُعَذِّبوا بعذابِ اللهِ )) [297] أخرجه البخاري (3017) بلفظ: ((لا تُعذِّبوا بعذابِ اللهِ)). . زاد سُلَيمانُ في حديثِ جريرٍ: (فبلغ عليًّا ما قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، فقال: وَيْحَ ابنِ أمِّ الفَضلِ! إنَّه لغوَّاصٌ على الهَنَاتِ) [298] أخرجه الفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (1/516)، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (385)، والبيهقي (17311). صحَّح إسنادَه الذهبيُّ في ((المهذب)) (7/3326)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (3/346). .
فرأينا هؤلاءِ الجَهْميَّةَ أفحَشَ زَندقةً وأظهَرَ كُفرًا وأقبَحَ تأويلًا لكِتابِ اللهِ، وردِّ صفاتِه فيما بلغَنا عن هؤلاء الزَّنادقةِ الذين قتَلَهم عليٌّ عليه السَّلامُ وحرَقَهم.
فمَضَت السُّنَّةُ من عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَتلِ الزَّنادقةِ؛ لأنَّها كُفرٌ عِندَهما، وأنَّهم عِندَهما ممَّن بدَّل دينَ اللهِ، وتأوَّلا في ذلك قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يجِبُ على رجلٍ قَتْلٌ في قَولٍ يقولُه حتى يكونَ قَولُه ذلك كُفرًا، لا يجِبُ فيما دونَ الكُفرِ قَتلٌ إلَّا عقوبةً فقط، فذاك الكِتابُ في إكفارِهم، وهذا الأثَرُ.
ونُكَفِّرُهم أيضًا بكُفرٍ مَشهورٍ، وهو تكذيبُهم بنَصِّ الكِتابِ؛ أخبر اللهُ تبارك وتعالى أنَّ القُرآنَ كلامُه، وادَّعت الجَهْميَّةُ أنَّه خَلقُه، وأخبر اللهُ تبارك وتعالى أنَّه كلَّم موسى تكليمًا، وقال هؤلاء: لم يُكلِّمْه اللهُ بنَفسِه، ولم يسمَعْ موسى نَفسَ كلامِ اللهِ، إنَّما سمِعَ كلامًا خرج إليه من مخلوقٍ، ففي دعواهم دعا مخلوقٌ موسى إلى ربوبيَّتِه، فقال: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ! فقال له موسى في دعواهم: صدَقْتَ! ثُمَّ أتى فِرعَونَ يدعوه أن يجيبَ إلى رُبوبيَّةِ مخلوقٍ كما أجاب موسى في دعواهم! فما فرقٌ بَينَ موسى وفِرعَونَ في مَذهَبِهم في الكُفرِ، إذًا فأيُّ كُفرٍ أوضَحُ من هذا؟
وقال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ، وقال هؤلاء: ما قال لشَيءٍ قطُّ قولًا وكلامًا: كُنْ فكان، ولا يقولُه أبدًا، ولم يخرُجْ منه كلامٌ قطُّ، ولا يخرُجُ، ولا هو يَقدِرُ على الكلامِ في دعواهم! فالصَّنَمُ في دعواهم والرَّحمنُ بمنزلةٍ واحدةٍ في الكلامِ! فأيُّ كُفرٍ أوضَحُ من هذا؟
وقال اللهُ تبارك وتعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] ، ومَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] . وبِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] ، وقال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] . قال هؤلاء: ليس للهِ يدٌ، وما خَلَق آدمَ بيَدَيه، إنَّما يداه نِعمَتاه ورِزْقاه! فادَّعَوا في يَدَيِ اللهِ أوحَشَ ممَّا ادعَتْه اليهودُ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولةٌ [المائدة: 64] ، وقالت الجَهْميَّةُ: يدُ اللهِ مخلوقةٌ؛ لأنَّ النِّعَمَ والأرزاقَ مخلوقةٌ لا شَكَّ فيها، وذاك محالٌ في كلامِ العَرَبِ فَضلًا أن يكونَ كُفرًا؛ لأنَّه يستحيلُ أن يقالَ: خَلَق آدَمَ بنِعمتِه، ويستحيلُ أن يقالَ في قَولِ اللهِ تبارك وتعالى: بِيَدِكِ الْخَيْرُ [آل عمران: 26] : بنِعمتِك الخيرُ؛ لأنَّ الخيرَ نَفسَه هو النِّعَمُ نفسُها، ومستحيلٌ أن يقالَ في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] : نِعمةُ اللهِ فَوقَ أيديهم، وإنَّما ذكَرْنا هاهنا اليَدَ مع ذِكرِ الأيدي في المبايعةِ بالأيدي، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10] ، ويستحيلُ أن يقالَ: يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] : نِعْمتاه، فكأنْ ليس له إلَّا نعمتانِ مبسوطتانِ! لا تُحصى نِعَمُه، ولا تُستدرَكُ؛ فلذلك قُلْنا: إنَّ هذا التَّأويلَ محالٌ من الكلامِ فَضلًا أن يكونَ كُفرًا.
ونُكفِّرُهم أيضًا بالمشهورِ من كُفرِهم أنَّهم لا يُثبِتونَ للهِ تبارك وتعالى وجهًا ولا سمعًا ولا بصرًا، ولا عِلمًا ولا كلامًا ولا صفةً إلَّا بتأويلٍ ضلالٍ، افتُضِحوا وتبيَّنَت عوراتُهم، يقولونَ: سمعُه وبصَرُه وعِلمُه وكلامُه بمعنًى واحدٍ! وهو بنفسِه في كُلِّ مكانٍ، وفي كُلِّ بيتٍ مُغلَقٍ، وصندوقٍ مُقفَلٍ! قد أحاطت به في دعواهم حيطانُهم وأغلاقُها وأقفالُها! فإلى اللهِ نبرَأُ من إلهٍ هذه صفتُه، وهذا أيضًا مَذهَبٌ واضِحٌ في إكفارِهم.
ونُكفِّرُهم أيضًا أنَّهم لا يَدرونَ أين اللهُ! ولا يصِفونَه بأينَ! واللهُ قد وصف نفسَه بأينَ، فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18] ، وإِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَروا [آل عمران: 55] . ويَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16] ، ونحوَ هذا، فهذا كُلُّه وَصفٌ بأينَ، ووصَفَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأينَ، فقال للأمَةِ السَّوداءِ: ((أين اللهُ؟ فقالت: في السَّماءِ، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسولُ اللهِ، قال: أعتِقْها؛ فإنَّها مُؤمِنةٌ )) [299] أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه. ، والجَهْميَّةُ تكفُرُ به، وهذا أيضًا من واضِحِ كُفرِهم.
والقرآنُ كُلُّه ينطِقُ بالرَّدِّ عليهم، وهم يَعلَمونَ ذلك، أو بعضُهم، ولكن يُكابِرونَ ويُغالِطونَ الضُّعَفاءَ، وقد عَلِموا أنَّه ليس من حُجَّةٍ أنقَضَ لدعواهم من القُرآنِ، غيرَ أنَّهم لا يجِدونَ إلى رفعِ الأصلِ سبيلًا، مخافةَ القَتلِ والفضيحةِ، وهم عِندَ أنفُسِهم بما وصف اللهُ به فيه نفسَه جاحِدونَ، قد ناظَرْنا بعضَ كُبَرائِهم، وسمِعْنا ذلك منهم منصوصًا مُفَسَّرًا.
ويقصِدونَ أيضًا بعبادتِهم إلى إلهٍ تحتَ الأرضِ السُّفلى، وعلى ظَهرِ الأرضِ العُليا، ودونَ السَّماءِ السَّابعةِ العُليا، وإلهُ المُصَلِّينَ من المُؤمِنينَ الذين يقصِدون إليه بعبادتِهم: الرَّحمنُ الذي فَوقَ السَّماءِ السَّابعةِ العُليا، وعلى عَرشِه العظيمِ استوى، وله الأسماءُ الحُسنى، تبارك اسمُه وتعالى، فأيُّ كُفرٍ أوضَحُ ممَّا حكيناه عنهم من سوءِ مذاهِبِهم؟!) [300] ((الرد على الجهمية)) (ص: 198). .
وأجمل ابنُ تيميَّةَ سبَبَ إطلاقِ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ القَولَ بتكفيرِهم، فذكَر أنَّ (قولهم يتضمَّنُ التَّعطيلَ والإلحادَ... وقد تبيَّن أنَّ الجَهْميَّةَ عِندَهم من نوعِ الملاحدةِ الذين يُعلَمُ بالاضطرارِ أنَّ قولهم مُخالِفٌ لِما جاءت به الرُّسُلُ، بل إنكارُ صفاتِ اللهِ أعظَمُ إلحادًا في دينِ الرُّسُلِ من إنكارِ مَعادِ الأبدانِ، فإنَّ إثباتَ الصِّفاتِ للهِ أخبَرَت به الرُّسُلَ أعظَمَ ممَّا أخبَرَت بمَعادِ الأبدانِ) [301] ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 309). .
وقال أيضًا: (قد كان سلَفُ الأمَّةِ وساداتُ الأئمَّةِ ‌يرونَ ‌كُفرَ ‌الجَهْميَّة أعظَمَ من كُفرِ اليهودِ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ والبخاريُّ وغيرُهما... ولكِنَّ السَّلَفَ والأئمَّةَ أعلَمُ بالإسلامِ وبحقائقِه؛ فإنَّ كثيرًا من النَّاسِ قد لا يفهَمُ تغليظَهم في ذمِّ المقالةِ حتى يتدبَّرَها ويُرزَقَ نُورَ الهدى، فلمَّا اطلَّع السَّلَفُ على سِرِّ القَولِ نَفَروا منه، وهذا كما قال بعضُ النَّاسِ: مُتكلِّمةُ الجَهْميَّةِ لا يَعبُدونَ شَيئًا، ومُتعَبِّدةُ الجَهْميَّةِ يعبُدونَ كُلَّ شيءٍ؛ وذلك لأنَّ مُتكلِّمَهم ليس في قَلبِه تألُّهٌ ولا تعبُّدٌ، فهو يَصِفُ رَبَّه بصفاتِ العَدَمِ والمواتِ، وأمَّا المتعبِّدُ ففي قَلبِه تألُّهٌ وتعبُّدٌ والقَلبُ لا يقصِدُ إلَّا موجودًا لا معدومًا، فيحتاجُ أن يعبُدَ المخلوقاتِ) [302] ((مجموع الفتاوى)) (2/ 477). .
ومن كلامِ أهلِ العِلمِ عن الجَهْميَّةِ:
تنوَّعَت عباراتُ العُلَماءِ في الحُكمِ على الجَهْميَّةِ؛ تحذيرًا وإطلاقًا للكُفرِ الصَّريحِ على أصحابِ هذه المُعتقَداتِ، وذلك كالآتي:
أولًا: كلامُ أهلِ العِلمِ في التَّحذيرِ من الجَهْميَّةِ ومُعتقَداتِهم
1- قال وكيعٌ: (من كذَّب بحديثِ إسماعيلَ عن قيسٍ عن جريرٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرُّؤيةِ [303] أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) بلفظ: ((إنكم سترون ربَّكم كما ترونَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُّونَ في رؤيتِه ...)). فهو جَهْميٌّ؛ فاحذَروه) [304] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 33). .
2- قال البغداديُّ: (عن أبي حنيفةَ قال: من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو مبتدِعٌ، فلا يقولَنَّ أحدٌ بقَولِه، ولا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ خَلْفَه... وعن ابنِ أبي كرامةَ ورَّاقِ أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ، قال: قَدِم ابنُ مُبارَكٍ على أبي حنيفةَ، فقال له أبو حنيفةَ: ما هذا الذي دبَّ فيكم؟ قال له: رجلٌ يقالُ له: جَهْمٌ، قال: وما يقولُ؟ قال: يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، فقال أبو حنيفةَ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5] ... وقال النَّخعيُّ: حدَّثَنا أبو بكرٍ المَرُّوذيُّ قال: سمِعتُ أبا عبدِ اللهِ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ يقولُ: لم يصِحَّ عِندَنا أنَّ أبا حنيفةَ كان يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ) [305] ((تاريخ بغداد)) (15/ 517). .
3- قيل لعبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهديٍّ: إنَّ الجَهْميَّةَ يقولونَ: إنَّ القُرآنُ مخلوقٌ، فقال: (إنَّ الجَهْميَّةَ لم يُريدوا ذا، وإنَّما أرادوا أن ينفوا أن يكونَ الرَّحمنُ على العَرشِ استوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكونَ اللهُ تعالى كلَّم موسى، وقال اللهُ تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ، ‌وأرادوا ‌أن ‌ينفوا ‌أن يكونَ ‌القرآنُ ‌كلامَ ‌اللهِ تعالى، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلَّا ضُرِبَت أعناقُهم) [306] يُنظر: ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (1/ 608)، ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 187). .
4- عن حبيبِ بنِ أبي حبيبٍ قال: شَهِدتُ خالِدَ بنَ عَبدِ اللهِ القَسْريَّ بواسِطٍ، في يومِ أضحى، وقال: (ارجِعوا فضَحُّوا، تقبَّلَ اللهُ منكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ، زعم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يكَلِّمْ موسى تكليمًا، تعالى اللهُ عُلُوًّا كبيرًا عمَّا يقولُ الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ) ثُمَّ نزل فذبحَه [307] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 29)، ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 22)، ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (14/ 418). .
ثانيًا: كلامُ أهلِ العلمِ في تكفيرِ الجَهْميَّةِ ومُعتقَداتِهم
1- عن سُفيانَ الثَّوريِّ، قال: قال لي حمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ: (أبلِغْ أبا فلانٍ المُشرِكَ أنِّي بريءٌ من دينِه)، وكان يقولُ: (القُرآنُ مخلوقٌ) [308] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 29). .
وقال الثوريُّ: (من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو كافرٌ) [309] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 30)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/ 508). .
2- عن زُهَيرٍ أبي عبدِ الرَّحمنِ السِّجِستانيِّ، أنَّه سأل سلَّامَ بنَ أبي مُطيعٍ عن الجَهْميَّةِ، فقال: (كُفَّارٌ، ولا يُصلَّى خَلْفَهم) [310] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 355). .
3- قال إبراهيمُ بنُ طهمانَ: (الجَهْميَّةُ كُفَّارٌ، والقَدَريَّةُ كُفَّارٌ) [311] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 104)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 715). .
4- قال ابنُ المبارَكِ: (من قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، ولا ينبغي لمخلوقٍ أن يقولَ ذلك) [312] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 31). .
وقال أيضًا: (من قال: لا إلهَ إلَّا هو مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، وإنَّا لنحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أن نحكيَ كلامَ الجَهْميَّةِ!) [313] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داود السجستاني (ص: 361)، ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 31). .
وقال:
فلا أقولُ بقَولِ الجَهْمِ إنَّ له
قولًا يُضارِعُ قَولَ الشِّركِ أحيانَا
ولا أقولُ تخلَّى من بَريَّتِه
ربُّ العبادِ وولَّى الأمرَ شيطانَا
ما قال فِرعَونُ هذا في تجَبُّرِه
فِرعَونُ موسى ولا فِرعَونُ هامانَا [314] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 31)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/ 367).
5- قال ابنُ عُمَرَ الكوفيُّ: سمعتُ عبدَ الحميدِ الحِمَّانيَّ يقولُ: (جَهْمٌ كافِرٌ باللهِ) [315] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داود (ص: 361). .
6- عن أبي يوسُفَ قال: ناظَرتُ أبا حنيفةَ سِتَّةَ أشهُرٍ، حتى قال: (من قال: ‌القُرآنُ مخلوقٌ، ‌فهو ‌كافِرٌ) [316] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (15/ 517). .
7- عن يحيى بنِ أيُّوبَ، عن أبي نُعَيمٍ البَلْخيِّ قال: (كان رجلٌ من أهلِ مَرْوٍ صديقًا لجَهْمٍ ثُمَّ قطَعَه وجفاه، فقيل له: لمَ جَفَوتَه؟ فقال: جاء منه ما لا يحتَمَلُ، قرأتُ يومًا آيةَ كذا وكذا -نَسِيَها يحيى- فقال: ما كان أظرَفَ مُحمَّدًا! فاحتمَلْتُها، ثُمَّ قرأ سورةَ طه فلمَّا قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] قال: أمَا واللهِ لو وجدتُ سبيلًا إلى حَكِّها لحكَكْتُها من المصحَفِ! فاحتمَلْتُها، ثُمَّ قرأ سورةَ القَصَصِ فلمَّا انتهى إلى ذِكرِ موسى قال: ما هذا؟ ذَكَر قصَّةً في موضِعٍ فلم يُتِمَّها، ثُمَّ ذكَرَها ههنا فلم يُتِمَّها، ثُمَّ رمى بالمصحَفِ من حِجرِه برِجلَيه! فوثَبتُ عليه) [317] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 38) واللفظ له، ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/167). .
8- قيل لأبي بكرِ بنِ عيَّاشٍ: إنَّ قومًا ببغدادَ يقولونَ: إنَّه مخلوقٌ، فقال: (وَيلَك! من قال هذا؟ على من قال: القُرآنُ مخلوقٌ لعنةُ اللهِ، وهو كافِرٌ زِنديقٌ، ولا تجالِسوهم) [318] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 30). .
9- سُئِل عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ عن الصَّلاةِ خَلفَ أصحابِ الأهواءِ، فقال: (نعَمْ، لا يُصلَّى خَلفَ هؤلاء الصِّنفَينِ الجَهْميَّةِ والرَّوافِضِ؛ فإنَّ الجَهْميَّةَ كُفَّارٌ بكِتابِ اللهِ) [319] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 355). .
10- نُقِل عن مالِكِ بنِ أنسٍ -كما قال ابنُ تيميَّةَ- من غيرِ وَجهٍ: الرَّدُّ على من يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، واستتابتُه، وهذا المشهورُ عنه، متَّفَقٌ عليه بَينَ أصحابِه [320] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 506). .
11- لمَّا كلَّم الشَّافعيُّ حَفصًا الفردَ، قال حفصٌ: القُرآنُ مخلوقٌ. فقال له الشَّافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: (كَفَرْتَ باللهِ العظيمِ) [321] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 187). .
12- قال وَهبُ بنُ جريرٍ: (الجَهْميَّةُ الزَّنادِقةُ إنَّما يريدونَ أنَّه ليس على العَرشِ استوى) [322] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 30). .
13- حلَفَ يزيدُ بنُ هارونَ باللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو: (من قال: إنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، فهو زِنديقٌ ويُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِل) [323] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 30). .
وعن شاذِّ بنِ يحيى الواسِطيِّ، يقولُ: كنتُ قاعِدًا عِندَ يزيدَ بنِ هارونَ، فجاء رجلٌ فقال: يا أبا خالِدٍ ما تقولُ في الجَهْميَّةِ؟ قال: (يُستتابون، إنَّ الجَهْميَّةَ غَلَتْ، ففرَغَت في غُلُوِّها [324] المراد: أنَّ الجهميةَ انتهى غُلوُّهم وفَرَغَ إلى القولِ بنفي صفاتِ الله. وفي روايةٍ أخرى لنص كلام يزيد، كما في ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (7/ 321): (إنَّ ‌الجهميةَ ‌غلَتَ؛ تفرَّعت في غُلُوِّها إلى أن نَفَت). والمراد: تطوَّرت مقالتُهم في الصِّفاتِ وتفرَّعت إلى غُلوٍّ شديدٍ بنفيِ صفاتِ اللهِ تعالى. إلى أن نَفَت) [325] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 587). .
وقال يزيدُ بنُ هارونَ: (لعن اللهُ الجَهْمَ، ومن قال بقَولِه كان كافِرًا جاحِدًا) [326] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 167)، ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 31)، ((العرش)) للذهبي (2/ 264). .
14- قال سعيدُ بنُ عامرٍ: (الجَهْميَّةُ أشَرُّ قَولًا من اليهودِ والنَّصارى؛ قد اجتمَعَت اليهودُ والنَّصارى وأهلُ الأديانِ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى على العَرشِ، وقالوا هم: ليس على العرشِ شيءٌ!) [327] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 31). .
15- كان إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيسٍ يُسَمِّيهم زنادقةَ العراقِ، وقيل له: (سمِعتَ أحدًا يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ؟ فقال: هؤلاء الزَّنادقةُ واللهِ، لقد فرَرْتُ إلى اليمَنِ حينَ سمِعتُ العبَّاسَ يكلِّمُ بهذا ببَغدادَ؛ فِرارًا من هذا الكلامِ) [328] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 32)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 112). .
16- قال عليُّ بنُ المدينيُّ: (القرآنُ كلامُ اللهِ، من قال: إنَّه مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، لا يُصلَّى خَلفَه) [329] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 33)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/235). .
17- عن مُحمَّدِ بنِ عَبدِ المَلِكِ الدَّقيقيِّ الواسِطيِّ، قال: (سمِعتُ سَلَمةَ بنَ شَبيبٍ بمكَّةَ أمَلَّه علينا في المسجدِ الحرامِ، قال: دخَلتُ على أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ فقُلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ ما تقولُ فيمن يقولُ: القرآنُ كلامُ اللهِ؟ فقال أحمَدُ: "منَ لم يَقُلْ: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، فهو كافِرٌ"، ثُمَّ قال لي: "لا ‌تَشُكَّنَّ ‌في ‌كُفرِهم؛ فإنَّه من لم يقُلْ: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، فهو يقولُ: مخلوقٌ، فهو كافِرٌ") [330] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (5/ 305)، ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 212). .
وقال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو عِندَنا كافرٌ؛ لأنَّ القرآنَ مِن عِلمِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفيه أسماءُ اللهِ عزَّ وجلَّ ) [331] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 102). .
وقال أيضًا: (إذا قال الرَّجُلُ: العِلمُ مخلوقٌ، فهو كافِرٌ؛ لأنَّه يزعَمُ أنَّه لم يكُنْ له عِلمٌ حتى خَلقَه) [332] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 102)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (6/ 139). .
18- قال البُخاريُّ عن الجَهْميَّةِ: (نظَرتُ في كلامِ اليهودِ والنَّصارى والمجوسِ، فما رأيتُ أضلَّ في كُفرهِم منهم، وإني لأستجهِلُ من لا يُكفِّرُهم إلَّا من لا يَعرِفُ كُفرَهم) [333] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 30). .
19- قال الطَّحاويُّ: (إنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، منه بدأ بلا كيفيَّةٍ قولًا، وأنزلَه على نبيِّه وحيًا، وصدَّقه المُؤمِنون على ذلك حقًّا، وأثبتوا أنَّه كلامُ اللهِ تعالى بالحقيقةِ، ليس بمخلوقٍ ككلامِ البَرِيَّةِ، فمن سمِعَه فزعم أنَّه كلامُ البشَرِ فقد كَفَر، وقد ذمَّه اللهُ وعابه، وأوعَده عذابَه وتوعَّده؛ حيثُ قال: سَأُصْلِيِهِ سَقَرَ [المدثر: 6] ، فلمَّا أوعد اللهُ سَقَرَ لمن قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 5] عَلِمنا أنَّه قولُ خالِقِ البَشَرِ، ولا يُشبِهُ قَولَ البَشَرِ) [334] ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 40). .
وبالجُملةِ، فإنَّ السَّلَفَ الصَّالحَ قد أجمعوا على تكفيرِ الجَهْميَّةِ لقَولِهم بأنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وإنكارِهم لصفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأجمعوا على أنَّ من فعل ذلك فهو جَهْميٌّ.

انظر أيضا: