المَبحَثُ السَّادِسُ: الباءُ
الباءُ: حَرفُ جَرٍّ يُفيدُ مَعنى الإلصاقِ، وهو تَعلُّقُ أحَدِ المَعنَيَينِ بالآخَرِ؛ فإذا قُلتَ: "مَرَرتُ بزَيدٍ"؛ فقد عَلَّقتَ المُرورَ به؛ فـ "زَيدٌ" مُتَعَلِّقُ المُرورِ
، أو هو أن يُضافَ الفِعلُ إلى الاسمِ ويُلصَقَ به بَعدَ ما كان لا يُضافُ إليه لَولا دُخولُها
، والإلصاقُ أصلُ مَعاني الباءِ، ولَم يَذكُرْ سِيبويهِ له إلَّا هذا المَعنى
، وهو ضَربانِ:
إلصاقٌ حَقيقيٌّ: نَحوُ: أمسَكتُ بالحَبلِ، أي: قَبضتُه.
وإلصاقٌ مَجازيٌّ: نَحوُ: مَرَرتُ بزَيدٍ، أي: ألصَقتُ مُروري بمَكانٍ يَقرُبُ مِن زيدٍ
.
ومِنَ المَعاني التي ذُكِرَت للباءِ:
1- التَّعديةُ:أي: تَدخُلُ الباءُ على فِعلٍ لا يَتَعَدَّى فتَجعَلُه يَتَعَدَّى بنَفسِه، وبذلك تُصَيِّرُ الفاعِلَ مَفعولًا، وتُسَمَّى أيضًا باءَ النَّقلِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] ، وأصلُه: ذَهَبَ نورُهم
.
2- الاستِعانةُ:وهيَ الدَّاخِلةُ على آلةِ الفِعلِ، نَحوُ: "ضَرَبتُ بالسَّيفِ"، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38]
.
3- السَّبَبيَّةُ:وهيَ التي تَحسُنُ غالِبًا في مَوضِعِ (اللَّامِ)، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54]
.
4- المُصاحَبةُ:وهيَ التي تَحسُنُ في مَوضِعِها (مَعَ)، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى:
اهْبِطْ بِسَلامٍ [هود: 48]
.
5- التَّوكيدُ:قد تُزادُ الباءُ في خَبَرِ النَّفيِ مِن أجلِ التَّوكيدِ، نَحوُ: ليس زَيدٌ بقائِمٍ، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، وجاءَت أيضًا زائِدةً للتَّوكيدِ كما في قَولِ اللهِ تعالى:
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166]
.
6- التَّبعيضُ
:أي: بمَعنى (مِن)، وفي هذا المَعنى خِلافٌ بَينَ جُمهورِ أهلِ اللُّغةِ والأُصوليِّينَ؛ فأثبَتَ هذا المَعنى الأصمَعيُّ، والفارِسيُّ، وابنُ مالِكٍ
، ومثَّلوا له بقَولِ اللهِ تعالى:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ، وأثبَتَه بَعضُ الشَّافِعيَّةِ
.
ومَنَعَ ابنُ جِنِّي أن تَأتيَ الباءُ للتَّبعيضِ، فقال: (فأمَّا ما يَحكيه أصحابُ الشَّافِعيِّ -رَحِمَه اللهُ- عنه مِن أنَّ الباءَ للتَّبعيضِ فشَيءٌ لا يَعرِفُه أصحابُنا ولا وَرَد به ثَبَتٌ)
، وكَذا مَنَعه الحَنَفيَّةُ
، والمالِكيَّةُ
، والحَنابِلةُ
.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:يَظهَرُ أثَرُ الاختِلافِ في مَعنى الباءِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
المِقدارُ الواجِبُ مَسحُه مِنَ الرَّأسِ في الوُضوءِ؛ حَيثُ اختَلَف العُلَماءُ في ذلك، فيَرى المالِكيَّةُ
، وهو رِوايةٌ عنِ الحَنابِلةِ
: أنَّه يَجِبُ مَسحُ جَميعِ الرَّأسِ، ويَرى الشَّافِعيَّةُ
أنَّ الواجِبَ مَسحُ بَعضِ الرَّأسِ، وسَبَبُ الاختِلافِ هو مَعنى الباءِ الوارِدُ في قَولِ اللهِ تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6]
.
وقد ذَهَبَ الحَنَفيَّةُ إلى رَأيِ الشَّافِعيِّ لَكِن لمَعنًى آخَرَ
.
قال المازَريُّ: (حَرفُ الباءِ: وقدِ اختَلَف النَّاسُ فيه؛ فالشَّافِعيُّ يَراه للتَّبعيضِ؛ ولهذا لَم يوجِبْ إيعابَ مَسحِ الرَّأسِ في الوُضوءِ، بَل رَأى الإجزاءَ يَحصُلُ بمَسحِ بَعضِه؛ لقَولِه تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، والباءُ هاهنا تُفيدُ التَّبعيضَ.
وقال أصحابُنا: بَلِ الواجِبُ إيعابُ جَميعِ الرَّأسِ، بناءً مِنهم على إنكارِ القَولِ بأنَّ الباءَ تُفيدُ التَّبعيضَ، والذي قاله أصحابُنا مِن إنكارِ كَونِها مُفيدةً للتَّبعيضِ هو الذي عليه أئِمَّةُ النُّحاةِ)
.
وقال الطُّوفيُّ: (وكذلك الباءُ في قَولِه عَزَّ وجَلَّ:
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائِدة: 6] تَرَدَّدَ بَينَ الإلصاقِ والتَّبعيضِ، على ما ادَّعاه الشَّافِعيَّةُ، ونَقَلوه عنِ الشَّافِعيِّ، فانبَنى عليه الخِلافُ في وُجوبِ استيعابِ الرَّأسِ بالمَسحِ)
.