موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (25-28)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

سَوَّلَ: أي: زيَّن وسَهَّل، والتَّسويلُ: تَزيينُ النَّفْسِ لِمَا تَحرِصُ عليه، وتصويرُ القَبيحِ منه بصُورةِ الحَسَنِ، وأصلُ التَّسويلِ: تَفعيلٌ مِن سُولِ الإنسانِ، وهو أُمنِيَّتُه الَّتي يَتمَنَّاها فتُزَيِّنُ لطالِبِها الباطِلَ والغُرورَ، قيل: مِن السَّوْلِ وهو الاستِرخاءُ، وقيل: أصلُ السُّولِ (السُّؤْلُ) مَهموزًا [450] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 269)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 437)، ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 356). .
وَأَمْلَى: أي: أمْهَلهم بالمدِّ لهم في العُمُرِ، على أنَّ الإملاءَ راجِعٌ إلى الله، أو: مَدَّ لهم في الآمالِ والأمانيِّ على أنَّ الإملاءَ مِن فِعلِ الشيطانِ، وأصلُ الإملاءِ: يدُلُّ على امتِدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غَيرِه [451] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 116)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 472)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/352)، ((تفسير السمعاني)) (5/182)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777)، ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا الأسبابَ الَّتي حمَلَتِ المنافِقينَ على النِّفاقِ: إنَّ المُنافِقينَ الَّذين فارَقوا الإيمانَ، ورَجَعوا إلى الكُفرِ مِن بَعدِ ما عَرَفوا الحَقَّ: الشَّيطانُ زيَّنَ لهم الارتِدادَ عن الإسلامِ، واللهُ مَدَّ لهم في آجالِهم، وأمهَلَهم، ولم يُعَجِّلْ عُقوبَتَهم، فاغتَرُّوا ووَقَع منهم ذلك.
 ذلك التَّسويلُ والإملاءُ وَقَع عليهم؛ بسَبَبِ قَولِهم للكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ اللهُ تعالى مِنَ القُرآنِ: سنُطيعُكم ونَتَّبعُ أهواءَكم في بَعضِ ما كَرِهتُموه مِن الوَحيِ المُنَزَّلِ. واللهُ يَعلَمُ ما يُخفيه المُنافِقونَ والكافِرونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أحوالَ المنافِقينَ السَّيِّئةَ عندَما تتَوفَّاهم الملائكةُ، فيقولُ: فكيف يكونُ حالُ أولئك المنافِقينَ إذا جاءتْهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فأخَذوا يَضرِبونَ وُجوهَهم وأعجازَهم؟ ذلك الضَّربُ للمُنافِقينَ عندَ مَوتِهم بسَبَبِ اتِّباعِهم ما أسخَطَ اللهَ، وكَرِاهيتِهم رِضوانَه تعالى؛ فأبطَلَ اللهُ أعمالَهم وأذهَبَها.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَر اللهُ -سُبحانَه وتعالى- بأقفالِ قلوبِ المنافقينَ؛ بيَّن منشأَ ذلك، فقال [452] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/245). :
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ.
أي: إنَّ المُنافِقينَ الَّذين فارَقوا الإيمانَ، ورَجَعوا إلى الكُفرِ مِن بَعدِ ما عَرَفوا الحَقَّ، فآثَروا الضَّلالَ على الهُدى بلا بُرهانٍ: إنَّما وَقَع منهم ذلك؛ بسَبَبِ تَزيينِ الشَّيطانِ لهم الارتِدادَ عن الإسلامِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/217، 218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/379، 380). قال ابنُ عاشور: (لعلَّ المرادَ: الجَماعةُ الَّذين انخَزَلوا يومَ أُحُدٍ مع عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ ابنِ سَلولَ، والارتِدادُ على الأدبارِ على هذا الوَجهِ حَقيقةٌ؛ لأنَّهم رَجَعوا عن مَوقِعِ القِتالِ بعدَ أن نَزَلوا به فرَجَعوا إلى المدينةِ، وكانت المدينةُ خَلْفَهم. وهذا عندي أظهَرُ الوَجهَينِ، وألْيَقُ بقولِه بعدُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد: 26] إلى قولِه: وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: 27] ، و(الهُدى) على هذا الوَجهِ هو الحَقُّ، أي: مِن بَعدِ ما عَلِموا أنَّ الحَقَّ قِتالُ المُشرِكينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/115). .
كما قال الله تعالى ذِكرُه: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 118 - 120] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [الأنفال: 48] .
وَأَمْلَى لَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ وَأُمْلِيَ بضَمِّ الهَمزةِ، وكَسرِ اللَّامِ، وفَتحِ الياءِ، على صيغةِ ما لم يُسمَّ فاعِلُه [454] قرأ بها أبو عَمرٍو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 328)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/386). .
2- قِراءةُ وَأُمْلِيْ بضَمِّ الهَمزةِ، وكَسرِ اللَّامِ، وسُكونِ الياءِ، على أنَّه مُسنَدٌ إلى المُتكَلِّمِ، بنِسْبةِ الإملاءِ إلى اللهِ تعالى، أي: وأنا أُملِي لهم، كما قال تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] . وقيل: هي كالقِراءةِ السَّابِقةِ، وسُكِّنَت الياءُ تَخفيفًا [455] قرأ بها يعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 328)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/386)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/703). .
3- قِراءةُ وَأَمْلَى بفَتحِ الهَمزةِ واللَّامِ، بنِسبةِ الإملاءِ إلى الشَّيطانِ، أي: وأَملى الشَّيطانُ لهم. أو: هي بمعنى القِراءةِ السَّابِقةِ، أي: واللهُ أَملَى لهم [456] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 328، 329)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/387). .
وَأَمْلَى لَهُمْ.
أي: ووَقَع منهم ذلك؛ لأنَّ اللهَ مَدَّ للمُنافِقينَ في آجالِهم، وأمهَلَهم، ولم يُعَجِّلْ عُقوبَتَهم، فاغتَرُّوا [457] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/219)، ((الوسيط)) للواحدي (4/127)، ((تفسير ابن عطية)) (5/119). وممَّن ذهب إلى المعنى المذكورِ: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي -وعزاه لأكثَرِ المفسِّرينَ-، والسمعانيُّ، وابنُ عطية، والرَّسْعَني، وأبو حيَّان. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/63)، ((تفسير ابن جرير)) (21/219)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/14)، ((تفسير السمرقندي)) (3/304)، ((تفسير الثعلبي)) (9/37)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6914)، ((الوسيط)) للواحدي (4/127)، ((البسيط)) للواحدي (20/257)، ((تفسير السمعاني)) (5/182)، ((تفسير ابن عطية)) (5/119)، ((تفسير الرسعني)) (7/272)، ((تفسير أبي حيان)) (9/473). وقيل: المعنى: ومَدَّ الشَّيطانُ للمُنافِقينَ في الأمَلِ، ووعَدَهم طُولَ العُمُرِ، وغَرَّهم وخَدَعَهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البغويُّ، والزمخشري، وابن جُزَي، وابن كثير، وجلال الدين المحلِّي، والعُلَيمي، والشوكاني، والألوسي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/217)، ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((تفسير ابن جزي)) (2/283)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 320، 321)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 676)، ((تفسير العليمي)) (6/322)، ((تفسير الشوكاني)) (5/47)، ((تفسير الألوسي)) (13/231)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/380). كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] . وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] . وذكر ابنُ جُزَي أنَّ ذلك أظهَرُ؛ لِتَناسُبِ الضَّميرِ بيْن الفاعِلَينِ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 283). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182، 183].
وقال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وقال عز وجل: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [الرعد: 32] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى تَسليطَه الشَّيطانَ عليهم؛ بَيَّنَ سَبَبَه، فقال [458] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/247). :
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.
أي: ذلك التَّسويلُ والإملاءُ المُفضي بهم إلى الكُفرِ قد وَقَع؛ بسَبَبِ قَولِ المُنافِقينَ للكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ اللهُ تعالى مِنَ القُرآنِ: سنُطيعُكم ونَتَّبعُ أهواءَكم في بَعضِ ما كَرِهتُموه مِن الوَحيِ المُنَزَّلِ [459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/220)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/381). قال الرَّازي: (قال بعضُ المفسِّرينَ: ذلك إشارةٌ إلى الإملاءِ، أي: ذلك الإملاءُ بسببِ أنَّهم قالوا لِلَّذِينَ كَرِهوا. وهو اختيارُ الواحديِّ. وقال بعضُهم: ذلك إشارةٌ إلى التَّسويلِ. ويحتملُ أن يُقالَ: ذلك الارتدادُ بسبَبِ أنَّهم قالوا سَنُطِيعُكم). ((تفسير الرازي)) (28/58). وممَّن ذهب إلى أنَّ الإشارةَ في قَولِه تعالى: ذَلِكَ تعودُ إلى التَّسويلِ والإملاءِ: ابنُ جرير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/220)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/381). وذهب القاسمي إلى أنَّ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِر مِنِ ارتِدادِهم. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/476). قال ابن جرير: (قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنَ الأمرِ بقِتالِ أهلِ الشِّركِ به). ((تفسير ابن جرير)) (21/220). وقال القرطبي: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي: في مُخالَفةِ مُحمَّدٍ، والتَّظاهُرِ على عداوتِه، والقُعودِ عن الجِهادِ معه، وتَوهينِ أمْرِه في السِّرِّ). ((تفسير القرطبي)) (16/250). وقال البِقاعي: (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وهو القِتالُ في سَبيلِ اللهِ، الَّذي تقدَّمَ أنَّهم عندَ نُزولِ سُورةٍ يُذكَرُ بها يَصيرونَ كالَّذي يُغشَى عليه مِنَ الموتِ، فأنتم في أمانٍ مِن أن نُقاتِلَكم أبدًا؛ فإنَّا إنَّما أسلَمْنا للأمانِ على دمائِنا وأموالِنا، والَّذي نُحِبُّه مِمَّا يُنَزَّلُ هو التَّأمينُ لِمَن أقَرَّ بكَلِمةِ الإسلامِ، والقَناعةُ منه بالظَّاهِرِ، والوَعدُ العامُّ بالتَّبَسُّطِ في البلادِ، والتَّوسِعةِ في الأرزاقِ، ونحوِ ذلك؛ فكانوا بذلك كَفَرةً؛ فإنَّ الدِّينَ لا يتجَزَّأُ، فمَنْ أضاع مِن أصولِه شَيئًا فقد أضاعه كُلَّه، والتَّقييدُ بالبَعضِ يُفهِمُ أنَّهم لا يُطيعونَهم في البَعضِ الآخَرِ، وهو إظهارُ الإسلامِ، والتَّصَوُّرُ بصُورةِ المُسالَمةِ). ((نظم الدرر)) (18/248). .
كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ إِسْرَارَهُمْ بكَسرِ الهَمزةِ، مَصدَرُ: أَسَرَّ يُسِرُّ، أي: واللهُ يَعلَمُ إخفاءَهم [460] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 329)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/387)، ((تفسير أبي السعود)) (8/100). .
2- قِراءةُ أَسْرَارَهُمْ بفَتحِ الهَمزةِ، جَمعُ سِرٍّ، أي: يَعلَمُ الأشياءَ الَّتي يُسِرُّونَها [461] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 329)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/387)، ((تفسير أبي السعود)) (8/100)، ((تفسير الألوسي)) (13/231). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.
أي: واللهُ يَعلَمُ ما يُخفيه المُنافِقونَ والكافِرونَ، ويُسِرُّونَه بيْنَهم مِنَ الكُفرِ به، ومَعصيةِ رَسولِه [462] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/49)، ((تفسير ابن جرير)) (21/220)، ((تفسير السمعاني)) (5/182)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321)، ((تفسير النيسابوري)) (6/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789). واستظهر الرَّازيُّ أنَّ المعنى: أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما في قُلوبِهم مِمَّا يُسِرُّونَ مِن العِلمِ بصِدقِ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّهم كانوا مُكابِرينَ مُعانِدينَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/57). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء: 81] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة: 78] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] .
وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 7، 8].
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى إحاطةَ عِلمِه بهم؛ أتْبَعه إحاطةَ قُدرتِه [463] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/249). ، فقال تعالى:
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27).
أي: فكيف يكونُ حالُ أولئك المنافِقينَ إذا جاءتْهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فأخَذوا يَضرِبونَ وُجوهَهم وأعجازَهم [464] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/249، 250)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/382). وقد ذهب ابنُ جريرٍ إلى أنَّ هذه الآيةَ تتعَلَّقُ بما قَبْلَها، أي: واللهُ يَعلَمُ إسرارَ هؤلاء المنافِقينَ، فكيف لا يَعلَمُ حالَهم إذا توفَّتْهم الملائِكةُ وهم يَضرِبونَ وُجوهَهم وأدبارَهم؟! فحالُهم أيضًا لا يخفَى عليه في ذلك الوَقتِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221). وقال ابن عطيَّة: (يَحتَمِلُ أن يُتوَعَّدوا به على مَعنَيينِ؛ أحَدُهما: هذا هَلَعُهم وجَزَعُهم لِفَرضِ القِتالِ وقِراعِ الأعداءِ، فكيف فَزَعُهم وجَزَعُهم إذا توفَّتْهم الملائِكةُ؟! والثَّاني: أن يُريدَ: هذه مَعاصيهم وعِنادُهم وكُفرُهم، فكيف تكونُ حالُهم مع اللهِ إذا توفَّتْهم الملائِكةُ؟!). ((تفسير ابن عطية)) (5/120). وقال القرطبي: (معنى الكلامِ التَّخويفُ والتَّهديدُ، أي: إنْ تأخَّرَ عنهم العذابُ فإلى انقِضاءِ العُمُرِ). ((تفسير القرطبي)) (16/250). وقال أيضًا في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الأنفالِ (الآية 50): (وَأَدْبَارَهُمْ أي: أسْتاهَهم، كنَى عنها بالأدبارِ، قالَه مجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. الحسَنُ: ظهورَهم... وقيلَ: هذا الضَّرْبُ يكونُ عندَ الموتِ. وقد يكونُ يومَ القيامةِ حينَ يَصيرونَ بهم إلى النَّارِ). ((تفسير القرطبي)) (8/28). ؟
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50].
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28).
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ.
أي: ذلك الضَّربُ للمُنافِقينَ عندَ مَوتِهم إنَّما هو بسَبَبِ اتِّباعِهم ما أسخَطَ اللهَ؛ بالكُفرِ أو العِصيانِ، ومِن ذلك طاعتُهم الشَّيطانَ، ومُوالاةُ الكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ الرَّحمنُ [465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221)، ((تفسير ابن عطية)) (5/120)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/382). قال الواحدي: (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ قال ابنُ عبَّاسٍ: يُريدُ ما كتَموا مِن التَّوراةِ. وقال مقاتلٌ: يعني الكفرَ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال الزَّجَّاجُ: اتَّبَعوا مَن خالَفَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((البسيط)) (20/259). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/49)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/14). وقال الشوكاني: (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ أي: بِسَبَبِ اتِّباعِهم ما يُسْخِطُ اللهَ مِن الكفرِ والمعاصي. وقِيل: كِتْمانُهم ما في التَّوراةِ مِن نَعْتِ نَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسَلَّم. والأوَّلُ أولَى؛ لِمَا في الصِّيغةِ مِن العُمومِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/47). .
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ.
أي: وبسَبَبِ أنَّ المُنافِقينَ كَرِهوا ما يُرضي اللهَ عنهم، كالقِتالِ في سَبيلِه، ولم يكُنْ لهم رغبةٌ فيما يُقرِّبُهم إليه [466] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789). قال الشنقيطي بعدَ أن ذكر قولَ مَن قال: إنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في المنافِقينَ، وقولَ مَن قال: إنَّها نزلت في اليهودِ، قال: (التَّحقيقُ الَّذي لا شكَّ فيه أنَّ هذه الآياتِ عامَّةٌ في كلِّ ما يَتناوَلُه لَفْظُها، وأنَّ كل ما فيها مِن الوعيدِ عامٌّ لِمَن أطاع مَن كَرِهَ ما نزَّل اللهُ). ((أضواء البيان)) (7/383). .
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.
أي: فأبطَلَ اللهُ أعمالَهم وأذهَبَها؛ فلا نَفْعَ فيها [467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221)، ((تفسير القرطبي)) (16/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/119، 120)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 383). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، بيَّن -جلَّ وعَلا- في هذه الآيةِ الكَريمةِ: أنَّ سببَ ارتِدادِ هؤلاءِ القَومِ مِن بَعدِ ما تبيَّنَ لهمُ الهُدى، هو إغواءُ الشَّيطانِ لهم، كما قال تعالى مُشيرًا إلى عِلَّةِ ذلك: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ؛ أي: زيَّن لهمُ الكُفرَ والارتِدادَ عن الدِّينِ، وَأَمْلَى لَهُمْ؛ أي: مدَّ لهم في الأملِ، ووَعَدَهم طولَ العُمُرِ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ. وإيضاحُ هذا: أنَّ هؤلاءِ المُرتدِّينَ على أدبارِهم مِن بَعدِ ما تبيَّنَ لهمُ الهُدى وَقَع لهم ذلك بسَببِ أنَّ الشَّيطانَ سوَّلَ لهم ذلك، وسهَّلَه لهم وزيَّنَه لهم وحسَّنَه لهم، ومنَّاهم بطولِ الأعمارِ؛ لأنَّ طولَ الأملِ مِن أعظَمِ أسبابِ ارتِكابِ الكُفرِ والمعاصي [468] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/380). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يَجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ في هذا الزَّمانِ تأمُّلُ هذه الآياتِ وتدَبُّرُها، والحَذَرُ التَّامُّ مِمَّا تَضَمَّنتْه مِنَ الوعيدِ الشَّديدِ، فاحذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِن الدُّخولِ في الَّذين قالوا: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [469] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/383، 384). .
3- إنَّ قولَ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» يَقْتَضي ألَّا يُحَبَّ سِواه؛ فإنَّ الإلهَ هو الَّذِي يُطاعُ، مَحبَّةً وخَوفًا ورَجاءً، ومِن تمامِ مَحبَّتِه مَحبَّةُ ما يُحِبُّه، وكَراهِيَةُ ما يَكرَهُه؛ فمَن أَحَبَّ شيئًا ممَّا يَكرَهُ اللهُ، أو كَرِه شيئًا ممَّا يُحِبُّه اللهُ لم يَكمُلْ تَوحيدُه ولا صِدقُه في قولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وكان فيه مِن الشِّركِ الخَفيِّ بحَسَبِ ما كَرِهَه ممَّا يُحِبُّه اللهُ، وما أحَبَّه ممَّا يَكرَهُه اللهُ. قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [470] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/59). . وقال أيضًا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9] ، فذَمَّ سُبحانَه مَن كَرِهَ ما أحَبَّه اللهُ، أو أحَبَّ ما كَرِهَه اللهُ؛ فالواجِبُ على كُلِّ مُؤمِنٍ أن يحِبَّ ما أحَبَّه اللهُ مَحبَّةً تُوجِبُ له الإتيانَ بما وَجَب عليه منه، فإنْ زادت المحبَّةُ حتَّى أتَى بما نُدِبَ إليه منه كان ذلك فَضلًا؛ وأن يَكرَهَ ما كَرِهَه اللهُ تعالى كراهةً تُوجِبُ له الكَفَّ عمَّا حَرَّم عليه منه، فإن زادت الكراهةُ حتَّى أوجَبَت الكَفَّ عمَّا كَرِهَه تَنزيهًا كان ذلك فَضلًا. وقد ثَبَت في الصَّحيحَينِ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) [471] أخرجه البخاريُّ (15) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (44) مِن حديثِ أنسٍ رضيَ الله عنه. ؛ فلا يكونُ المؤمِنُ مُؤمِنًا حتَّى يُقَدِّمَ مَحبَّةَ الرَّسولِ على محبَّةِ جَميعِ الخَلقِ، ومحبَّةُ الرَّسولِ تابِعةٌ لِمَحبَّةِ مُرسِلِه، والمحبَّةُ الصَّحيحةُ تَقتضي المُتابَعةَ والمُوافَقةَ في حُبِّ المحبوباتِ، وبُغضِ المكروهاتِ؛ قال عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24] ، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [472] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/395، 396). [آل عمران: 31] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، ولم يقلْ: (ما أرضى اللهَ)؛ وذلك لأنَّ رَحمةَ اللهِ سابِقةٌ، فله رحمةٌ ثابِتةٌ، وهي مَنشَأُ الرِّضوانِ، وغَضَبَ اللهِ مُتأخِّرٌ، فهو يكونُ على ذنْبٍ؛ فقال: رِضْوَانَهُ؛ لأنَّه وَصفٌ ثابِتٌ للهِ سابِقٌ، ولم يقلْ: (سَخَطَ اللهِ)، بل: مَا أَسْخَطَ اللَّهَ؛ إشارةً إلى أنَّ السَّخَطَ ليس ثُبوتُه كثُبوتِ الرِّضوانِ [473] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/58). .
2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أنَّ الماضيَ مِن العَمَلِ قد يَحبَطُ بالسَّيِّئاتِ [474] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/285). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، فيه سُؤالٌ: المُشرِكون ما كانوا يَكرَهون رِضوانَ اللهِ، بل كانوا يَقولونَ: إنَّ ما نحن عليه فيه رِضوانُ اللهِ، ولا نَطلُبُ إلَّا رِضاءَ اللهِ، فكانوا يَقولونَ: إنَّا نَطلُبُ رِضاءَ اللهِ. كما قالوا: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، وقالوا: فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:53] ؟
الجَوابُ: أنَّ مَعْناه: كَرِهوا ما فيه رِضاءُ اللهِ تعالى [475] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/58). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ جِيءَ بحَرْفِ (على)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الارْتِدادَ مُتمكِّنٌ مِن جِهةِ الأدْبارِ، كما يُقال: على صِراطٍ مُستقيمٍ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/115). .
- وأُوثِرَ أنْ يكونَ خَبَرُ (إنَّ) جُملةً؛ لِيَتأتَّى بالجُملةِ اشْتِمالُها على خَصائصِ الابتداءِ باسْمِ الشَّيطانِ؛ للاهتِمامِ به في غَرَضِ ذَمِّهم، وأنْ يُسنَدَ إلى اسْمِه مُسنَدٌ فِعلِيٌّ؛ لِيُفِيدَ تَقوِّيَ الحُكْمِ [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/115). .
2- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ إذِ التَّقديرُ أنْ يَسأَلَ سَائلٌ عن مَظهَرِ تَسويلِ الشَّيطانِ لهم الارتدادَ بعْدَ أنْ تَبيَّنَ لهم الهُدى، فأُجِيبَ بأنَّ الشَّيطانَ اسْتَدْرَجَهم إلى الضَّلالِ عِندَما تَبيَّن لهم الهُدى فسَوَّلَ لهم أنْ يُوافِقوا أهْلَ الشِّركِ والكُفرِ في بَعضِ الأُمورِ، مُسوِّلًا أنَّ تلك المُوافَقةَ في بَعضِ الأمْرِ لا تَنقُضُ اهْتِداءَهم، فلمَّا وافَقُوهم وَجَدوا حَلاوةَ ما أَلِفوه مِن الكُفرِ فيما وافَقوا فيه أهْلَ الكُفرِ، فأخَذوا يَعودونَ إلى الكُفرِ المأْلوفِ حتَّى ارْتَدُّوا على أدْبارِهم، وهذا شأْنُ النَّفْسِ في مُعاوَدةِ ما تُحِبُّه بعْدَ الانقطاعِ عنْه إنْ كان الانقطاعُ قَريبَ العَهدِ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/116). .
- وقالوا: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ؛ احتِرازًا لأنفُسِهم إذا لم يُطيعوا في بَعضٍ [479] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/116). .
- قولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، مُتضمِّنٌ لِلْإفشاءِ في الدُّنيا، والتَّعذيبِ في الآخِرةِ [480] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/100). .
3- قَولُه تعالى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يَجوزُ أنْ تَكونَ الفاءُ في فَكَيْفَ لِلتَّفريعِ على جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ [محمد: 25] الآيةَ، وما بيْنَهما مُتَّصِلٌ بقَولِه: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ [محمد: 25] بِناءً على أنَّ الارتِدادَ ارتِدادٌ عن الدِّينِ؛ فيَكونَ التَّفريعُ لِبَيانِ ما سَيَلْحَقُهم مِن العَذابِ عِندَ المَوتِ، وهو استِهلالٌ لِمَا يَتواصَلُ مِن عَذابِهم عندَ مَبدَأِ المَوتِ إلى اسْتِقرارِهم في العَذابِ الخالِدِ. ويَجوزُ إذا كان المُرادُ بالارتِدادِ الارتِدادَ عن القِتالِ، أنْ تَكونَ الفاءُ فَصيحةً، فيُفيدُ: إذا كانوا فَرُّوا مِن القِتالِ هلَعًا وخَوفًا، فكيفَ إذا تَوفَّتْهم الملائكةُ؟! أي: كيف هَلَعُهم ووَجَلُهم الَّذي ارْتَدُّوا بِهما عن القِتالِ؟! وهذا يَقْتضي شَيئينِ؛ أوَّلُهما: أنَّهم مَيِّتُون لا مَحالةَ، وثانِيهما: أنَّ مَوتَتَهم يَصحَبُها تَعذيبٌ؛ فالأوَّلُ مأْخوذٌ بدَلالةِ الالْتزامِ، والثَّاني هو صَريحُ الكلامِ، وهو وَعيدٌ لِتَعذيبٍ في الدُّنيا عِندَ الموتِ، والمَقصودُ: وَعيدُهم بأنَّهم سيُعَجَّلُ لهم العَذابُ مِن أوَّلِ مَنازِلِ الآخِرةِ، وهو حالةُ الموتِ [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/118). .
- قولُه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... (إذا) مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ دلَّ عليه اسمُ الاستِفهامِ، تَقْديرُه: كَيف حالُهم أو عَمَلُهم حِينَ تَتوفَّاهم الملائكةُ [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/118). ؟!
 - ولَمَّا جُعِلَ هذا العَذابُ مُحقَّقًا وُقوعُه، رُتِّبَ عليه الاسْتِفهامُ عن حالِهِم فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ... اسْتِفهامًا مُستعمَلًا في مَعنى تَعجيبِ المُخاطَبِ مِن حالِهم عِندَ الوَفاةِ، وهذا التَّعجيبُ مُؤذِنٌ بأنَّها حالةٌ فَظيعةٌ غَيرُ مُعتادةٍ؛ إذ لا يتعجُّبُ إلَّا مِن أمْرٍ غَيرِ مَعهودٍ، والسِّياقُ يدُلُّ على الفَظاعةِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/118). .
- قولُه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ تَصْويرٌ لِتَوفِّيهم على أهْولِ الوُجوهِ وأفظَعِها بما يَخافون منه، ويَجْبُنون عن القِتالِ مِن أجْلِه [484] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/124)، ((تفسير أبي السعود)) (8/100). .
- وأيضًا جُملةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ حالٌ مِن الملائكةِ، والمَقصودُ مِن هذه الحالِ: وَعيدُهم بهذه المِيتةِ الفَظيعةِ الَّتي قدَّرَها اللهُ لهم، وجَعَل المَلائكةَ تَضرِبُ وُجوهَهم وأدْبارَهم، أي: يَضرِبون وُجوهَهم الَّتي وَقَوْهَا مِن ضَرْبِ السَّيفِ حِينَ فَرُّوا مِن الجِهادِ؛ فإنَّ الوُجوهَ ممَّا يُقصَدُ بالضَّرْبِ بالسُّيوفِ عِندَ القِتالِ، ويَضرِبونَ أدْبارَهم الَّتي كانتْ مَحَلَّ الضَّرْبِ لو قاتَلوا، وهذا تَعريضٌ بأنَّهم لو قاتَلوا لَفَرُّوا، فلا يَقَعُ الضَّرْبُ إلَّا في أدْبارِهم [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/118، 119). .
4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ في ذِكرِ اتِّباعِ ما أسخَطَ اللهِ وكَراهةِ رِضوانِه مُحسِّنُ الطِّباقِ [486] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مُراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِن الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَق بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقون. ومنه: طباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكون الضِّديَّةُ في الصُّورةِ مُتوهَّمةً، فتَبدو المُطابَقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتْلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)) للآمدي (1/288، 289)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/225-233)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/377-381)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). مرَّتينِ؛ لِلمُضادَّةِ بيْن السَّخَطِ والرِّضوانِ، والاتِّباعِ والكَراهيةِ. والجمْعُ بيْن الإخبارِ عنْهم باتِّباعِهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتِهم رِضوانَه، مع إمكانِ الاجْتِزاءِ بأحَدِهما عن الآخَرِ؛ لِلْإيماءِ إلى أنَّ ضَرْبَ الملائكةِ وُجوهَ هؤلاء مُناسِبٌ لِإقبالِهم على ما أسْخَطَ اللهَ، وأنَّ ضَرْبَهم أدْبارَهم مُناسِبٌ لِكَراهَتِهم رِضوانَه؛ لأنَّ الكَراهةَ تَستلزِمُ الإعراضَ والإدبارَ؛ ففي الكلامِ أيضًا مُحسِّنُ اللَّفِّ والنَّشْرِ المُرتَّبِ [487] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/ 320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ، فكان ذلك التَّعذيبُ مُناسبًا لِحالَيْ تَوقِّيهم في الفِرارِ مِن القِتالِ، ولِلسَّببينِ الباعثينِ على ذلك التَّوقِّي [488] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/119). .
- وفُرِّعَ على اتِّباعِهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتِهم رِضوانَه قَولُه: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ؛ فكان اتِّباعُهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتُهم رِضوانَه سَببًا في الأمْرَينِ: ضَرْبُ الملائكةِ وُجوهَهم وأدْبارَهم عِندَ الوفاةِ، وإحباطُ أعْمالِهم [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/119). .