موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: حَرفُ الباءِ


الباءُ: حَرفٌ مختَصٌّ بالاسمِ، وهي أحَدُ حُروفِ الجَرِّ، وهي على ضربينِ: زائِدةٌ، وغيرُ زائدةٍ.
فالزَّائدةُ تأتي للتأكيدِ، مِثلُ التي تدخُلُ على خبرِ (ليس) أو فاعِلِ (كفى)؛ نَحْوُ قَوْلِه تعالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ، أي: أليس اللهُ كافيًا، وقَولِه تعالَى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الإسراء: 96] ، أي: كفى اللهُ شهيدًا [18] يُنظَر ذلك في: مَبحَثِ زيادةِ حُروفِ الجَرِّ، من كتابِ النَّحوِ مِن الموسوعةِ. .
وتكونُ هذه الباءُ زائدةً في سِتةِ مَواضعَ:
1ـ تكونُ زائدةً مع الفاعلِ، كقولِه تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 79] .
2ـ مع المفعولِ، كقولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] .
3ـ مع المبتدأِ، كقولِك: بحَسْبِكَ زَيدٌ.
4ـ ومع الخبرِ، كقولِك: ما زيدٌ بقائم.
5ـ الحالِ المنفيَّةِ؛ لأنَّها شَبيهةٌ بالخبَرِ، كقوله:
فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابُ
حَكِيْمُ بن المُسَيِّبِ مُنتَهَاهَا [19] البيت من الوافر، وقائله القحيف بن سليم العقيلي، وهو من شواهد ابن مالك في ((شرح الكافية) (٢/ ٧٢٨)، وينظر في: ((التذييل)) (٣/ ٦٩٢)، و((مغني اللبيب)) (١/ ١١٠).
6ـ النَّفْسِ والعينِ في بابِ التَّوكيدِ؛ يُقال: (جاء زيدٌ بنفسِه) و(بعَينِه)؛ والأصلُ: (جاء زيدٌ نفسُه) و(عينُه) [20] ينظر: ((اللمحة في شرح الملحة)) لابن الصائغ (1/243). .
أمَّا غيرُ الزَّائدةِ فتُفيدُ ثلاثةَ عَشَرَ معنًى، وهي:
الأوَّلُ: الإلصاقُ، وهو أصلُ معناها، نَحْو: أَمْسَكْتُ الكتابَ بيَدِي، أي: ألْصَقْتُها به [21] ينظر: ((المقتضب)) للمبرد (1/39)، ((الأصول في النحو)) لابن السراج (1/412)، ((الإيضاح العضدي)) للفارسي (251)، ((اللمع في العربية)) لابن جني (ص:74). .
الثَّاني: التَّعديةُ، وهي الباءُ القائمةُ مَقامَ الهَمزةِ في إيصالِ معنى الفِعلِ اللازِمِ إلى المفعولِ به، أي: فِي تصييرِ الفاعِل مَفْعُولًا. تَقول فِي (ذهَبَ زيدٌ): ذهبْتُ بزيدٍ وأذهبْتُه، ومنه قَولُه تعالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] ، ووَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: 20] [22] ينظر: ((شرح الكافية الشافية)) لابن مالك (2/806)، ((شرح التسهيل)) لابن مالك (2/133)، ((ارتشاف الضرب)) لأبي حيان (4/1695)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/191). .
الثَّالثُ: الِاسْتِعانةُ، وهي الباءُ الدَّاخِلةُ على آلةِ الفِعلِ؛ نَحْوُ: كتبتُ بالقَلَمِ، وضَرَبْتُ بالسَّيفِ. ومنه (بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، على وَجهٍ فيها، والتقديرُ: أستَعِينُ باِسْمِ اللهِ... [23] ينظر: ((المقتضب)) للمبرد (1/39)، ((الأصول في النحو)) لابن السراج (1/413)، ((شرح المفصل)) لابن يعيش (4/473). .
وقد سَمَّاها ابنُ مالكٍ (باءَ السَّبَبِيَّةِ) مُعلِّلًا ذلك بقَولِه: (والنحويُّون يُعَبِّرون عن هذه الباءِ بباءِ الاستعانةِ، وآثَرْتُ على ذلك التعبيرَ بالسَّبَبيَّةِ من أجْلِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى اللهِ تعالَى؛ فإنَّ استِعمالَ السَّببيَّةِ فيها يجوزُ، واستِعمالَ الاستعانةِ فيها لا يجوزُ) [24] ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/ 150). .
الرَّابعُ: التعليلُ (السَّبَبُ)، وهي التي يَصلُحُ غالبًا في موضِعِها اللامُ، مثل: أَخَذَه اللهُ بِذَنْبِهِ، ونَحْوُ قَوْلِه تعالَى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54] ، وقَولِه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ، وقَولِه سُبحانَه: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] [25] ينظر: ((ارتشاف الضرب)) لأبي حيان (4/1696)، ((توضيح المقاصد والمسالك)) للمرادي (1/190)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/262)، ((همع الهوامع)) للسيوطي (2/417). .
الخامِسُ: المصاحَبةُ، ولها علامتانِ: إحداهما أن يَحسُنَ في مَوضِعِها (مع). والأخرى أن يُغني عنها وعن مَصحوبِها الحالُ، كقَولِه تعالَى: قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء: 170] أي: مع الحَقِّ، أو مُحِقًّا. وقَولِه تعالَى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ... [المائدة: 61] ، أي: مع الكُفرِ، أو كافِرينَ. وقَولِه تعالَى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا [هود: 48] أي: مع سَلامٍ، أو مُسَلَّمًا عليك. ولصلاحِيةِ وُقوعِ الحالِ مَوقِعَها، سَمَّاها كثيرٌ من النَّحْويِّين (باءَ الحالِ) [26] ينظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/32)، ((إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك)) لابن قيم الجوزية (1/452)، ((التصريح بمضمون التوضيح)) لخالد الأزهري (1/647). .
السَّادِسُ: الظَّرفيَّةُ، وعلامَتُها أن يَحسُنَ في مَوضِعِها (في)؛ نَحْوُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123] ، أي: في بَدرٍ، وقَولِه سُبحانَه: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ [الصافات: 137 - 138] ، أي: وفي اللَّيلِ، وهي كثيرةٌ في الكَلامِ [27] ينظر: ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/194)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/263)، ((المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية)) للشاطبي (3/633). .
السَّابعُ: البَدَلُ، وعلامَتُها أن يَحسُنَ في مَوضِعِها (بَدَلَ) ، كقَولِ قُرَيطِ بنِ أنيفٍ:
فليتَ لي بهم قَوْمًا إذا رَكِبوا
شَنُّوا الإغارةَ فُرْسانًا ورُكبانا [28] يُنظر: ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي (ص: 5).
أي: فلَيتَ لي بَدَلهم قومًا.
ومنه حديثُ عَمرِو بنِ تغْلِبَ: «فواللهِ ما أُحِبُّ أنَّ لي بكَلِمةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُمْرَ النَّعَمِ » [29] أخرجه البخاري (923). ، أي: بَدَلها [30] ينظر: ((اللباب في علل البناء والإعراب)) لأبي البقاء العكبري (111/354)، ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/134)، ((ارتشاف الضرب)) لأبي حيان (4/1720)، ((توضيح المقاصد والمسالك)) للمرادي (2/753). .
الثَّامِنُ: المقابَلةُ، وهي الباءُ الدَّاخِلةُ على الأثمانِ والأعواضِ؛ نَحْوُ: اشتريتُ الفرسَ بألْفٍ، وكافأتُ الإحسانَ بضِعفٍ. وقَولهمْ: هذا بِذاكَ، وقد تُسمَّى باءَ العِوَضِ [31] ينظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/151)، ((ارتشاف الضرب)) لأبي حيان (4/1697)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/263)، ((همع الهوامع)) للسيوطي (2/420). .
التاسِعُ: المجاوَزةُ، وهي التي بمعنى (عن)، وذلك كثيرٌ بعْد السُّؤالِ؛ نَحْوُ قَوْلِه تعالَى: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59] ، أي: عنه، وقَولِه تعالَى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج: 1] ، أي: عن عذابٍ [32] ينظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/32)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/263)، ((التصريح بمضمون التوضيح)) لخالد الأزهري (1/647). .
العاشِرُ: الاستِعلاءُ، وهي التي بمعنى (على)؛ نَحْوُ قَوْلِه تعالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، أي: على قِنطارٍ، كما قال: قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 64] ، وقَولِه تعالَى: وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ [المطففين: 30] أي: عليهم، كما قال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ [الصافات: 137] ، وقَولِ الشَّاعرِ:
أَرَبٌّ يَبُول الثُّعْلُبانُ بِرَأْسِهِ؟!
لقد هان من بالَتْ عَلَيْهِ الثَّعالِبُ [33] يُنظر: ((الأمثال) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 122). .
أي: على رأسِه [34] ينظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/152)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/197)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/33)، ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لناظر الجيش (6/2941). .
الحادي عَشَرَ: التَّبعيضُ، وهي التي بمعنى (مِن) التَّبعيضيَّةِ، ومنه قَولُه تعالَى: يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ، أي: منها. وقَولُ الشَّاعِر:
شَرِبْنَ بِماءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ
مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيْجُ
أي: من ماءِ البَحرِ [35] ينظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/32)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/264)، ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لناظر الجيش (6/2469)، ((شرح المكودي على الألفية)) (152). .
فائِدةٌ في الباءِ التي في قَولِه تعالَى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] :
اختُلِفَ في الباءِ التي في قَولِه تعالَى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ؛ فقيل: تَبْعيضيَّةٌ، والتقديرُ: ببَعْضِ رُؤوسِكم، وقيل: زائِدةٌ، وقيل: للإلصاقِ على الأصْلِ [36] يُنظَر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 49)، ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 21)، ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لابن الأنباري (2/493)، ((المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية)) للشاطبي (3/637). .
الثَّاني عَشَرَ: القَسَمُ، مِثل: أُقسِمُ باللهِ لتَجتَهِدَنَّ، وهي أصلُ حُروفِ القَسَمِ، فيَجوزُ فيها ما لا يَجوزُ في الواوِ والتاءِ [37] ينظر: ((اللامات)) لأبي القاسم الزجاجي (ص: 83)، ((علل النحو)) لابن الوراق (ص: 211)، ((أسرار العربية)) لابن الأنباري (ص:203). .
الثَّالثَ عَشَرَ: الغايةُ، وهي إفادةُ معنى (إلى)، كقولِه تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي [يوسف: 100] ، أي: أحسن إِلَيَّ. ويمكِنُ أن يكونَ ذلك من باب التَّضمينِ، تضمَّنَت كَلِمةُ "أحسَن" معنى "لطَف"، فأتى بَعدَها بالباءِ، كما يُقال: لطَفَ بي. [38] ينظر: ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لابن هشام (ص: 143)، ((شرح الأشمونى لألفية ابن مالك)) (2/ 90).
وقد جمَعَ المُراديُّ معْنى الباءِ في بَيتينِ، فقال:
بالباءِ أَلْصِقْ، واستَعِنْ، أو عَدِّ، أو
أقْسِمْ، وبَعِّضْ، أو فَزِدْ، أو عَلِّلِ
وأتَتْ بمعنى مَعْ، وفي، وعلى، وعنْ
وبها فعَوِّضْ إن تَشا، أَوْ أَبْدِلِ [39] يُنظر: ((الجنى الداني في حروف المعاني)) للمرادي (ص: 56). .

انظر أيضا: