موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (25-28)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

سَوَّلَ: أي: زيَّن وسَهَّل، والتَّسويلُ: تَزيينُ النَّفْسِ لِمَا تَحرِصُ عليه، وتصويرُ القَبيحِ منه بصُورةِ الحَسَنِ، وأصلُ التَّسويلِ: تَفعيلٌ مِن سُولِ الإنسانِ، وهو أُمنِيَّتُه الَّتي يَتمَنَّاها فتُزَيِّنُ لطالِبِها الباطِلَ والغُرورَ، قيل: مِن السَّوْلِ وهو الاستِرخاءُ، وقيل: أصلُ السُّولِ (السُّؤْلُ) مَهموزًا .
وَأَمْلَى: أي: أمْهَلهم بالمدِّ لهم في العُمُرِ، على أنَّ الإملاءَ راجِعٌ إلى الله، أو: مَدَّ لهم في الآمالِ والأمانيِّ على أنَّ الإملاءَ مِن فِعلِ الشيطانِ، وأصلُ الإملاءِ: يدُلُّ على امتِدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غَيرِه .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا الأسبابَ الَّتي حمَلَتِ المنافِقينَ على النِّفاقِ: إنَّ المُنافِقينَ الَّذين فارَقوا الإيمانَ، ورَجَعوا إلى الكُفرِ مِن بَعدِ ما عَرَفوا الحَقَّ: الشَّيطانُ زيَّنَ لهم الارتِدادَ عن الإسلامِ، واللهُ مَدَّ لهم في آجالِهم، وأمهَلَهم، ولم يُعَجِّلْ عُقوبَتَهم، فاغتَرُّوا ووَقَع منهم ذلك.
 ذلك التَّسويلُ والإملاءُ وَقَع عليهم؛ بسَبَبِ قَولِهم للكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ اللهُ تعالى مِنَ القُرآنِ: سنُطيعُكم ونَتَّبعُ أهواءَكم في بَعضِ ما كَرِهتُموه مِن الوَحيِ المُنَزَّلِ. واللهُ يَعلَمُ ما يُخفيه المُنافِقونَ والكافِرونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أحوالَ المنافِقينَ السَّيِّئةَ عندَما تتَوفَّاهم الملائكةُ، فيقولُ: فكيف يكونُ حالُ أولئك المنافِقينَ إذا جاءتْهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فأخَذوا يَضرِبونَ وُجوهَهم وأعجازَهم؟ ذلك الضَّربُ للمُنافِقينَ عندَ مَوتِهم بسَبَبِ اتِّباعِهم ما أسخَطَ اللهَ، وكَرِاهيتِهم رِضوانَه تعالى؛ فأبطَلَ اللهُ أعمالَهم وأذهَبَها.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَر اللهُ -سُبحانَه وتعالى- بأقفالِ قلوبِ المنافقينَ؛ بيَّن منشأَ ذلك، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ.
أي: إنَّ المُنافِقينَ الَّذين فارَقوا الإيمانَ، ورَجَعوا إلى الكُفرِ مِن بَعدِ ما عَرَفوا الحَقَّ، فآثَروا الضَّلالَ على الهُدى بلا بُرهانٍ: إنَّما وَقَع منهم ذلك؛ بسَبَبِ تَزيينِ الشَّيطانِ لهم الارتِدادَ عن الإسلامِ .
كما قال الله تعالى ذِكرُه: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 118 - 120] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [الأنفال: 48] .
وَأَمْلَى لَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ وَأُمْلِيَ بضَمِّ الهَمزةِ، وكَسرِ اللَّامِ، وفَتحِ الياءِ، على صيغةِ ما لم يُسمَّ فاعِلُه .
2- قِراءةُ وَأُمْلِيْ بضَمِّ الهَمزةِ، وكَسرِ اللَّامِ، وسُكونِ الياءِ، على أنَّه مُسنَدٌ إلى المُتكَلِّمِ، بنِسْبةِ الإملاءِ إلى اللهِ تعالى، أي: وأنا أُملِي لهم، كما قال تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] . وقيل: هي كالقِراءةِ السَّابِقةِ، وسُكِّنَت الياءُ تَخفيفًا .
3- قِراءةُ وَأَمْلَى بفَتحِ الهَمزةِ واللَّامِ، بنِسبةِ الإملاءِ إلى الشَّيطانِ، أي: وأَملى الشَّيطانُ لهم. أو: هي بمعنى القِراءةِ السَّابِقةِ، أي: واللهُ أَملَى لهم .
وَأَمْلَى لَهُمْ.
أي: ووَقَع منهم ذلك؛ لأنَّ اللهَ مَدَّ للمُنافِقينَ في آجالِهم، وأمهَلَهم، ولم يُعَجِّلْ عُقوبَتَهم، فاغتَرُّوا .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182، 183].
وقال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وقال عز وجل: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [الرعد: 32] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى تَسليطَه الشَّيطانَ عليهم؛ بَيَّنَ سَبَبَه، فقال :
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.
أي: ذلك التَّسويلُ والإملاءُ المُفضي بهم إلى الكُفرِ قد وَقَع؛ بسَبَبِ قَولِ المُنافِقينَ للكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ اللهُ تعالى مِنَ القُرآنِ: سنُطيعُكم ونَتَّبعُ أهواءَكم في بَعضِ ما كَرِهتُموه مِن الوَحيِ المُنَزَّلِ .
كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ إِسْرَارَهُمْ بكَسرِ الهَمزةِ، مَصدَرُ: أَسَرَّ يُسِرُّ، أي: واللهُ يَعلَمُ إخفاءَهم .
2- قِراءةُ أَسْرَارَهُمْ بفَتحِ الهَمزةِ، جَمعُ سِرٍّ، أي: يَعلَمُ الأشياءَ الَّتي يُسِرُّونَها .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.
أي: واللهُ يَعلَمُ ما يُخفيه المُنافِقونَ والكافِرونَ، ويُسِرُّونَه بيْنَهم مِنَ الكُفرِ به، ومَعصيةِ رَسولِه .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء: 81] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة: 78] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] .
وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 7، 8].
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى إحاطةَ عِلمِه بهم؛ أتْبَعه إحاطةَ قُدرتِه ، فقال تعالى:
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27).
أي: فكيف يكونُ حالُ أولئك المنافِقينَ إذا جاءتْهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فأخَذوا يَضرِبونَ وُجوهَهم وأعجازَهم ؟
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50].
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28).
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ.
أي: ذلك الضَّربُ للمُنافِقينَ عندَ مَوتِهم إنَّما هو بسَبَبِ اتِّباعِهم ما أسخَطَ اللهَ؛ بالكُفرِ أو العِصيانِ، ومِن ذلك طاعتُهم الشَّيطانَ، ومُوالاةُ الكُفَّارِ الَّذين كَرِهوا ما أنزَلَ الرَّحمنُ .
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ.
أي: وبسَبَبِ أنَّ المُنافِقينَ كَرِهوا ما يُرضي اللهَ عنهم، كالقِتالِ في سَبيلِه، ولم يكُنْ لهم رغبةٌ فيما يُقرِّبُهم إليه .
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.
أي: فأبطَلَ اللهُ أعمالَهم وأذهَبَها؛ فلا نَفْعَ فيها .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، بيَّن -جلَّ وعَلا- في هذه الآيةِ الكَريمةِ: أنَّ سببَ ارتِدادِ هؤلاءِ القَومِ مِن بَعدِ ما تبيَّنَ لهمُ الهُدى، هو إغواءُ الشَّيطانِ لهم، كما قال تعالى مُشيرًا إلى عِلَّةِ ذلك: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ؛ أي: زيَّن لهمُ الكُفرَ والارتِدادَ عن الدِّينِ، وَأَمْلَى لَهُمْ؛ أي: مدَّ لهم في الأملِ، ووَعَدَهم طولَ العُمُرِ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ. وإيضاحُ هذا: أنَّ هؤلاءِ المُرتدِّينَ على أدبارِهم مِن بَعدِ ما تبيَّنَ لهمُ الهُدى وَقَع لهم ذلك بسَببِ أنَّ الشَّيطانَ سوَّلَ لهم ذلك، وسهَّلَه لهم وزيَّنَه لهم وحسَّنَه لهم، ومنَّاهم بطولِ الأعمارِ؛ لأنَّ طولَ الأملِ مِن أعظَمِ أسبابِ ارتِكابِ الكُفرِ والمعاصي .
2- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يَجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ في هذا الزَّمانِ تأمُّلُ هذه الآياتِ وتدَبُّرُها، والحَذَرُ التَّامُّ مِمَّا تَضَمَّنتْه مِنَ الوعيدِ الشَّديدِ، فاحذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِن الدُّخولِ في الَّذين قالوا: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ .
3- إنَّ قولَ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» يَقْتَضي ألَّا يُحَبَّ سِواه؛ فإنَّ الإلهَ هو الَّذِي يُطاعُ، مَحبَّةً وخَوفًا ورَجاءً، ومِن تمامِ مَحبَّتِه مَحبَّةُ ما يُحِبُّه، وكَراهِيَةُ ما يَكرَهُه؛ فمَن أَحَبَّ شيئًا ممَّا يَكرَهُ اللهُ، أو كَرِه شيئًا ممَّا يُحِبُّه اللهُ لم يَكمُلْ تَوحيدُه ولا صِدقُه في قولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وكان فيه مِن الشِّركِ الخَفيِّ بحَسَبِ ما كَرِهَه ممَّا يُحِبُّه اللهُ، وما أحَبَّه ممَّا يَكرَهُه اللهُ. قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . وقال أيضًا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9] ، فذَمَّ سُبحانَه مَن كَرِهَ ما أحَبَّه اللهُ، أو أحَبَّ ما كَرِهَه اللهُ؛ فالواجِبُ على كُلِّ مُؤمِنٍ أن يحِبَّ ما أحَبَّه اللهُ مَحبَّةً تُوجِبُ له الإتيانَ بما وَجَب عليه منه، فإنْ زادت المحبَّةُ حتَّى أتَى بما نُدِبَ إليه منه كان ذلك فَضلًا؛ وأن يَكرَهَ ما كَرِهَه اللهُ تعالى كراهةً تُوجِبُ له الكَفَّ عمَّا حَرَّم عليه منه، فإن زادت الكراهةُ حتَّى أوجَبَت الكَفَّ عمَّا كَرِهَه تَنزيهًا كان ذلك فَضلًا. وقد ثَبَت في الصَّحيحَينِ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) ؛ فلا يكونُ المؤمِنُ مُؤمِنًا حتَّى يُقَدِّمَ مَحبَّةَ الرَّسولِ على محبَّةِ جَميعِ الخَلقِ، ومحبَّةُ الرَّسولِ تابِعةٌ لِمَحبَّةِ مُرسِلِه، والمحبَّةُ الصَّحيحةُ تَقتضي المُتابَعةَ والمُوافَقةَ في حُبِّ المحبوباتِ، وبُغضِ المكروهاتِ؛ قال عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24] ، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، ولم يقلْ: (ما أرضى اللهَ)؛ وذلك لأنَّ رَحمةَ اللهِ سابِقةٌ، فله رحمةٌ ثابِتةٌ، وهي مَنشَأُ الرِّضوانِ، وغَضَبَ اللهِ مُتأخِّرٌ، فهو يكونُ على ذنْبٍ؛ فقال: رِضْوَانَهُ؛ لأنَّه وَصفٌ ثابِتٌ للهِ سابِقٌ، ولم يقلْ: (سَخَطَ اللهِ)، بل: مَا أَسْخَطَ اللَّهَ؛ إشارةً إلى أنَّ السَّخَطَ ليس ثُبوتُه كثُبوتِ الرِّضوانِ .
2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أنَّ الماضيَ مِن العَمَلِ قد يَحبَطُ بالسَّيِّئاتِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، فيه سُؤالٌ: المُشرِكون ما كانوا يَكرَهون رِضوانَ اللهِ، بل كانوا يَقولونَ: إنَّ ما نحن عليه فيه رِضوانُ اللهِ، ولا نَطلُبُ إلَّا رِضاءَ اللهِ، فكانوا يَقولونَ: إنَّا نَطلُبُ رِضاءَ اللهِ. كما قالوا: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، وقالوا: فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:53] ؟
الجَوابُ: أنَّ مَعْناه: كَرِهوا ما فيه رِضاءُ اللهِ تعالى .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ جِيءَ بحَرْفِ (على)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الارْتِدادَ مُتمكِّنٌ مِن جِهةِ الأدْبارِ، كما يُقال: على صِراطٍ مُستقيمٍ .
- وأُوثِرَ أنْ يكونَ خَبَرُ (إنَّ) جُملةً؛ لِيَتأتَّى بالجُملةِ اشْتِمالُها على خَصائصِ الابتداءِ باسْمِ الشَّيطانِ؛ للاهتِمامِ به في غَرَضِ ذَمِّهم، وأنْ يُسنَدَ إلى اسْمِه مُسنَدٌ فِعلِيٌّ؛ لِيُفِيدَ تَقوِّيَ الحُكْمِ .
2- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ إذِ التَّقديرُ أنْ يَسأَلَ سَائلٌ عن مَظهَرِ تَسويلِ الشَّيطانِ لهم الارتدادَ بعْدَ أنْ تَبيَّنَ لهم الهُدى، فأُجِيبَ بأنَّ الشَّيطانَ اسْتَدْرَجَهم إلى الضَّلالِ عِندَما تَبيَّن لهم الهُدى فسَوَّلَ لهم أنْ يُوافِقوا أهْلَ الشِّركِ والكُفرِ في بَعضِ الأُمورِ، مُسوِّلًا أنَّ تلك المُوافَقةَ في بَعضِ الأمْرِ لا تَنقُضُ اهْتِداءَهم، فلمَّا وافَقُوهم وَجَدوا حَلاوةَ ما أَلِفوه مِن الكُفرِ فيما وافَقوا فيه أهْلَ الكُفرِ، فأخَذوا يَعودونَ إلى الكُفرِ المأْلوفِ حتَّى ارْتَدُّوا على أدْبارِهم، وهذا شأْنُ النَّفْسِ في مُعاوَدةِ ما تُحِبُّه بعْدَ الانقطاعِ عنْه إنْ كان الانقطاعُ قَريبَ العَهدِ .
- وقالوا: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ؛ احتِرازًا لأنفُسِهم إذا لم يُطيعوا في بَعضٍ .
- قولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، مُتضمِّنٌ لِلْإفشاءِ في الدُّنيا، والتَّعذيبِ في الآخِرةِ .
3- قَولُه تعالى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يَجوزُ أنْ تَكونَ الفاءُ في فَكَيْفَ لِلتَّفريعِ على جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ [محمد: 25] الآيةَ، وما بيْنَهما مُتَّصِلٌ بقَولِه: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ [محمد: 25] بِناءً على أنَّ الارتِدادَ ارتِدادٌ عن الدِّينِ؛ فيَكونَ التَّفريعُ لِبَيانِ ما سَيَلْحَقُهم مِن العَذابِ عِندَ المَوتِ، وهو استِهلالٌ لِمَا يَتواصَلُ مِن عَذابِهم عندَ مَبدَأِ المَوتِ إلى اسْتِقرارِهم في العَذابِ الخالِدِ. ويَجوزُ إذا كان المُرادُ بالارتِدادِ الارتِدادَ عن القِتالِ، أنْ تَكونَ الفاءُ فَصيحةً، فيُفيدُ: إذا كانوا فَرُّوا مِن القِتالِ هلَعًا وخَوفًا، فكيفَ إذا تَوفَّتْهم الملائكةُ؟! أي: كيف هَلَعُهم ووَجَلُهم الَّذي ارْتَدُّوا بِهما عن القِتالِ؟! وهذا يَقْتضي شَيئينِ؛ أوَّلُهما: أنَّهم مَيِّتُون لا مَحالةَ، وثانِيهما: أنَّ مَوتَتَهم يَصحَبُها تَعذيبٌ؛ فالأوَّلُ مأْخوذٌ بدَلالةِ الالْتزامِ، والثَّاني هو صَريحُ الكلامِ، وهو وَعيدٌ لِتَعذيبٍ في الدُّنيا عِندَ الموتِ، والمَقصودُ: وَعيدُهم بأنَّهم سيُعَجَّلُ لهم العَذابُ مِن أوَّلِ مَنازِلِ الآخِرةِ، وهو حالةُ الموتِ .
- قولُه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... (إذا) مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ دلَّ عليه اسمُ الاستِفهامِ، تَقْديرُه: كَيف حالُهم أو عَمَلُهم حِينَ تَتوفَّاهم الملائكةُ ؟!
 - ولَمَّا جُعِلَ هذا العَذابُ مُحقَّقًا وُقوعُه، رُتِّبَ عليه الاسْتِفهامُ عن حالِهِم فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ... اسْتِفهامًا مُستعمَلًا في مَعنى تَعجيبِ المُخاطَبِ مِن حالِهم عِندَ الوَفاةِ، وهذا التَّعجيبُ مُؤذِنٌ بأنَّها حالةٌ فَظيعةٌ غَيرُ مُعتادةٍ؛ إذ لا يتعجُّبُ إلَّا مِن أمْرٍ غَيرِ مَعهودٍ، والسِّياقُ يدُلُّ على الفَظاعةِ .
- قولُه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ تَصْويرٌ لِتَوفِّيهم على أهْولِ الوُجوهِ وأفظَعِها بما يَخافون منه، ويَجْبُنون عن القِتالِ مِن أجْلِه .
- وأيضًا جُملةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ حالٌ مِن الملائكةِ، والمَقصودُ مِن هذه الحالِ: وَعيدُهم بهذه المِيتةِ الفَظيعةِ الَّتي قدَّرَها اللهُ لهم، وجَعَل المَلائكةَ تَضرِبُ وُجوهَهم وأدْبارَهم، أي: يَضرِبون وُجوهَهم الَّتي وَقَوْهَا مِن ضَرْبِ السَّيفِ حِينَ فَرُّوا مِن الجِهادِ؛ فإنَّ الوُجوهَ ممَّا يُقصَدُ بالضَّرْبِ بالسُّيوفِ عِندَ القِتالِ، ويَضرِبونَ أدْبارَهم الَّتي كانتْ مَحَلَّ الضَّرْبِ لو قاتَلوا، وهذا تَعريضٌ بأنَّهم لو قاتَلوا لَفَرُّوا، فلا يَقَعُ الضَّرْبُ إلَّا في أدْبارِهم .
4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ في ذِكرِ اتِّباعِ ما أسخَطَ اللهِ وكَراهةِ رِضوانِه مُحسِّنُ الطِّباقِ مرَّتينِ؛ لِلمُضادَّةِ بيْن السَّخَطِ والرِّضوانِ، والاتِّباعِ والكَراهيةِ. والجمْعُ بيْن الإخبارِ عنْهم باتِّباعِهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتِهم رِضوانَه، مع إمكانِ الاجْتِزاءِ بأحَدِهما عن الآخَرِ؛ لِلْإيماءِ إلى أنَّ ضَرْبَ الملائكةِ وُجوهَ هؤلاء مُناسِبٌ لِإقبالِهم على ما أسْخَطَ اللهَ، وأنَّ ضَرْبَهم أدْبارَهم مُناسِبٌ لِكَراهَتِهم رِضوانَه؛ لأنَّ الكَراهةَ تَستلزِمُ الإعراضَ والإدبارَ؛ ففي الكلامِ أيضًا مُحسِّنُ اللَّفِّ والنَّشْرِ المُرتَّبِ ، فكان ذلك التَّعذيبُ مُناسبًا لِحالَيْ تَوقِّيهم في الفِرارِ مِن القِتالِ، ولِلسَّببينِ الباعثينِ على ذلك التَّوقِّي .
- وفُرِّعَ على اتِّباعِهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتِهم رِضوانَه قَولُه: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ؛ فكان اتِّباعُهم ما أسْخَطَ اللهَ وكَراهَتُهم رِضوانَه سَببًا في الأمْرَينِ: ضَرْبُ الملائكةِ وُجوهَهم وأدْبارَهم عِندَ الوفاةِ، وإحباطُ أعْمالِهم .