الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: دُعاءُ الموتى

الدُّعاءُ عِبادةٌ من أعظَمِ العباداتِ، وأجَلِّ الطَّاعات، ويجِبُ صَرْفُه لله تعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، فإنَّ من دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ بغيرِ اللهِ تعالى فيما لا يقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فقد كفر وخرج من الملَّةِ، سواءٌ كان هذا الغيرُ نبيًّا، أو وليًّا، أو مَلَكًا، أو جِنيًّا، أو غيرَ ذلك من المخلوقات.
قال اللهُ تعالى: وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 106- 107] .
قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولا تَدْعُ -يا مُحَمَّدُ- مِن دونِ مَعبودِك وخالِقِك شيئًا لا ينفَعُك في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، ولا يَضُرُّك في دينٍ ولا دنيا، يعني بذلك الآلهةَ والأصنامَ، يقولُ: لا تَعْبُدْها راجِيًا نَفْعَها أو خائِفًا ضُرَّها؛ فإنَّها لا تَنفَعُ ولا تضُرُّ، فإن فعلتَ ذلك فدعَوْتَها من دوِن اللهِ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] يقولُ: من المُشْرِكين بالله، الظَّالِمي أنفُسِهم) [1962] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304). .
وقال السَّعديُّ: (هذا وصفٌ لكل مخلوقٍ؛ أنَّه لا ينفَعُ ولا يضُرُّ، وإنما النافِعُ الضَّارُّ هو الله تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ بأن دعَوْتَ من دونِ اللهِ ما لا ينفَعُك ولا يضُرُّك فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ أي: الضَّارِّين أنفُسَهم بإهلاكِها، وهذا الظُّلمُ هو الشِّركُ، كما قال تعالى: إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، فإذا كان خيرُ الخَلْقِ لو دعا مع اللهِ غيرَه، لكان من الظَّالِمين المُشْرِكينَ، فكيف بغَيرِه؟!!) [1963] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 213] .
 قال الشَّوكانيُّ: (أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدُعاءِ اللهِ وَحْدَه فقال: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وخِطابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا مع كونِه مُنَزَّهًا عنه، معصومًا منه؛ لحَثِّ العِبادِ على التَّوحيدِ، ونهيِهم عن شوائِبِ الشِّركِ، وكأنَّه قال: أنت أكرَمُ الخَلْقِ عليَّ، وأعَزُّهم عندي، ولو اتَّخَذْتَ معي إلهًا لعَذَّبْتُك، فكيف بغَيرِك من العبادِ؟) [1964] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 138). .
 وقال السَّعديُّ: (ينهى تعالى رَسولَه أصلًا، وأمَّتُه أُسوةٌ له في ذلك، عن دعاءِ غيرِ اللهِ، من جميعِ المخلوقينَ، وأنَّ ذلك موجِبٌ للعَذابِ الدَّائِمِ، والعِقابِ السَّرمديِّ، لكَونِه شِركًا، ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ والنَّهيُ عن الشَّيءِ أمرٌ بضِدِّه؛ فالنَّهيُ عن الشِّركِ أمرٌ بإخلاصِ العِبادةِ للهِ وَحْدَه لا شَريكَ له؛ مَحبَّةً وخوفًا ورجاءً، وذُلًّا وإنابةً إليه في جميعِ الأوقاتِ) [1965] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 598). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا [الجن: 18] أيُّهَا النَّاسُ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] ، ولا تُشرِكوا به فيها شيئًا، ولكِنْ أفرِدوا له التَّوحيدَ، وأخلِصوا له العِبادةَ) [1966] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 340). .
وقال القُرطبي: (هذا توبيخٌ للمُشْرِكين في دعائِهم مع اللهِ غَيْرَه في المسجِدِ الحرامِ. وقال مجاهِدٌ: كانت اليهودُ والنَّصارى إذا دخلوا كنائِسَهم وبِيَعَهم أشركوا باللهِ، فأمَرَ اللهُ نبيَّه والمؤمنين أن يخلِصوا لله الدَّعوةَ إذا دخلوا المساجِدَ كُلَّها) [1967] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/22). .
 وقال ابنُ باز: (لا رَيْبَ أنَّ الدُّعاءَ مِن أهمِّ أنواعِ العبادةِ وأجمَعِها، فوجب إخلاصُه لله وَحْدَه، كما قال عَزَّ وجَلَّ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر: 14] ، وقال عَزَّ وجَلَّ: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] ، وهذا يعُمُّ جميعَ المخلوقاتِ مِن الأنبياءِ وغَيرِهم؛ لأنَّ (أحَدًا) نكرةٌ في سياقِ النَّهيِ، فتَعُمُّ كُلَّ مَن سِوى الله سُبحانَه، وقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ [يونس: 106] ، وهذا خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعلومٌ أنَّ اللهَ سُبحانَه قد عَصَمَه مِنَ الشِّركِ، وإنَّما المرادُ من ذلك تحذيرُ غَيِره. ثمَّ قال عَزَّ وجَلَّ: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، فإذا كان سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لو دعا غيرَ اللهِ يكونُ مِن الظَّالِمين، فكيف بغَيرِه؟) [1968] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (2/ 110). .
وقال اللهُ تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] .
قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولا تعبُدْ -يا مُحَمَّدُ- مع معبودِك الذي له عبادةُ كُلِّ شَيءٍ مَعبودًا آخَرَ سِواه. وقَولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يقولُ: لا مَعبودَ تَصلُحُ له العبادةُ إلَّا اللهُ) [1969] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/ 353). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .
قال السَّعديُّ: (قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ أي: مُدَّةَ مُقامِه في الدُّنيا لا ينتَفِعُ به بمثقالِ ذَرَّةٍ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ لا يَسمَعونَ منهم دعاءً ولا يجيبونَ لهم نداءً، هذا حالُهم في الدُّنيا، ويومَ القيامةِ يَكفُرونَ بشِرْكِهم) [1970] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 779). .
وقال ابنُ عثيمين: (دُعاءُ غيرِ اللهِ شِركٌ في الدِّينِ، وسَفَهٌ في العَقلِ؛ شِركٌ في الدِّينِ؛ لأنَّهم اتَّخَذوا شريكًا مع اللهِ، وسَفَهٌ في العَقلِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، ويومَ القيامةِ لا يَنفَعونَهم وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ فوصف اللهُ هذه المدْعُوَّاتِ بأنَّها عاجزةٌ لا يَستجيبون أبدًا لو دَعَوهم إلى يومِ القيامةِ، وبأنَّها غافِلةٌ لا تدري من يدعوها، ولا تحِسُّ بشَيءٍ من ذلك، وبأنَّه إذا كان يومُ القيامةِ، وهو وقتُ الحاجةِ الحقيقيَّةِ، إذا حُشِرَ النَّاسُ كانوا لهم أعداءً، وكانوا بعبادتِهم كافِرين، كدُعاءِ الأولياءِ والأصنامِ وما أشبَهَها) [1971] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/288). .
وعن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من مات وهو يدعو من دونِ اللهِ نِدًّا، دَخَل النَّارَ)) [1972] أخرجه البخاري (4497) واللفظ له، ومسلم (92) بلفظ ((من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (من أعظَمِ الاعتداءِ والعُدوانِ والذُّلِّ والهَوانِ: أن يُدعَى غيرُ اللهِ؛ فإنَّ ذلك من الشِّركِ، واللهُ لا يَغفِرُ أن يُشرَكُ به، وإنَّ الشِّركَ لظُلمٌ عظيمٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ) [1973] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/ 210).  .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (مِن أنواعِه أي: الشِّركِ الأكبَرِ طَلَبُ الحوائِجِ مِن الموتى، والاستغاثةُ بهم، والتَّوجُّهُ إليهم، وهذا أصلُ شِركِ العالَمِ؛ فإنَّ الميِّتَ قد انقطَعَ عَمَلُه، وهو لا يملِكُ لنَفْسِه ضَرًّا ولا نَفْعًا، فضلًا عمَّن استغاث به، وسأله قضاءَ حاجتِه، أو سأله أن يشفَعَ له إلى اللهِ فيها، وهذا من جَهْلِه بالشَّافِعِ والمشفوعِ له عِنْدَه) [1974] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 353). .
ويجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ من قَصَد غيرَ اللهِ بدُعاءٍ أو استعاذةٍ أو استعانةٍ، فهو كافِرٌ، وإن لم يعتَقِدْ فيمن قَصَده تدبيرًا أو تأثيرًا أو خَلْقًا؛ فمُشْرِكو العَرَبِ الذين قاتلهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكونوا يعتَقِدون أنَّ مَعبوداتِهم تَخلُقُ وتَرزُقُ، وتُدَبِّرُ أمرَ مَن قَصَدَها، بل كانوا يَعلَمون أنَّ ذلك لله وَحْدَه، كما حكاه عنهم في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه، بل كانوا يَدْعُونَها ويَستَغيثون بها مع إقرارِهم بأنَّ اللهَ هو المدَبِّرُ الخالِقُ الرَّزَّاقُ [1975] يُنظر: ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 48 - 52)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (2/ 53 ، 281)، ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 129 - 136). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (كان من أتباعِ هؤلاء المُشْرِكين من يسجُدُ للشَّمسِ والقَمَرِ، والكواكِبِ، ويَدْعوها كما يدعو اللهَ تعالى، ويصومُ لها وينسُكُ لها، ويتقَرَّبُ إليها، ثم يقولُ: إنَّ هذا ليس بشِركٍ، وإنما الشِّركُ إذا اعتَقَدْتُ أنَّها هي المدَبِّرةُ لي، فإذا جعَلْتُها سببًا وواسطةً لم أكن مُشْرِكًا! ومن المعلومِ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِرْكٌ) [1976] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/227). .
فدُعاءُ غيرِ اللهِ مِن نواقِضِ الإيمانِ، وكذا الاستغاثةُ والاستعانةُ والاستعاذةُ بغَيرِه تعالى، وذلك من وجوهٍ عديدةٍ؛ منها:
1- أنَّ اللهَ تعالى هو الإلهُ الحَقُّ، وأنَّ معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ، أي: لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ تعالى وَحْدَه، فهو سُبحانَه وَحْدَه المستَحِقُّ لجميعِ أنواعِ العبادةِ، والدُّعاءُ من أجَلِّ العباداتِ وأعظَمِها شأنًا، وقد سمَّاه الله تعالى عبادةً، كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِـبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .
قال ابنُ جريرٍ: (اعبُدوني وأخلِصوا لي العبادةَ دونَ مَن تَعبُدونَ مِن دوني من الأوثانِ والأصنامِ وغيرِ ذلك أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] يقولُ: أُجِبْ دُعاءَكم، فأعفو عنكم وأرحمُكم) [1977] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 351). .
وقال الشَّوكانيُّ: (قال أكثَرُ المفَسِّرين: المعنى: وَحِّدوني واعبُدوني، أتقَبَّلْ عبادتَكم وأغفِرْ لكم، وقيل: المرادُ بالدُّعاءِ: السُّؤالُ بجَلْبِ النَّفعِ، ودَفعِ الضُّرِّ. قيل: الأوَّلُ أَولى؛ لأنَّ الدُّعاءَ في أكثَرِ استعمالاتِ الكِتابِ العزيزِ هو العبادةُ. قُلتُ: بل الثَّاني أَولى؛ لأنَّ معنى الدُّعاءِ حقيقةً وشَرعًا: هو الطَّلَبُ، فإن استُعمِلَ في غيرِ ذلك فهو مجازٌ، على أنَّ الدُّعاءَ في نَفْسِه باعتبارِ معناه الحقيقيِّ هو عبادةٌ، بل مُخُّ العبادةِ، كما ورد بذلك الحديثُ الصَّحيحُ [1978] أخرجه الترمذي (3371)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3196)، والديلمي في ((الفردوس)) (3087) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: غريبٌ من هذا الوجهِ، لا نعرفُه إلا من حديث ابن لهيعةَ. وقال الطبراني: لم يَرْوِ هذا الحديثَ عن أبان إلا عبيدُ الله، تفرَّد به ابن لهيعة. والحديثُ ضعَّفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)) (3371)، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (3/398): فيه ضعفٌ، وإن كان صحيحًا من جهة مراعاة المعنى، والصَّحيح: (الدُّعاءُ هو العبادةُ). وأخرجه بلفظ: ((الدعاء هو العبادة)): أبو داود (1479)، والترمذي (3247)، وابن ماجه (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه  صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (890)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/112)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3828)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1177). ، فالله سُبحانَه قد أمَرَ عبادَه بدعائِه ووَعَدَهم بالإجابةِ ووَعْدُه الحقُّ، وما يُبَدَّلُ القَولُ لديه، ولا يخلِفُ الميعادَ، ثمَّ صَرَّح سُبحانَه بأنَّ هذا الدُّعاءَ باعتبارِ معناه الحقيقيِّ، وهو الطَّلَبُ، هو من عبادتِه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] ، أي: ذليلِينَ صاغِرينَ، وهذا وعيدٌ شديدٌ لِمن استكبر عن دعاءِ اللهِ، وفيه لُطفٌ بعِبادِه عظيمٌ وإحسانٌ إليهم جليلٌ؛ حيث توعَّد من تَرَك طَلَبَ الخيرِ منه، واستدفاعَ الشَّرِّ به، بهذا الوعيدِ البالِغِ، وعاقَبَه بهذه العقوبةِ العَظيمةِ، فيا عِبادَ اللهِ وَجِّهوا رَغَباتِكم، وعَوِّلوا في كُلِّ طَلَباتِكم على من أَمَركم بتوجيهِها إليه، وأَرشَدَكم إلى التعويلِ عليه، وكَفَل لكم الإجابةَ به بإعطاءِ الطِّلبةِ؛ فهو الكريمُ المُطلَقُ الذي يجيبُ دَعوةَ الدَّاعي إذا دعاه، ويَغضَبُ على من لم يَطلُبْ مِن فَضْلِه العظيمِ ومُلْكِه الواسِعِ ما يحتاجُه من أمورِ الدُّنيا والدِّينِ، قيل: وهذا الوَعدُ بالإجابةِ مُقَيَّدٌ بالمشيئةِ، أي: أستَجِبْ لكم إن شِئْتُ، كقَولِه سُبحانَه: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) [1979] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 571). .
وقال سُبحانَه وتعالى في شأنِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 48- 49] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ: وأجتَنِبُكم وما تَدْعون من دونِ اللهِ مِن الأوثانِ والأصنامِ... وأدعو رَبِّي بإخلاصِ العبادةِ له، وإفرادِه بالرُّبوبيَّةِ... عسى أن لا أشقى بدُعاءِ رَبِّي، ولكِنْ يجيبُ دُعائي، ويُعطيني ما أسألُه) [1980] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 556). .
وقال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وأيُّ عبدٍ أضَلُّ مِن عَبدٍ يدعو من دونِ اللهِ آلهةً لا تستجيبُ له إلى يومِ القيامةِ؟ يقول: لا تجيبُ دُعاءَه أبدًا؛ لأنَّها حَجَرٌ أو خَشَبٌ أو نحوُ ذلك، وقَولُه: وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] يقولُ تعالى ذِكْرُه: وآلهتُهم التي يَدْعُونَهم، عن دعائِهم إيَّاهم في غَفلةٍ؛ لأنَّها لا تسمَعُ ولا تَنطِقُ، ولا تَعقِلُ، وإنَّما عنى بوَصْفِها بالغَفلةِ تمثيلَها بالإنسانِ السَّاهي عمَّا يقالُ له؛ إذ كانت لا تَفهَمُ ممَّا يُقالُ لها شيئًا، كما لا يَفهَمُ الغافِلُ عن الشَّيءِ ما غفل عنه، وإنما هذا توبيخٌ من الله لهؤلاء المُشْرِكين؛ لسوءِ رأيِهم، وقُبْحِ اختيارِهم في عبادتِهم مَن لا يَعقِلُ شيئًا ولا يَفهَمُ، وتَرْكِهم عبادةَ مَن جميعُ ما بهم مِن نِعْمَتِه، ومَن به استغاثِتُهم عندما ينزِلُ بهم من الحوائِجِ والمصائِبِ... وإذا جُمِع النَّاسُ يومَ القيامةِ لموقِفِ الحِسابِ، كانت هذه الآلهةُ التي يَدْعُونها في الدُّنيا لهم أعداءً؛ لأنَّهم يتبَرَّؤون منهم... وكانت آلهتُهم التي يَعبُدونها في الدُّنيا بعبادتِهم جاحِدين؛ لأنَّهم يقولون يومَ القيامةِ: ما أمَرْناهم بعبادَتِنا، ولا شَعَرْنا بعبادتِهم إيَّانا، تبَرَّأْنا إليك منهم يا رَبَّنا) [1981] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 116، 117). .
وقال السيوطيُّ في قولِ اللهِ تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] : (لا تعبُدْ إلَّا إيَّاه ولا تَدْعُ إلا هو، ولا تستَعِنْ إلَّا به؛ فإنَّه لا مانِعَ ولا معطيَ ولا ضارَّ ولا نافِعَ إلَّا هو سُبحانَه وتعالى) [1982] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 118). .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ على المنبَرِ: ((إنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ، ثمَّ قرأ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] )) [1983] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3247)، وابن ماجه (3828)  صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (890)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/112)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3828)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1177). .
قال ابنُ المَلك: (الدُّعاءُ هو العِبادةُ"؛ لأنَّ المقصودَ الأعظَمَ من العبادةِ: الإقبالُ عليه تعالى، والإعراضُ عمَّا سِواه، بحيث لا يُرجَى ولا يُخافُ إلَّا إيَّاه، والدُّعاءُ لا ينفَكُّ عن هذه المعاني، فجَعَلَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نَفْسَ العبادةِ) [1984] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (3/ 73). .
وقال الصَّنعاني: (قَولُه في حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ: «الدُّعاءُ هو العِبادةُ»؛ وذلك لأنَّ العبادةَ هي غايةُ الخُضوعِ والتذَلُّلِ لله تعالى، وفي الدُّعاءِ الخُضوعُ والتذَلُّلُ، فهو العبادةُ) [1985] يُنظر: ((التحبير)) (4/ 10). .
وقال عبدُ اللهِ أبا بطين: (دعاءُ الأمواتِ والغائبين وطَلَبُ الحاجاتِ منهم: مِن الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، يدخُلُ في ذلك الملائكةُ والأنبياءُ والصَّالحون وغيرُهم؛ لأنَّ ذلك عبادةٌ، وهي محْضُ حَقِّ اللهِ) [1986] يُنظر: ((تأسيس التقديس)) (ص: 120). .
فدُعاءُ اللهِ وَحْدَه إيمانٌ وتوحيدٌ، ودعاءُ غَيرِه كُفرٌ وتنديدٌ، فمن استغاث بغيرِ الله تعالى فقد اتَّخَذ مع الله نِدًّا، وقد قال تعالى في حالِ من أشرك وجعل لله أندادًا لِيُضِلَّ عن سبيلِه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] ، فكَفَّره تعالى باتخاذِ الأندادِ، وهم الشُّرَكاء في العبادةِ [1987] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/ 204). .
قال ابنُ كثيرٍ: (قوله: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ أي: عند الحاجةِ يَضرَعُ ويَستغيثُ باللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] ؛ ولهذا قال: ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي: في حالِ الرَّفاهيَةِ ينسى ذلك الدُّعاءَ والتضَرُّعَ، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِه أي: في حالِ العافيةِ يُشرِكُ باللهِ، ويَجعَلُ له أندادًا. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أي: قُلْ لِمن هذه حالُه وطريقتُه ومَسْلَكُه: تمتَّعْ بكُفْرِك قليلًا، وهذا تهديدٌ شديدٌ، ووعيدٌ أكيدٌ) [1988] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 87). .
وإذا كان الدُّعاءُ عِبادةً فصَرْفُها لغيرِ الله تعالى كُفرٌ [1989] يُنظر: ((الرد على البكري)) لابن تيمية (1/ 420). ، وقد تقدَّم أنَّ الشِّركَ الأكبَرَ هو صَرْفُ نوعٍ أو فَردٍ مِن العبادةِ لغيرِ اللهِ تعالى [1990] يُنظر: ((القول السديد)) للسعدي (ص: 54). .
قال مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (ومن أنواعِ العبادةِ الدُّعاءُ، كما كان المؤمنون يَدْعون اللهَ وَحْدَه ليلًا ونهارًا في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، لا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّ هذا من أنواعِ العبادةِ، فتفكَّرْ -رحمك اللهُ- فيما حدث في النَّاسِ اليَومَ من دعاءِ غَيرِ اللهِ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، هذا يريدُ سَفَرًا، فيأتي عند قبرٍ أو غيرِه، فيدخُلُ عليه بمالِه، عمَّن ينهَبُه، وهذا تلحَقُه الشِّدَّةُ في البَرِّ أو البحرِ، فيستغيثُ بعبد القادِرِ أو شمسانَ، أو نبيٍّ من الأنبياءِ، أو وَليٍّ من الأولياءِ أن يُنجِيَه من هذه الشِّدَّةِ! فيقال لهذا الجاهِلِ: إن كنتَ تَعرِفُ أنَّ الإلهَ هو المعبودُ، وتَعرِفُ أنَّ الدُّعاءَ من العبادةِ، فكيف تدعو مخلوقًا ميِّتًا عاجزًا، وتترُكُ الحَيَّ القيُّومَ الحاضِرَ الرَّؤوفَ الرَّحيمَ القديرَ؟!) [1991] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/ 104). .
وجاء في كتابِ (التَّوضيح عن توحيد الخلاق): (والدَّاعي غيرَ اللهِ فيما لا يَقدِرُ عليه غيرُه سُبحانَه وتعالى: جاعِلٌ لله نِدًّا من خَلْقِه فيما يستحِقُّه تعالى من الأُلوهيَّةِ المقتَضِيةِ للرَّهبةِ والرَّغبةِ، والاستعاذةِ، وذلك كُفرٌ بإجماعِ الأمَّةِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه هو المستَحِقُّ للعبادةِ لذاتِه؛ فإنَّه المألوهُ المعبودُ الذي تألهُه القلوبُ بالرَّغبةِ لديه، والفَزَعِ عند الشَّدائِدِ إليه، وما سِواه فهو مفتَقِرٌ بالعبوديَّةِ مقهورٌ بها، فكيف يَصلُحُ أن يكونَ إلهًا مرغوبًا مرهوبًا مدعوًّا؟!) [1992] يُنظر: ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وآخَرِين (ص: 291). .
وقال عبدُ الرَّحمن بن حَسَن آل الشَّيخِ: (إنَّ الاستِمدادَ بالأمواتِ والغائبين هو الشِّركُ الأكبَرُ الذي لا يغفِرُه اللهُ؛ فإنَّ الاستمدادَ عِبادةٌ، والعبادةُ لا يجوزُ أن يُصرَفَ منها شيءٌ لغيرِ اللهِ، وذلك أنَّ الاستمدادَ نتيجتُه الاعتمادُ، والاعتمادُ هو معنى التَّوكُّلِ الذي هو من خصائِصِ الإلِهيَّةِ وأجمَعِها لأعمالِ القُلوبِ... إنَّ مَورِدَ العبادةِ القَلْبُ واللِّسانُ والأركانُ، والمستمِدُّ لا يكونُ إلَّا داعيًا وراغبًا وراهبًا، وخاشعًا ومتذَلِّلًا، ومُستعينًا؛ فإنَّ الاستمدادَ طَلَبُ المدَدِ بالقَلْبِ واللِّسانِ والأركانِ ولا بُدَّ، وهذه الأعمالُ هي أنواعُ العبادةِ، فإذا كانت للهِ وَحْدَه، فقد ألَّهَه العَبدُ، فإذا صُرِفَ لغيرِ الله تعالى صار مألوهًا له) [1993] يُنظر: ((الدرر السنية)) (11/ 413 - 415) .
وقال عبدُ اللهِ أبا بطين: (فمـن صَرَف لغيرِ اللهِ شَيئًا من أنواعِ العبادة المتقَدِّمِ تعريفُها؛ كالحُبِّ والتعظيمِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، والدُّعاءِ والتَّوكلِ، والذَّبحِ والنَّذْرِ، وغَيرِ ذلك- فقد عَبَد ذلك الغيرَ واتَّخَذه إلهًا، وأشركَه مع اللهِ في خالِصِ حَقِّه، وإن فَرَّ مِـن تسميةِ فِعْلِه ذلك تألُّهًا وعبادةً وشِركًا، ومعلومٌ عند كُلِّ عاقلٍ أنَّ حقائِقَ الأشياءِ لا تتغَيَّرُ بتغَيُّرِ أسمائها، ... فالشِّركُ إنَّما حُرِّم لقُبْحِه في نَفْسِه، وكونِه متضَمِّنًا مَسَبَّةً للرَّبِّ، وتنقُّصَه وتشبيهَه بالمخلوقين، فلا تزولُ هذه المفاسِدُ بتغييرِ اسمِه، كتسميتِه توَسُّلًا وتشَفُّعًا وتعظيـمًا للصَّالحين، وتوقيرًا لهم، ونحوَ ذلك، فالمُشْرِكُ مُشْرِكٌ، شاء أم أبى) [1994] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/ 298) .
2- سَمَّى اللهُ تعالى دعاءَ غَيرِه شِركًا وكُفرًا، وقد جاء هذا في آياتٍ كثيرةٍ؛ منها قَولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40- 41] .
قال السَّعديُّ: (أي: إذا حَصَلَت هذه المشقَّاتُ وهذه الكُروبُ التي يُضطَرُّ إلى دَفْعِها، هل تَدْعون آلهتَكم وأصنامَكم، أم تَدْعون ربَّكم الملِكَ الحَقَّ المُبينَ؟ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ، فإذا كانت هذه حالَكم مع أندادِكم عند الشَّدائدِ، تَنْسَونَهم؛ لعِلْمِكم أنَّهم لا يَملِكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وتُخلِصون للهِ الدُّعاءَ؛ لعِلْمِكم أنَّه هو النَّافِعُ الضَّارُّ، المجيبُ لدَعوةِ المضطَرِّ، فما بالُكم في الرَّخاءِ تُشْرِكون به، وتجعلون له شُرَكاءَ؟! هل دلَّكم على ذلك عَقلٌ أو نَقلٌ، أم عِندَكم من سُلطانٍ بهذا؟! بل تَفْتَرون على اللهِ الكَذِبَ) [1995] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 256). .
وقوله سُبحانَه وتعالى: قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63- 64] .
 قال ابنُ كثير: (يقولُ تعالى ممتَنًّا على عبادِه في إنجائِه المضْطَرِّين منهم مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي: الحائِرين الواقعينَ في المهامِهِ البَرِّية، وفي اللُّجَجِ البَحريَّة إذا هاجت الرِّيحُ العاصفةُ، فحينَئذٍ يُفرِدونَ الدُّعاءَ له وَحْدَه لا شَريكَ له، ... تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً أي: جَهرًا وسِرًّا لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ أي: من هذه الضَّائقةِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: بَعْدَها، قال اللهُ تعالى: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ أي: بَعْدَ ذلك تُشرِكُونَ أي: تَدْعونَ معه في حالِ الرَّفاهيةِ آلهةً أُخرى) [1996] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 268). .
وقوله عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف: 37] .
 قال الشَّوكانيُّ: (الاستفهامُ في قَولِه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للتَّقريعِ والتَّوبيخِ، أي: أين الآلهةُ التي كنتُم تَدْعونَها من دونِ اللهِ وتَعْبُدونَها؟ وجملةُ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا استئنافيَّةٌ بتقديرِ سؤالٍ وَقَعت هي جوابًا عنه، أي: ذَهَبوا عنَّا وغابوا فلا ندري أين هم؟ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ أي: أقَرُّوا بالكُفْرِ على أنفُسِهم) [1997] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 231). .
وقَولُه تبارك وتعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النمل: 53- 54] .
قال البغوي: (قَولُه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، أي: وما يكُنْ بكم من نعمةٍ فمِن اللهِ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ القَحْطُ والمَرَضُ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ تَضِجُّون وتَصيحون بالدُّعاءِ والاستغاثةِ) [1998] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/83). .
وقَولُه تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 65- 66] .
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: فإذا ركِبَ هؤلاء المُشْرِكون السَّفينةَ في البحرِ، فخافوا الغَرَقَ والهَلاكَ فيه دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يقولُ: أخلَصوا لله عند الشِّدَّةِ التي نزلت بهم التَّوحيدَ، وأفرَدوا له الطَّاعةَ، وأذعنوا له بالعبوديَّةِ، ولم يَستغيثوا بآلهتِهم وأندادِهم، ولكِنْ باللهِ الذي خلَقَهم فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ يقولُ: فلَمَّا خَلَّصهم ممَّا كانوا فيه وسَلَّمهم، فصاروا إلى البَرِّ، إذا هم يجعَلون مع الله شريكًا في عبادتِهم، ويَدْعُونَ الآلهةَ والأوثانَ معه أربابًا!) [1999] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/ 441). .
وقوله سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم: آية 35].
 قال السَّعديُّ: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ مَرَضٌ أو خوفٌ مِن هلاكٍ ونحوِه دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ونَسُوا ما كانوا به يُشرِكُون في تلك الحالِ؛ لعِلْمِهم أنَّه لا يكشِفُ الضُّرَّ إلَّا اللهُ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً شفاهم من مَرَضِهم، وآمَنَهم من خَوْفِهم إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ينقُضون تلك الإنابةَ التي صدرت منهم ويُشرِكُون به مَن لا دَفَعَ عنهم ولا أغنى، ولا أفقَرَ ولا أغنى، وكُلُّ هذا كُفرٌ بما آتاهم اللهُ ومَنَّ به عليهم حيث أنجاهم وأنقَذَهم من الشِّدَّةِ، وأزال عنهم المشقَّةَ، فهلا قابلوا هذه النِّعمةَ الجليلةَ بالشُّكرِ والدَّوامِ على الإخلاصِ له في جميعِ الأحوالِ؟) [2000] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 641). .
وقَولُه عَزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13- 14].
قال السمعاني: (قَولُه تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ يعني: إن تَدْعوا الأصنامَ لا يَسْمَعوا دعاءَكم. وقَولُه: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ أي: ما أجابوكم. وقَولُه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يَجحَدون بشِرْكِكم ومُوالاتِكم إيَّاهم) [2001] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/353). .
وقال ابنُ الجوزي: (قَولُه تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ لأنَّهم جمادٌ وَلَوْ سَمِعُوا بأن يخلُقَ اللهُ لهم أسماعًا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ أي: لم يكُنْ عِندَهم إجابةٌ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبَرَّؤون من عبادتِكم) [2002] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/508). .
وقَولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] .
 قال الشَّوكانيُّ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ أيَّ ضُرٍّ كان؛ مِن مَرَضٍ أو فَقرٍ أو خَوفٍ، دعا ربَّه منيبًا إليه أي: راجِعًا إليه مستغيثًا به في دَفْعِ ما نزل به تاركًا لِما كان يدعوه، ويستغيثُ به؛ من مَيِّتٍ أو حيٍّ، أو صَنَمٍ أو غيرِ ذلك ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ، أي: أعطاه ومَلَّكه، يقالُ: خَوَّله الشَّيءَ: أي: مَلَّكه إيَّاه،... نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ أي: نَسِيَ الضُّرَّ الذي كان يدعو اللهَ إلى كَشْفِه عنه مِن قَبْلِ أن يخَوِّلَه ما خَوَّله، وقيل: نَسِيَ الدُّعاءَ الذي كان يتضَرَّع به وتركَه، أو نَسِيَ رَبَّه الذي كان يدعوه ويتضَرَّعُ إليه، ثمَّ جاوز ذلك إلى الشِّركِ باللهِ، وهو معنى قَولِه: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا أي: شُرَكاءَ مِن الأصنامِ أو غيرِها، يستغيثُ بها ويَعبُدُها؛ ليُضِلَّ عن سبيلِه، أي: ليُضِلَّ النَّاسَ عن طريقِ اللهِ، التي هي الإسلامُ والتَّوحيدُ) [2003] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 519). .
3- أنَّ دُعاءَ المخلوقِ وقَصْدَه هو تشبيهٌ للمَخلوقِ الضَّعيفِ العاجِزِ بالخالِقِ القويِّ القادِرِ؛ إذ الدُّعاءُ حَقٌّ خالِصٌ لله وَحْدَه لا شَريكَ له، فمن دعا غيرَ اللهِ فقد تنقَّص الرَّبَّ جَلَّ وعلا، ووقع في أعظَمِ الظُّلمِ وأشنَعِه، كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
قال السمعانيُّ: (قَولُه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظُّلمُ هو وَضْعُ الشَّيءِ في غيرِ مَوضِعِه؛ مَن أشرَكَ مع اللهِ غَيْرَه فقد وَضَع الشَّيءَ في غير مَوضِعِه) [2004] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/ 230). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أي: هو أعظَمُ الظُّلمِ) [2005] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 336). .
وقال ابنُ أبي العزِّ: (أظلَمُ الظُّلمِ على الإطلاقِ الشِّرْكُ، وأعدَلُ العَدْلِ التَّوحيدُ) [2006] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 41). .
وقال السَّعديُّ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ووَجْهُ كَونهِ عظيمًا: أنَّه لا أفظَعَ وأبشَعَ مِمَّن سَوَّى المخلوقَ من ترابٍ، بمالكِ الرِّقابِ، وسَوَّى الذي لا يملِكُ من الأمرِ شيئًا، بمن له الأمرُ كُلُّه، وسَوَّى النَّاقِصَ الفقيرَ من جميعِ الوُجوهِ، بالرَّبِّ الكامِلِ الغنيِّ من جميعِ الوُجوهِ، وسَوَّى من لم يُنعِمْ بمثقالِ ذَرَّةٍ مِنَ النِّعَمِ، بالذي ما بالخَلْقِ مِن نعمةٍ في دينِهم ودُنياهم وأُخْراهم وقُلوبِهم وأبدانِهم إلَّا منه، ولا يَصرِفُ السُّوءَ إلَّا هو، فهل أعظَمُ من هذا الظُّلمِ شَيءٌ؟! وهل أعظَمُ ظُلمًا مِمَّن خَلَقَه اللهُ لعبادتِه وتوحيدِه، فذَهَب بنَفْسِه الشَّريفةِ فجَعَلَها في أخَسِّ المراتِبِ؛ جعَلَها عابدةً لِمن لا يَسوى شيئًا، فظَلَم نَفْسَه ظُلمًا كبيرًا) [2007] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 648). .
وأيضًا فمَن سأل مخلوقًا ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، فهو من جِنسِ مُشْرِكي العَرَبِ الذين يَدْعون الملائكةَ والأنبياءَ والتماثيلَ، ومِن جِنسِ سُؤالِ النَّصارى للمسيحِ وأمِّه.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنْ أثبتُّم وسائِطَ بين اللهِ وبين خَلْقِه، كالحُجَّابِ الذين بين المَلِكِ ورَعِيَّتِه، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائِجَ خَلْقِه، فالله إنَّما يهدي عبادَه ويرزُقُهم بتوسُّطِهم، فالخَلْقُ يسألونهم، وهم يسألون اللهَ، كما أنَّ الوسائِطَ عند الملوكِ يسألون الملوكَ الحوائِجَ للنَّاسِ؛ لقُربِهم منهم، والنَّاسُ يسألونهم أدبًا منهم أن يباشِروا سُؤالَ المَلِك، أو لأنَّ طَلَبَهم من الوسائطِ أنفَعُ لهم من طَلَبِهم من الملِكِ؛ لكَونِهم أقرَبَ إلى الملِكِ مِن الطَّالبِ للحوائجِ، فمن أثبتهم وسائِطَ على هذا الوَجهِ، فهو كافِرٌ مُشْرِكٌ، يجب أن يُستتابَ، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ، وهؤلاء مُشَبِّهون لله، شَبَّهوا المخلوقَ بالخالِقِ، وجعلوا لله أندادًا) [2008] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/126). .
وقال أيضًا: (من أثبت وسائِطَ بين الله وبين خَلْقِه، كالوسائطِ التي تكونُ بين الملوكِ والرعِيَّةِ، فهو مُشْرِكٌ، بل هذا دينُ المُشْرِكين عُبَّادِ الأوثانِ؛ كانوا يقولون: إنَّها تماثيلُ الأنبياءِ والصَّالحين، وإنَّها وسائِلُ يتقَرَّبون بها إلى اللهِ، وهو من الشِّركِ الذي أنكره اللهُ على النصارى) [2009] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 134). .
وقال: (والعَجَبُ من ذي عَقلٍ سَليمٍ يستوحي من هو ميِّتٌ، ويستغيثُ به، ولا يستغيثُ بالحيِّ الذي لا يموتُ! فيقولُ أحَدُهم: إذا كانت لك حاجةٌ إلى مَلِكٍ توسَّلْتَ إليه بأعوانِه، فهكذا يتوسَّلُ إليه بالشُّيوخِ. وهذا كلامُ أهلِ الشِّركِ والضَّلالِ؛ فإنَّ الملِكَ لا يعلَمُ حوائِجَ رَعِيَّتِه، ولا يقدِرُ على قَضائِها وَحْدَه، ولا يريدُ ذلك إلَّا لغَرَضٍ يحصُلُ له بسَبَبِ ذلك، واللهُ أعلَمُ بكُلِّ شَيءٍ، يعلَمُ السَّرَّ وأخفى، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، فالأسبابُ منه وإليه) [2010] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/ 322). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (أمَّا من يأتي إلى قبرِ نبيٍّ أو صالحٍ، أو من يعتقِدُ فيه أنَّه قبرُ نبيٍّ أو رجلٍ صالحٍ، وليس كذلك، ويسألُه ويستنجِدُه... يسألُه حاجَتَه؛ مِثلُ أن يسألَه أن يزيلَ مَرَضَه، أو مَرَضَ دوابِّه، أو يقضيَ دَينَه، أو ينتَقِمَ له من عَدُوِّه، أو يعافيَ نَفْسَه وأهْلَه ودوابَّه، ونحوَ ذلك مما لا يقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فهذا شِركٌ صريحٌ، يجِبُ أن يستتابَ صاحِبُه، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ، وإن قال: أنا أسألُه؛ لكَونِه أقرَبَ إلى اللهِ منِّي لِيَشفَعَ لي في هذه الأمورِ؛ لأني أتوسَّلُ إلى اللهِ به كما يُتوسَّلُ إلى السُّلطانِ بخواصِّه وأعوانِه، فهذا من أفعالِ المُشْرِكين والنصارى، فإنَّهم يزعُمون أنَّهم يتَّخِذون أحبارَهم ورُهبانَهم شُفَعاءَ، يَستشفِعون بهم في مطالِبِهم، وكذلك أخبَرَ اللهُ عن المُشْرِكين أنَّهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ) [2011] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/72). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (حقيقةُ الشِّركِ هو التشَبُّهُ بالخالِقِ، وتشبيهُ المخلوقِ به، هذا هو التشبيهُ في الحقيقةِ، لا إثباتُ صِفاتِ الكَمالِ التي وصف اللهُ بها نَفْسَه، ووصفه بها رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَكْسُ من نكَسَ اللهُ قَلْبَه، وأعمى بصيرتَه، وأركَسَه بكَسْبِه، وجَعَل التَّوحيدَ تشبيهًا، والتشبيهَ تعظيمًا وطاعةً! فالمُشْرِكُ مُشَبِّهٌ للمخلوقِ بالخالِقِ في خصائِصِ الإلِهيَّةِ؛ فإنَّ من خصائِصِ الإلِهيَّة التفَرُّدَ بمِلْكِ الضُّرِّ والنَّفعِ، والعَطاءِ والمنعِ، وذلك يوجِبُ تعليقَ الدُّعاءِ والخَوفِ والرَّجاءِ والتَّوكُّلِ به وَحْدَه، فمن عَلَّق ذلك بمخلوقٍ فقد شَبَّهه بالخالِقِ ... ومن خصائِصِ الإلِهيَّةِ: الكمالُ المطْلَقُ من جميعِ الوُجوهِ، الذي لا نَقْصَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، وذلك يوجـِبُ أن تكونَ العبادةُ كُلُّها له وَحْدَه، والتعظيمُ والإجلالُ، والخشيةُ والدُّعاءُ والرَّجاءُ، والإنابةُ والتَّوبةُ، والتَّوكلُ والاستعانةُ، وغايةُ الذُّلِّ مع غايةِ الحُبِّ؛ كُلُّ ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفِطرةً أن يكونَ له وَحْدَه، ويُمنَعُ عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكونَ لغيرِه، فمن جعل شيئًا من ذلك لغيرِه، فقد شَبَّه ذلك الغيرَ بمن لا شبيهَ له، ولا مثيلَ، ولا نِدَّ له، وذلك أقبحُ التشبيهِ وأبطلُه، ولشِدَّةِ قُبحِه وتضَمُّنِه غايةَ الظُّلمِ أخبر سُبحانَه عبادَه أنَّه لا يَغفِرُه، مع أنَّه كَتَب على نَفْسِه الرَّحمةَ) [2012] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 136). .
وقال ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (المشَبِّهةُ هم الذين يُشَبِّهون المخلوقَ بالخالِقِ في العبادةِ، والتعظيمِ والخضوعِ، والحَلِفِ به، والنَّذرِ له، والسُّجودِ له، والعكوفِ عند بيتِه، وحَلْقِ الرَّأسِ له، والاستغاثةِ به... فهؤلاء هم المشَبِّهةُ حَقًّا) [2013] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 987). .
وقال أيضًا: (فأمَّا القادِرُ على كُلِّ شَيءٍ، الغَنيُّ عن كُلِّ شَيءٍ، الرَّحمنُ الرَّحيمُ، الذي وَسِعَت رحمتُه كُلَّ شيءٍ، فإدخالُ الوسائِطِ بينه وبين خَلْقِه نَقصٌ بحَقِّ ربوبيَّتِه وإلهيَّتِه وتوحيدِه، وظَنٌّ به ظَنَّ سَوءٍ، وهذا يستحيلُ أن يَشرَعَه لعِبادِه، ويمتَنِعُ في العقولِ والفِطَرِ جوازُه، وقُبحُه مُستقِرٌّ في الفِطَرِ السَّليمةِ فوق كُلِّ قبيحٍ، يوضِّحُ هذا أنَّ العابِدَ مُعَظِّمٌ لمعبودِه، متألِّهٌ خاضِعٌ، ذليلٌ له، والرَّبُّ تعالى وَحْدَه هو الذي يستحِقُّ كمالَ التعظيمِ والجلالِ والتألُّهِ، والخُضوعِ والذُّلِّ، وهذا خالِصُ حَقِّه، فمِن أقبَحِ الظُّلمِ أن يُعطى حَقُّه لغيرِه، أو يُشرَكَ بينه وبينه فيه) [2014] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 139). .
4- أجمع أهلُ العِلْمِ على أنَّ من دعا غيرَ اللهِ، أو استغاث به فيما لا يقدِرُ عليه إلَّا اللهُ تعالى؛ فهو كافِرٌ خارِجٌ مِن الملَّةِ الإسلاميَّةِ.
قال ابنُ عَقيلٍ: (لَمَّا صَعُبت التكاليفُ على الجُهَّالِ والطَّغامِ، عَدَلوا عن أوضاعِ الشَّرعِ إلى تعظيمِ أوضاعٍ وَضَعوها لأنفُسِهم، فسَهُلَت عليهم؛ إذ لم يدخُلوا بها تحت أمرِ غَيرِهم، قال: وهم كُفَّارٌ عندي بهذه الأوضاعِ؛ مثلُ: تعظيمِ القُبورِ وإكرامِها بما نهى الشَّرعُ عنه؛ من إيقادِ النِّيرانِ وتقبيلِها وتخليقِها، وخطابِ الموتى بالحوائِجِ، وكَتْبِ الرِّقاعِ فيها: يا مولاي افعَلْ بي كذا وكذا، وأخْذِ تُربتِها تبَرُّكًا) [2015] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/352). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فمن جَعَل الملائكةَ والأنبياءَ وسائِطَ يَدْعوهم، ويتوكَّلُ عليهم، ويسألُهم جَلْبَ المنافعِ، ودَفْعَ المضارِّ، مِثلُ أن يسألَهم غُفرانَ الذُّنوبِ، وهدايةَ القُلوبِ، وتفريجَ الكُروبِ، وسَدَّ الفاقاتِ؛ فهو كافِرٌ بإجماعِ المُسلِمين) [2016] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/124). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (وهو إجماعٌ صحيحٌ، معلومٌ بالضَّرورةِ من الدِّينِ، وقد نصَّ العُلَماءُ من أهلِ المذاهِبِ الأربعةِ وغيرِهم، في بابِ حُكمِ المرتدِّ: على أنَّ مَن أشرَكَ باللهِ، فهو كافِرٌ، أي: عَبَد مع اللهِ غَيْرَه بنوعٍ مِن أنواعِ العِباداتِ) [2017] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 188). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (سؤالُ الميِّتِ والغائِبِ، نبيًّا كان أو غيرَه: من المُحَرَّماتِ المُنكَرةِ باتِّفاقِ أئمَّةِ المُسلِمين، لم يأمُرِ اللهُ به ولا رسولُه، ولا فَعَله أحدٌ من الصَّحابةِ ولا التَّابعين لهم بإحسانٍ، ولا استحَبَّه أحدٌ من أئمَّةِ المُسلِمـين، وهذا ممَّا يُعلَمُ بالاضطرارِ مِن دين المُسلِمين أنَّ أحدًا منهم كان يقولُ إذا نزلت به تِرَةٌ تَبِعةٌ، أو عَرَضَت له حاجةٌ لميِّتٍ: يا سيِّدي فُلان، أنا في حَسْبِك، أو اقْضِ حاجتي، كما يقولُ بعضُ هؤلاء المُشْرِكين لمن يَدْعُونهم من الموتى والغائبين، ولا أحَدٌ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم استغاث بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد موتِه، ولا بغيرِه من الأنبياءِ، لا عند قبورِهم، ولا إذا بَعُدوا عنها) [2018] يُنظرر: ((الرد على البكري)) (1/ 448). .
وقال: (وأمَّا دُعاءُ صِفاتِه صفاتِ اللهِ تعالى وكَلِماتِه، فكُفرٌ باتِّفاقِ المُسلِمين؛ فهل يقولُ مُسلِمٌ: يا كلامَ اللهِ اغفِرْ لي وارحَمْني، وأغِثْني، أو أعِنِّي، أو يا عِلْمَ اللهِ، أو يا قُدرةَ اللهِ، أو يا عِزَّةَ اللهِ، أو يا عَظَمةَ اللهِ، ونحوَ ذلك؟!) [2019] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/ 181). .
وقال أيضًا: (إنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ كُفرٌ؛ ولهذا لم يُنقَلْ دُعاءُ أحَدٍ مِن الموتى والغائبين، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، عن أحَدٍ من السَّلَف وأئمَّةِ العِلمِ، وإنَّما ذكره بعضُ المتأخِّرين ممَّن ليس من أئمَّةِ العِلْمِ المجتَهِدين) [2020] يُنظر: ((قاعدة جليلة)) (ص: 309). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فكُلُّ من غلا في حيٍّ، أو في رجُلٍ صالحٍ... وجَعَل فيه نوعًا من الإلِهيَّة، مِثلُ أن يقولَ:كُلُّ رِزقٍ لا يَرزُقُنيه الشَّيخُ فلانٌ، ما أريدُه، أو يقولُ إذا ذَبَحَ شاةً: باسْمِ سَيِّدي، أو يَعبُدُه بالسُّجودِ له أو لغيرِه أو يدعوه من دونِ اللهِ تعالى؛ مثلُ أن يقولَ: يا سَيِّدي فلان، اغفِرْ لي، أو ارحَمْني، أو انصُرْني، أو ارزُقْني، أو أغِثْني، أو أجِرْني، أو توكَّلتُ عليك، أو أنت حَسْبي، أو أنا في حَسْبِك، أو نحو هذه الأقوالِ والأفعالِ التي هي من خصائِصِ الرُّبوبيَّةِ التي لا تصلُحُ إلَّا لله تعالى، فكُلُّ هذا شِرْكٌ وضَلالٌ يُستتابُ صاحِبُه، فإن تاب وإلَّا قُتِل، فإنَّ اللهَ إنَّما أرسل الرُّسُلَ، وأنزل الكُتُبَ لنَعبُدَ الله وَحْدَه لا شريكَ له، ولا نجعَلَ مع اللهِ إلهًا آخَرَ) [2021] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/359)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 191 - 195). .
وقال أيضًا: (فإنَّا بعد معرفةِ ما جاء به الرَّسولُ نعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه أن تدعوَ أحدًا من الأمواتِ؛ لا الأنبياءَ، ولا الصَّالحين، ولا غيرَهم، لا بلَفْظِ الاستغاثةِ ولا بغيرِها، ولا بلَفْظِ الاستعاذةِ ولا بغيرِها، كما أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه السُّجودَ لِمَيِّتٍ ولا لغيرِ مَيِّتٍ، ونحو ذلك، بل نعلَمُ أنَّه نهى عن كُلِّ هذه الأمورِ، وأنَّ ذلك من الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ تعالى ورسولُه، ولكِنْ لغَلَبةِ الجَهْلِ، وقِلَّةِ العِلْمِ بآثارِ الرِّسالةِ في كثيرٍ مِن المتأخِّرين، لم يمكِنْ تكفيرُهم بذلك حتى يتبيَّنَ لهم ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا يخالِفُه؛ ولهذا ما بَيَّنْتُ هذه المسألةَ قَطُّ لِمن يعرِفُ أصلَ الإسلامِ إلَّا تفطَّنَ وقال: هذا أصلُ دينِ الإسلامِ) [2022] يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/ 731). .
وقال ابنُ عبد الهادي: (ولو جاء إنسانٌ إلى سريرِ الميِّتِ يدعوه من دونِ اللهِ ويستغيثُ به، كان هذا شِرْكًا مُحَرَّمًا بإجماعِ المُسلِمين) [2023] يُنظر: ((الصارم المنكي)) (ص: 325). .
وقال الصَّنعاني: (من نادى اللهَ ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجِهارًا، وخَوفًا وطمعًا، ثم نادى معه غيرَه؛ فقد أشرك في العبادةِ؛ فإنَّ الدُّعاءَ من العبادةِ، وقد سمَّاه اللهُ تعالى عبادةً في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر، آية 60] بَعْدَ قَولِه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ) [2024] يُنظر: ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 66). .
وقال حُسَينُ بنُ مَهدي النعمي: (هذه العبادةُ بكيفيَّتِها موضوعةٌ للرَّبِّ الأحَدِ الصَّمَدِ، السَّميعِ القَريبِ المجيبِ، مالِكِ المُلْكِ، والدُّعاءُ هذا مجراه، وهذه منزلتُه، فدعاءُ غيرِ اللهِ تعالى إخراجٌ للدُّعاءِ عن محَلِّه وموضوعِه، كقيامِه بتلك الصَّلاةِ على تلك الكيفيَّةِ للمَقبورِ والحَجَرِ سواءً بسواءٍ، والفصلُ بين الصَّلاةِ والدُّعاءِ فَصلٌ بين متآخِيَينِ، وتفريقٌ بين الفَرقَدَينِ، وإلَّا فلْيَجعَلوا للمقبورَ صلاةً وصيامًا ونحوَهما، يفارِقُ الذَّمَّ والتشريكَ، ويكونُ صالحًا خاليًا عن الفسادِ والمنكَرِ، سُبحانَك رَبَّنا هذا بهتانٌ عظيمٌ! فما بالُ الدُّعاءِ الذي هو العَلَمُ المشهورُ في العبادةِ، وآياتِ التنزيلِ، بل هو في الحقيقةِ بدايةُ الأمرِ ومَشرَعُه، وقُطبُ رَحاه، سُلَّ مِن مَرْكَزِه، واستُنزِلَ مِن شوامِخِ صَياصيه، وهو أظهَرُ وأشهَرُ معنًى من العبادةِ، وأكثَرُ تنصيصًا وتعيينًا!) [2025] يُنظر: ((معارج الألباب)) (ص: 225). .
وقال مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (فمن دعا غيرَ اللهِ طالبًا منه ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ مِن جَلْبِ خيرٍ، أو دَفْعِ ضُرٍّ؛ فقد أشرك في عبادةِ اللهِ، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6-7] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14- 15] ، فأخبَرَ تبارك وتعالى أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ: شِرْكٌ، فمن قال: يا رسولَ اللهِ، أو يا عبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ، أو يا عبدَ القادِرِ، أو يا محجوبُ، زاعمًا أنَّه يقضي حاجَتَه إلى الله تعالى، أو أنَّه شفيعُه عندَه أو وسيلتُه إليه؛ فهو الشِّركُ الذي يُهدِرُ الدَّمَ ويُبيحُ المالَ، إلَّا أن يتوبَ من ذلك) [2026] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/ 36). .
وقال الشَّوكانيُّ: (إخلاصُ التَّوحيدِ لا يتِمُّ إلَّا بأن يكونَ الدُّعاءُ كُلُّه لله، والنِّداءُ والاستغاثةُ والرَّجاءُ، واستِجلابُ الخيرِ واستِدفاعُ الشَّرِّ؛ له ومنه، لا لغيرِه ولا مِن غَيرِه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] ، لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ [الرعد: 14] ) [2027] يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 47). .
وقال أيضًا: (فإنَّ الشِّركَ هو دعاءُ غيرِ اللهِ في الأشياءِ التي تختصُّ به، أو اعتقادُ القُدرةِ لغيرِه فيما لا يقدِرُ عليه سِواه، أو التقَرُّبُ إلى غيرِه بشَيءٍ مِمَّا لا يُتقَرَّبُ به إلَّا إليه، ومجرَّدُ تسمية المُشْرِكين لِما جعلوه شريكًا بالصَّنَمِ والوَثَنِ والإلهِ، ليس فيه زيادةٌ على التسميةِ بالوَلِيِّ والقبرِ والمشهَدِ، كما يفعَلُه كثيرٌ من المُسلِمين، بل الحُكمُ واحدٌ إذا حصل لمن يعتَقِدُ في الوَلِيِّ والقبرِ ما كان يحصُلُ لِمن كان يعتَقِدُ في الصَّنَمِ والوَثَنِ؛ إذ ليس الشِّركُ هو بمجَرَّدِ إطلاقِ بعض الأسماءِ على بعضِ المسَمَّياتِ، بل الشِّركُ هو أن يَفعَلَ لغيرِ اللهِ شيئًا يختَصُّ به سُبحانَه وتعالى، سواءٌ أَطلَقَ على ذلك الغيرِ ما كان تُطلِقُه عليه الجاهِليَّةُ، أو أطلَقَ عليه اسمًا آخَرَ؛ فلا اعتبارَ بالاسمِ قَطُّ) [2028] يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 50). .
وقال حَمَدُ بنُ ناصرِ بنِ مَعْمَرٍ: (لا نعلَمُ نوعًا من أنواعِ الكُفْر والرِّدَّةِ، ورد فيه من النُّصوصِ مِثلُ ما ورد في دعاءِ غَيرِ اللهِ بالنَّهيِ عنه والتحذيرِ مِن فِعْلِه والوعيدِ عليه) [2029] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (5/ 602). .
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخ: (من المستحيلِ شَرْعًا وفِطرةً وعَقلًا أن تأتيَ هذه الشَّريعةُ المطَهَّرةُ الكامِلةُ بإباحةِ دُعاءِ الموتى والغائبينَ، والاستغاثةِ بهم في المهِمَّاتِ والملِمَّاتِ) [2030] يُنظر: ((الدرر السنية)) (12/ 236). .
وقال أيضًا: (الأدِلَّةُ والنُّصوصُ متواترةٌ مُتظاهِرةٌ على أنَّ طَلَبَ الحوائجِ من الموتى والتَّوجُّهَ إليهم: شِرْكٌ مُحَرَّمٌ، وأنَّ فاعِلَه مِن أسفَهِ السُّفَهاءِ، وأضَلِّ الخَلْقِ، وأنَّه ممَّن عَدَل برَبِّه، وجعل له أندادًا وشُرَكاءَ في العبادةِ التي لا تصلُحُ لسِواه، ولا تنبغي لغَيرِه) [2031] يُنظر: ((مصباح الظلام)) (ص: 393). .
وقال مُحَمَّد رشيد رضا: (فمن دعا إلى عبادةِ نَفْسِه، فقد دعا النَّاسَ إلى أن يكونوا عابِدين له من دونِ اللهِ، وإن لم يَنْهَهم عن عبادةِ اللهِ، بل وإنْ أمَرَهم بعبادةِ اللهِ، ومن جَعَل بينه وبين اللهِ واسِطةً في العبادةِ كالدُّعاءِ، فقد عَبَد هذه الواسِطةَ مِن دونِ اللهِ؛ لأنَّ هذه الواسِطةَ تُنافي الإخلاصَ له وَحْدَه، ومتى انتفى الإخلاصُ انتفت العبادةُ؛ ولذلك قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الزمر: 2- 3] ، فلم يمنَعْ توسُّلُهم بالأولياءِ إليه تعالى أن يَقولَ: إنَّهم اتَّخَذوهم من دونِه) [2032] يُنظر: ((تفسير المنار)) (3/ 285). .
وقال أيضًا: (ومن النَّاسِ من يُسَمُّون أنفُسَهم مُوَحِّدين، وهم يفعلون مِثلَ ما يفعَلُ جميعُ المُشْرِكين، ولكِنَّهم يُفسِدون في اللُّغةِ كما يُفسِدون في الدِّينِ، فلا يُسَمُّون أعمالَهم هذه عبادةً، وقد يُسَمُّونَها توسُّلًا وشفاعةً، ولا يُسَمُّون من يَدْعونَهم من دونِ اللهِ أو مع الله شُرَكاءَ، ولكِنْ لا يأبَون أن يُسَمُّوهم أولياءَ وشُفَعاءَ، وإنَّما الحِسابُ والجزاءُ على الحقائِقِ لا على الأسماءِ، ولو لم يكُنْ منهم إلَّا دعاءُ غيرِ اللهِ ونِداؤُه لقضاءِ الحاجاتِ، وتفريجِ الكُرُباتِ، لكفى ذلك عبادةً له، وشِرْكًا بالله عَزَّ وجَلَّ... ومن تأمَّل تعبيرَ الكتابِ العزيزِ عن العبادةِ بالدُّعاءِ في أكثَرِ الآياتِ الواردةِ في ذلك، وهي كثيرةٌ جدًّا، يعلَمُ كما يعلَمُ من اختبر أحوالَ البَشَرِ في عباداتِهم أنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ الحقيقيَّةُ الفِطريَّةُ التي يُثيرها الاعتقادُ الرَّاسِخُ من أعماقِ النَّفسِ، ولا سِيَّما عند الشِّدَّةِ) [2033] يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/ 344). .
وقال عبد الحميد بن باديس: (ذرائِعُ الفَسادِ تُسَدُّ، لا سيَّما ذريعةِ الشِّركِ ودعاءِ غيرِ اللهِ التي تهدِمُ صُروحَ التوحيدِ، وانظُرْ إلى ما جاء في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ في أصنامِ قَومِ نوحٍ، وكيف كان أصلُ وَضْعِها، وكيف كان مآلُها، وتعالَ إلى الواقِعِ المُشاهَدِ نتحاكَمْ إليه، فإنَّنا نشاهِدُ جماهيرَ العوامِّ يتوجَّهون لأصحابِ القُبورِ ويَسألونهم، ويَنذِرون لهم، ويتمسَّحون بتوابيتِهم، وقد يطوفون بها، ويحصُلُ لهم من الخُشوعِ والابتِهالِ والتضَرُّعِ ما لا يُشاهَدُ منهم إذا كانوا في بيوتِ اللهِ التي لا مقابِرَ فيها!) [2034] يُنظر: ((مجالس التذكير)) (ص: 147-149). .
وقال ابنُ باز: (شُبهةُ هؤلاء المتأخِّرين هي شُبهةُ الأوَّلينَ، وهي قَولُهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وقد أبطل اللهُ هذه الشُّبهةَ، وبَيَّن أنَّ من عبد غَيرَه كائنًا من كان، فقد أشرَكَ به وكَفَر، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فرَدَّ اللهُ عليهم سُبحانَه بقَولِه: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] ، فبَيَّن سُبحانَه في هذه الآيةِ أنَّ عبادةَ غيرِه من الأنبياءِ والأولياءِ أو غَيرِهم: هي الشِّركُ الأكبَرُ، وإنْ سَمَّاها فاعِلوها بغيرِ ذلك، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، فرَدَّ اللهُ عليهم سُبحانَه بقَولِه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] ، فأبان بذلك سُبحانَه أنَّ عِبادتَهم لغيرِه بالدُّعاءِ والخَوفِ والرَّجاءِ ونحوِ ذلك: كُفرٌ به سُبحانَه، وأكَذَبَهم في قَولِهم: إنَّ آلهتَهم تُقَرِّبُهم إليه زُلفى) [2035] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/25). .
وقال ابنُ عثيمين: (إنَّ اللهَ يقولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] ، والدُّعاءُ عِبادةٌ، وإذا كان عبادةً فإنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ يكونُ إشراكًا باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعلى هذا فالذي يَستحِقُّ أن يُدعى ويُعبَدَ ويُرجى هو اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له) [2036] يُنظر: ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 66). .

انظر أيضا: