موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ:


الأولادُ والأحفادُ هبةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وزينةٌ مِن زينةِ الحَياةِ الدُّنيا؛ قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49 - 50] ، وقال جلَّ ثناؤه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] ، وقال تبارك اسمُه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الحَسَنِ والحُسَينِ: ((هما ريحانتاي مِنَ الدُّنيا)) [1] أخرجه البخاري (3753) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. .
وكان للرُّسُلِ والأنبياءِ -وهم صَفوةُ الخَلقِ- ذُرِّيَّاتٌ؛ قال تعالى لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38] .
ودَعا إبراهيمُ عليه السَّلامُ رَبَّه أن يَهَبَ له ذَرِّيَّةً صالحةً: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 99 - 101] ، ثمَّ حَمِد رَبَّه عليها، وسأله الخيرَ لها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم: 39 - 40] .
وكذلك دعا زكريَّا عليه السَّلامُ؛ قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 38 - 39] ، وقال تبارَك اسمُه: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: 1 - 5] ، وقال سُبحانَه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 89 - 90] .
وحَثَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على السَّعيِ لطِلَبِ الوَلَدِ؛ فعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُ بالباءةِ، ويَنهى عنِ التَّبَتُّلِ نَهيًا شَديدًا، ويَقولُ: تَزَوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ الأنبياءَ يَومَ القيامةِ)) [2] أخرجه أحمد (12613)، وابن حبان (4028) واللَّفظُ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5099). صَحَّحه ابن حبان، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/13)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1784)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12613). .
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((تَزَوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ بكُمُ الأُمَمَ)) [3] أخرجه أبو داود (2050) واللَّفظُ له، والنسائي (3227). صَحَّحه ابنُ حبان (4056)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/423)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1143)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2050): حَسَنٌ صحيح، وصَحَّحَ إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (2722)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/53). .
وكَما أنَّ للآباءِ على الأبناءِ حُقوقًا وآدابًا، فللأبناءِ على الآباءِ حُقوقٌ، وهم مسؤولون عن ذلك، كَما أنَّ الأبناءَ سيُسألون عنهم.
فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه، الإمامُ راعٍ ومَسؤولٌ عن رَعيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ في أهلِه وهو مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه، والمَرأةُ راعيةٌ في بَيتِ زَوجِها ومَسؤولةٌ عن رَعيَّتِها...)) [4] أخرجه البخاري (893) واللفظ له، ومسلم (1829). .
فالصَّبيُّ أمانةٌ عِندَ والِدَيه، وقَلبُه جَوهَرةٌ ساذَجةٌ، وهى قابِلةٌ لكُلِّ نَقشٍ، ومائِلٌ إلى كُلِّ ما يُمالُ به إليه، فإنْ عُوِّدَ الخَيرَ نَشَأ عليه وسَعِدَ في الدُّنيا والآخِرةِ، وشارَكَه في ثَوابِه أبوه، وكُلُّ مُعَلِّمٍ له ومُؤَدِّبٍ، وإن عُوِّدَ الشَّرَّ نَشَأ عليه، وكان الوِزرُ في عُنُقِ وَليِّه، وقد قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] ، ومَهما كان الأبُ يَصونُه عن نارِ الدُّنيا فبأن يَصونَه عن نارِ الآخِرةِ أَولى، وصيانَتُه بأن يُؤَدِّبَه ويُهَذِّبَه ويُعَلِّمَه مَحاسِنَ الأخلاقِ، ويَحفَظَه مِن قُرَناءِ السُّوءِ [5] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 72)، ((مختصر منهاج القاصدين)) لأبي العباس ابن قدامة (ص: 159). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (قال بَعضُ أهلِ العِلمِ: إنَّ اللَّهَ سُبحانَه يَسألُ الوالدَ عن وَلَدِه يَومَ القيامةِ قَبلَ أن يَسألَ الوَلَدَ عن والِدِه، فإنَّه كما أنَّ للأبِ على ابنِه حَقًّا فللابنِ على أبيه حَقٌّ، فكَما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت: 8] ، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6] ، قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: عَلِّموهم وأدِّبوهم.
وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء: 36] .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اعدِلوا بَينَ أولادِكُم)) [6] أخرجه البخاري (2587) مِن حَديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فوصيَّةُ اللَّهِ للآباءِ بأولادِهم سابقةٌ على وصيَّةِ الأولادِ بآبائِهم؛ قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء: 31] .
فمَن أهمَل تَعليمَ وَلَدِه ما يَنفعُه وتَرَكَه سُدًى، فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءةِ، وأكثَرُ الأولادِ إنَّما جاءَ فسادُهم مِن قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهم لهم وتَرْكِ تَعليمِهم فرائِضَ الدِّينِ وسُنَنَه، فأضاعوهم صِغارًا فلم يَنتَفِعوا بأنفُسِهم، ولم يَنفعوا آباءَهم كِبارًا، كَما عاتَبَ بَعضُهم وَلَدَه على العُقوقِ، فقال: يا أبَتِ، إنَّك عَقَقْتَني صَغيرًا فعَقَقْتُك كَبيرًا، وأضَعْتَني وليدًا فأضَعتُك شَيخًا!) [7] ((تحفة المودود بأحكام المولود)) (ص: 229). .
لذا اشتَدَّ حِرصُ السَّلَفِ على تَربيةِ أولادِهم، وكَثُرَت وصاياهم لهم، ومِنهم مَن كان يَتَّخِذُ لأولادِه مُؤَدِّبًا، ويتعاهَدُه بالنُّصحِ والوصيَّةِ فيما يَفعَلُ مَعَ أولادِه [8] تُنظَرُ طائِفةٌ مِن وصايا الآباءِ لمُؤَدِّبي أولادِهم ومُعَلِّميهم في كِتاب: ((النفقة على العيال)) لابن أبي الدنيا (1/ 511-528). .
وفيما يلي أهمُّ الآدابِ التي يَنبغي العِنايةُ بها في تَربيةِ الأولادِ:

انظر أيضا: