موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيتان (30-31)

ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

يَغُضُّوا: أَي: يَكُفُّوا، وأصلُ (غضض): يدُلُّ على كَفٍّ ونَقصٍ [627] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/250)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 94)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/383)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311). .
أَزْكَى: أي: أصلَحُ وأطهَرُ، والزكاةُ: هى النَّماءُ والزِّيادةُ فى الصلاحِ، وكمالُ الشىءِ، وأصلُ (زكو): يدُلُّ على طهارةٍ ونَماءٍ [628] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/18)، ((تفسير القرطبي)) (12/207)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/46)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 82). .
بِخُمُرِهِنَّ: جمعُ خِمارٍ، وهو ما تُغطِّي به المرأةُ رأسَها، وكُلُّ شَيءٍ غطَّيتَه فقد خمَّرتَه، وأصلُ (خمر): يدُلُّ على سَترِ شَيءٍ [629] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/215)، ((البسيط)) للواحدي (16/206)، ((المفردات)) للراغب (ص: 298)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311). .
جُيُوبِهِنَّ: جَمعُ جَيبٍ، وهو طَوقُ القَميصِ الذي يُحيطُ بالعُنُقِ مِمَّا يلي الرَّقبةَ، وأصلُه مبدَلٌ مِن (جوب)، بمعنى: الخَرقِ والقَطعِ؛ لأنَّ الجيبَ هو موضِعُ القَطعِ مِنَ القَميصِ [630] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/497)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (16/206)، ((نظم الدرر)) للبقاعي  (13/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/208). .
لِبُعُولَتِهِنَّ: جمعُ بَعْلٍ، هو الذَّكَرُ مِن الزَّوجينِ، ويُسمَّى به كلُّ مُستَعلٍ على غَيرِه، وأصلُ (بعل) هنا: الصَّاحِبُ [631] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/264)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/264)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 110). .
الْإِرْبَةِ: أي: الحاجةِ إلى النِّساءِ، وأصلُ (أرب) هنا: الحاجةُ [632] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 303)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 109)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/89)، ((المفردات)) للراغب (ص: 72)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 256)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 80). .
يَظْهَرُوا: أي: يَطَّلِعوا، ويَعرِفوا، والظُّهورُ أصلُه: البروزُ دونَ ساترٍ، و (ظهر) تُطلَقُ بمعنى اطَّلَع وفَهِمَ وعَلِمَ، وبمعنى غلَب، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [633] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 540)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 256)، ((تفسير الرازي)) (23/367)،  ((تفسير ابن عاشور)) (18/212)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (109).  .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: قُلْ -يا محمَّدُ- للمؤمنينَ يَكُفُّوا أبصارَهم عمَّا حرَّم اللهُ عليهم، ويَصونوا فُروجَهم عمَّا حرَّم اللهُ؛ ذلك الغضُّ والحِفظُ أطهَرُ لقُلوبِهم، وأفضَلُ لهم في دينِهم ودُنياهم، إنَّ الله رقيبٌ عليهم، مطَّلِعٌ على أعمالِهم، لا يَخفَى عليه منها شَيءٌ.
 ثمَّ يرشِدُ الله سبحانَه النِّساءَ إلى ما أرشَد إليه الرجالَ، فيقول: وقُلْ -يا محمَّدُ- للمُؤمِناتِ يَكفُفْنَ النظَرَ عمَّا حرَّمَ اللهُ، ويحفَظْنَ فروجَهنَّ عمَّا حَرَّم اللهُ، ولا يَكشِفْنَ زينتَهنَّ للأجانبِ إلَّا ما ظهرَ منها، كظاهرِ الثِّيابِ التي جرَت العادةُ بلُبسِها، ولْيُلقِينَ بِخُمُرِهِنَّ على فتَحاتِ القُمصِ المحيطةِ بالأعناقِ؛ لئلَّا يبدوَ شَيءٌ مِن شُعورِهنَّ، وآذانِهنَّ، وأعناقِهنَّ، ونحورِهنَّ، وصُدورِهنَّ، ولا يُظْهِرْنَ زينتَهنَّ الخفيَّةَ إلَّا لأزواجِهنَّ، أو آبائهنَّ أو آباءِ أزواجِهنَّ، أو أبنائِهنَّ أو أبناءِ أزواجِهنَّ، أو إخوانِهنَّ أو أبناءِ إخوانِهنَّ، أو أبناءِ أخَواتهنَّ أو نسائِهنَّ، أو ما ملكْنَ مِنَ الإماءِ والعبيدِ، أو التَّابعينَ مِن الرِّجالِ الذين لا مَيلَ لهم ولا شَهوةَ إلى النِّساءِ، أو الأطفالِ الصِّغارِ الذين لم يَبلُغوا حدَّ الشَّهوةِ، ولا يَعرِفونَ عَوْراتِ النِّساءِ. ولا يَضرِبِ النِّساءُ بأرجُلِهنَّ الأرضَ لِيُسْمِعْنَ صَوتَ ما خَفِيَ مِن حُلِيهنَّ.
ويختمُ الله تعالى هذه الآيةَ بدعوةِ المؤمنينَ إلى التوبةِ، فيقولُ: وتوبوا -أيُّها المؤمِنونَ- إلى ربِّكم؛ لِتَفوزوا في دُنياكم وآخِرتِكم.

تفسير الآيتين:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى حُكمَ الاستئذانِ؛ أعقَبه ببيانِ آدابِ ما تَقْتضيه المجالسةُ بعدَ الدخولِ [634] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/203). ، فقال تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُؤمِنينَ يَكُفُّوا نظَرَهم [635] قال الشوكاني: (مِنْ في قَولِه: مِنْ أَبْصَارِهِمْ هي: التَّبعيضيَّةُ، وإليه ذهب الأكثَرونَ، وبيَّنوه بأنَّ المعنى غضُّ البصَرِ عمَّا يَحرُمُ، والاقتِصارُ به على ما يَحِلُّ. وقيل: وجهُ التَّبعيضِ أنه يُعفَى للنَّاظِرِ أوَّلُ نظرةٍ تقَعُ مِن غيرِ قَصدٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/26). وقال ابنُ جُزي بعدَ أنْ ذكَر أنَّ (مِن) للتبعيضِ في الآيةِ: (وأجاز الأخفَشُ أن تكونَ «مِنْ» زائدةً. وقيل: هي لابتداءِ الغايةِ؛ لأنَّ البَصَرَ مِفتاحُ القَلبِ، والغَضُّ المأمورُ به هو عن النَّظَرِ إلى العَورةِ، أو إلى ما لا يَحِلُّ مِنَ النِّساءِ، أو إلى كُتُبِ الغَيرِ، وشِبهِ ذلك مِمَّا يُستَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/66). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 166). عمَّا حرَّم اللهُ عليهم [636] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/254)، ((إحكام النظر)) لابن القطان (ص: 338)، ((تفسير القرطبي)) (12/223)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (15/369)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/165)، ((تفسير ابن كثير)) (6/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/203). قال ابنُ القطَّان: (النَّظَرُ إنَّما حَرُم في محلِّ الإجماعِ حَذرًا من الفِتنةِ، كما حَرُم الزِّنا حَذرًا من اختلاطِ الأنساب، وشُربُ الخَمرِ توقيرًا للعَقلِ، فإذا كان كذلك وَجَب غَضُّ البصرِ على كلِّ خائفٍ، وحرُمَ عليه أن يُرسِلَ طَرْفَه في مواقِعِ الفِتَنِ؛ فإنَّه إذا فعَل ذلك رأى الذي لا كُلُّه هو قادِرٌ عليه، ولا عن بَعضِه هو صابِرٌ!). ((إحكام النظر)) (ص: 338). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والجُلوسَ بالطُّرُقاتِ. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما لنا مِن مجالِسِنا بُدٌّ نتحَدَّثُ فيها، فقال: إذ أبَيْتُم إلَّا المجلِسَ، فأعطُوا الطَّريقَ حَقَّه. قالوا: وما حَقُّ الطَّريقِ يا رسولَ الله؟ قال: غَضُّ البصَرِ، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السَّلامِ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المنكَرِ )) [637] رواه البخاري (6229) واللفظ له، ومسلم (2121). .
وعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنه، قال: ((سألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن نظَرِ الفُجاءةِ، فأمَرَني أن أصرِفَ بَصَري) ) [638] رواه مسلم (2159). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كُتِبَ على ابنِ آدَمَ نصيبُه مِن الزِّنا، مُدرِكٌ ذلك لا مَحالةَ؛ فالعينانِ زِناهما النَّظَرُ، والأُذنانِ زِناهما الاستِماعُ، واللِّسانُ زِناه الكلامُ، واليَدُ زِناها البَطشُ، والرِّجلُ زِناها الخُطا، والقَلبُ يَهوى ويتمنَّى، ويُصَدِّقُ ذلك الفَرجُ ويُكَذِّبُه)) [639] رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657) واللفظ له. .  
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَنظُرِ الرجُلُ إلى عَورةِ الرَّجُلِ، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأةِ، ولا يُفضِي [640] لا يُفضِي: أي: لا يَصِلُ. والمعنى: لا يَضْطَجعانِ مُتجَرِّدينِ تحت ثوبٍ واحدٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/2051). الرجُلُ إلى الرجُلِ في ثوبٍ واحدٍ، ولا تُفضي المرأةُ إلى المرأةِ في الثَّوبِ الواحدِ )) [641] رواه مسلم (338).
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ.
أي: ويَحفَظوا فروجَهم عمَّا حرَّم اللهُ؛ كالزِّنا، وكأنْ يَراها أو يَمَسَّها أحدٌ لا يحِلُّ له ذلك [642] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/254)، ((تفسير ابن عطية)) (4/178)، ((تفسير القرطبي)) (12/223)، ((تفسير ابن كثير)) (6/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/506). قال الجصَّاص: (المعنى: حِفظُها عن سائرِ ما حُرِّمَ عليه؛ من الزِّنا، واللَّمسِ، والنَّظَرِ). ((أحكام القرآن)) (3/407). وقال ابن عطية: (حِفظُ الفروجِ يعُمُّ الفواحِشَ، وسَترَ العورةِ، وما دون ذلك ممَّا فيه حِفظٌ). ((تفسير ابن عطية)) (4/178). .
كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون: 5 - 7] .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ الله عنهما، عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن يَضْمَنْ لي ما بيْن لَحْيَيه [643] لَحْيَيه: هما العَظمانِ في جانبَي الفَمِ، والمرادُ بما بيْنَهما: اللِّسانُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/309). وما بيْن رِجلَيه، أَضمَنْ له الجنَّةَ)) [644] رواه البخاري (4308). .
وعن مُعاويةَ بنِ حَيْدةَ القُشَيريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، عوْراتُنا ما نأتي منها وما نذَرُ؟ قال: احفَظْ عورتَك إلَّا مِن زوجتِك أو ما ملَكَت يمينُك. فقال: الرجُلُ يكونُ مع الرجُلِ؟ قال: إنِ استطَعْتَ ألَّا يراها أحَدٌ، فافعَلْ. قلتُ: والرجُلُ يكونُ خاليًا؟ قال: فاللهُ أحقُّ أن يُستَحْيَا منه)) [645] أخرجه أبو داود (4017)، والترمذي (2769) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8972)، وابن ماجه (1920)، وأحمد (20034). حسَّنه الترمذيُّ، وصحَّحه ابنُ القطَّان في ((أحكام النظر)) (94)، وذكر ثبوته ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (21/337). وصحَّح الحديثَ ابنُ القيم في ((تهذيب السنن)) (11/56)، وابنُ باز في ((الفوائد العلمية)) (6/117)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2769). وآخِرُ الحديث أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبْلَ حديث (278)، ولفظُه: ((اللهُ أحقُّ أن يُستَحيا منه من النَّاسِ)). .
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ.
أي: غَضُّ المؤمنينَ مِن أبصارِهم، وحِفظُهم لفُروجِهم: أطهَرُ وأطيَبُ لقُلوبِهم، وأفضَلُ لهم في دينِهم ودُنياهم، وأنْمَى لأعمالِهم، وأبعَدُ لهم مِن الخَطايا والآثامِ [646] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/254)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/378، 387)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/47)، ((تفسير ابن كثير)) (6/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال ابنُ تيميَّةَ: (قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ فالغَضُّ مِن البَصَرِ، وحِفظُ الفرجِ يتضَمَّنُ البُعدَ عن نجاسةِ الذُّنوبِ، ويتضَمَّنُ الأعمالَ الصالحةَ التي يزكو بها الإنسانُ، وهو أزكى، والزكاةُ تتضمَّنُ الطَّهارةَ؛ فإنَّ فيها معنى تَركِ السيِّئاتِ، ومعنى فِعلِ الحَسَناتِ؛ ولهذا تفسَّرُ تارةً بالطَّهارةِ، وتارةً بالزِّيادةِ والنَّماءِ، ومعناها يتضَمَّنُ الأمْرينِ). ((مجموع الفتاوى)) (15/387). .
كما قال تعالى: ... وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] .
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
أي: إنَّ اللهَ خبيرٌ بما يصنَع النَّاسُ، لا يَخفى عليه شَيءٌ من ذلك، فيَعلَمُ مَن يَغُضُّ بصَرَه ويحفظُ فَرجَه منهم، ومَن لا يفعَلُ ذلك؛ فلْيَجتَهِدوا في طاعتِه، ولْيَحذروا مِن مَعصيتِه [647] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/254)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/290)، ((تفسير البيضاوي)) (4/104)، ((تفسير الشوكاني)) (4/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ: 19].
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى المؤمنينَ بغضِّ الأبصارِ، وحفظِ الفروجِ؛ أمَر المؤمناتِ بذلك [648] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). ، فأردَفَ أمرَ المؤمنينَ بأمرِ المؤمِنات؛ لأنَّ الحِكمةَ في الأمْرينِ واحِدةٌ، وتصريحًا بما تقرَّرَ في أوامِرِ الشريعةِ المُخاطَبِ بها الرِّجالُ، مِن أنَّها تشملُ النِّساءَ أيضًا، ولكِنَّه لَمَّا كان هذا الأمرُ قد يُظَنُّ أنَّه خاصٌّ بالرِّجالِ؛ لأنَّهم أكثَرُ ارتِكابًا لضِدِّه- وقَع النَّصُّ على هذا الشُّمولِ بأمرِ النِّساءِ بذلك أيضًا [649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/205). .
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ- للمُؤمِناتِ يَكفُفْنَ النظَرَ عمَّا حرَّمَ اللهُ [650] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/256)، ((إحكام النظر)) لابن القطان (ص: 102 و338)، ((تفسير القرطبي)) (12/223، 226، 227)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/369)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/165)، ((تفسير ابن كثير)) (6/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/203). قال ابن القَطَّان: (لا خِلافَ أعلَمُه في جَوازِ نظرِ المرأةِ إلى وَجهِ الرجُلِ مُطلقًا إذا لم تَقصِدِ اللَّذَّةَ ولم تَخَفِ الفِتنةَ... [و] إنْ قصَدَت اللذَّةَ وخافت الفِتنةَ حَرُمَ بلا نزاعٍ، وكذلك إن قصَدَت ولم تَخَفْ؛ فإنَّها تاركةٌ لغضِّ البصرِ حيثُ أُمِرَت به). ((إحكام النظر)) (ص: 430، 432، 433). ونَظَرُ المرأةِ إلى وَجهِ الرَّجُلِ بشَهوةٍ أو مع خَوفِ الفِتنةِ حَرامٌ بالإجماعِ، أمَّا إذا لم يكُنِ النَّظَرُ بشَهوةٍ وأَمِنَت الفِتنةَ فالمذاهِبُ الفِقهيَّةُ الأربعةُ: الحَنَفيَّةُ، والمالِكيَّةُ، والشَّافِعيَّةُ، والحنابِلةُ- على جوازِه، والمسألةُ فيها خِلافٌ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/122)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/132)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/14). ويُنظر الخلاف في: ((شرح النووي على مسلم)) (6/184)، ((الشرح الكبير)) لابن قدامة (7/351). قال ابنُ كثير: (قَولُه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ أي: عمَّا حرَّم اللهُ عليهنَّ مِن النَّظَرِ إلى غيرِ أزواجِهنَّ؛ ولهذا ذهَبَ كثيرٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّه: لا يجوزُ للمَرأةِ أن تَنظُرَ إلى الأجانبِ بشَهوةٍ ولا بغيرِ شَهوةٍ أصلًا). ((تفسير ابن كثير)) (6/44). وقال ابنُ العربي: (وكما لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أن يَنظُرَ إلى المرأةِ، فكذلك لا يحِلُّ للمَرأةِ أن تنظُرَ إلى الرَّجُلِ؛ فإنَّ عَلاقتَه بها كعَلاقتِها به، وقَصْدَه منها كقَصدِها منه). ((أحكام القرآن)) (3/380). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَنظُرِ الرجُلُ إلى عَورةِ الرَّجُلِ، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأةِ، ولا يُفضِي الرجُلُ إلى الرجُلِ في ثوبٍ واحدٍ، ولا تُفضي المرأةُ إلى المرأةِ في الثَّوبِ الواحدِ )) [651] رواه مسلم (338). .
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.
أي: ويحفَظْنَ فُروجَهنَّ عمَّا حرَّم اللهُ؛ كالزِّنا، وكأنْ يراها أو يمسَّها أحدٌ لا يَحِلُّ له ذلك [652] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/256)، ((تفسير ابن عطية)) (4/178)، ((تفسير ابن كثير)) (6/45)، ((تفسير الألوسي)) (9/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/506). .
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا.
أي: لا يُظهِرْنَ شَيئًا مِنَ الزِّينةِ للأجانِبِ، إِلَّا ما لا يُمْكِنُ إخفاؤُه؛ كظاهرِ الثِّيابِ التي جرَت العادةُ بلُبسِها [653] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/515)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 166). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه: مَا ظَهَرَ مِنْهَا: ظاهِرُ الثِّيابِ: ابنُ كثير، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر المصادِرُ السَّابِقةُ. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: عبدُ الله بن مسعود، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ في روايةٍ عنه، والحسَنُ في روايةٍ عنه، وماهانُ الحنفيُّ في روايةٍ عنه، وابن سيرينَ، وأبو الجوزاء. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/257)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2574)، ((البسيط)) للواحدي (16/200)، ((تفسير ابن كثير)) (6/45). قال ابنُ كثير: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي: لا يُظهِرْنَ شَيئًا مِنَ الزِّينةِ للأجانبِ إلَّا ما لا يمكِنُ إخفاؤُه. وقال ابنُ مسعودٍ: كالرِّداءِ والثِّيابِ. يعني: على ما كان يتعاناه نِساءُ العرَبِ مِنَ الْمِقنَعةِ التي تجَلِّلُ ثيابَها، وما يبدو مِن أسافِلِ الثِّيابِ فلا حرَجَ عليها فيه؛ لأنَّ هذا لا يمكِنُ إخفاؤُه، ونظيرُه في زيِّ النِّساءِ ما يظهَرُ مِن إزارِها، وما لا يمكِنُ إخفاؤهُ. وقال بقَولِ ابنِ مسعودٍ: الحسَنُ، وابنُ سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، وغيرُهم). ((تفسير ابن كثير)) (6/45). وقال ابنُ تيميَّةَ: (فما ظهَرَ مِن الزِّينةِ: هو الثِّيابُ الظَّاهِرةُ، فهذا لا جُناحَ عليها في إبدائِها إذا لم يكُنْ في ذلك محذورٌ آخَرُ؛ فإنَّ هذه لا بدَّ مِن إبدائِها، وهذا قَولُ ابنِ مسعودٍ وغيرِه، وهو المشهورُ عن أحمدَ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: الوَجهُ واليدانِ مِنَ الزِّينةِ الظَّاهِرةِ. وهي الرِّوايةُ الثَّانيةُ عن أحمدَ، وهو قَولُ طائفةٍ مِن العُلَماءِ؛ كالشَّافعيِّ وغيرِه، وأمَرَ سُبحانَه النِّساءَ بإرخاءِ الجلابيبِ؛ لئَلَّا يُعرَفْنَ ولا يُؤذَينَ، وهذا دليلٌ على القَولِ الأوَّلِ). ((مجموع الفتاوى)) (15/371). وقال ابنُ كثير: (عن ابنِ عبَّاسٍ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال: وَجْهَها وكَفَّيها والخاتَمَ. ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، وعطاءٍ، وعِكْرمةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وأبي الشَّعثاء، والضَّحَّاك، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ، وغيرِهم -نحوُ ذلك. وهذا يحتَمِلُ أن يكونَ تفسيرًا للزِّينةِ التي نُهِينَ عن إبدائِها كما قال أبو إسحاقَ السَّبيعيُّ، عن أبي الأحوص، عن عبدِ الله قال في قَولِه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ: الزِّينةُ: القُرطُ والدُّمْلُجُ والخَلْخالُ والقِلادةُ. وفي روايةٍ عنه بهذا الإسنادِ قال: الزِّينةُ زينتانِ: فزِينةٌ لا يراها إلَّا الزَّوجُ: الخاتَمُ والسِّوارُ، وزينةٌ يراها الأجانِبُ، وهي الظَّاهِرُ مِنَ الثِّيابِ. وقال الزُّهْريُّ: لا يبدو لهؤلاء الذين سَمَّى اللهُ مِمَّن لا يحِلُّ له إلَّا الأَسْوِرةُ والأخمِرةُ والأقرِطةُ مِن غيرِ حَسْرٍ، وأمَّا عامَّةُ النَّاسِ فلا يبدو منها إلَّا الخواتِمُ. وقال مالِكٌ عن الزُّهري: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الخاتَمَ والخَلْخالَ. ويحتَمِلُ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ ومَن تابعه أرادوا تفسيرَ ما ظهَرَ منها بالوَجهِ والكَفَّينِ، وهذا هو المشهورُ عند الجُمهورِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/45). وقال ابنُ تيميَّة: (وحقيقةُ الأمرِ: أنَّ اللهَ جَعَل الزِّينةَ زِينتَينِ: زينةً ظاهِرةً، وزينةً غيرَ ظاهِرةٍ، وجوَّز لها إبداءَ زينتِها الظَّاهِرةِ لغيرِ الزَّوجِ وذَوِي المحارِمِ، وكانوا قبْلَ أن تَنزِلَ آيةُ الحِجابِ كان النِّساءُ يَخرُجْنَ بلا جِلبابٍ، يرى الرَّجُلُ وَجْهَها ويَدَيها، وكان إذ ذاك يجوزُ لها أن تُظهِرَ الوَجهَ والكَفَّينِ، وكان حينَئذٍ يجوزُ النَّظَرُ إليها؛ لأنَّه يجوزُ لها إظهارُه، ثمَّ لَمَّا أنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ آيةَ الحِجابِ بقَولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] حُجِب النِّساءُ عن الرِّجالِ... فإذا كُنَّ مأموراتٍ بالجِلبابِ لئلَّا يُعرَفْنَ، وهو سَترُ الوَجهِ أو سَترُ الوَجهِ بالنِّقابِ؛ كان الوَجهُ واليدانِ مِنَ الزِّينةِ التي أُمِرَت ألَّا تُظهِرَها للأجانِبِ، فما بَقِيَ يَحِلُّ للأجانِبِ النَّظَرُ إلَّا إلى الثِّيابِ الظَّاهِرةِ؛ فابنُ مَسعودٍ ذَكَر آخِرَ الأمْرَينِ، وابنُ عبَّاسٍ ذَكَر أوَّلَ الأمْرَينِ). ((مجموع الفتاوى)) (22/109). وقال ابنُ عثيمين: (الصَّحيحُ أنَّ المرادَ بالزِّينةِ: الزِّينةُ الخارجيَّةُ -وهي ما تتزَيَّنُ بها المرأةُ- لا الزِّينةُ الخِلْقيَّةُ التي خَلَق اللهُ عليها المرأةَ، والدَّليلُ قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف: 32] ، وفي آخِرِ هذه الآيةِ: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31] .... فكُلُّ مَن تأمَّلَ الزِّينةَ وجَدَها في الزِّينةِ الخارجيَّةِ لا فيما زَيَّن اللهُ به المرأةَ، وعلى هذا يَكونُ الاستِثناءُ عائِدًا على ما يبدو مِنَ الثِّيابِ التي لا بدَّ مِن ظُهورِها... ويؤيِّدُه أيضًا أنَّه قال: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، ولو كان المرادُ الوَجهَ والكَفَّينِ لقال: إلَّا ما أُظهِرَ مِنها. أمَّا ثيابُ الجَمالِ فهي مِنَ الزِّينةِ الخَفيَّةِ، وكذلك الحَلْيُ وشِبهُه ممَّا تتحَلَّى به المرأةُ لا يُبدى إلَّا لِمَن ذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ الحَلْيَ يمكِنُ إخفاؤُه، ليس كالعَباءةِ والجِلبابِ وشِبهِهما). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 166، 167). وقال الشِّنقيطي: (ظاهِرُ اللُّغةِ أنَّ الزِّينةَ تُطلَقُ على ما تتزيَّنُ به المرأةُ خارِجًا عن بَدَنِها؛ فإنَّ إطلاقَها على نفْسِ البَدَنِ يحتاجُ إلى قرينةٍ، وأمَّا استِقراءُ الشَّرعِ فالمعروفُ منه الأمرُ بالتباعُدِ عن أسبابِ الفِتنةِ، والوَجهُ محَلُّ الجَمالِ والافتِتانِ مِنَ المرأةِ؛ فالواجِبُ سَتْرُه). ((تفسير سورة النور)) (ص: 99). وقال أيضًا: (هذا القَولُ [أي: قَولُ ابنِ مَسعودٍ] هو أظهَرُ الأقوالِ عندَنا وأحوَطُها، وأبعَدُها مِنَ الرِّيبةِ وأسبابِ الفِتنةِ). ((أضواء البيان)) (5/515). وذكر أبو يَعلَى أنَّ هذا القَولَ أشبَهُ، كما في ((تفسير ابن الجوزي)) (3/290). وذهب ابنُ باز إلى أنَّ هذا القَولَ أصَحُّ، وأنَّه الموافِقُ للأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ. يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/45). وتُنظَرُ بقيَّةُ الأقوالِ في هذه الآيةِ في: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/290). قال الشنقيطيُّ بعد أن ذكَرَ جُملةً مِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في الزِّينةِ الظَّاهِرةِ والزِّينةِ الباطِنةِ: (جميعُ ذلك راجِعٌ في الجُملةِ إلى ثلاثةِ أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بالزِّينةِ: ما تتزَيَّنُ به المرأةُ خارِجًا عن أصلِ خِلْقتِها، ولا يَستلزِمُ النَّظَرُ إليه رؤيةَ شَيءٍ مِن بَدَنِها، كقَولِ ابنِ مسعودٍ ومَن وافَقَه: إنَّها ظاهِرُ الثِّيابِ؛ لأنَّ الثِّيابَ زِينةٌ لها خارِجةٌ عن أصلِ خِلْقتِها، وهي ظاهِرةٌ بحُكمِ الاضْطِرارِ كما ترى. القَولُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالزِّينةِ: ما تتزَيَّنُ به وليس مِن أصلِ خِلْقتِها أيضًا، لكِنَّ النَّظَرَ إلى تلك الزِّينةِ يَستلزِمُ رُؤيةَ شَيءٍ مِن بَدَنِ المرأةِ، وذلك كالخِضابِ والكُحلِ ونحوِ ذلك؛ لأنَّ النَّظَرَ إلى ذلك يَستلزِمُ رُؤيةَ الموضِعِ المُلابِسِ له مِنَ البَدَنِ كما لا يخفى. القَولُ الثَّالِثُ: أنَّ المرادَ بالزِّينةِ الظَّاهِرةِ: بَعضُ بَدَنِ المرأةِ الذي هو مِن أصلِ خِلْقتِها، كقَولِ مَن قال: إنَّ المرادَ بما ظَهَرَ منها: الوَجهُ والكَفَّانِ). ((أضواء البيان)) (5/515). .
كما قال تعالى: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33].
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 59] .
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ .
أي: ولْيُلقِينَ الخُمُرَ -وهي ما تُغطِّي به المرأةُ رأسَها- على فتَحاتِ القُمُصِ المحيطةِ بالأعناقِ، ويَشدُدْنَها؛ لِيَستُرْنَ شُعورَهنَّ، وآذانَهنَّ، وأعناقَهنَّ، ونحورَهنَّ، وصُدورَهنَّ [654] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/262)، ((الوسيط)) للواحدي (3/316)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/372)، ((تفسير ابن كثير)) (6/46)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/259، 260)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/208). قال ابنُ عثيمين: (هل المرادُ بضَربِ الخِمارِ على الجَيبِ: أن يكونَ مِن تحتِ الوَجهِ بحيثُ يبقى الوَجهُ مَكشوفًا والجَيبُ مَستورًا، أو أنَّ المعنى أن تَضرِبَ بالخِمارِ على الجَيبِ مارًّا بالوَجهِ؟ هذا هو الأقرَبُ؛ لأنَّ الخِمارَ يَنزِلُ مِن أعلى لأنَّه فَوقَ الرَّأسِ، ثمَّ الجَيبُ إذا وجَب سَترُه فالوَجهُ مِن بابِ أَولى، وكان النِّساءُ في الجاهِليَّةِ -على حَسَبِ ما قاله بَعضُ المفَسِّرينَ- كانت المرأةُ تَسدُلُ الخِمارَ مِن وَرائِها، ولا يَقرَبُ وَجهَها ولا جَيبَها؛ ولهذا أمَرَ اللهُ تعالى النِّساءَ أن يَضرِبنَ بخُمُرِهنَّ على جُيوبِهنَّ، وعندَ مَن يرى أنَّ المرادَ بالزِّينةِ الوَجهُ والكَفَّانِ يقولُ: تَضرِبُ بخِمارِها على جَيبِها مِن أسفَلَ، فتُغطِّي الجَيبَ، وتَكشِفُ الوَجهَ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 168). .
عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: (يَرحمُ اللهُ نِساءَ المُهاجِراتِ الأُوَلَ؛ لَمَّا أنزل اللهُ: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ شقَّقْنَ مُروطَهنَّ [655] مُروطَهنَّ: جمعُ مِرطٍ، وهو الإزارُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/490).، فاختمَرْنَ بها)  [656] قال الشنقيطي: (قال ابنُ حَجَرٍ في «الفتح»  في شَرحِ هذا الحَديثِ: قَولُه: فاختَمَرْنَ، أي: غَطَّينَ وُجوهَهنَّ، .... انتهى... وهذا الحديثُ الصَّحيحُ صَريحٌ في أنَّ النِّساءَ الصَّحابيَّاتِ المذكوراتِ فيه فَهِمْنَ أنَّ معنى قَولِه تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ يَقتَضي سَتْرَ وُجوهِهنَّ، وأنَّهنَّ شَقَّقْنَ أُزُرَهنَّ فاختَمَرْنَ، أي: سَتَرْنَ وُجوهَهنَّ بها؛ امتِثالًا لأمرِ اللهِ في قَولِه تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ المُقتضي سَتْرَ وُجوهِهنَّ، وبهذا يتحَقَّقُ المُنصِفُ أنَّ احتِجابَ المرأةِ عن الرِّجالِ وسَتْرَها وَجْهَها عنهم ثابِتٌ في السُّنَّةِ الصَّحيحةِ المُفَسِّرةِ لكِتابِ اللهِ تعالى، وقد أثنَتْ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها على تلك النِّساءِ بمُسارعتِهنَّ لامتثالِ أوامِرِ اللهِ في كتابِه، ومعلومٌ أنَّهنَّ ما فَهِمْنَ سَتْرَ الوُجوهِ مِن قَولِه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ إلَّا مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه موجودٌ، وهنَّ يَسأَلْنَه عن كُلِّ ما أَشكَلَ عليهنَّ في دِينِهنَّ، واللهُ جَلَّ وعلا يقولُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ؛ فلا يُمكِنُ أن يُفَسِّرْنَها مِن تِلقاءِ أنفُسِهنَّ). ((أضواء البيان)) (6/250). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/490).   [657] رواه البخاري (4758). .
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر في الآيةِ قَبْلَها ما أباح أن يَراه غيرُ ذي المَحرَمِ مِن الزِّينةِ الظَّاهِرةِ؛ ذَكَر في هذه ما أباح أن يراه الزَّوجُ وذَوو المحارِمِ مِنَ الزِّينةِ الباطِنةِ، فقال [658] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/67). :
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ.
أي: ولا يُظهِرْنَ زينتَهنَّ الخفيَّةَ [659] قال ابن جزي: ( المرادُ بالزينةِ هنا: الباطنةُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/67). إلَّا لأزواجِهنَّ [660] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/264)، ((تفسير ابن كثير)) (6/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال ابن القطان: (أُجمِعَ على أنَّ الزوجَ مرادٌ بالآيةِ). ((إحكام النظر)) (ص: 243). وقال الشوكاني: (البَعْلُ: هو الزَّوجُ والسَّيِّدُ في كلامِ العَرَبِ،... ومِثْلُه قَولُه سُبحانَه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 5، 6]). ((تفسير الشوكاني)) (4/28). .
أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ.
أي: أو لآبائهنَّ، وأجدادِهنَّ من جهةِ آبائهنَّ وأمهاتهنَّ، أو لآباءِ أزواجِهنَّ، وأجدادِهم مِن جهةِ آبائِهم وأمهاتِهم، أو لأبنائِهنَّ وأحفادِهنَّ مِن جهةِ أبنائهنَّ وبناتِهنَّ، أو لأبناءِ أزواجِهنَّ مِن غيرِهنَّ وأحفادِهم [661] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/264)، ((تفسير القرطبي)) (12/232)، ((تفسير الشوكاني)) (4/28)، ((مراح لبيد)) للجاوي (2/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ.
أي: أو لإخوانِهنَّ الأشقَّاءِ أو لأبٍ أو لأمٍّ، أو لبني إخوانِهنَّ وأبنائِهم ذُكورًا وإناثًا، أو لبني أخواتِهنَّ وأبنائِهم ذكورًا وإناثًا [662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/264)، ((تفسير القرطبي)) (12/232، 233)، ((تفسير الشوكاني)) (4/28)، ((مراح لبيد)) للجاوي (2/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال ابن القطَّان: (البَعلُ والأبُ يفتَرِقان في إبداءِ العَورةِ؛ فلا يحِلُّ ذلك للأبِ، وهذا لا اختلافَ ولا ريبَ فيه). ((إحكام النظر)) (ص: 238). وقال أيضًا: (الإجماعُ مُنعَقِدٌ على أنَّ ما تُبديه للمذكورينَ أكثَرُ مِمَّا تُبديه للأجانِبِ، وعلى أنَّ المذكورينَ مُتفاوِتون فيما تُبديه لهم). ((إحكام النظر)) (ص: 171). وقال أيضًا: (مَن أجازت الآيةُ التبسُّطَ بحَضرتِهم والتكَشُّفَ لهم ليسوا سواءً؛ فإنَّا لا نشُكُّ في أنَّ ابنَ بَعلِها مِن غَيرِها ليس كابنِها، وأنَّ أبا بَعلِها ليس كأبيها، وأنَّ إخوتَها وبنيهم ليسُوا كأبيها وابنِها، ولا كابنِ بَعلِها وأبيه، هذا ممَّا لا يختَلِفُ فيه كلُّ مَن رأيتُه عرَضَ للآيةِ بتَفسيرٍ، أو أجال فيها نظرًا). ((إحكام النظر)) (ص: 240). وقد اختَلَف الفُقَهاءُ فيما تُبديه المرأةُ لمحارِمِها. يُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (10/31)، ((الشَّرح الكبير)) للدَّردير (1/214)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (3/129)، ((كشَّاف القناع)) للبُهُوتي (5/11). .
أَوْ نِسَائِهِنَّ.
أي: أو لنِسائِهنَّ [663] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/264)، ((تفسير ابن عطية)) (4/179)، ((إحكام النظر)) لابن القطان (ص: 280 - 282)، ((تفسير القرطبي)) (12/233)، ((تفسير ابن كثير)) (6/47). قيل: المرادُ هنا: عمومُ النساءِ؛ فللمرأةِ إبداءُ زينتِها لكلِّ امرأةٍ، ولو كانت مشركةً. وممَّن قال بذلك: ابنُ العربي، والرازي، والألوسي، ومال إليه ابنُ عثيمينَ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/385)، ((تفسير الرازي)) (23/365)، ((تفسير الألوسي)) (9/338)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 176-177، 180). وقيل المراد هنا: النساءُ المسلماتُ فقط. وممَّن قال بذلك: ابنُ عطيَّة، والقرطبيُّ، والرسعني، وابن تيميَّة، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/179)، ((تفسير القرطبي)) (12/233)، ((تفسير الرسعني)) (5/237)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (22/112)، ((تفسير ابن كثير)) (6/47)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 102). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/265)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2577)، ((تفسير ابن كثير)) (6/47). وقال السعدي: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أي: يجوزُ للنِّساءِ أن ينظُرَ بعضُهنَّ إلى بعضٍ مُطلقًا، ويحتملُ أنَّ الإضافةَ تقتضي الجنسيَّةَ، أي: النِّساءِ المسلماتِ اللَّاتي مِن جنسِكنَّ؛ ففيه دليلٌ لِمَن قال: إنَّ المسلمةَ لا يجوز أن تنظُرَ إليها الذمِّيَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.
أي: أو لِمماليكِهنَّ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ [664] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/265)، ((إحكام النظر)) لابن القطان (ص: 250)، ((تفسير القرطبي)) (12/233)، ((تفسير ابن كثير)) (6/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال العليمي: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ اختلف العُلَماءُ في حُكمِ الآيةِ؛ فقال قَومٌ: هو عامٌّ، فيكونُ عَبدُ المرأةِ مَحْرَمًا لها، فيجوزُ له الدُّخولُ عليها إذا كان عَفيفًا، وأن يَنظُرَ إلى مَولاتِه كالمحارِمِ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ والشَّافعيِّ...، وقال آخَرونَ: المرادُ: الإماءُ دونَ العَبيدِ، فيكونُ العَبدُ حُكمُه حُكمُ الأجنبيِّ معها، وهو مَذهَبُ أبي حنيفةَ وأحمدَ، مع اتِّفاقِهما على جوازِ رُؤيتِه إليها، فأبو حنيفةَ يُجَوِّزُ رؤيتَه إلى وَجهِها وكَفَّيها، وأحمدُ يُجوِّزُ رؤيتَه إلى ما يجوزُ للمَحرَمِ النَّظَرُ إليه منها كما تقدَّمَ؛ قال أحمدُ: ولا يَلزَمُ مِنَ النَّظَرِ المَحْرَميَّةُ، فلا يُباحُ لها الحَجُّ ولا السَّفَرُ معه). ((تفسير العليمي)) (4/529). يُنظر: ​((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (10/37)، ​​((الذخيرة)) للقرافي (13/316)، ​((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/130)، ​((الإنصاف)) للمرداوي (8/18). وقال ابنُ تيميَّةَ: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ يدُلُّ على أنَّ لها أن تبديَ الزينةَ الباطنةَ لِمَملوكها. وفيه قولان؛ قيل: المرادُ الإماءُ والإماءُ الكتابيَّاتُ، كما قاله ابنُ المسيِّبِ، ورجَّحه أحمدُ وغيرُه، وقيل: هو المملوكُ الرجُلُ، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، وهو الروايةُ الأخرى عن أحمدَ؛ فهذا يقتضي جوازَ نظَرِ العبدِ إلى مَولاتِه، وقد جاءت بذلك أحاديثُ، وهذا لأجلِ الحاجةِ؛ لأنَّها محتاجةٌ إلى مخاطَبةِ عبدِها أكثرَ مِن حاجتِها إلى رؤيةِ الشاهدِ والمعامِلِ والخاطِبِ، فإذا جاز نظَرُ أولئك، فنظَرُ العبدِ أَولى). ((مجموع الفتاوى)) (22/111). وقال ابن كثير: (قوله: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ قال ابنُ جُرَيجٍ: يعني: مِن نساءِ المشركين، فيجوزُ لها أن تُظهرَ زينتَها لها وإن كانت مشركةً؛ لأنها أمَتُها، وإليه ذهب سعيدُ بنُ المسيِّبِ. وقال الأكثرونَ: بل يجوزُ لها أن تظهَرَ على رقيقِها مِن الرجالِ والنساءِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/48). .
عن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتَى فاطمةَ بعبدٍ كان قد وهَبَه لها، وعلى فاطمةَ رَضِيَ الله عنها ثوبٌ، إذا قنَّعَت به رأسَها لم يبلُغْ رِجلَيها، وإذا غطَّت به رِجلَيها لم يبلُغْ رأسَها، فلمَّا رأى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما تلقى قال: ((إنَّه ليس عليك بأسٌ؛ إنما هو أبوكِ وغُلامُكِ )) [665] أخرجه أبو داود (4106)، والبيهقي (13929)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (1712). صحَّحه ابن القطان في ((أحكام النظر)) (196). وقال الضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (5/107): لا أعلم بإسناده بأسًا. وجوَّد إسنادَه الذهبي في ((المهذب)) (5/2671)، وابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (7/510). وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4106). .
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ.
أي: أو الذين يَتْبَعونَكم من الرجال ممَّن لا شَهوةَ لهم في النِّساءِ [666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/266)، ((تفسير القرطبي)) (12/234)، ((تفسير ابن كثير)) (6/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال القرطبي: (واختلف النَّاسُ في معنى قوله: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ؛ فقيل: هو الأحمقُ الذي لا حاجةَ به إلى النساءِ. وقيل: الأبلَهُ. وقيل: الرجلُ يتْبَعُ القومَ فيأكلُ معهم، ويرتفِقُ بهم، وهو ضعيفٌ لا يَكترثُ للنساءِ ولا يشتهيهنَّ. وقيل: العِنِّينُ. وقيل: الخَصِيُّ. وقيل: المخنَّثُ. وقيل: الشيخُ الكبيرُ، والصبيُّ الذي لم يُدرِكْ. وهذا الاختلافُ كُلُّه متقاربُ المعنى، ويجتمِعُ فيمَن لا فَهْمَ له، ولا هِمَّةَ ينتبهُ بها إلى أمرِ النِّساءِ). ((تفسير القرطبي)) (12/234). .
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.
أي: أو الأطفالِ الذين لم يطَّلِعوا على عَوْراتِ النِّساءِ، ولم يَعرِفوا أحوالهنَّ، ولا يشتهونَهنَّ؛ لصِغَرِهم [667] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/509)، ((تفسير ابن كثير)) (6/49)، ((تفسير الشوكاني)) (4/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566). قال القرطبي: (الطِّفلُ يُطلقُ مِن وقتِ انْفِصالِ الولدِ إلى البُلوغِ). ((تفسير القرطبي)) (12/12). وقال الماوَردي: وفي معنى قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ثلاثةُ أوجُهٍ: الأوَّلُ: لعَدَمِ شَهوتِهم. والثَّاني: لم يَعرِفوا عَوْراتِ النِّساءِ لعَدَمِ تَمييزِهم. والثَّالِثُ: لم يُطيقوا جِماعَ النِّساءِ). ((تفسير الماوردي)) (4/96). ممَّن اختار أنَّ المعنى: أنَّهم لم يَفهَموا أحوالَ النِّساءِ وعَوراتِهنَّ، ولم يَعرِفوها: ابنُ قُتَيبةَ، والرسعني، وابن كثير، والعليمي، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 304)، ((تفسير الرسعني)) (5/239)، ((تفسير ابن كثير)) (6/49)، ((تفسير العليمي)) (4/530)، ((تفسير القاسمي)) (7/378)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 182). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/271)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2579). قال ابنُ كثير: (قوله: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ يعني: لصِغَرِهم لا يفهَمونَ أحوالَ النساءِ وعوراتِهنَّ؛ مِن كلامِهنَّ الرخيمِ، وتعطُّفِهنَّ في المِشيةِ وحَركاتِهنَّ، فإذا كان الطفلُ صغيرًا لا يفهَمُ ذلك، فلا بأسَ بدُخولِه على النساءِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/49). وقال ابنُ عثيمين: (والمعنى: أنَّهم لا يَعرِفونَ ما يتعلَّقُ بالعَوْراتِ، فقَولُه: لَمْ يَظْهَرُوا أي: لم يطَّلِعوا بحيث لا يَدرونَ ماذا يُصنَعُ بالعَوْراتِ، ولا هي لهم على بالٍ؛ فهؤلاء الأطفالُ يجوزُ أن تُبدَى لهم الزِّينةُ، هذا المرادُ، ليس المرادُ الاطِّلاعَ بالعَينِ؛ لأنَّ الاطِّلاعَ بالعَينِ هذا يكونُ في الأطفالِ وغَيرِهم، لكِنِ المرادُ أنَّهم لا يَدرونَ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 182). ومِمَّن اختار أنَّ المرادَ عدمُ الشهوةِ: السمرقنديُّ، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/509)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/212). وممَّن جمع بين المعنيَينِ السَّابِقَينِ، فقال: ليس لهم عِلمٌ بذلك، ولا وُجِدت فيهم الشَّهوةُ بعدُ: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). وقيل: المعنى: لم يَطَّلِعوا على عوراتِ النِّساءِ ويَكْشِفوا عنها لِلجِماعِ. ومِمَّن اختاره: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، والخازن، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/271)، ((تفسير الثعلبي)) (7/89)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5076)، ((تفسير البغوي)) (3/405)، ((تفسير ابن عطية)) (4/179)، ((تفسير القرطبي)) (12/236)، ((تفسير الخازن)) (3/293)، ((تفسير ابن جزي)) (2/67)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 462). وقيل: المعنى: لم يَبلغوا أن يُطيقُوا النِّساءَ. وممَّن اختاره: الفَرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، والنحاس، والهروي، والسمعاني. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/250)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/42)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/526)، ((الغريبين)) للهروي (4/1212)، ((تفسير السمعاني)) (3/523). قال الشنقيطي: (العورةُ ما يسوؤُك أن يُطَّلَعَ عليه ... والمرادُ هنا ما تسترُه المرأةُ مِن المحاسنِ). ((تفسير سورة النور)) (ص: 106). وقال القرطبي: (أجْمَع المسلمونَ على أنَّ السَّوأتينِ عَوْرَةٌ مِن الرَّجلِ والمرأةِ، وأنَّ المرأةَ كُلَّها عورَةٌ، إلَّا وَجْهَها ويَدَيْها؛ فإنَّهم اخْتَلفوا فيهما). ((تفسير القرطبي)) (12/237). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/29). .
وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ.
أي: ولا تَضرِبِ النِّساءُ بأرجُلِهنَّ الأرضَ، أو بإحدى الرِّجلَينِ على الأخرى؛ ليَظهَرَ صَوتُ ما خَفِيَ مِن حُلِيهنَّ، كأن تقرعَ الخَلخالَ بالخَلخالِ، فيسمَعَ النَّاسُ صَوتَ الخلاخِلِ المستورةِ مِن وراءِ الثِّيابِ [668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/272)، ((تفسير السمرقندي)) (2/509)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/292)، ((تفسير القرطبي)) (12/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 567). قال الزجاج: (كانت المرأةُ ربَّما اجتازت وفي رِجلِها الخَلخالُ، وربما كان فيها الخلاخِلُ، فإذا ضرَبت برِجلِها عُلِمَ أنَّها ذاتُ خَلخالٍ وزينةٍ، وهذا يحَرِّكُ مِن الشهوةِ، فنهيَ عنه، كما أُمِرنَ ألَّا يُبدينَ؛ لأنَّ استماعَ صوتِه بمنزلة إبدائِه). ((معاني القرآن)) (4/40). .
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا أمر تعالى بهذه الأوامِرِ الحَسَنةِ، ووصَّى بالوصايا المُستحسَنةِ، وكان لا بُدَّ مِن وقوعِ تَقصيرٍ من المؤمِنِ بذلك- أمرَ اللهُ تعالى بالتوبةِ، فقال [669] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 567). :
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: وتُوبوا -أيُّها المؤمِنونَ والمؤمِناتُ- بإخلاصٍ للهِ، وارْجِعوا إلى طاعتِه سبحانه فيما أمرَكم به، ونهاكم عنه، ومِن ذلك غَضُّ البصَرِ، وحِفظُ الفَرْجِ، وتركُ النساءِ إظهارَ ما خفِي مِن زينتهنَّ لغيرِ مَنِ استثناهُ اللهُ؛ توبوا إلى الله؛ لتفوزوا في دُنياكم وآخِرتِكم [670] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/273)، ((تفسير القرطبي)) (12/238)، ((تفسير ابن كثير)) (6/50)، ((تفسير الشوكاني)) (4/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 567)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/214). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم: 8].
وعن الأَغَرِّ المُزَنيِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ، توبوا إلى الله؛ فإنِّي أتوبُ في اليَومِ إليه مئةَ مَرَّةٍ )) [671] رواه مسلم (2702). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((واللهِ، إنِّي لَأستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليومِ أكثَرَ مِن سبعينَ مَرَّ ةً)) [672] رواه البخاري (6307). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ في هذا الأمرِ بالغَضِّ أدَبٌ شَرعيٌّ عظيمٌ في مُباعَدةِ النَّفْسِ عن التطَلُّعِ إلى ما عسى أن يُوقِعَها في الحرامِ، أو ما عسى أن يكَلِّفَها صبرًا شديدًا عليه [673] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/204). . فليحذرِ العاقلُ إطلاقَ البصرِ؛ فإنَّ العينَ ترَى غيرَ المقدورِ عليه، على غيرِ ما هو عليه، وربَّما وقَع مِن ذلك العشقُ فيهلِك البدنُ والدِّينُ، فمَن ابتُلِي بشيءٍ منه فليتفكَّرْ في عيوبِ النِّساءِ [674] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (8/181). .
2- قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وإنَّما بصَرُك نِعمةٌ مِنَ اللهِ عليك، فلا تَعْصِه بنِعَمِه، وعامِلْه بغَضِّه عن الحرامِ تَربَحْ، واحذَرْ أن تكونَ العقوبةُ سَلْبَ تلك النِّعمةِ [675] يُنظر: ((ذم الهوى)) لابن الجوزي (ص: 143). .
3- قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ في غَضِّ البصَرِ عِدَّةُ مَنافِعَ:
أحدها: أنَّه امتِثالٌ لأمرِ اللهِ، الذي هو غايةُ سَعادةِ العَبدِ في معاشِه ومَعادِه.
الثانية: أنَّه يمنَعُ مِن وصولِ أثَرِ السَّهمِ المسمومِ -الذي لعلَّ فيه هلاكَه- إلى قَلبِه.
الثالثة: أنَّه يورِثُ القلبَ أُنسًا بالله، وجمعيَّةً عليه.
الرابعة: أنَّه يقوِّي القلبَ ويُفرِحُه.
الخامسة: أنَّه يُكسِبُ القَلبَ نُورًا، كما أنَّ إطلاقَه يُلبِسُه ظُلمةً؛ ولهذا ذكَرَ الله سُبحانَه آيةَ النورِ عَقِيبَ الأمرِ بغَضِّ البصَرِ، فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] ثمَّ قال إثرَ ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور: 35] ، أي: مَثَلُ نورِه في قَلبِ عَبدِه المؤمِنِ الذي امتَثَل أوامِرَه، واجتَنَب نواهيَه.
السادسة: أنَّه يُورِثُ العبدَ فِراسةً صادِقةً يميِّزُ بها بين الحَقِّ والباطِلِ، والصَّادِقِ والكاذِبِ، فمَن ترَك لله شيئًا عوَّضَه اللهُ خيرًا منه، فإذا غَضَّ بصَرَه عن محارِمِ الله، عوَّضَه اللهُ بأن يُطلِقَ نورَ بصيرتِه؛ عِوَضًا عن حَبسِ بَصَرِه لله، ويفتَحَ عليه بابَ العِلمِ والإيمانِ، والمعرفةِ والفِراسةِ الصَّادقةِ المُصيبةِ التي إنَّما تُنالُ ببَصيرةٍ.
السابعة: أنَّه يورِثُ القَلبَ ثَباتًا وشجاعةً وقُوَّةً، فجمَع الله له بيْنَ سُلطانِ النُّصرةِ والحُجَّة، وسُلطانِ القُدرةِ والقُوَّة.
الثامنة: أنَّه يَسُدُّ على الشَّيطانِ مَدخَلَه مِن القلبِ؛ فإنَّه يدخُلُ مع النَّظرةِ، ويَنفُذُ معها إلى القَلبِ أسرَعَ مِن نفوذِ الهواءِ في المكانِ الخالي، فيُمثِّلُ له صورةَ المنظورِ إليه ويزَيِّنُها، ويجعَلُها صنَمًا يَعكُفُ عليه القَلبُ، ثمَّ يَعِدُه ويُمَنِّيه، ويوقِدُ على القَلبِ نارَ الشَّهوةِ، ويُلقي عليها حطَبَ المعاصي التي لم يكُنْ يتوصَّلُ إليها بدونِ تلك الصُّورةِ؛ فيصيرُ القَلبُ في اللَّهبِ!
التاسعة: أنَّه يُفَرِّغُ القلبَ للفِكرةِ في مصالحِه، والاشتِغالِ بها.
العاشرة: أنَّ بيْنَ العَينِ والقَلبِ مَنفذًا وطريقًا يوجِبُ انتقالَ أحَدِهما عن الآخَرِ، وأن يَصلُحَ بصلاحِه، ويَفسُد بفسادِه، فإذا فسَد القَلبُ فسَدَ النَّظرُ، وإذا فسَدَ النظَرُ فسدَ القَلبُ، وكذلك في جانبِ الصَّلاحِ، فإذا خَرِبَت العَينُ وفَسَدت خَرِب القَلبُ وفَسَد، وصار كالمَزبَلةِ التي هي محَلُّ النَّجاساتِ والقاذوراتِ والأوساخِ، فلا يَصلُحُ لسُكنى معرفةِ اللهِ ومحبَّتِه، والإنابةِ إليه، والأُنسِ به، والسُّرورِ بقُربِه فيه، وإنَّما يسكُنُ فيه أضدادُ ذلك.
فهذه إشارةٌ إلى بَعضِ فوائِدِ غَضِّ البصَرِ، تُطلِعُك على ما وراءَها [676] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 178-180). .
4- قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ أَزْكَى لَهُمْ أطهَرُ وأطيَبُ، وأنمَى لأعمالِهم؛ فإنَّ مَن حَفِظَ فَرْجَه وبصَرَه، طهُرَ من الخُبثِ الذي يتدنَّسُ به أهلُ الفواحشِ، وزكَت أعمالُه بسبب ترْكِ المحرَّمِ الذي تَطمَحُ إليه النفْسُ، وتدعو إليه؛ فمَن ترك شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا منه، ومَن غَضَّ بصَرَه عن المحَرَّم أنار اللهُ بصيرتَه، ولأنَّ العبدَ إذا حَفِظ فَرجَه وبصرَه عن الحرامِ ومقَدِّماتِه معَ داعي الشهوةِ، كان حِفظُه لغيرِه أبلَغَ؛ ولهذا سمَّاه الله حِفظًا، فالشيءُ المحفوظُ إن لم يَجتهِدْ حافظُه في مراقبتِه وحِفظِه، وعملِ الأسبابِ الموجبةِ لحفظِه؛ لم ينحفِظْ، كذلك البصرُ والفرجُ: إن لم يجتهِدِ العبدُ في حفظِهما، أوقعاه في بلايا ومِحَنٍ [677] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
5- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ هذا يقتضي النَّهيَ عن كُلِّ ما مِن شأنِه أن يُذَكِّرَ الرجُلَ بلَهوِ النِّساءِ، ويُثيرَ منه إليهنَّ مِن كُلِّ ما يُرى أو يُسمَعُ، من زينةٍ أو حركةٍ؛ كالتثَنِّي، والغناءِ، وكلامِ الغزَلِ، ومِن ذلك رقصُ النِّساءِ في مجالسِ الرِّجالِ، ومِن ذلك التلَطُّخُ بالطِّيبِ الذي يغلِبُ عَبيقُه [678] عَبيقُه: أي: رائحتُه الطيِّبةُ الذكيَّةُ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/390). ، وقد أومأ إلى عِلَّةِ ذلك قولُه تعالى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [679] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/213، 214). .
6- قَولُ الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا فيه الحثُّ على الإخلاصِ بالتَّوبةِ لا لمقصَدٍ غيرِ وجهِه؛ مِن سلامةٍ مِن آفاتِ الدُّنيا، أو رياءٍ وسُمعةٍ، أو نحوِ ذلك مِن المقاصِدِ الفاسِدةِ [680] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
7- قَولُ الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ علَّق سُبحانَه وتعالى على التَّوبةِ الفلاحَ، فقال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ؛ فلا سبيلَ إلى الفلاحِ إلَّا بالتوبةِ، وهي الرجوعُ مِمَّا يَكرَهُه اللهُ، ظاهِرًا وباطنًا، إلى ما يُحِبُّه ظاهِرًا وباطِنًا، ودلَّ هذا أنَّ كُلَّ مؤمنٍ محتاجٌ إلى التوبةِ؛ لأنَّ الله خاطَبَ المؤمنينَ جميعًا [681] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). .
8- أُعقِبَتِ الأوامرُ والنَّواهي المُوجَّهةُ إلى المؤمنينَ والمُؤمناتِ بأمرِ جميعِهم بالتَّوبةِ إلى اللهِ؛ إيماءً إلى أنَّ فيما أُمِروا به ونُهُوا عنه دِفاعًا لداعٍ تَدْعو إليه الجِبِلَّةُ البشريَّةُ مِن الاستحسانِ والشَّهوةِ، فيَصدُرُ ذلك عن الإنسانِ عن غفلةٍ، ثمَّ يتغلغَلُ هو فيه، فأُمِروا بالتَّوبةِ؛ ليُحاسِبوا أنفُسَهم على ما يفلِتُ منهم مِن ذلك اللَّممِ المُؤدِّي إلى ما هو أعظَمُ [682] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/214). ، فأوامرُ اللهِ ونَواهيه في كلِّ بابٍ لا يَكادُ العبْدُ الضَّعيفُ يقدِرُ على مُراعاتِها وإنْ ضبَطَ نفْسَه واجتهَدَ، ولا يَخْلو مِن تَقصيرٍ يقَعُ منه؛ فلذلك وصَّى المؤمنينَ جميعًا بالتَّوبةِ والاستغفارِ، وبتأْميلِ الفلاحِ إذا تابوا واستَغْفروا [683] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/233). .
9- قولُه تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه دَلالةٌ على أنَّ التَّوبةَ هي مِن أسبابِ الفَلاحِ [684] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 110). ، فقد خاطَبَ اللهُ بهذه الآيةُ أهلَ الإيمانِ وخِيارَ خَلقِه أن يَتوبوا إليه، بعد إيمانِهم وصَبرِهم، وهِجرتِهم وجِهادِهم، ثمَّ علَّق الفَلاحَ بالتَّوبةِ تعليقَ المُسَبَّبِ بسَبَبِه، وأتى بأداةِ لعلَّ المُشعِرةِ بالترجِّي؛ إيذانًا بأنَّكم إذا تُبتُم كنتُم على رجاءِ الفلاحِ، فلا يرجو الفَلاحَ إلَّا التَّائِبونَ. جعَلَنا اللهُ منهم [685] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/196). .
10- قال تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا في قَولِه: جَمِيعًا دَلالةٌ على أنَّ التَّوبةَ واجِبةٌ على جَميعِ المكلَّفينَ [686] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 110). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- البصَرُ هو البابُ الأكبَرُ إلى القلبِ، وأعمَرُ طُرُقِ الحواسِّ إليه، وبحسَبِ ذلك كثُرَ السقوطُ مِن جهتِه، ووجَب التحذيرُ منه، وغضُّه واجبٌ عن جميعِ المحَرَّماتِ، وكُلِّ ما يُخشى الفتنةُ مِن أجْلِه [687] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/223). قال ابنُ القطَّان: (كلُّ ما قُلنا: إنَّه لا يجوزُ أن يَنظُرَ إليه الرجُلُ أو غيرُه؛ مِن عَورةٍ أو شخصٍ، فإنَّه لا يجوُز أن يَنظُرَ إلى المُنطَبِعِ منه في مرآةٍ أو ماءٍ أو جِسمٍ صَقيلٍ؛ لأنَّه في الحَقيقةِ قد نظرَ إلى ذلك الشَّيءِ بعَينِه). ((إحكام النظر)) (ص: 322). .
2- الإصرارُ على النَّظرِ إلى الحرامِ يُصيِّرُه كبيرةً، وقد يكونُ الإصرارُ على ذلك أعظَمَ مِن قليلِ الفواحِشِ؛ فإنَّ دوامَ النظَرِ بالشَّهوةِ وما يتَّصِلُ به من العِشقِ والمعاشرةِ والمباشرةِ قد يكون أعظمَ بكثيرٍ مِن فَسادِ زِنًا لا إصرارَ عليه؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ في الشَّاهِدِ العَدلِ: (ألَّا يأتيَ كبيرةً، ولا يُصِرَّ على صغيرةٍ). بل قد ينتهي النظَرُ بالرَّجُلِ إلى الشِّركِ، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] ؛ ولهذا لا يكونُ عِشقُ الصُّوَرِ إلَّا مِن ضَعفِ محبَّةِ اللهِ، وضَعفِ الإيمانِ، واللهُ تعالى إنَّما ذكرَه في القرآنِ عن امرأةِ العزيزِ المُشرِكةِ، وعن قَومِ لُوطٍ المُشركين، والعاشِقُ المتَيَّمُ يَصيرُ عبدًا لِمَعشوقِه، منقادًا له، أسيرَ القَلبِ له [688]  يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (15/293). .
3- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عبَّرَ بالوصفِ لِلْمُؤْمِنِينَ إشارةً إلى أنَّه لا يعِفُّ فيه إلَّا مَن رسَخ الإيمانُ في قلبِه؛ لخفاءِ الخيانةِ حينَئذٍ، بخلافِ ما سبَق في المنعِ مِن الدخولِ؛ حيثُ كان التعبيرُ بـ الَّذِينَ آَمَنُوا [689] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/253، 254). .
4- في قَولِه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ سؤالٌ: وهو ما عُرِفَ مِن أنَّ القاعدةَ في الفِعلِ المضارعِ المجزومِ في جَوابِ الطَّلبِ أن يكونَ جزْمُه بشَرطٍ مُقَدَّرٍ دلَّ عليه فِعْلُ الطَّلبِ، وقولُه: يَغُضُّوا مِن هذا القَبيلِ، فالمعنى: «إنْ تَقُلْ: غُضُّوا، يَغُضُّوا»، ويُشْكِلُ على هذا أنَّه رَبَطَ الشَّرطَ بالجزاءِ، والرَّبطُ يقتضي عدَمَ التخَلُّفِ بمجَرَّدِ القَولِ، مع أنَّ المشاهَدَ تَخَلُّفُ الغَضِّ مِن كثيرٍ مِن النَّاسِ، فكيف يَصحُّ الرَّبطُ مع هذا؟
الجوابُ: ما أشارتْ إليه الآيةُ، وهو العَنْونةُ بالمؤمنينَ في قَولِه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ؛ فإنَّ الإيمانَ إذا أُطلِقَ فالمرادُ به الإيمانُ الكامِلُ، أي: «قُلْ للمُؤمِنينَ -الذين كَمُلَ إيمانُهم- هذا القَولَ، يَستجيبوا»، ولا يَرِدُ على هذا أنَّ غيرَ الكاملِ الإيمانِ يَدخُلُ في هذا؛ لأنَّ اللهَ تعالى كَثيرًا ما يَخُصُّ المنتَفِعَ مع أنَّه يعني غيرَه معه، كما قال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18] ، وقال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، مع أنَّ الذين يُنذَرون ويُذَكَّرون هم جميعُ النَّاسِ [690] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 97). .
5- قَولُ الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فيه سُؤالٌ: كيف دخَلَت (مِن) في غَضِّ البصَرِ دونَ حِفظِ الفَرجِ؟
الجوابُ من وجوهٍ:
الوجه الأول: أنه لَمَّا كان تحريمُ النظرِ تحريمَ الوسائلِ -فيُباحُ للمصلحةِ الراجحةِ؛ ويَحْرُمُ إذا خِيفَ منه الفسادُ؛ ولم يُعارِضْه مصلحةٌ أرجحُ مِن تلك المفسدةِ- لم يأمُرْ سُبحانَه بِغَضِّهِ مطلقًا؛ بل أمَر بالغَضِّ منه، وأمَّا حِفْظُ الفَرْجِ فواجبٌ بكل حالٍ -لا يُباحُ إلَّا بِحَقِّهِ-؛ فلذلك عَمَّ الأمرَ بحِفْظِه [691] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 92). .
الوجه الثاني: أنَّه لَمَّا كان الغَضُّ التامُّ لا يمكِنُ، جيءَ في الآيةِ بحَرفِ (مِن) الذي هو للتَّبعيضِ إيماءً إلى ذلك؛ إذ مِن المفهومِ أنَّ المأمورَ بالغَضِّ فيه هو ما لا يَليقُ تَحديقُ النظَرِ إليه، وذلك يتذكَّرُه المسلِمُ مِن استحضارِه أحكامَ الحَلالِ والحرامِ في هذا الشَّأنِ، فيَعلَمُ أنَّ غضَّ البصَرِ مراتِبُ: منه واجِبٌ، ومنه دونَ ذلك، فيشمَلُ غَضَّ البصَرِ عما اعتاد النَّاسُ كراهيةَ التحَقُّقِ فيه، كالنظَرِ إلى خبايا المنازِلِ، بخلافِ ما ليس كذلك [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/203، 204). .
الوجه الثالث: أن فائدةَ ذِكْرِ (مِنْ) التَّبعيضيَّةِ في غضِّ البصرِ دونَ حِفْظِ الفرْجِ: الدَّلالةُ على أنَّ حُكْمَ النَّظرِ أخفُّ مِن حُكْمِ الفرْجِ؛ إذْ يَحِلُّ النَّظرُ إلى بعضِ أعضاءِ المحارمِ، ولا يَحِلُّ شَيءٌ مِن فُروجِهنَّ [693] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/229)، ((تفسير أبي حيان)) (8/32)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/62)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/394)، ((تفسير أبي السعود)) (6/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/203)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/596). .
الوجه الرابع: أنه لمَّا كان المُسْتثنى مِن حفظِ الفرجِ كالشَّاذِّ النَّادرِ -بخلافِ الغضِّ- أطلَقَه، وقيَّدَ الغضَّ بحرْفِ التَّبعيضِ [694] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/104)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/62). .
الوجه الخامس: أنَّ قَولَه يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ أي: يَنقُصوا مِن نظَرِهم، فالبصَرُ إذا لم يُمكَّنْ مَن عَمَلِه فهو مغضوضٌ ممنوعٌ عنه، وعلى هذا (مِن) ليست بزائدةٍ، ولا هي للتَّبعيضِ، بل هي من صِلةِ الغَضِّ، يقال: غَضَضتُ مِن فلانٍ: إذا نقَصْتَ مِن قَدْرِه [695] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/360، 361). .
6- سَترُ العورةِ عن أعيُنِ النَّاظرين بما لا يصِفُ البشَرةَ واجِبٌ في الجملةِ، في الصَّلاةِ وخارجَ الصلاةِ؛ لقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وحِفظُ الفَرجِ يعُمُّ حِفظَه مِن مَسِّ مَن لا يحِلُّ له مسُّه بجِماعٍ وغيرِ جماعٍ، ومِن النظَرِ إليه [696] يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الصلاة)) لابن تيميَّة (ص: 255). .
7- قال الله تعالى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، وقال أيضًا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بدأ سبحانَه بالغَضِّ في الموضِعَينِ قَبلَ حِفظِ الفَرجِ، لأنَّ النَّظَرَ وَسيلةٌ إلى عدَمِ حِفظِ الفَرجِ، والوسيلةُ مُقَدَّمةٌ على المتوَسَّلِ إليه [697] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/27). . فعدمُ غَضِّ البصرِ سببٌ لعدمِ حِفْظِ الفَرجِ، والإنسانُ إذا أطلقَ بصرَه تَعَلَّقَ قلبُه بالنِّساءِ، ثم لا يزالُ به النظرُ حتى يدنوَ مِن المرأةِ ويُكَلِّمَها ويخاطِبَها، ثمَّ يَعِدَها، ثمَّ تحصُلَ الفاحشةُ [698] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/356). ؛ فغَضُّ البصرِ لَمَّا كان أصلًا لحِفْظِ الفَرْجِ بدأ بذِكْرِه [699] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 92). .
8- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ استُدِلَّ به على أنَّ المرأةَ يحرمُ عليها النَّظرُ إلى الرَّجلِ كحُرمةِ نظرِه إليها [700] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 191). وتقدَّم الخلافُ في المسألة إذا لم يكُنِ النظرُ بشَهوةٍ أو مع خَوفِ الفِتنةِ (ص: 201) وما بعدها. .
9- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فيه أنَّ المرأةَ يجِبُ عليها سَترُ عورتِها [701] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 192). .
10- قولُه تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ كَرَّرَ تعالى النهَّيَ عن إبداءِ الزِّينةِ؛ نظرًا لتنوُّعِ الاستِثناءِ، فالنَّهيُ الأوَّلُ استثنى منه بعضَ الزِّينةِ التي يجوزُ للمَنظورِ أنْ يُبديَها، والأمرُ الثاني استثنَى منه بعضَ الأشخاصِ الذين يجوزُ لهم النظَرُ [702] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 101). .
11- قَولُ الله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ فيه إباحةُ النَّظَرِ للمَحارمِ [703] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 192). .
12- قال الله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ... فمَنِ اتَّصَف بذلك دخَل في هذه الآيةِ، ودلَّت الآيةُ على أنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ، ويؤخَذُ مِن مَفهومِ مُخالفتِها أنَّ مَن ذَكَرَ اللهُ مِن المحارمِ إذا حَدَثَ مِن بعضِهم النظَرُ إلى مَن حُرِّمَتْ عليه بشَهوةٍ؛ أنَّه لا يجوزُ له أنْ يَنظُرَ إليها، وكذا المرأةُ إذا بَلَغَ فيها الفَسادُ إلى أنْ تتعاطى السِّحاقَ لو نظرتْ إلى امرأةٍ أخرى بشَهوةٍ؛ فلا يجوزُ لها النظَرُ إليها [704] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 103). .
13- قَولُ الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ كأنَّه اختير لفظُ (الضَّربِ)؛ إشارةً إلى قُوَّةِ القصدِ للسَّترِ، وإشارةً إلى العفوِ عمَّا قد يبدو عند تحَرُّكِ الخمارِ عند مزاولةِ شَيءٍ مِن العملِ [705] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/260). .
14- قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، وقال سُبحانه: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فنهى الله تعالى في هاتَينِ الآيتَينِ عمَّا يُوجِبُ العِلمَ بالزِّينةِ الخَفِيَّةِ بالسَّمعِ أو غيرِه [706] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (15/372). .
15- قَولُ الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فيه دليلٌ على وجوبِ سَترِ الصَّدرِ والنَّحرِ والعُنُقِ، وأنَّ ذلك منها عورةٌ [707] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 192). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/112). ، لا يجوزُ للأجنبىِّ النَّظرُ إلى ذلك منها [708] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/174). .
16- في قَولِه تعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ دليلٌ على أنَّ المرأةَ إذا مَلَكَت زوجَها حَرُمت عليه، وانفسخَ نكاحُها [709] حكى الإجماعَ على ذلك: ابنُ المنذر، وابنُ حزم، وابنُ قدامة. يُنظر:  ((الإقناع)) لابن المنذر (1/310)، ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 69)، ((المغني)) لابن قدامة (7/148). ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ مِلْكَ يمينِ المرأةِ في عِدَادِ محارمِها، والمَحْرَمُ لا يَصلُحُ أنْ يكونَ زوجًا بحالٍ [710] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/443). .
17- في قَولِه تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ دَلالةٌ على أنَّه إذا عُرِفَ مِن الطِّفلِ أنَّه ينظُرُ إلى المرأةِ نَظَرَ شَهوةٍ  -ولو لم يكن له إلَّا عشرُ سنواتٍ- فإنَّه يجبُ عليها أنْ تحتَجِبَ عنه؛ لأنَّ نظَرَ الطِّفلِ للمرأةِ ليس مقيَّدًا بالبلوغِ، بل هو مقيَّدٌ بما إذا عُرِف من الطِّفلِ أنَّه ينظُرُ إلى المرأةِ نظَرَ شَهوةٍ [711] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/433). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 193). ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
18- لم يَذكُرِ اللهُ الأعمامَ والأخوالَ فِي عِدادِ المُستثنَياتِ؛ وذلك لعدَّةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ سُكوتَ الآيةِ عن العَمِّ والخالِ ليس لمخالفةِ حُكمِهما حُكمَ بقيَّةِ المحارِمِ، ولكِنَّه اقتِصارٌ على الذين تكثُرُ مزاولتُهم بيتَ المرأةِ؛ فالتَّعدادُ جرَى على الغالِبِ [712] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/213). .
الثَّاني: أنَّه لم يذكُرِ العَمَّ والخالَ؛ لأنَّهما يجريانِ مجرى الوالِدَينِ، وقد جاء تسميةُ العَمِّ أبًا في قَولِه تعالى: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [713]  يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/236). [البقرة: 133] .
الثَّالِثُ: أنَّه لم يذكُرْهما لِفَهمِهما مِن بني الِإخوانِ وبني الأخَواتِ [714]  يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 395). ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ بني الأخِ للعمَّاتِ محارِمُ، عَلِمَ أنَّ بناتِ الأخِ للأعمامِ محارِمُ، وكذلك الحالُ في أمرِ الخالِ [715] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/181). ، فإذا لم يحتجِبْنَ عمَّن هنَّ عمَّاتُه ولا خالاتُه مِن أبناءِ الإخوةِ والأخَواتِ، مع رفعتِهنَّ عليهم، فعدمُ احتجابهنَّ عن عَمِّهنَّ وخالِهنَّ مِن بابِ أَولَى [716] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 671). قال الشنقيطي: (وقال بعضُهم: إنَّ في الآيةِ ما يُشيرُ إليه، فلو سُمِّيَ لكان فيه شِبهُ تَكرارٍ؛ فقد ذَكَر أنَّ ابنَ أخي المرأةِ وابنَ أُختِها مِن محارِمِها، وهي عَمَّةُ أحدِهما وخالةُ الآخَرِ، فيُؤخَذُ منه أنَّ العَمَّ والخالَ مَحْرَمانِ). ((تفسير سورة النور)) (ص: 101). .
الرَّابعُ: أنَّه تَركَ ذِكرَهما كما ترَك ذِكْرَ مَحرَمِ الرَّضاعِ [717]  يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 395)، ((تفسير الشوكاني)) (4/28). وقيل أيضًا: لأنَّ الأعمامَ ربَّما يذكُرونَ بناتِ الأخِ عند أبنائِهم، وهم غيرُ محارِمَ، وكذلك الحالُ في الخالِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/232)، ((تفسير الرازي)) (25/181)، ((تفسير أبي السعود)) (6/170). قال ابنُ عثيمين بعد أن ذكَرَ هذا الوَجْهَ: (فلمَّا كان يُخشى أنَّ العَمَّ والخالَ يَصِفُ [أحَدُهما] المرأةَ لابنِه، لم يُذكَرا؛ للتحَرُّزِ لا لمخالفةِ الحُكمِ، وهذا التَّعليلُ له بعضُ الوجهِ، والله أعلمُ بما أراد... ولا شَكَّ أنَّ قوَّةَ المَحْرَميَّةِ في العَمِّ والخالِ أضعَفُ مِن قوَّتِها فيمَن عداهم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص : 451). قال الشوكاني: (وقال الزَّجَّاجُ: العَمُّ والخالُ ربَّما يَصِفانِ المرأةَ لولَدَيهما؛ فإنَّ المرأةَ تحِلُّ لابنِ العَمِّ وابنِ الخالِ، فكُرِه لهما الرؤيةُ، وهذا ضعيفٌ جِدًّا؛ فإنَّ تجويزَ وَصفِ المرأةِ لِمن تحِلُّ له ممكِنٌ مِن غيرِهما ممَّن يجوزُ له النظَرُ إليها، لا سيَّما أبناءُ الإخوةِ وأبناءُ الأخواتِ، واللازِمُ باطِلٌ فالملزومُ مِثلُه، وهكذا يستلزِمُ ألَّا يجوزَ للنِّساءِ الأجنبيَّاتِ أن ينظُرْنَ إليها؛ لأنَّهنَّ يَصِفْنها، واللازِمُ باطِلٌ فالملزومُ مِثلُه، وهكذا لا وَجهَ لِما قاله الشعبي وعِكرمةُ مِن أنَّه يُكرهُ للمرأةِ أن تضعَ خِمارَها عند عَمِّها أو خالِها. والأَولى أن يقالَ: إنَّه سبحانه اقتصَرَ هاهنا على بعضِ ما ذكَرَه مِن المحارِمِ في سورةِ النورِ؛ اكتفاءً بما تقدَّم). ((تفسير الشوكاني)) (4/343). .
19- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ نبَّه به على أنَّ الذي لأجْلِه نُهيَ عنه: أنْ يُعلَمَ زينتُهنَّ مِن الحَلْيِ وغيِره، فلمَّا نهَى عن استماعِ الصَّوتِ الدَّالِّ على وجودِ الزِّينةِ، فلَأنْ يدُلَّ على المنعِ مِن إظهارِ الزينةِ أَولى [718] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/367). .
20- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فيه أنَّ المرأةَ مَنهيَّةٌ عن رَفعِ صَوتِها بالكلامِ، بحيث يَسمَعُ ذلك الأجانِبُ؛ إذ كان صوتُها أقرَبَ إلى الفتنةِ مِن صوتِ خَلخالِها؛ ولذلك كَرِهوا أذانَ النِّساءِ؛ لأنَّه يُحتاجُ فيه إلى رفعِ الصَّوتِ، والمرأةُ مَنهيَّةٌ عن ذلك [719] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/367). .
21- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ استُدِلَّ به على أنَّ تَغطيةَ المرأةِ وَجْهَها واجِبٌ؛ لأنَّه إذا كانت المرأةُ مَنهيَّةً عن الضَّربِ بالأرجُلِ خَوفًا مِنِ افتِتانِ الرَّجُلِ بما يَسمَعُ مِن صَوتِ خَلخالِها ونَحوِه، فكيف بكَشفِ الوَجهِ؟! فأيُّما أعظَمُ فِتنةً: أن يَسمَعَ الرَّجُلُ خَلخالًا بقَدَمِ امرأةٍ لا يدري ما هي وما جمالُها، أو أن يَنظُرَ إلى وَجهٍ سافِرٍ جَميلٍ مُمتَلئٍ شَبابًا ونَضارةً وحُسنًا وجَمالًا وتَجميلًا بما يجلِبُ الفِتنةَ، ويدعو إلى النَّظَرِ [720] يُنظر: ((رسالة الحجاب)) لابن عثيمين (ص: 9، 12). ؟!
22- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يُؤخَذُ منه قاعدةُ سَدِّ الوسائِلِ، وأنَّ الأمرَ إذا كان مُباحًا، ولكِنَّه يُفضي إلى محَرَّمٍ، أو يُخافُ مِن وقوعِه؛ فإنَّه يُمنَعُ منه؛ فالضَّربُ بالرِّجلِ في الأرضِ الأصلُ أنَّه مباحٌ، ولكِنْ لَمَّا كان وسيلةً لعِلمِ الزِّينةِ، مُنِع منه [721] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 566). . فالآيةُ فيها دليلٌ على أنَّ المرأةَ منهيَّةٌ عن إبرازِ كلِّ ما دعا إلى الشهوةِ، وإنْ كان مُباحًا لُبسُه لها [722] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/443). .
23- قال اللهُ تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قَولُه: مَا يُخْفِينَ دَليلٌ على أنَّ اللِّباسَ سَتَرَ هذه الخَلاخيلَ [723] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 176). . والآيةُ نَصٌّ على أنَّ الرِّجلَينِ والسَّاقَينِ مِمَّا يُخفى ولا يَحِلُّ إبداؤُه [724] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (2/247). ، وإلَّا لاستطاعَت إحداهُنَّ أن تُبدِيَ ما تُخفِي مِنَ الزِّينةِ «وهي الخلاخيلُ»، ولاستغنَت بذلك عن الضَّربِ بالرِّجْلِ [725] يُنظر: ((جلباب المرأة المسلمة)) للألباني (ص: 80). .
24- كانت المرأةُ في الجاهليَّةِ إذا كانت تمشي في الطريقِ وفي رِجلِها خَلخالٌ صامِتٌ -لا يُسمَعُ صَوتُه- ضَرَبت برِجلِها الأرضَ، فيَعلَمُ الرِّجالُ طَنينَه، فنهى اللهُ المؤمِناتِ عن مِثلِ ذلك. وكذلك إذا كان شيءٌ مِن زينتِها مستورًا، فتحَرَّكت بحركةٍ لِتُظهِرَ ما هو خفيٌّ، دخَل في هذا النَّهيِ؛ لِقَولِه تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [726]  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/49). ، ومِن ذلك الكَعبُ العالي الذي تَلبَسُه بعضُ النِّساءِ فيُسمَعُ له صوتٌ إذا مَشَينَ، يلفتُ أنظارَ الرِّجالِ.
25- يُؤخذُ مِن مَفهومِ المُوافَقةِ [727] مَفهومُ الموافقةِ: هو أن يكونَ المَسكوتُ عنه مُوافِقًا في الحكمِ للمَنطوقِ بِه. يُنظر: ((كشف الأسرار شرح أصول البزدوي)) لعلاء الدين البخاري (2/253). في قَولِه تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أنَّ حُكْمَ الطِّيبِ حُكمُ الحَلْيِ؛ الحَلْيُ يُحَرِّكُ الشَّهوةَ بالسَّماعِ، والطِّيبُ يُحَرِّكُ الشَّهوةَ بالشَّمِّ، وقد نصَّتِ السُّنَّةُ على هذا المفهومِ [728] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 107). ، فنُهِيت المرأةُ عن التعطُّرِ والتطيُّبِ عندَ خروجِها من بيتِها لِيشتَمَّ الرِّجالُ طِيبَها [729]  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/49). ويُنظر ما أخرجه مسلم (443) من حديث زينبَ، امرأةِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما. وما أخرجه أبو داود (4173) والنسائي (5126) من حديث أبي موسى الأَشْعَريِّ رضي الله عنه. .
26- في قَولِه تعالى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ بَيانٌ لعلَّةِ النَّهيِ عن الضَّربِ بالأرجُلِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الخَلخالَ ونحوَه مِن الحُليِّ هو مِن الزِّينةِ الخفيَّةِ [730] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 107). .
27- ليس في كِتابِ اللهِ آيةٌ أكثرَ ضَمائرَ مِن هذه؛ جمَعَتْ خمسةً وعشرينَ ضميرًا للمُؤمناتِ مِن مَخفوضٍ ومَرفوعٍ، وسُمِّيَت لذلك: آيةَ الضَّمائرِ [731] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/385)، ((تفسير أبي حيان)) (8/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/214). .
28- في قولِه تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فائدةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ في أمرِه سبحانَه لجميعِ المؤمنين بالتَّوبةِ -في هذا السياقِ- تنبيهًا على أنَّه لا يخلو مؤمِنٌ مِن بعضِ هذه الذُّنوبِ التي هي: تَركُ غَضِّ البصرِ وحفظِ الفرجِ، وتَركُ إبداءِ الزينةِ وما يتبَعُ ذلك، فمُستقِلٌّ ومُستكثِرٌ [732] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (15/403). . وفيه دليلٌ أنَّ الذَّنْبَ لا يُخرِجُ العبدَ مِن الإيمانِ؛ لأنَّه أمَرَ بالتوبةِ، ولم يَفصِلْ بينَ الكبائِرِ وغيرِها، فقال بعدما أمر بالتوبةِ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ سَمَّاهم مؤمنينَ بعدَ الذَّنْبِ [733] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/510). .
29- في قَولِه تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أنَّ مَن لم يَتُبْ فهو ناقِصُ الإيمانِ؛ لأنَّ التوبةَ مِن مُقتَضياتِ الإيمانِ، وعلى حسَبِ معصيتِه يكونُ نَقصُ إيمانِه [734] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور))  (ص: 198). .
30- في قَولِه تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إثباتُ الأسبابِ؛ حيثُ جَعَلَ اللهُ التوبةَ سببًا للفلاحِ، ففيه رَدٌّ على مَن أنكروا الأسبابَ، وقالوا: إنَّ الأسبابَ مجرَّدُ علاماتٍ لا مُوجِباتٍ [735] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور))  (ص: 198). !
31- قَولُ الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ التعبيرُ بالوصفِ في قولِه: الْمُؤْمِنُونَ إشارةٌ إلى علُوِّ مقامِ التوبةِ، بأنَّه لا يقدِرُ على ملازمتِها إلَّا راسِخُ القدَمِ في الإيمانِ، عارفٌ بأنَّه -وإن بالَغَ في الاجتهادِ- واقِعٌ في النُّقصانِ، وهذا الأمرُ للوجوبِ، وإذا كان للرَّاسخينَ في الإيمانِ، فمَن دُونَه مِن بابِ الأَولى [736] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/264). .
32- في قولِه تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ توجيهُ الخطابِ للذكورِ -مع أنه يشملُ النِّساءَ بلا شكٍّ- فيه إشارةٌ -واللهُ أعلمُ- إلى رعايةِ الرجُلِ للمرأةِ، وأنَّ المرأةَ لا تَستقيمُ إلَّا باستقامةِ الرجلِ، فمِن أسبابِ تفريطِ النساءِ عدمُ رعايةِ الرجالِ لهنَّ، وقد قال اللهُ تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [737] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 195). [النساء: 34].
33- في قَولِه تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ كَرَمُ اللهِ تعالى وفضلُه؛ نأخذُ الكرمَ والفضلَ مِن محبَّتِه للتَّوبةِ، يعني كَوْنَه يُحِبُّ أنْ يتوبَ الناسُ حتى لا يُعاقِبَهم يدُلُّ على كَرَمِه وفضْلِه، وأنَّ رحمتَه سبَقتْ غضبَه؛ بخلافِ مَن لا رحمةَ عندَه [738] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 197). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ شُروعٌ في بَيانِ أحكامٍ كُلِّيَّةٍ شاملةٍ للمُؤمنينَ كافَّةً، يَندرِجُ فيها حُكْمُ المُستأذنينَ عندَ دُخولِهم البيوتَ انْدراجًا أوليًّا. وتلْوينُ الخِطابِ وتَوجيهُه إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتفويضُ ما في حيِّزِه مِن الأوامرِ والنَّواهي إلى رأْيِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّها تكاليفُ مُتعلِّقةٌ بأُمورٍ جُزئيَّةٍ كثيرةِ الوُقوعِ، حَقيقةٌ بأنْ يكونَ الآمِرُ بها والمُتصدِّيَ لِتَدبيرِها حافظًا ومُهيمنًا عليهم. ومفعولُ الأمرِ أمْرٌ آخَرُ؛ قد حُذِفَ تَعويلًا على دَلالةِ جَوابِه عليه، أي: قُلْ لهم: غُضُّوا [739] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/169). .
- وخَصَّ المؤمِنينَ معَ تحريمِه على غيرِهم، لكونِ قِطْعِ ذرائِعِ الزِّنا الَّتي منها النَّظَرُ، هم أحَقُّ مِنْ غيرِهم بها، وأَولَى بذلك مِمَّنْ سِواهم [740] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/26). .
- قَولُه: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ اسمُ التَّفضيلِ أَزْكَى مَسلوبُ المُفاضَلةِ، والمُرادُ تقويةُ تلك التَّزكيةِ؛ لأنَّ ذلك جُنَّةٌ مِن ارتكابِ ذُنوبٍ عظيمةٍ [741] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/204). .
- قَولُه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ تذييلٌ؛ لأنَّه كِنايةٌ عن جزاءِ ما يتضمَّنُه الأمرُ مِن الغضِّ والحِفْظِ؛ لأنَّ المقصَدَ مِن الأمرِ الامتثالُ [742] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/204). .
2- قَولُه تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- قولُه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ عطْفٌ بالنَّهيِ عن إبداءِ مَواقعِ الزِّيَنِ مِن الجسَدِ على الأمرِ بإغضاءِ البصرِ تأْكيدًا [743] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/61). .
- قَولُه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا فيه ذِكْرُ الزِّينةِ دونَ مَواقعِها؛ للمُبالَغةِ في الأمرِ بالتَّصوُّنِ والتَّستُّرِ؛ لأنَّ هذه الزِّينةَ واقعةٌ على مواضعَ مِن الجسَدِ لا يحِلُّ النَّظرُ إليها لغيرِ هؤلاء؛ فنَهى عن إبداءِ الزِّينةِ نفْسِها؛ لِيُعلَمَ أنَّ النَّظرَ إذا لم يحِلَّ إليها لِمُلابسَتِها تلك المواقعِ -بدَليلِ أنَّ النَّظرَ إليها غيرَ مُلابِسَةٍ لها لا مَقالَ في حِلِّه- كان النَّظرُ إلى المواقعِ أنفُسِها مُتمكِّنًا في الحظْرِ، ثابتَ القدمِ في الحُرمةِ، شاهِدًا على أنَّ النِّساءَ حقُّهنَّ أنْ يَحتطْنَ في سَتْرِها، ويتَّقينَ اللهَ في الكشْفِ عنها [744] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/230)، ((تفسير أبي حيان)) (8/32، 33)، ((تفسير أبي السعود)) (6/170). .
- والباءُ في قولِه: بِخُمُرِهِنَّ لتأكيدِ اللُّصوقِ؛ مُبالَغةً في إحكامِ وضْعِ الخِمارِ على الجَيبِ؛ زِيادةً على المُبالَغةِ المُستفادةِ مِن فِعْلِ (يضْرِبْنَ) [745] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/208). .
- وقيل: ضُمِّنَ «يَضرِبنَ» معنى «يُلْقينَ»؛ فلذلك عُدِّيَ بـ «على» [746] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/489). .
- ولَمَّا كان أكثَرُ الزِّينةِ في الأعناقِ والأيدي والأرجُلِ، وكان دوامُ سَترِ الأعناقِ أيسَرَ وأمكَنَ؛ خَصَّها، فقال: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، جمعُ جيبٍ: وهو خَرقُ الثَّوبِ الذي يُحيطُ بالعُنُقِ [747] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/259، 260). .
- قَولُه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فيه إعادةُ لفْظِ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ؛ تأكيدًا للأوَّلِ، وهو قولُه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ المُتقدِّمُ، ولِيَبْنِيَ عليه الاستثناءَ في قولِه: إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... إلخ، الَّذي مُقْتضَى ظاهِرِه أنْ يُعطَفَ على إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ؛ لبُعْدِ ما بيْنَ الأوَّلِ والثَّاني، أي: ولا يبدينَ زينتَهنَّ غيرَ الظاهرةِ إلَّا لمَن ذُكِروا بعدَ حرفِ الاستثناءِ [748] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/105)، ((تفسير أبي السعود)) (6/170)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/208). .
- وفي قولِه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ  ... بدَأَ تعالى بالأزواجِ؛ لأنَّهم المقصودونَ بالزينةِ، ولأنَّ كلَّ بدَنِ الزوجةِ والسُّرِّيَّةِ حلالٌ لهم [749]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/28). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/67)، ((تفسير أبي حيان)) (8/34). .
- قَولُه: أَوِ الطِّفْلِ وضَعَ الواحدَ مَوضِعَ الجمْعِ، حيث لم يقُلْ: (أو الأطفالِ)؛ لأنَّه يُفِيدُ الجنْسَ؛ فلذلك أُجْرِي عليه الجمْعُ في قولِه: الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [750] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/232)، ((تفسير أبي حيان)) (8/35)، ((تفسير البيضاوي)) (4/105)، ((تفسير أبي السعود)) (6/171)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/212). .
- قَولُه: لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ كِنايةٌ عن خُلوِّ بالِهم مِن شَهوةِ النِّساءِ [751] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/212). .
- قَولُه: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ في النَّهيِ عن إبداءِ صَوتِ الحُليِّ بعدَ النَّهيِ عن إبداءِ عَينِها، مِن المُبالَغةِ في الزَّجرِ عن إبداءِ مَوضعِها ما لا يَخْفَى [752] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/233)، ((تفسير البيضاوي)) (4/105)، ((تفسير أبي حيان)) (8/37)، ((تفسير أبي السعود)) (6/171). .
- قَولُه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه تلْوينٌ للخِطابِ، وصرْفٌ له عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الكلِّ بطريقِ التَّغليبِ؛ لإبرازِ كَمالِ العِنايةِ بما في حيِّزِه مِن أمْرِ التَّوبةِ، وأنَّها مِن مُعظَّماتِ المُهمَّاتِ الحقيقةِ بأنْ يكونَ سُبحانَه وتعالى هو الآمرَ بها؛ لِمَا أنَّه لا يكادُ يَخلو أحدٌ مِن المُكلَّفينَ عن نَوعِ تفريطٍ في إقامةِ مَواجبِ التَّكاليفِ كما يَنْبغي [753] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/171). . وقيل: وقَعَ الْتفاتٌ مِن خطابِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى خِطابِ الأمَّةِ؛ لأنَّ هذا تَذكيرٌ بواجبِ التَّوبةِ المُقرَّرةِ مِن قبْلُ، وليس استئنافَ تَشريعٍ. ونبَّهَ بقولِه: جَمِيعًا على أنَّ المُخاطبينَ هم المُؤمِنون والمُؤمناتُ، وإنْ كان الخِطابُ ورَدَ بضميرِ التَّذكيرِ على التَّغليبِ، وأنْ يُؤمِّلوا الفلاحَ إنْ هم تابوا وأنابوا [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/214). .
- والإضافةُ في قولِه: نِسَائِهِنَّ إلى ضَميرِ المؤمناتِ إنْ حُمِلَت على ظاهرِ الإضافةِ، كانت دالَّةً على أنَّهنَّ النِّساءُ اللَّاتي لهنَّ بهنَّ مَزيدُ اختصاصٍ؛ فقيل: المُرادُ نِساءُ أُمَّتِهنَّ، أي: المؤمناتُ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: (أو النِّساءِ)، وإنَّما أضافَهنَّ إلى ضَميرِ النِّسوةِ؛ إتْباعًا لبقيَّةِ المعدودِ؛ ففي هذه الآيةِ خمْسةٌ وعِشرونَ ضَميرًا، فجاء هذا للإتْباعِ، أي: فتكونُ الإضافةُ لغيرِ داعٍ معنويٍّ، بلْ لداعٍ لفظيٍّ تَقْتضيه الفصاحةُ، مِثْلُ الضَّميرينِ المُضافِ إليهما [755] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/209). .
- وفي تَكريرِ الخِطابِ في قولِه: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تأكيدٌ للإيجابِ، وإيذانٌ بأنَّ وصْفَ الإيمانِ مُوجِبٌ للامتثالِ حتْمًا [756] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/171). .