موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (27 - 32)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات:

نَبَأَ: النَّبَأُ: الخبرُ الذي له قَدرٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، ويَحصُل به علمٌ أو غَلَبَةُ ظنٍّ، وأَصْلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ وسُمِّيَ الخبرُ نبأً؛ لانتقالِه مِن مكانٍ إلى مكانٍ [603] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/461)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/385)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788- 789). .
قُرْبَانًا: ما يُتقرَّبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن ذِبْحٍ أو غيرِه، وصارَ اسمًا للنَّسيكةِ التي هي الذَّبيحةُ، وأصلُ القُرب: خِلافُ البُعدِ [604] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/80)، ((المفردات)) للراغب (1/664)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/133). .
بَسَطْتَ: مَدَدْتَ، والبَسطُ في الشيءِ: فتْحُه وتَوسعتُه، وقيل: إمدادُه في جميعِ جِهاتِه [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/328)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 118)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 112). .
تَبُوءَ: أي: تَرجِعَ، أو تَنقلِبَ وتَنصرِفَ، ولا يُقال: (باء) إِلَّا بشَرٍّ، ويُقال: باءَ بكذا إذا أقرَّ بِه [606] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 250- 252). .
بِإِثْمِي: أي: بإثمِ قتْلي، والإثمُ والآثام: اسمٌ للأفعالِ المبطِّئةِ عن الثَّوابِ، أو الذَّنبِ الذي تُستَحقُّ العقوبةُ عليه، وأصل الإثم: البُطءُ والتأخُّر [607] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 63)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 81)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 150)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 40). .
فَطَوَّعَتْ: سهَّلَتْ وزَيَّنتْ، أو طاوَعتْ وأعانَتْ، وأجابتْ وانقادَتْ، وأصْل الطَّوع: الانقيادُ والإصحابُ، ويَضادُّه الكُرهُ [608] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/431)، ((المفردات)) للراغب (ص: 425، 529، 531)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 81)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 150)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 583، 587). .
يَبْحَثُ: يَحْفِرُ، والبَحْثُ: طَلَبُ الشَّيءِ في التُّرابِ، ويُطلَقُ كذلك على الكَشفِ والطَّلبِ [609] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (3/207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 245). .
يُوَارِي: يَستُر، مِن واريتُ كذا: إذا سَترتَه [610] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 866)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 165). .
يَا وَيْلَتَا: يا فَضيحَتَاه! والويلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُطلَق كذلِك على حُلولِ الشرِّ، وتُستعمَلُ في التَّحسُّرِ، والويلةُ: الفَضيحةُ والبليَّةُ [611] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (8/366)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 945). .
سَوْءَةَ أَخِي: السَّوْءةُ: العورةُ، وما لا يَجوزُ كَشْفُه مِن الجَسدِ، والمُرادُ هنا بَدَنُه وجيفتُه، وأَصْلُ (سوء): يدلُّ على القُبحِ [612] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (2/237)، ((تفسير ابن جرير)) (8/345)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((تفسير الزمخشري)) (1/626)، ((تفسير ابن عطية)) (2/181). .
النَّادِمِينَ: جمْعُ نادمٍ، وهو المتحسِّرُ مِن تغيُّر رأيٍ في أمْرٍ فائتٍ، مِن نَدِم: إذا تَفطَّنَ لشيءٍ قد كان [613] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/411)، ((المفردات)) للراغب (ص: 796). .
بِالْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالةُ الواضِحةُ؛ يُقال: بانَ الشيءُ وأبانَ، إذا اتَّضحَ وانكَشَف [614] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((المفردات)) للراغب (ص: 157). .
لَمُسْرِفُونَ: لمُفرِطون، والسَّرَف: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعلُه الإنسانُ، وأصلُه: تَعدِّي الحدِّ، والإغفالُ للشَّيء أيضًا [615] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .

المعنى الإجمالي:

يَأمرُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقصُصَ على اليهودِ وغيرِهم خبرَ ابنَي آدَمَ، وهو خبرٌ حقٌّ؛ إذ أخرجَ كلُّ أخٍ منهما شيئًا يتقرَّبُ به إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، فقبِلَ الله قُربانَ أحدِهما، ولم يَقبَلْ مِن الآخَر، فحسَد الذي لم يَتقبَّلِ اللهُ قُربانَه أخاه، فتوعَّده بالقَتْلِ، فقال له أخوه: إنَّما يتقبَّلُ الله من المتَّقينَ، وقال له: إنْ مددْتَ إليَّ يدَك لتقتُلَني، فلنْ أمدَّ يَديَ إليك لأقتلَك، والَّذي يَمنعني مِن ذلِك هو خَوفي مِن اللهِ خالِق جميعِ الخلائقِ ومالِكها ومدبرها سُبحانَه ، وأنِّي أُريدُ أن تتحمَّلَ أنتَ إثمَ قتْلي مع إثمِ ما ارْتكبْتَه مِن قبلُ من المعاصِي، فتكون- بسببِ ذلك- من أصحابِ النار، وهذه هي عقوبةُ كلِّ ظالمٍ
فسهَّلتْ له نفْسُه قتْلَ أخيه فقتَلَه؛ فأصبح مِن الذين خَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم، فلمَّا قتَلَه تحيَّر كيف يصنعُ بأخيه المقتولِ؟! حينها بعَثَ اللهُ غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ ويُثير الترابَ؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيفطِنَ للطريقةِ التي مِن خلالها يُغطِّي بدنَ أخيه، فلام القاتلُ نفْسَه، وقال: عجبًا، كيف لم أَقدِرْ على فِعلِ ما فَعلَه هذا الغرابُ فأُغطِّيَ بدنَ أخي؟! فأصبحَ مِنَ النادمينَ.
ثم أَخبر تعالى أنَّه مِن أجلِ تِلك الجريمةِ التي ارتكبها ولدُ آدَمَ بقَتْلِه أخاه ظلمًا؛ حَكَمَ تعالى على بَني إسرائيل أنَّه مَن قتَلَ نفْسًا واحدةً دون أن تكونَ مُستحِقَّةً للقتْلِ- بسببِ قِصاصٍ أو فَسادٍ في الأرض- فهو بفِعْلِه ذلك مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاس، ومَن أحياها فهو مِثلُ مَن أحيا الناسَ جميعًا، ولقدْ جاءتْ رسلُ اللهِ إلى بني إسرائيل بالبيِّناتِ، ثم إنَّ كثيرًا منهم بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ يَعملون المعاصي، ويرتكبون ما حرَّم اللهُ تعالى، مُنتهِكين حُدودَه..

تفسير الآيات:

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
المناسبةُ بينَ هذه القِصَّةِ والتي قَبلَها مُناسَبةُ تماثُلٍ ومُناسَبةُ تضادٍّ؛ فأمَّا التماثُلُ، فإنَّ في كِلتَيهما عدَمَ الرِّضا بما حَكَم الله تعالى؛ فإنَّ بني إسرائيل عصَوْا أمْرَ رسولِهم إيَّاهم بالدُّخولِ إلى الأرض المقدَّسةِ، وأحد ابنَيْ آدَمَ عصَى حُكمَ الله تعالى بعدَمِ قَبولِ قُربانِه؛ لأنَّه لم يكُنْ مِن المتَّقين، وفي كِلتَيهما جُرأةٌ على اللهِ بعدَ المعصية؛ فبنو إسرائيل قالوا: فاذْهَبْ أنتَ ورَبُّك، وابنُ آدَمَ قال: لأقتُلنَّ الذي تَقبَّل اللهُ مِنه. وأمَّا التضادُّ، فإنَّ في إحْديهما إقدامًا مذمومًا مِن ابنِ آدَمَ، وإحجامًا مذمومًا من بني إسرائيل، وإنَّ في إحْدَيهما اتفاقَ أَخوينِ هما موسى وأخوه على امتثالِ أمْرِ الله تعالى، وفي الأُخرى اختلاف أَخوينِ بالصَّلاحِ والفَسادِ [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/168). قال أبو حيَّان: (فتقدَّم قولُه أوائلَ الآيات: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، وبَعدَه قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وقوله: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ثم قِصَّة محاربة الجبَّارين، وتبيَّن أنَّ عدمَ اتِّباع بني إسرائيل محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما سبَّبه الحسدُ، هذا مع عِلمِهم بصِدقه، وقِصَّة ابْنَي آدمَ انطوتْ على مجموعِ هذه الآيات مِن بَسْط اليَدِ، ومِن الإخبارِ بالمغيب، ومِن عدمِ الانتفاعِ بالقُرب، ودَعواه مع المعصية، ومِن القتْل، ومن الحسَد). ((تفسير أبي حيان)) (4/227). .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27).
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ.
أي: واقْصُصْ- يا محمَّدُ- خبَرَ ابنَي آدَمَ لصُلبِه [617] وقد نقَلَ ابنُ جريرٍ الإجماعَ على ذلك، فقال: (إجماعُ أهلِ الأخبارِ والسِّيَرِ والعِلمِ بالتأويلِ على أنَّهما كانَا ابنَي آدم لصُلبِه، وفي عهدِ آدَمَ وزمانِه) ((تفسير ابن جرير)) (8/325). ونَسبَه ابنُ كثير وغيرُه إلى جمهورِ العلماء. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/81)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/371). وقال ابنُ كَثيرٍ: (... فهذه أقوالُ المفسِّرين في هذه القصَّة، وكلُّهم مُتَّفقون على أنَّ هذين ابنَا آدَمَ لصُلبه، كما هو ظاهرُ القرآن، وكما نطَقَ به الحديثُ في قوله: «إلَّا كان على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفلٌ مِن دَمِها؛ لأنَّه أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْل»، وهذا ظاهرٌ جليٌّ) ((تفسير ابن كثير)) (3/90). والمشهورُ أنَّ اسمَهما: هابيل وقابيل. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/81)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/371). على هؤلاءِ اليَهودِ وغيرِهم، بالصِّدقِ الثابِتِ الذي لا لَبْسَ فيه ولا كَذِبَ، ولا وَهْم ولا تَبديلَ، ولا زِيادةَ ولا نُقصانَ [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/317- 325)، ((تفسير ابن كثير)) (3/81- 82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/285- 286). .
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ.
أي: حين أَخرجَ كلُّ واحدٍ من الأخوينِ شيئًا؛ يُتقرَّبُ به مِنَ اللهِ تعالى، فقُبِلَ مِن أحدِهما دُونَ الآخَرِ [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/326)، ((تفسير ابن كثير)) (3/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/286- 287). قال ابنُ كَثيرٍ: (ثم المشهورُ عندَ الجمهور أنَّ الذي قَرَّبَ الشاةَ هو هابيلُ، وأنَّ الذي قرَّبَ الطعامَ هو قابيل، وأنَّه تُقبِّل من هابيلَ شاتُه، حتى قال ابنُ عبَّاس وغيرُه: إنَّه الكبشُ الذي فُدِي به الذَّبيحُ، وهو مناسبٌ، والله أعلمُ، ولم يُتقبَّل مِن قابيل، كذلك نصَّ عليه غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ والخلفِ) ((تفسير ابن كثير)) (3/85). .
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ.
أي: فلمَّا قُبِلَ مِن أَحدِهما قُربانُه، ولم يُقبَلْ مِن الآخِرِ، وعَلِم الذي لم يُقبَلْ مِنه بذلِك، حسَدَ أخاه، فتوعَّدَه بالقتلِ [620] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229). .
قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
أي: ردَّ عليه أخوه بقَولِه:إنما يُتقبَّل الله العملَ ممَّن اتَّقى الله فيه؛ فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه [621] وهذا اختيارُ ابنِ تَيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (10/322)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 229). واختارَ تفسيرَ التقوى هاهنا بأنَّها امتثالُ الأوامرِ واجتنابُ النَّواهي: ابنُ جرير في ((تفسيره)) (8/327)، وابن عثيمين في ((تفسير سورة المائدة)) (1/287). وقال ابنُ عاشور: (وقد أفاد قولُ ابنِ آدَمَ حصرَ القَبولِ في أعمال المتقين؛ فإذا كان المرادُ من الْمُتَّقِينَ معناه المعروف شرعًا المحكيَّ بلفظه الدالِّ عليه مرادُ ابنِ آدم، كان مفادُ الحصر أنَّ عمَلَ غيرِ المتَّقي لا يُقبل، فيحتمل أنَّ هذا كان شريعتَهم، ثم نُسِخ في الإسلام بقَبول الحسناتِ مِن المؤمِن وإنْ لم يكن متقيًا في سائرِ أحواله، ويحتمل أنْ يُراد بالمتِّقين المُخلِصون في العمل؛ فيكون عدمُ القَبول أمارةً على عدم الإخلاص، وفيه إخراجُ لفظ التقوى عن المتعارَف، ويحتمل أنْ يُريد بالتقبُّل تقبُّلًا خاصًّا، وهو التقبُّلُ التام الدالُّ عليه احتراقُ القُربان، فيكون على حدِّ قولِه تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، أي: هدًى كاملًا لهم، وقوله: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 35] ، أي: الآخرة الكاملة، ويحتمل أن يُريد تقبُّلَ القرابين خاصَّةً، ويحتمل أن يُراد الْمُتَّقِينَ بالقُربان، أي: المريدين به تقوى الله، وأنَّ أخاه أراد بقُربانِه [المباهاة]، ومعنى هذا الحصرِ أنَّ الله لا يَتقبَّل من غيرِ المتَّقين، وكان ذلك شرعُ زمانِهم) ((تفسير ابن عاشور)) (6/170). ، فأيُّ ذَنبٍ لي يُوجِبُ لك قتْلي، إلَّا أنِّي اتقيتُ اللهَ الذي تقواه واجبةٌ عليَّ وعليكَ؟! فكنْ أنتَ من المتقين حتَّى يُتقبَّلَ منك أيضًا [622] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/327)، ((تفسير ابن كثير)) (3/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/170)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/287). .
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28).
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ.
أي: لو مَددتَ إليَّ يدَك مِن أجْلِ أنْ تَقتُلَني، فلنْ أُقابِلَك على صَنيعِك الفاسدِ بمِثلِه [623] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/328-330)، ((تفسير ابن كثير)) (3/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/288). .
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي: لا أُريدُ أنْ أُقدِمَ على قتْلِك؛ لأنَّني أخافُ غضَبَ وعقابَ اللهِ، الَّذي نتوجَّه إليه وحْدَه بالعِبادة، والخالِق المالِك لجميعِ الخلائقِ ومُدبِّرها سُبحانَه [624] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/330)، ((تفسير ابن كثير)) (3/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/288). .
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29).
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ.
أي: إنِّي أُريدُ أن ترجِعَ مُتحمِّلًا إثمَ قَتْلي، مع إثمِك الذي اكتسبتَه من مَعاصٍ سابقةٍ [625] وقد نقَل ابنُ جرير الإجماعَ على هذا المعنى. ((تفسير ابن جرير)) (8/332). ويُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 316). .
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
أي: فتكونَ بذلِك مِن سُكَّانِ الجحيمِ الملازِمينَ لها، وهذا عقابُ كلِّ ظالمٍ [626] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/333)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/289). .
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ.
أي: فسَوَّلتْ له نفْسُه وسَهَّلت عليه قتْلَ أخيه، الذي يَقتضي الشَّرعُ والطبعُ احترامَه والرأفةَ به، فاستجابَ لنَفْسِه الأمَّارةِ بالسُّوءِ، فقَتَلَ أخاه [627] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/336- 340)، ((تفسير ابن كثير)) (3/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/172)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/289). .
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
فصارَ بقَتْلِ أخيه مِن الذين خابوا وخَسِروا دُنياهم وآخِرتَهم [628] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/340)، ((تفسير ابن كثير)) (3/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/289). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلمًا، إلَّا كانَ على ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفلٌ من دَمِها [629] كِفلٌ من دَمِها: أي: ضِعْفٌ من إثمِها، أو: جزءٌ ونصيب من إثمها. ينظر: ((مشارق الأنوار)) للقاضي عياض (1/346)، ((شرح النووي على مسلم)) (11/166)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 271)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/588). ؛ لأنَّه أولُ مَن سَنَّ القَتْلَ )) [630] رواه البخاري (3335) واللفظ له، ومسلم (1677). .
ولَمَّا قتَل أخاه حارَ كيفَ يَصنعُ بأخيه المقتولِ [631] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 229). قال الشوكانيُّ: (قيل: إنَّه لما قتَل أخاه لم يَدرِ كيف يُواريه؛ لكونِه أوَّل ميتٍ مات مِن بني آدمَ) ((فتح القدير)) (2/37). ، قال تعالى:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31).
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ.
أي: فأَرسل اللهُ تعالى له غُرابًا يَحفِرُ في الأرضِ، ويُثير الترابَ- قيل: ليدفن غرابًا ميتًا [632] وهذا اختيارُ ابنِ جرير في ((تفسيره)) (8/340)، والواحدي في ((الوجيز)) (ص: 316)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 229). وقال ابنُ عُثَيمين: (قولُه: يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ذكَر المفسِّرون أنَّ غُرابين اقتتلَا، فقَتَل أحدُهما الآخَرَ، فبَحَث القاتلُ في الأرض ثم دفَن الغراب، ولكن ظاهر الآية خلافُ ذلك؛ لأنَّ الله يقول: بَعَثَ اللهُ غُرَابًا، ولم يقُل: غُرابين) ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (1/289- 290). -؛ ليشاهدَه القاتلُ، فيتفطَّنَ مِن خلال ذلِك إلى الطريقةِ التي يَستُرُ بها بدَنَ أخيه [633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/340، 345)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/290). .
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.
أي: فقال القاتلُ حينئذٍ لائمًا وموبِّخًا لنَفْسِه: كيف لم أقْدِرْ على مِثلِ ما فعَلَه الغرابُ فأسترَ بذلِك بدَنَ أخِي [634] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/345- 346)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/290). ؟!
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
أي: فصارَ نادمًا على قَتْلِه لأخيه [635] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229). وقال ابنُ عُثَيمين: (هذا القاتلُ أصبح مِن النَّادمين على قتلِ أخيه، وعلى عجزِه عن مواراةِ سوأةِ أخيه، فجمَع النَّدم للأمرينِ جميعًا) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/304). .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32).
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: بسببِ جَريرةِ قتْلِ ابنِ آدَمَ أخاه ظُلمًا وعُدوانًا، حَكَمْنا على بني إسرائيلَ بأنَّه مَن تَجرَّأَ منهم فقتَل نفْسًا واحدةً بغير سببٍ مِن قِصاصٍ، أو فسادٍ في الأرضِ- فإنَّ النفسَ إذا قَتَلَت نفْسًا بغيرِ حقٍّ استحقَّتِ القتلَ بها قِصاصًا، وكذا إذا كان منها فسادٌ في الأرض كقَطعِ الطَّريقِ وإخافةِ السَّبيلِ- فهو مِثلُ مَن استحلَّ دِماءَ جميعِ النَّاسِ [636] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/347- 358)، ((تفسير ابن كثير)) (3/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/304- 307). .
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: مَن حرَّم قتْلَ مَن حرَّم اللهُ تعالى قتْلَه، ولم يُقدِمْ على قتْلِه، فقدْ حَيِيَ الناسُ كلُّهم بسَلامتِهم منه [637] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/358)، ((تفسير ابن كثير)) (3/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229). قال ابنُ عُثَيمين: (قولُه: وَمَنْ أَحْيَاهَا، أي: أنْقذَها من الموتِ أو القتْل، وليس المعنى: أنه نفخ فيها الرُّوح؛ لأنَّ ذلك لا يكون إلَّا لله عزَّ وجلَّ، وهذا يشمل أشياء: أولًا: لو هَمَّ الإنسانُ بقتْل شخص فطوَّعت له نفسُه قتْلَ أخيه، ثم استيقظ ورأى أنَّ ذلك حرام، ثم كفَّ عن هذا القتْل، يكون قد أحيا هذه النفس، فبعدَ أن طوَّعت له نفسُه قتْلَه تراجَع. ثانيًا: الدَّفْع: دفْع الصَّائل الذي يريد أن يقتُل شخصًا، فيدفعه، ويكون بهذا أحيا نفْسًا، أي: أنقذَها من القتْل. ثالثًا: ... أن يقَعَ شخصٌ في هلكة كحريق أو غرَق أو هدم، فيأتي شخصٌ آخر فينقذه) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/307). .
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قدْ أتَى رُسلُنا بني إسرائيل ومعهم البراهينُ الظاهرةُ، والدلائلُ الواضحةُ، التي لا يَبقَى معها حُجَّةٌ لأحدٍ [638] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/359)، ((تفسير ابن كثير)) (3/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/308- 309). .
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
أي: ثمَّ إنَّ كثيرًا من بني إسرائيلَ بعدَ مَجيءِ رُسلِنا إليهم بالبيِّناتِ القاطعةِ للحُجَّة، الموجِبةِ للاستقامةِ؛ عاملونَ في الأرضِ بالمعاصي؛ مخالفةً للهُدَى واتِّباعًا للهَوَى، فارْتكبوا محارمَ الله تعالى، وانتهكوا حدودَه سُبحانَه بعدَ عِلْمِهم بها [639] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/359)، ((تفسير ابن كثير)) (3/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/309). .

الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّه قد يشتركُ الرَّجُلانِ في عمل، ويكونُ بينهما مِن الفَرقِ كما بَينَ السَّماءِ والأرضِ؛ إمَّا في ردِّ عَملِ الثاني، وإمَّا في زيادةِ ثوابِ الأَوَّل، وإنْ لم يُحرَمِ الثاني مِن الثَّوابِ، وفي هذه القِصَّةِ أنَّ الثانيَ حُرِمَ مِنَ الثَّوابِ [640] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/283)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/291). .
2- أنَّه لا حرَجَ على الإنسانِ أنْ يُخبِرَ بوصفٍ محمودٍ إذا لم يَقصِدِ الفَخرَ، وإنَّما قَصَدَ مصلحةَ الغَيرِ؛ لقول هذا الذي تُقبِّلَ منه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ لأنَّ هذه الجملةَ تصلُحُ لأنْ يكونَ القائلُ يُريدُ أنْ يحُثَّ هذا على التَّقوى [641] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/288)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/293). .
3- قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ هذا القولُ- بهذا التأكيدِ المنبئِ عن الإصرارِ- ينبعثُ مِن غيرِ موجبٍ، اللهمَّ إلَّا ذلك الشُّعور الخبيث المُنكَر؛ شُعور الحسدِ الأَعْمَى الذي لا يَعمُر نفسًا طيِّبةً، وهذا الخُلقُ مذمومٌ في كلِّ شريعةٍ، وكان ممَّا حمَلَ الأخَ على قتْلِ أخيه حسَدُه على مزيَّةِ القَبولِ [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/170). .
4- أنَّ الإنسان يَنبغي له إذا امتَنَع مِن شيءٍ محرَّم، أنْ يُبيِّنَ لصاحبِه أنَّه إنما امتَنَعَ لا عجزًا ولا خوفًا، ولكن للمعنى الذي مِن أجْلِه امتَنعَ، وذلك لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [644] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/295).        .
5- أنَّ الخوفَ مِن الله هو أقوى الأسبابِ الرادعةِ عن مَعصيتِه؛ لقولِه: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/295). .
6- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ الحذرُ مِن النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوء؛ لأنَّها قد تُطوِّعُ للإنسانِ أكبرَ المعاصي، فيجب على الإنسانِ أن يكونَ حازمًا بالنسبةِ لنفْسِه ويَقِظًا، فلا يَتَّبِعها فيما تُطوِّعُه له مِن معاصِي الله [646] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/298). .
7- يُستفادُ مِن قولِه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ أنَّ كلَّ إنسانٍ حسَدَ أخاه، وحاوَلَ أنْ يَحُولَ بينَه وبينَ التوفيقِ، فإنَّ الخَسارةَ ستعودُ على هذا الحاسدِ [647] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/299). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أهميَّةُ هذه القِصَّة؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمرًا خاصًّا أنْ يَتلُوَها؛ فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [648] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/285- 291). .
2- أنَّه ينبغي لنا أنْ نعرِفَ أخبارَ مَن سبَقَ، لا سيَّما فيما فيه مصلحةٌ؛ لنأخذَ منها العِبَرَ [649] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/291). .
3- يُستفادُ مِن قولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى- له الحُكمُ في القَبولِ والرَّدِّ؛ يَتقبَّلُ أو لا يَتقبَّل، ولكنْ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ جعَلَ للقَبولِ ميزانًا، وجعَل للردِّ ميزانًا [650] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/292). .
4- أنَّ الله سُبحانَه وتعالى موصوفٌ بصِفاتِ الأفعالِ؛ لقولِه: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا، ولقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [651] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/293). .
5- قولُه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ على قولِ الخَوارجِ والمعتزلة لا تُقبل حَسنةٌ إلَّا ممَّن اتَّقاه مطلقًا، فلم يأتِ كبيرةً، وعند المرجئةِ إنَّما يَتقبَّل ممَّن اتَّقى الشِّرْك؛ فجَعَلوا أهلَ الكبائر داخلينَ في اسمِ المتَّقين، وعند أهل السُّنَّة والجماعة يُتقبَّل العملُ ممَّن اتَّقى الله فيه فعَمِلَه خالصًا لله، موافقًا لأمر الله؛ فمَن اتَّقاه في عَملٍ تقبَّله منه، وإنْ كان عاصيًا في غيرِه، ومَن لم يتَّقِه فيه لم يتقبَّلْه منه، وإنْ كان مطيعًا في غيرِه [653] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/322). .
6- يُستفادُ من قولِه: إِنِّي أُرِيدُ إثباتُ الإرادةِ للعَبدِ، وأنَّ هذا معلومٌ منذ خُلِق البَشرِ، فيكونُ في ذلِك ردٌّ على الجَبريَّةِ الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ ليس له إرادةٌ، وإنَّما يَفعَلُ الشيءَ قهرًا وجبرًا [654] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/296). .
7- أنَّ مَن أُريد قتلُه ولم يُدافِعْ عن نَفْسِه خوفًا مِن الإثمِ [655] قال ابنُ عُثيمين: (لأنَّه ربَّما يَقتُلُ الصَّائِلَ فيتعَجَّلُ؛ لأنَّ الواجِبَ في دَفعِ الصَّائِلَ أن يُدافَعَ بالأسهَلِ فالأسهَلِ، فإن رجَعَ عن صَولِه بالتَّهديدِ لم يُضْرَب، وإن رجَعَ بالضَّربِ اليَسيرِ لم يُضرَبْ كثيرًا، وإن رجع بالضَّربِ الكثيرِ لم يُقتَل، وإن لم يندفِعْ إلا بالقَتلِ فالحُكم أنَّه يُقتَل، إلَّا أنَّ العُلماءَ- رَحِمَهم اللهُ- استثَنَوْا من ذلك مسألةً، وقالوا: ما لم يَخَفْ أن يبادِرَه بالقَتلِ، فإن خاف أن يبادِرَه بالقتلِ، فلا بأسَ أن يقتُلَه لأوَّلِ وَهلةٍ، كما لو كان هذا الصَّائِلُ معه سلاحٌ أشهَرَه على صاحِبِه، وصاحِبُه يخاف أن يُطلِقَه عليه فيقتُلَه، فحينئذٍ لا حَرَجَ أن تبادِرَه بالقَتلِ؛ لأنَّ هذا الصَّائِلَ ربَّما لا يعطيكَ فُرصةً أن تدفَعَه بيدِك مثلًا، أو تصيحَ به، أو ما أشبَهَ ذلك، وحينئذٍ لا بأسَ أن تَبدُرَه بالقَتلِ) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/296). ، فإنَّه لا حرَجَ عليه؛ لقوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [656] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/296). .
8- قولُه تَعالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ يدلُّ على أنَّ اللهَ عزَّ ذِكرُه قد كان أمَرَ ونَهَى آدَمَ بعدْ أنْ أَهبطَه إلى الأرضِ، ووعَد وأَوْعَد، ولولا ذلِك ما قال المقتولُ للقاتلِ: فتكونَ مِن أصحابِ النارِ بقَتْلِك إيَّاي، ولا أخْبَره أنَّ ذلك جزاءُ الظَّالمين [657] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/333). .
9- في قولِه تَعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ إن قيل: كيف يُعقَلُ أن يبوءَ القاتلُ بإثم المقتولِ مع أنَّه تعالى قال: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ، فالجواب: أنَّ المرادَ تحملُ إثْمَ قتلي وإثمِك الذي كان مِنك قبلَ قَتْلي، وهذا بحَذْفِ المضافِ، أو أن يكونَ المرادُ ترجِع إلى اللهِ بإثمِ قتْلي وإثمك الذي مِن أجْلِه لم يُتقبَّل قُربانُك [658] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/340). .
10- إذا قيل: كيف جازَ أن يقولَ: إِنِّي أُرِيدَ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ مع أنَّه لا يجوزُ للمسلمِ أن يُريد من غيرِه أن يَعصيَ اللهَ؟ فالجواب من عِدَّة وجوه:
الأوَّل: أنَّ المعنى إنِّي أُريد أن تبوءَ بإثمِ قتْلي إنْ قتَلْتَني؛ لأنِّي لا أَقتُلك، فإنْ أنتَ قتلتَني فإنِّي مريدٌ أنْ تبوءَ بإثمِ مَعصيتِك اللهَ في قتْلِك إيَّاي، وهو إذا قتَلَه فهو لا محالةَ باءَ به في حُكمِ الله، فإرادتُه ذلك غيرُ موجِبةٍ له الدُّخولَ في الخطأ.
الثاني: أنَّ المراد: إنِّي أُريد أن تبوءَ بعقوبةِ قتْلي، ولا شكَّ أنه يجوزُ للمظلومِ أن يُريد مِن الله عقابَ ظالِمِه.
الثَّالث: أنَّه رُوِيَ أنَّ الظالم إذا لم يجِدْ يوم القيامة ما يُرضِي خَصمَه أُخِذ مِن سيِّئات المظلومِ وحُمِلَ على الظالم؛ فعلى هذا يجوزُ أن يُقال: إنِّي أُريدُ أن تبوءَ بإثمي في أنَّه يُحمَلُ عليك يومَ القيامة إذا لم تجِدْ ما يُرضيني، وبإثمِك في قتْلِك إيَّاي [659] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/333)، ((تفسير الرازي)) (11/340). .
11- قولُه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا... الآية، أصلٌ في دفنِ الميِّت [660] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 110). .
12- أنَّ أفعالَ الحيوانِ كأفعالِ الإنسانِ؛ مخلوقةٌ للهِ وبإرادتِه؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/299). .
13- أنَّ الحيواناتِ قد تكونُ مُرشِدةً للبَشرِ كما في هذه القِصةِ؛ الغراب أرْشدَ ابنَ آدَمَ إلى أنْ يَحفِرَ لأخيه ويَدفنَه، وصارتْ سُنَّةَ البَشرِ إلى يومِنا هذا، إلَّا مَن ضلَّ عنِ الصِّراطِ المستقيمِ؛ لقولِه تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا [662] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/123)، ((تفسير ابن عادل)) (7/296)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/286)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/300). .
14- يُستفادُ مِن قولِه: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا أنَّ الله سُبحانَه تعالى يُيسِّرُ للإنسانِ إذا ضاقتْ به الأرضُ ما لم يطرأْ له على بالٍ؛ فإنَّ هذا الرَّجُلَ ضاقتْ عليه الأرضُ؛ ماذا يَصنَعُ بأخيه الذي قتَلَه؟ إلى أن بعَث اللهُ هذا الغرابَ [663] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/122)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/301). .
15- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ الواجبَ في الدَّفْنِ ما تُوارَى به السَّوأةُ، أي: ما يُغطَّى به الجِسمُ، لكنَّ العلماء رحِمهم الله زادوا على ذلِك شرطًا لا بدَّ منه، وهو أن يكونَ الدفنُ مانعًا من وصولِ السِّباع إليه، ومن خروجِ رائحَتِه [664] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/302). .
16- يُستفادُ مِن قولِه: كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ؛ لأنَّ القبر يُواري البدنَ كلَّه؛ ولهذا قال العلماءُ رحمهم الله: إنَّ بدَنَ الميِّتِ كلَّه عورةٌ، لكن هذا بالنسبة إلى وجوبِ تَعميمِ الكفنِ لا بالنِّسبةِ للنَّظَرِ [665] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/302) . .
17- في قولِه تعالَى: كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ مَشهدٌ عظيمٌ؛ وهو مشهدُ أوَّلِ حَضارةٍ في البَشر، وهي مِن قَبيلِ طلبِ سَتْرِ المشاهِدِ المكروهةِ، وهو أيضًا مشهدُ أوَّلِ عِلمٍ اكْتَسبَه البشرُ بالتَّقليدِ وبالتَّجرِبةِ، وهو أيضًا مَشهدُ أوَّلِ مظاهرِ تلقِّي البشرِ معارفَه من عوالمَ أضعفَ منه، كما تَشبَّه الناسُ بالحيوانِ في الزِّينةِ، فلَبِسوا الجلودَ الحسنةَ الملوَّنة، وتَكلَّلوا بالرِّيشِ المُلوَّن، وبالزُّهورِ والحجارةِ الكريمةِ [666] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/174). .
18- يُستفادُ مِن قَوْلِه: يَا وَيْلَتَى أنَّ فاعلَ المعصيةِ إذا لم يتُبْ فإنَّه يُجازَى بالخسرانِ والنَّدمِ، وضِيقِ النَّفْس [667] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/303). .
19- قولُه تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ الظاهرُ أنَّ نَدمَه لم يكُن ندمَ التوبةِ، وإلَّا لقبِلَ اللهُ توبتَه، وإنَّما كان الندمَ الناشئَ من عدمِ جدوى فِعْلَتِه، وما أعقبَتْه له مِن تَعبٍ وعناءٍ وقلقٍ، ومصداقُ ذلك ما جاءَ في الصحيح: ((ما مِن نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلمًا إلَّا كان على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفلٌ مِن دَمِها؛ ذلك لأنَّه أَوَّلُ مَن سَنَّ القتلَ )) [668] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/174). أخرجه البخاري (3335)، ومسلم (1677) باختلاف يسير من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ ولفظ البخاري: ((لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)) ، وقيل: حتى وإن كان ندمَ توبةٍ فلم يكن موفيًا شروطَه، فلم يقبلْ منه، أو نَدِمَ ولم يستمرَّ ندمُه، وقيل غير ذلك [669] يُنظر ((تفسير القرطبي)) (6/142)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/539). .
20- قولُه تَعالَى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه دليلٌ على أنَّ القتلَ يجوزُ بأحدِ أمرينِ: إمَّا أن يَقتُل نفْسًا بغيرِ حقٍّ متعمِّدًا في ذلك، فإنِّه يَحِلُّ قتْلُه، إنْ كان مُكلَّفًا مُكافِئًا، ليس بوالدٍ للمقتولِ، وإمَّا أنْ يكونَ مُفسِدًا في الأرض، بإفسادِه لأديانِ الناسِ أو أبدانِهم أو أموالِهم، كالكفَّارِ المرتدِّينَ والمحاربينَ، والدُّعاةِ إلى البِدعِ الذين لا ينكَفُّ شَرُّهم إلَّا بالقَتْلِ، وكذلك قُطَّاعُ الطريقِ ونحوُهم، ممَّن يَصولُ على الناس لقَتْلِهم، أو أخْذِ أموالِهم [670] يُنظر: ((تفسير السعدي) (ص: 229). .
21- إثباتُ العلةِ للأحكامِ الشرعيَّة؛ لقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وهذه مِن أقوى صِيَغ التَّعليلِ، وإثباتُ العلَّة والحكمةِ لا شكَّ أنَّها مِن كمالِ الله عزَّ وجلَّ، فاللهُ تعالى لا يُشرِّع شيئًا إلا لحكمةٍ، ولا يُقدِّر شيئًا إلا لحكمةٍ [671] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/309). .
22- يُستفادُ مِن قولِه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ اللهَّ عزَّ وجلَّ ضاعَفَ العقوبةَ على كلِّ مَن قتَلَ نفسًا بغير نفْسٍ أو فسادٍ في الأرضِ؛ حيث جعَلَه كالذي قتَل الناسَ جميعًا [672] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/312). .
23- يُستفادُ مِن قولِه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ... جوازُ تخصيصِ مُعيَّنٍ في الحُكم وإنْ كان عامًّا؛ لكونِه أكثرَ الناسِ عملًا به؛ وجْهُه أنَّ الله خصَّ هذه الكتابةَ على بني إسرائيل مع أنَّها عامَّة؛ لأنَّهم هم أكثرُ مَن انتَهَكوا حُرماتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بقتْلِ النُّفوسِ [673] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/312). .
24- يُستفادُ مِن قولِه: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، أنَّ الفسادَ في الأرض مبيحٌ لقتْل النَّفْس، ولكنَّه مقيَّدٌ بالأدلَّة الأخرى الدالَّةِ على أنَّه ليس كلُّ فسادٍ يُبيح قتْلَ النَّفسِ، بل منه ما يُبيحُ القتلَ، ومِنه ما يُبيح دونَه، فتُحمَل هذه الآيةُ على النُّصوصِ الدالَّة على التَّخصيصِ [675] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/315). .
25- يُستفادُ مِن قولِه: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا أنَّ إنقاذَ المعصومِ كإنقاذِ جميعِ المعصومينَ؛ اعتبارًا بالجِنس، فمَن أنقَذَ معصومًا من هَلَكةٍ، فكأنَّما أنقذَ النَّاسَ جميعًا باعتبارِ الجِنس، كما أنَّ مَن كذَّب رسولًا، فكأنَّما كذَّب جميعَ الرُّسلِ [676] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/315). .
26- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ رُسُلُنَا: الَّذين أرسلَهم اللهُ عزَّ وجلَّ، فأضافَ الرُّسلَ إليه؛ لأنَّه هو الذي أرْسلَهم، وربَّما نقول: وتشريفًا لهم؛ لأنَّ الرسولَ يَشْرُفُ بشرفِ مُرسِله، فاللهُ عزَّ وجلَّ شرَّفهم بإضافةِ رِسالتهم إليه جلَّ وعلا، وقد تأتي الرسالةُ مضافةً إلى المرسَل إليهم، مِثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الأعراف: 101] ، ولا تناقُضَ بينهما، فهم رسلُ اللهِ؛ لأنَّه هو الذي أرسلَهم، ورسلٌ إلى الخَلْق؛ لأنَّهم بلَّغوهم رسالاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ [677] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/308). .
27- أنَّ مَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فهو معذورٌ؛ لقولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ، وهذا لإقامةِ الحُجَّة عليهم، والنُّصوصُ في هذا واضحةٌ؛ قال الله تعالى:رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [678] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/316). [النساء: 165] .
28- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ مَحبَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ للإعذارِ وإقامةِ الحُجَّةِ؛ حيثُ جعَل مع كلِّ رسولٍ آيةً بيِّنةً يُؤمِنُ على مِثلِها البشرُ، حتَّى لا يقولَ الناسُ: مَن قال: إنَّ هذا رسولٌ؟ أينَ البيِّنةُ على أنَّ هذا رسولٌ؟ فإذا جاءَ بالآياتِ البيِّناتِ قامتِ الحُجَّةُ [679] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/316). .
29- يُستفادُ مِن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ العلمُ بشراسةِ بني إسرائيلَ، وأنَّهم أهلُ الغَطْرسةِ والاستكبارِ والتَّكذيب، وأنَّ بني إسرائيلَ مع الرُّسلِ المبيِّنينَ لم يَهتدوا، بل كثيرٌ منهم- بعدَ هذا البيانِ، وبعدَ هؤلاءِ الرُّسلِ- مُسرِفونَ مُتجاوِزونَ للحدِّ [680] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/318). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ:
- فيه إيجاز بالحذف، والتقدير: كأنَّه قال: لِمَ تقتلُني؟ قال: لأنَّ قُربانك صار مقبولًا، فقال: وما ذنبي؛ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [681] ينظر: ((تفسير الرازي)) (11/339)، ((تفسير أبي حيان)) (4/228). ؟!
- وفيه تعريض؛ إذ المعنى: إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المتَّقين، لا مِن غَيرِهم، وإنَّما تقبَّلَ قُرباني، وردَّ قُربانَك لِمَا فينا من التَّقوى وعَدمِه، أي: إنما أُتِيتَ من قِبَلِ نفْسِك لا مِن قِبَلي؛ فلماذا تَقتُلني؟! ولم يُصرِّحْ بذلك؛ بل سَلَك مَسْلَكَ التَّعريضِ حَذَرًا من تهييجِ غَضَبِه، وحملًا له على التقوى، والإقلاعِ عمَّا نواه [682] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/26، 27)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/170). .
2- قوله: مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ: جملة اسميَّه مُصدَّرة بـ(ما) الحجازيَّة المفيدة لتأكيد النَّفي بما في خبرها بِباسِطٍ من الباء؛ للمبالغة في إظهار براءتِه عن بَسْطِ اليد، وللتبرِّي عن هذا الفِعل الشَّنيع رأسًا، والتحرُّز من أن يُوصَفَ به، ويُطلَق عليه [683] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/625)، ((تفسير البيضاوي)) (2/122)، ((تفسير أبي حيان)) (4/229)، ((تفسير أبي السعود)) (3/27). .
3- قوله: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فيه تشبيهٌ؛ حيثُ شبَّه قَتْلَ أخيه بشيءٍ مُتعاصٍ عنه ولا يُطيعه؛ بسببِ معارضةِ التعقُّلِ والخشيةِ؛ وشُبِّهتْ داعيةُ القتْلِ في نفْسِ القاتِلِ بشخصٍ يُعِينُه، ويُذلِّلُ له القتْلَ المتعاصِي [684] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/172). .
- وفيه: إطنابٌ حسَنٌ، وكان مقتضَى الإيجازِ أنْ يَحذف فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، ويَقتصر على قولِه: فَقَتَلَهُ، لكن عدَلَ عن ذلك؛ لقصدِ تفظيعِ حالةِ القاتلِ في تصويرِ خواطرِه الشِّرِّيرة، وقَساوة قلبِه؛ إذْ حدَّثه بقَتْلِ مَن كان شأنُه الرحمةَ به والرِّفقَ [685] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/172). .
4- قوله: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ: الاستفهامُ فيه للإنكارِ والنَّفي [686] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/234)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/173). .
5- قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ تَمثيليٌّ، ومناطُ التَّشبيهِ اشتراكُ فِعلَي القتْلِ في هتْك حُرمةِ الدِّماءِ والتجرُّؤِ على الله، وتَشجيعِ النَّاس على القتلِ، والمقصودُ مِن تشبيهِ قتلِ النَّفسِ الواحدةِ بقتْلِ النُّفوسِ: المبالغةُ في تَعظيمِ أمرِ القَتْلِ العَمْدِ العُدوانِ، وتَفخيمُ شأنِه، يعني كما أنَّ قَتْلَ كلِّ الخَلقِ أمرٌ مُستعظَمٌ عند كلِّ أحدٍ، فكذلك يجبُ أن يكونَ قتلُ الإنسانِ الواحدِ مُستعظَمًا مَهِيبًا، فالمقصودُ مشاركتُهما في الاستعظامِ، لا بيانُ مشاركتِهما في مِقدارِ الاستعظامِ [687] ينظر: ((تفسير الرازي)) (11/344)، ((تفسير أبي السعود)) (3/30)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/463). .
والتشبيهُ بين قاتِلِ النَّفسِ وقاتِل الكلِّ قد يَحصُل مِن ثلاث جِهاتٍ لا مِن جميعها. إحداها: القَوَد-القِصاص-؛ فإنَّه واحدٌ. والثانية: الوعيدُ؛ فقد وعَدَ اللهُ قاتلَ النَّفسِ بالخلودِ في النَّار. والثالثة: انتهاكُ الحُرمةِ؛ فإنَّ نفسًا واحدةً في ذلك وجميعَ الأنفسِ سواءٌ، والمنتهِك في واحدةٍ ملحوظٌ بعينِ مُنتَهِكِ الجميعِ [688] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/238). .
6- قوله: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا فيه: تشبيهٌ؛ حيث شبَّه الواحدَ بالجميعِ وجعَل حُكمَه كحُكمِهم؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يُدلَى بما يُدلَى به الآخرُ من الكرامةِ على الله، وثبوتِ الحُرمةِ، فإذا قُتِل فقدْ أُهينَ ما كَرُم على اللهِ، وهُتِكتْ حُرمتُه، وعلى العكس؛ فلا فرقَ إذَنْ بين الواحدِ والجميعِ في ذلك، والفائدةُ في ذِكْر ذلك هي: تعظيمُ قَتْل النَّفْسِ وإحيائِها في القلوبِ؛ ليشمئزَّ الناسُ عن الجَسارةِ عليها، ويَتراغَبوا في المحاماةِ على حُرمتِها؛ لأنَّ المتعرِّضَ لقَتْلِ النَّفسِ إذا تَصوَّرَ قتْلَها بصورةِ قتْلِ الناسِ جميعًا عَظُمَ ذلك عليه؛ فثبَّطَه، وكذلِك الذي أرادَ إحياءَها [689] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/626). .
7- قوله: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: تَذييلٌ لحُكمِ شَرْعِ القِصاصِ على بَني إسرائيلَ، وهو: خبرٌ مُستعمَلٌ في الكِنايةِ عن إعراضِهم عن الشَّريعة، وأنَّهم- مع ما شُدِّد عليهم في شأنِ القتلِ- لم يَزالوا يَقتُلون، كما أشْعَر به قولُه: بَعْدَ ذَلِك، أي: بعدَ أنْ جاءتْهم رسُلُنا بالبيِّناتِ، وحُذِف مُتعلِّق (مُسْرِفون)؛ لقَصدِ التَّعميمِ، والمرادُ: مُسرِفون في المفاسدِ التي مِنها قتْلُ الأنفسِ [690] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/179). .
- وقوله: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِي الْأَرْضِ على الخبرِ لَمُسْرِفُونَ؛ للاهتمامِ، وهو يُفيدُ زيادةَ تفظيعِ الإسرافِ فيها مع أهميَّةِ شأنها [691] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/179). .
- وفيه مِن الفَصاحةِ: تأكيدُ الخبر؛ إذ الحاجةُ تدْعو إلى تَأكيدِ الخبرِ، والمقامُ يَدعو إلى توكيدِ الخبرِ، وإنْ كان المخبِرُ من أهلِ الصِّدق، حتَّى يَطمئنَّ المخاطَبُ، وقد أُكِّدَ هذا الخبرُ بمؤكِّدين، وهما: إِنَّ واللام في لَمُسْرِفُونَ [692] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/127)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/290)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/318). .