المَبحَثُ الخامِسُ: إلى
الحَرفُ (إلى) هو أحَدُ حُروفِ الجَرِّ، ويُفيدُ انتِهاءَ الغايةِ الزَّمانيَّةِ والمَكانيَّةِ.
فالزَّمانيَّةُ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] .
والمَكانيَّةُ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1] .
وانتِهاءُ الغايةِ هو أصلُ مَعناها؛ لذا اقتَصَرَ سيبَويهِ
والمُبَرِّدُ
وابنُ السَّرَّاجِ
على هذا المَعنى ولَم يَذكُروا غَيرَه
، وكَذا إمامُ الحَرَمَينِ
والقَرافيُّ
والنَّسَفيُّ
.
وقدِ استُعمِلَ حَرفُ (إلى) في مَواضِعَ لا يَصلُحُ فيها تَفسيرُه بانتِهاءِ الغايةِ، فتَوسَّعَ الكوفيُّونَ وحَمَلوه على غَيرِه مِنَ الحُروفِ اتِّساقًا مِنهم مَعَ مَذهَبِهم بجَوازِ نيابةِ حُروفِ الجَرِّ بَعضِها عن بَعضٍ، وأبقى البَصريُّونَ حَرفَ الجَرِّ (إلى) على مَعناه، وضَمَّنوا الفِعلَ مَعنى فِعلٍ آخَرَ يُناسِبُ المَقامَ مُراعاةً لمَعنى (إلى)؛ لأنَّ مَذهَبَهم أنَّ حُروفَ الجَرِّ لا يَنوبُ بَعضُها عن بَعضٍ
.
فمِنَ المَعاني الأُخرى لـ (إلى) غَيرِ انتِهاءِ الغايةِ عِندَ المُجَوِّزينَ لذلك
:
موافقةُ اللَّامِ:
وذلك كقَولِ اللهِ تعالى:
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] ؛ فإنَّ (إلى) هنا بمَعنى اللَّامِ، ويَدُلُّ عليه تَعَدِّي الفِعلِ باللَّامِ في الآياتِ الأُخرى، كما في قَولِ اللهِ تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43] ، وقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس: 35] ، وقَولِ اللهِ سُبحانَه:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]
.
وأكثَرُ البَصريِّينَ لَم يُثبِتْ لــ (إلى) غَيرَ المَعنى الأوَّلِ، وهو انتِهاءُ الغايةِ، أمَّا بَقيَّةُ المَعاني التي تَقَدَّم ذِكرُها مَعَ الشَّواهدِ فإنَّهم يُؤَوِّلونَ تلك الشَّواهِدَ ويُعَلِّلونَ سَبَبَ استِعمالِ الحَرفِ مَكانَ حَرفٍ آخَرَ بأنَّ الفِعلَ إذا كان بمَعنى فِعلٍ آخَرَ، وكان كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفِعلَينِ يَصِلُ إلى مَعمولِه بحَرفٍ غَيرِ الذي يَصِلُ به الآخَرُ، فإنَّ العَرَبَ قد توقِعُ أحَدَ الحَرفينِ مَكانَ صاحِبِه إيذانًا بأنَّ الفِعلَ الذي استُعمِلَ مَعَه حَرفٌ آخَرُ هو بمَعنى الفِعلِ الذي يُستَعمَلُ مَعَه ذلك الحَرفُ عادةً
، ومَثَّلوا لذلك بما يَلي:
قَولُه تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] لمَّا كان الرَّفَثُ بمَعنى الإفضاءِ، والإفضاءُ يَصِلُ إلى مَعمولِه بإلى، جازَ أن يَصِلَ الرَّفَثُ إلى مَعمولِه بإلى التي تَختَصُّ بالإفضاءِ
.
قَولُه تعالى:
مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] لمَّا كان المَعنى: مَن يَنضَمُّ في نُصرَتي إلى اللهِ، وكان (انضَمَّ) يُعَدَّى بـ (إلى) جازَ أن تُستَعمَلَ (إلى) مَعَ أنصاري
.
وذلك إبقاءً للحَرفِ على أصلِ مَعناه ما أمكَنَ ذلك
، ويَكونُ لذلك غَرَضٌ بَلاغيٌّ، وهو الجَمعُ بَينَ مَعنيَيَنِ بأخصَرِ أُسلوبٍ، وذلك بذِكرِ فِعلٍ وذِكرِ حَرفِ جَرٍّ يُستَعمَلُ مَعَ فِعلٍ آخَرَ، فنَكسِبُ بذلك مَعنيَيَنِ: مَعنى الفِعلِ الأوَّلِ، ومَعنى الفِعلِ الثَّاني، وذلك نَحوُ قَولِه تعالى:
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الأنبياء: 77] ؛ فقد ذَهَبَ قَومٌ إلى أنَّ (مِن) هاهنا بمَعنى (على)، وهذا فيه نَظَرٌ؛ فإنَّ هناكَ فرقًا في المَعنى بَينَ قَولِك (نَصَرَه مِنهـ) و (نَصره عليهـ)؛ فالنَّصرُ عليه يَعني التَّمَكُّنَ منه والِاستِعلاءَ عليه والغَلَبةَ، قال اللهُ تعالى:
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة 14]، وقال:
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286]، أي: مَكِّنَّا مِنهم، وليس هذا مَعنى نَصرِه مِنه.
أمَّا (نَصَرناه مِنهم)؛ فإنَّه بمَعنى: نَجَّيناه مِنهم، أو مَنَعناه مِنهم، قال اللهُ تعالى:
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود: 30] ، فليس المَعنى: مَن يَنصُرُني على اللهِ، بَل مَن يُنجيني ويَمنَعُني مِنه؟
وقد يُقالُ: ما الفرقُ بَينَ قَولِنا: (ونَجَّيناه مِنَ القَومِ) وقَولِنا: (نَصَرناه مِنَ القَومِ)، والجَوابُ: أنَّ النَّتيجةَ تَتَعَلَّقُ بالنَّاجي فقَط، فعِندَما تَقولُ: (نَجَّيتُه مِنهم) كان المَعنى أنَّك خَلَّصته مِنهم، ولَم تَذكُرْ أنَّك تَعَرَّضتَ للآخَرينَ بشَيءٍ، كما تَقولُ: (أنجَيتُه مِنَ الغَرَقِ)، ولا تَقولُ: (نَصَرتُه مِنَ الغَرَقِ)؛ لأنَّ الغَرَقَ ليس شَيئًا يُنتَصَرُ مِنه.
أمَّا النَّصرُ منه ففيه جانِبانِ في الغالِبِ: جانِبُ النَّاجي، وجانِبُ الذينَ نُجِّيَ مِنهم، فعِندَما تَقولُ: (نَصَرتُه مِنهم) كان المَعنى: أنَّك نَجَّيتَه وعاقَبتَ أولئك، أو أخَذتَ له حَقَّه مِنهم.
وهذه فائِدةُ التَّضمينِ؛ ففيه كَسبُ مَعنَيَينِ في تَعبيرٍ واحِدٍ: مَعنى الفِعلِ المَذكورِ، والفِعلِ المَحذوفِ الذي ذُكِرَ شَيءٌ مِن مُتَعَلَّقاتِه
.
قال ابنُ تيميَّةَ: (العَرَبُ تُضَمِّنُ الفِعلَ مَعنى الفِعلِ وتُعَدِّيه تَعديَتَه، ومِن هنا غَلِط مَن جَعَل بَعضَ الحُروفِ تَقومُ مَقامَ بَعضٍ، كما يَقولونَ في قَولِه:
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص: 24] ، أي: مَعَ نِعاجِه، و
مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي: مَعَ اللهِ، ونَحوِ ذلك. والتَّحقيقُ ما قاله نُحاةُ البَصرةِ مِنَ التَّضمينِ؛ فسُؤالُ النَّعجةِ يَتَضَمَّنُ جَمعَها وضَمَّها إلى نِعاجِه، وكذلك قَولُه:
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] ضُمِّنَ مَعنى يُزيغونك ويَصُدُّونَك، وكذلك قَولُه:
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأنبياء: 77] ضُمِّنَ مَعنى نَجَّيناه وخَلَّصناه، وكذلك قَولُه:
يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ضُمِّن يَرْوى بها، ونَظائِرُه كَثيرةٌ)
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:
يَتَفرَّعُ على مَعنى (إلى) عَدَدٌ مِنَ الفُروعِ، ومِنها:
1- لَو حَلَف لا تَخرُجُ امرَأتُه إلى العُرسِ، فخَرَجَت مِن أجلِه ولَم تَصِلْ إلى العُرسِ، فلا يَحنَثُ؛ لأنَّ الغايةَ لَم توجَدْ، وكَذا لَوِ انعَكَسَ الحالُ فخَرَجَت لغَيرِ العُرسِ ثُمَّ دَخَلَت إليه، بخِلافِ ما إذا أتى باللَّامِ؛ فقال: للعُرسِ؛ فإنَّه لا يُشتَرَطُ وُصولُها، مَتى خَرَجَت له إمَّا وَحدَه وإمَّا مَعَ غَيرِه طُلِّقَت؛ لأنَّ حَرفَ الغايةِ -وهو (إلى)- لَم يوجَدْ.
ووَجهُ التَّفرِقةِ أنَّ أصلَ (إلى) الغايةُ، وأصلَ (اللَّامِ) للمِلكِ؛ فإن تَعَذَّر حُمِلَ على حَسَبِ ما يَقتَضيه السِّياقُ مِنَ التَّعليقِ والِانتِهاءِ
.
2- غَسلُ المِرفَقَينِ في الوُضوءِ، الوارِدُ في قَولِ اللهِ تعالى:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6] فقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ: هل يَدخُلُ المِرفَقانِ في الغَسلِ أو لا، فذَهَبَتِ الحَنَفيَّةُ
، والمالِكيَّةُ
، والشَّافِعيَّةُ
، والحَنابِلةُ
إلى دُخولِهما، وقيلَ: لا يَدخُلانِ فلا يَجِبُ غَسلُهما
، وسَبَبُ الخِلافِ اختِلافُهم في مَعنى حَرفِ الجَرِّ (إلى) الوارِدِ في الآيةِ، وهل ما بَعدَه يَدخُلُ فيما قَبلَه؟
قال ابنُ رُشدٍ: (اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ غَسلَ اليَدَينِ والذِّراعَينِ مِن فُروضِ الوُضوءِ؛ لقَولِه تعالى:
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6] ، واختَلَفوا في إدخالِ المَرافِقِ فيها؛ فذَهَبَ الجُمهورُ ومالِكٌ والشَّافِعيُّ وأبو حَنيفةَ إلى وُجوبِ إدخالِها، وذَهَبَ أهلُ الظَّاهِرِ وبَعضُ مُتَأخِّري أصحابِ مالِكٍ والطَّبَريُّ إلى أنَّه لا يَجِبُ إدخالُها في الغَسلِ.
والسَّبَبُ في اختِلافِهم في ذلك: الاشتِراكُ الذي في حَرفِ "إلى" وفي اسمِ اليَدِ في كَلامِ العَرَبِ؛ وذلك أنَّ حَرفَ "إلى" مَرَّةً يَدُلُّ في كَلامِ العَرَبِ على الغايةِ، ومَرَّةً يَكونُ بمَعنى "مَعَ"، واليَدُ أيضًا في كَلامِ العَرَبِ تُطلَقُ على ثَلاثةِ مَعانٍ: على الكَفِّ فقَط، وعلى الكَفِّ والذِّراعِ، وعلى الكَفِّ والذِّراعِ والعَضُدِ.
فمَن جَعَلَ "إلى" بمَعنى "مَعَ"، أو فَهِم مِنَ اليَدِ مَجموعَ الثَّلاثةِ الأعضاءِ أوجَبَ دُخولَها في الغَسلِ، ومَن فَهِم مِن "إلى" الغايةَ ومِنَ اليَدِ ما دونَ المِرفَقِ ولَم يَكُنِ الحَدُّ عِندَه داخِلًا في المَحدودِ، لَم يُدخِلْهما في الغَسلِ)
.