موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (33 - 34)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

يُصَلَّبُوا: يُعلَّقُوا، وتُشدَّ أَصلابُهم على خَشَبٍ للقَتْلِ .
مِنْ خِلَافٍ: أي: يُخالَفُ بين الأيدي والأرْجُلِ في القَطعِ؛ فتُقطَعُ اليدُ اليُمنَى مع الرِّجلِ اليُسرى، والعكس .
يُنْفَوْا: أي: يُطْرَدوا، وقِيل: يُسجَنُوا ويُحبَسُوا؛ لأنَّ المحبوسَ بمنزلةِ المطرودِ مِن الدُّنيا، وأَصْلُ (نفي): الطَّردُ، وتَعريةُ شيءٍ مِن شيءٍ، وإبعادُه منه .
خِزْيٌ: هوانٌ وهلاكٌ، وأصل الخِزي: الإبعادُ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ جزاءَ مَن يُبارِزونَ اللهَ ورسوله بالعداوةِ، ويَعْتَدونَ على أحكامِ دِينِه، ويُفسِدون في الأرضِ بالكُفرِ وعَمَلِ المعاصي؛ مِن إخافةِ السُّبُل، ومِن قَطْعٍ للطُّرق، واغتصابٍ للأموالِ، وانتهاكٍ للحُرُماتِ- يُخبِرُ أنَّ جزاءَهم القَتْلُ، أو الصَلْبُ، أو أنْ تُقطَّعَ أيديهم اليُمنى مع الأَرْجُل اليُسرى، أو يُطْرَدوا مِن البلدِ الذي هم فيه إلى غَيرِه، تِلك العقوبةُ لهم ذُلٌّ وفضيحةٌ في الدنيا، ولهم في الآخِرة عذابٌ عظيمٌ؛ هو عذابُ جَهنَّم.
واسْتَثنى الله تعالى مِنهم مَن تاب، وترَكَ محاربةَ اللهِ ورسوله والسَّعيَ في الأرضِ بالفسادِ مِن قَبلِ أنْ يَقدِرَ عليهم أُولو الأمرِ، فإنْ أتوْا تائِبينَ نادمينَ، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ غفورٌ؛ فلن يُؤاخِذَهم بذُنُوبهم لا في الدُّنيا ولا في الآخِرة، بلْ يَغفِرُها لهم، ورحيمٌ؛ إذ عفا عنهم، ورفَع عنهم العِقابَ.

تفسير الآيتين:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ في الآيةِ الأُولى تغليظَ الإثمِ في قَتْلِ النَّفسِ بغيرِ حقٍّ،، أتْبعَه ببيانِ الفسادِ الذي يُوجِبُ القتلَ؛ فإنَّ بعضَ ما يكون فسادًا في الأرضِ لا يُوجِبُ القتلَ، فقال :
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: إنَّ جزاءَ مَن يُبارزونَ اللهَ تعالى ورسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالكُفرِ والعداوةِ، ويُضادُّونَ اللهَ ورسولَه بالاعتداءِ على أحكامِ الدِّين، فيفعلون المنهياتِ، ويَترُكون المأموراتِ على وجهِ الاستكبارِ والعِنادِ .
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
أي: ويُسارِعونَ في عمَلِ المعاصي في أرضِ الله؛ مِن إخافةِ سُبلِ المؤمنين، أو سُبلِ أهلِ ذِمَّتِهم، وقَطْعِ طُرُقهم، واغتصابِ أموالِهم، وانتهاكِ حُرَمِهم .
أَنْ يُقَتَّلُوا.
أي: جزاءُ أولئك الذين يَفعلونَ ذلك؛ القتلُ .
أَوْ يُصَلَّبُوا.
أي: أو يُوضَعَ الجناةُ مَشدودينَ على خَشبةٍ ونحوها؛ قيل: لقَتْلِهم، وقيل: بلْ يُصلَبوا بعدَ قتْلِهم، وقيل غيرُ ذلك .
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ.
أي: أو تُقطَّعَ أيديهم اليُمنَى وأَرْجُلهم اليُسرى؛ ويكونُ القطعُ في اليدِ مِن مَفْصِلِ الكفِّ مِن الذِّراع، ويكونُ القطعُ في الرِّجلِ من مَفْصِل القدَمِ من العَقبِ .
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
أي: أو يُطرَدُوا مِن البلدِ الذي هُم فيه إلى بلدٍ غيرِه .
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا.
أي: هذا الجزاءُ الذي جُوزُوا به؛ ذُلٌّ وعارٌ وفَضيحةٌ لهم في الدُّنيا .
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم مع ذلك عذابٌ أُخْرويٌّ، وهو عذابُ جهنَّمَ .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.
أي: ما عدَا مَن رجَعُوا إلى اللهِ تعالى، وكفُّوا عن مُحاربةِ اللهِ ورسولِه وعن سَعيهِم في الأرضِ بالفسادِ، فوَضَعوا السِّلاحَ، وكفُّوا عن قَطْعِ الطَّريقِ من تِلقاءِ أنفسِهم، قبلَ أن تَقْدِروا عليهم .
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فاعْلَموا- أيُّها المؤمنون- أنَّ اللهَ تعالى غيرُ مُؤاخِذٍ مَن تاب منهم بذُنوبه، ولكنَّه يَسترُها، ويَتجاوزُ عن المؤاخذةِ بها، في الدُّنيا والآخِرة، فيُسقِطُ عنه ما وجَب عليه من عُقوباتٍ، وهو رحيمٌ به إذْ عفَا عنه، ورفَع ما عليه مِن عقابٍ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: عِظمُ جريمةِ محاربةِ اللهِ ورسولِه، وأنَّ الإنسانَ إذا حاربَ الله ورسوله فإنَّه يُخشَى عليه؛ وذلك لعِظَمِ العقوبةِ، فإنَّ عِظَمَ العقوبةِ يدلُّ على عِظَم الجريمةِ .
2- قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... يقتضي وُجوبَ عِقابِ المحارِبين بما ذكر الله فيها، لأنَّ الحصرَ يفيدُ تأكيدَ النِّسبةِ .
3- يُفيدُ قولُه: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا... الآية: أنَّ اللهَ تعالى يُريدُ مِن عِبادِه أنْ يُطهِّروا الأرضَ مِن الفساد؛ ولذلك عاقَبَ الذين يَسعَونَ في الأرضِ فسادًا بهذه العقوبةِ العظيمةِ .
4- ممَّا تُفيدُه الآيةُ أنَّ قُطَّاعَ الطريقِ يُجمَعُ لهم بين العُقوبةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ؛ لقولِه: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
5- أنَّ هؤلاءِ المجرِمينَ مع عِظَمِ جُرمِهم إذا تابوا قبلَ القُدرةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ ، ويُؤخَذُ سقوطُ الحدِّ من قولِه تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
6- استُدلَّ بقولِه تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أنَّه إذا كانتِ التوبةُ قَبلَ القُدرةِ عليه تَمنَعُ من إقامةِ الحدِّ في الحَرابةِ؛ فغيرها مِن الحدودِ- إذا تاب مِن فِعلها قبلَ القُدرةِ عليه- مِن باب أَوْلى .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...: كلامٌ مُستأنفٌ سِيقَ لبيانِ حُكمِ نوعٍ من أنواعِ القتلِ، وما يَتعلَّقُ به من الفسادِ بأَخْذ المالِ ونظائرِه، وتَعيينِ موجِبِه العاجلِ والآجلِ، إثرَ بيانِ عِظَمِ شأنِ القَتلِ بغيرِ حقٍّ في قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الْأَرْضِ...، وأُدرِجَ فيه بيانُ ما أُشيرَ إليه إجمالًا من الفَسادِ المبيحِ للقَتْل .
2- قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعُ... التعبيرُ بصِيغة التفعُّل في هذه الأفعالِ؛ للمُبالغةِ في العُقوباتِ (القتل، والصلب، والقطع)، وقد قُصِد من المبالغةِ هنا إيقاعُه بدون لِين ولا رِفق؛ تشديدًا عليهم .
3- قوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ فيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ ليفيدَ أنَّه خاصٌّ بهم دونَ الأفرادِ الذين يَعملونَ مِثلَ عَملِهم مِن غيرِ أن يكونوا مُحارِبينَ، ومُغترِّين بالقوَّةِ والعصبيَّة .