المَبحَثُ الرَّابِعُ: أو
يَدُلُّ حَرفُ العَطفِ (أو) على أحَدِ الشَّيئَينِ أوِ الأشياءِ، فهو لتَناوُلِ أحَدِ المَذكورينِ
.
ودَلالةُ (أو) على أحَدِ الشَّيئَينِ هو الأصلُ، ويَتَفرَّعُ عنه مَعانٍ أُخرى يَدُلُّ عليها مِن خِلالِ القَرائِنِ والسِّياقِ؛ منها:
1- التَّخييرُ:وذلك عِندَما تَقَعُ بَعدَ طَلَبٍ وقَبلَ ما يَمتَنِعُ فيه الجَمعُ مَعَ ما قَبلَه
؛ فالتَّخييرُ فيما يَكونُ الإنسانُ مَمنوعًا مِنه، فإذا خُيِّرَ أُبيحَ أحَدُهما، وبَقيَ الآخَرُ على المَنعِ، نَحوُ قَولِك: كُلْ سَمَكًا أوِ اشرَبْ لَبَنًا، وكُنْ عَدوِّي أو صَديقي، وتَزَوَّجْ زَينَبَ أو أُختَها، فهذا على التَّخييرِ في استِعمالِ أحَدِ الشَّيئَينِ، أيَّهما كان، والتَّخييرُ يَمتَنِعُ فيه الجَمعُ؛ فأنتَ تُحِلُّ له واحِدًا مِنهما بغَيرِ عَينِه، فإذا اختارَ أحَدَهما بَقيَ الآخَرُ على ما كان عليه مِنَ المَنعِ
.
2- الإباحةُ:وهيَ الواقِعةُ بَعدَ الطَّلَبِ وقَبلَ ما يَجوزُ فيه الجَمعُ
، ولَفظُها كلَفظِ التَّخييرِ، وإنَّما الفَرقُ بَينَهما أنَّ الإباحةَ يَجوزُ فيها الجَمعُ، وتَكونُ فيما ليس أصلُه الحَظرَ، نَحوُ (جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابنَ سِيرينَ) أي: جالِسْ أيَّهما شِئتَ، وائتِ المَسجِدَ أوِ السُّوقَ، أي: قد أذِنتُ لَك في مُجالَسةِ هذا الضَّربِ مِنَ النَّاسِ، وفي إتيانِ هذا الضَّربِ مِنَ المَواضِعِ، ومِنه أيضًا في القُرآنِ الكَريمِ:
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور: 31] .
وفي حالةِ النَّهيِ تَقولُ: لا تُجالِسْ زَيدًا أو عَمرًا، أي: لا تُجالِسْ هذا الضَّربَ مِنَ النَّاسِ، وعلى هذا قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] . فالإباحةُ يَجوزُ فيها الجَمعُ؛ ولذلك يَحسُنُ وُقوعُ (الواوِ) فيها مَوقِعَ (أو)، فتَقولُ: جالِسِ الحَسَنَ وابنَ سِيرينَ، بخِلافِ التَّخييرِ؛ فإنَّه يَمنَعُ الجَمعَ، ولا تَصلُحُ فيه (الواوُ) في مَوضِعِ (أو)، فلا يَصلُحُ في قَولِك: تَزَوَّجْ هندًا أو أُختَها أن تَقولَ تَزَوَّجْ هِندًا وأُختَها. وأمَّا الفرقُ بَين أو في الإباحةِ وبَينَ الواوِ أنَّه إذا قال: كُلْ خُبزًا أو تَمرًا فأكَلَ واحِدًا مِن هذه الأشياءِ كان مُمتَثِلًا للأمرِ، ولَو كانتِ الواوُ لَم يَمتَثِلْ حتَّى يَجمَعَ بَينَهما مَعًا
.
3- الشَّكُّ:وذلك حينَما يَكونُ المُتَكَلِّمُ شاكًّا في كَلامِه، ولا يَكونُ ذلك إلَّا في الإخبارِ، أمَّا الطَّلَبُ فلا يَقبَلُ الشَّكَّ، ومِثالُه قَولُك: (قامَ زَيدٌ أو عَمرٌو) إذا كُنتَ شاكًّا أيُّهما القائِمُ، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى حِكايةً عن أهلِ الكَهفِ:
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19] ؛ حَيثُ وقَعَت "أو" بَعدَ خَبَرٍ، وهو (لَبِثنا)
.
4- الإبهامُ:إذا صَدَرَ مِنَ العارِفِ بما يُريدُ، فإذا كُنتَ عالِمًا بالأمرِ ولَكِن أرَدتَ أن تُبهِمَه على السَّامِعِ، فهذا إبهامٌ، والمِثالُ الواحِدُ قد يَصلُحُ للشَّكِّ والإبهامِ، فإذا كان المُتَكَلِّمُ شاكًّا في الأمرِ غَيرَ مُتَيَقِّنٍ منه، فهو الشَّكُّ، وإذا كان المُتَكَلِّمُ عارِفًا بالأمرِ ولَكِنَّه يُريدُ إبهامَه على المُخاطَبِ، فهو للإبهامِ، ومِثالُ الإبهامِ قَولُك: (لَقِيتُ زَيدًا أو عَمرًا) وأنتَ تَعلَمُ مَن لَقيتَ، ولَكِنَّك أرَدتَ إبهامَه على السَّامِعِ
.
5- التَّقسيمُ:مِثلُ: الكَلِمةُ: اسمٌ أو فِعلٌ أو حَرفٌ
.
6- الإضرابُ:أي: بمَعنى بَل، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] ، أي: بَل يَزيدونَ -وقيلَ: هيَ هنا للتَّخييرِ، أي: إذا رَآهمُ الرَّائي تخَيَّر بَينَ أن يَقولَ: هم مِئةُ ألفٍ، أو يَقولَ: هم أكثَرُ-، وقَولِ اللهِ تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] ، أي: بَل أشَدُّ قَسوةً
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:يَتَفرَّعُ عن مَعنى (أو) فُروعٌ فِقهيَّةٌ، منها:
اختِلافُ الفُقَهاءِ في عُقوبةِ الحِرابةِ، الوارِدةِ في قَولِ اللهِ تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] ، فيَرى المالِكيَّةُ
أنَّ الإمامَ بالخيارِ في العُقوباتِ المَذكورةِ في حَقِّ كُلِّ قاطِعِ طَريقٍ؛ لأنَّ قَطعَ الطَّريقِ في ذاتِه جِنايةٌ واحِدةٌ، وهذه الأجزيةُ ذُكِرَت بمُقابَلَتِها، فيَصلُحُ كُلُّ واحِدٍ جَزاءً له، فيَثبُتُ التَّخييرُ كما في كَفَّارةِ اليَمينِ
.
ويَرى الشَّافِعيَّةُ
والحَنابِلةُ
أنَّ مَن حارَبَ وقَتَلَ وأخَذَ المالَ صُلِب وقُتِل، ومَن قَتَلَ ولَم يَأخُذْ قُتِلَ، ومَن أخَذَ ولَم يَقتُلْ قُطِع، ووافقَهمُ الحَنَفيَّةُ في ذلك إلَّا في القَتلِ وأخذِ المالِ؛ قالوا: إنَّ الإمامَ بالخيارِ: إن شاءَ قَطَعَ يَدَه ورِجلَه، ثُمَّ قَتَلَه أو صَلَبَه، وإن شاءَ لَم يَقطَعْه، وقَتَلَه أو صَلَبَه
.
وسَبَبُ الخِلافِ هو مَعنى (أو) في الآيةِ؛ فمَن رَأى أنَّها للتَّخييرِ -وهمُ المالِكيَّةُ- حَمَلَ الآيةَ على التَّخييرِ، ومَن رَأى أنَّها للتَّقسيمِ والتَّفصيلِ فصَّل بَينَ مَن قَتَلَ وسَرَقَ، ومَن سَرَقَ ولَم يَقتُلْ، على النَّحوِ السَّابِقِ بَيانُه.
قال البَزْدَويُّ: (فأمَّا قَولُه تعالى:
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [المائدة: 33] فقد جَعَلَه بَعضُ الفُقَهاءِ للتَّخييرِ، فأوجَبوا التَّخييرَ في كُلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ قَطعِ الطَّريقِ، وقُلنا نَحنُ: هذه ذُكِرَت على سَبيلِ المُقابَلةِ بالمُحارَبةِ، والمُحارَبةُ مَعلومةٌ بأنواعِها عادةً بتَخويفٍ، أو أخذِ مالٍ، أو قَتلٍ، أو قَتلٍ وأخذِ مالٍ، فاستَغنى عن بَيانِها، واكتَفى بإطلاقِها بدَلالةِ تَنويعِ الجَزاءِ، فصارَت أنواعُ الجَزاءِ مُقابَلةً بأنواعِ المُحارَبةِ، فأوجَبَ التَّفضيلَ والتَّقسيمَ على حَسَبِ أحوالِ الجِنايةِ وتَفاوُتِ الأجزيةِ)
.
وقال ابنُ رُشدٍ: (سَبَبُ الخِلافِ هَل حَرفُ "أو" في الآيةِ للتَّخييرِ، أو للتَّفصيلِ على حَسَبِ جِناياتِهم؟ ومالِكٌ حَمَل البَعضَ مِنَ المُحارِبينَ على التَّفصيلِ، والبَعضَ على التَّخييرِ)
.
وقال ابنُ السُّبكيِّ: (قال مالِكٌ رَضِيَ اللهُ عنه: "أو" للتَّخييرِ، فيَفعَلُ السُّلطانُ بقاطِعِ الطَّريقِ ما يَراه مِن هذه الأُمورِ. وقال الشَّافِعيُّ وأبو حَنيفةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: للتَّفصيلِ والتَّقسيمِ؛ فمَن حارَبَ وقَتَلَ وأخَذَ المالَ صُلِبَ وقُتِلَ، ومَن قَتَل ولَم يَأخُذْ قُتِلَ، ومَن أخَذَ ولَم يَقتُلْ قُطِعَ)
.