موسوعة التفسير

سُورةُ القَمَرِ
الآيات (1-8)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريب الكلمات:

مُسْتَمِرٌّ: أي: ذاهِبٌ، مِن قَولِهم: مَرَّ الشَّيءُ على وَجهِه واستَمَرَّ، أي: ذَهَبَ، وقيل: شَديدٌ قَوِيٌّ مُحكَمٌ؛ مِن قَولِهم: قد مرَّ الحَبْلُ: إذا صَلُبَ وقَوِيَ واشتَدَّ، وأصلُ (مرر) هنا: يدُلُّ على مُضِيِّ الشَّيءِ .
مُسْتَقِرٌّ: أي: واقِعٌ كائِنٌ، وأصلُ (قرر): يدُلُّ على تمكُّنٍ .
مُزْدَجَرٌ: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهًى عن الشِّركِ والمَعاصي، وأصلُ (زجر): يدُلُّ على الانتِهارِ .
النُّذُرُ: أي: الرُّسُلُ، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تخويفٍ .
نُكُرٍ: أي: مُنكَرٍ فَظيعٍ، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرِفةِ .
خُشَّعًا: أي: ذَليلةً خاضِعةً، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التَّطامُنِ .
الْأَجْدَاثِ: أي: القُبورِ، جَمعُ جَدَثٍ .
مُهْطِعِينَ: أي: مُسرِعينَ مُقبِلينَ، وأصلُ (هطع): يدُلُّ على إقبالٍ على الشَّيءِ وانقيادٍ .
عَسِرٌ: أي: صَعبٌ شَديدٌ، وأصلُ (عسر): يدُلُّ على صُعوبةٍ وشِدَّةٍ .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ
قَولُه تعالى: يَوْمَ: مَنصوبٌ على الظَّرفيَّةِ بـ يَخْرُجُونَ، أو على المَفعوليَّةِ بـ «اذْكُرْ» مُضمَرةً. وعليهما فيُوقَفُ على فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وَقفًا تامًّا، ثمَّ يُبدَأُ بما بَعْدَها. وجَوَّزَ بَعضُهم نَصْبَ يَوْمَ على الظَّرفيَّةِ بـ «تَوَلَّ»، معناه: فتَولَّ عنهم يومَ يدعو الدَّاعي؛ لأنَّهم لَمَّا أعرَضوا حينَ دعاهم كان جزاؤُهم أن يُعرِضَ عنهم يومَ حاجتِهم إليه؛ لأنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ. وعلى هذا فلا يُوقَفُ على فَتَوَلَّ عَنْهُمْ. وقيلَ غَيرُ ذلك في ناصِبِ يَوْمَ.
وحُذِفَت الواوُ مِن يَدْعُ لَفظًا؛ لالتِقاءِ السَّاكِنَينِ، وخَطًّا؛ اتِّباعًا لِلَّفظِ.
 وحُذِفَت الياءُ مِن الدَّاعِ تخفيفًا واكتِفاءً بالكَسرةِ؛ إجراءً لـ «أل» مجرى ما عاقَبَها وهو التَّنوينُ، فكما تُحذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها.
خُشَّعًا حالٌ مُقَدَّمةٌ مِن فاعلِ يَخْرُجُونَ. أَبْصَارُهُمْ فاعِلٌ باسمِ الفاعِلِ خُشَّعًا: جمعُ خاشِعٍ. يَخْرُجُونَ حالٌ مِنَ الضَّميرِ في أَبْصَارُهُمْ، أو جملةٌ مُستأنَفةٌ لا محَلَّ لها مِن الإعرابِ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالإخبارِ بدُنُوِّ القيامةِ، وبانفِلاقِ القَمَرِ فِلقَتَينِ؛ تأييدًا لنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثمَّ يُخبِرُ تعالى عنْ مُشرِكي قُرَيشٍ بأنَّهم إنْ يَرَوا عَلامةً تَدُلُّهم على صِدقِ نُبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُعرِضوا عن الإيمانِ بها، ويَقولوا مُنكِرينَ لها: هذا الَّذي يُرينا محمَّدٌ إيَّاه سِحرٌ ذاهِبٌ لا حقيقةَ له!
 ثمَّ بيَّن الله تعالى حالَهم، فقال: وكَذَّبوا بالحَقِّ، واتَّبَعوا ما يَشتَهونَه بلا بُرهانٍ، وكُلُّ أمرٍ مُستَقِرٌّ إلى غايةٍ في الدُّنيا أو في الآخِرةِ، ولقد جاء مُشرِكي قُرَيشٍ مِنَ الأنباءِ ما فيه زَجرٌ لهم عن الكُفرِ باللهِ، والتَّكذيبِ بآياتِه ورُسُلِه؛ حِكمةٌ تامَّةٌ قد بَلَغَت الغايةَ، واصِلةٌ إلى المقصودِ منها، فما تَنفَعُهم النُّذُرُ، وهم مُعِرضونَ عن الآياتِ؟!
ثمَّ سلَّى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: فأَعرِضْ عنهم؛ فإنَّ الإنذارَ لا يُجدي فيهم. يومَ يَدعو الدَّاعي النَّاسَ إلى مَوقِفٍ فَظيعٍ كَثيرِ الأهوالِ يَخرُجونَ مِن قُبورِهم وأبصارُهم ذَليلةٌ خاضِعةٌ؛ مِن شِدَّةِ خَوفِهم وفَزَعِهم، فيَتوَجَّهونَ إلى مَوقِفِ الحِسابِ، وكأنَّهم في انتِشارِهم وكَثرتِهم جَرادٌ مُنتَشِرٌ، مُسرِعينَ إلى الدَّاعي؛ تلبيةً لنِدائِه، يقولُ الكافِرونَ يومَ القيامةِ: هذا يومٌ شَديدُ الصُّعوبةِ والعُسرِ.

تفسير الآيات:

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1).
أسبابُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (انشَقَّ القَمَرُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت قُرَيشٌ: هذا سِحرُ ابنِ أبي كَبْشةَ ! سَحَرَكم، فسَلُوا السُّفَّارَ ، فسَألُوهم، فقالوا: نَعَمْ، قد رَأَيْناه، فأنزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (سألَ أهلُ مكَّةَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آيةً، فانشَقَّ القمَرُ بمكَّةَ مرَّتَينِ ، فنَزَلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قَولِه: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، يقولُ: ذاهِبٌ) .
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
أي: دَنَت القيامةُ الَّتي يَبعَثُ اللهُ فيها عِبادَه للحِسابِ والجَزاءِ !
قال الله تبارك وتعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 1 - 3] .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتَينِ -وضَمَّ السَّبَّابةَ والوُسْطى )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما أجَلُكم في أجَلِ مَن خَلا مِنَ الأُمَمِ ما بيْنَ صلاةِ العَصرِ إلى مَغرِبِ الشَّمسِ! )) .
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإخبارُ باقتِرابِ السَّاعةِ يَحتاجُ عندَ المعانِدِ إلى آيةٍ دالَّةٍ عليه، وكانت الآياتُ السَّماويَّةُ أعظَمَ -فالتَّأثيرُ فيها أدَلُّ على تمامِ الاقتِدارِ-، وكان القَمَرُ أدَلَّ على الأنواءِ الَّتي بها مَنافِعُ الخَلقِ في مَعاشِهم، وكانت العَرَبُ أعرَفَ النَّاسِ بها- دَلَّهم على التَّأثيرِ فيه على اقتِرابِها، فقال :
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
أي: وقد انفَلَق القَمَرُ، فصار فِلقَتَينِ بإذنِ اللهِ؛ تأييدًا لنبيِّه محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((انشَقَّ القَمَرُ على عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِقَّتَينِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اشهَدوا! )) .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أهلَ مَكَّةَ سألوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُريَهم آيةً، فأراهم القَمَرَ شِقَّتَينِ، حتَّى رأَوا حِراءً بَيْنَهما )) .
وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّقديرُ: فأعرَضَ الكُفَّارُ عن آيةِ انشِقاقِه، وقالوا: سِحرٌ، مع عِلْمِهم بأنَّه دالٌّ قَطْعًا على صِدقِ مَن انَشَقَّ لتَصديقِه؛ عَطَف عليه الإعلامَ بحالِهم في المُستَقبَلِ؛ فَطمًا لِمَن يَطلُبُ مِنَ المُؤمِنينَ إجابةَ مُقتَرَحٍ مِن مُقتَرحاتِهم؛ رجاءَ إيمانِهم، فقال :
وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2).
أي: وإنْ يَرَ مُشرِكو قُرَيشٍ عَلامةً باهِرةً تَدُلُّهم على صِدقِ نُبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُعرِضوا عن الإيمانِ بها، ويَقولوا مُنكِرينَ لها: هذا الَّذي يُرينا محمَّدٌ مِنَ المُعجِزاتِ -كانشِقاقِ القَمَرِ- سِحرٌ ذاهِبٌ باطِلٌ لا قَرارَ له، وخيالٌ لا حقيقةَ له !
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3).
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ.
أي: وكَذَّبوا بالحَقِّ، واتَّبَعوا ما يَشتَهونَه ويَختارونَه مِنَ الباطِلِ بلا دَليلٍ ولا بُرهانٍ .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50].
وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ.
أي: وكُلُّ أمرٍ لا بُدَّ أن يَستَقِرَّ في نهايتِه إلى غايةٍ في الدُّنيا أو في الآخِرةِ؛ فالحَقُّ ثابِتٌ، والباطِلُ زائِلٌ، وأهلُ الخَيرِ يَستَقِرُّونَ في الجنَّةِ، وأهلُ الشَّرِّ يَستَقِرُّونَ في النَّارِ .
قال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 67] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4).
أي: ولقد جاء مُشرِكي قُرَيشٍ مِنَ الأنباءِ ما فيه زَجرٌ لهم وانتِهاءٌ يَردَعُهم عن الكُفرِ باللهِ، والتَّكذيبِ بآياتِه ورُسُلِه .
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5).
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.
أي: حِكمةٌ تامَّةٌ كامِلةٌ -قد بَلَغَت الغايةَ، فلا نَقْصَ فيها ولا خَلَلَ-، واصِلةٌ إلى المقصودِ منها .
فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ.
أي: فما تَنفَعُهم النُّذُرُ وهم مُعرِضونَ عن الآياتِ .
قال تعالى: وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بان أنَّ المكذِّبينَ لا حيلةَ في هداهم؛ لم يَبْقَ إلَّا الإعراضُ والتَّولِّي عنهم، فقال :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.
أي: فأعرِضْ -يا محمَّدُ- عن هؤلاء المكذِّبينَ المُعانِدينَ .
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن اقتِرابَ السَّاعةِ بالإجابةِ إلى بَعضِ مُقتَرَحاتِهم، تطَلَّعَت النُّفوسُ إلى وَصفِ السَّاعةِ؛ فأجاب عن ذلك على سَبيلِ الاستِئنافِ بذِكرِ ظَرْفِها، وذِكرِ ما يقَعُ فيه مِنَ الأهوالِ .
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ.
أي: يومَ يَدعو داعي اللهِ النَّاسَ إلى مَوقِفٍ فَظيعٍ، شَديدِ البَلاءِ، كَثيرِ الأهوالِ، لم يُشاهِدِ النَّاسُ له نظيرًا .
كما قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 41، 42].
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن دُعاءَه بما هال أمرُه؛ بَيَّنَ حالَ المَدْعُوِّينَ؛ زيادةً في الهَولِ، فقال :
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ.
أي: يَخرُجونَ مِن قُبورِهم والحالُ أنَّ أبصارَهم ذَليلةٌ خاضِعةٌ؛ مِن شِدَّةِ خَوفِهم وفَزَعِهم !
كما قال الله تبارك وتعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ [المعارج: 44].
وقال سُبحانَه: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 8، 9].
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ.
أي: يَخرُجونَ مِنَ القُبورِ، فيَتوَجَّهونَ إلى مَوقِفِ الحِسابِ، وكأنَّهم في انتِشارِهم وكَثرتِهم جَرادٌ مُنتَشِرٌ .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44].
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الانتِشارُ قد يكونُ على وَجهِ المَهَلِ والوَقارِ؛ قال مُبَيِّنًا أنَّ الأمرَ على خِلافِ ذلك؛ زيادةً في هَولِ ذلك اليَومِ، وتَقريرًا لِما تقَدَّمَ مِن وَصفِه :
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.
أي: يَخرُجونَ مِن قُبورِهم مُقبِلينَ مُسرِعينَ إلى الدَّاعي؛ تلبيةً لنِدائِه .
كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 43].
وقال سُبحانَه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه: 108] .
يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن حالَ الكُلِّ؛ حَصَرَ حالَ المُبطِلينَ، فقال :
يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ.
أي: يقولُ الكافِرونَ باللهِ يومَ القيامةِ: هذا يومٌ في غايةِ العُسْرِ والصُّعوبةِ والشِّدَّةِ .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 26] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 9، 10].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ هذا بالنِّسبةِ للقَريبينَ مِن مَكَّةَ؛ كأهلِ الجزيرةِ مثلًا، أمَّا البَعيدونَ فقد لا يَرَونَه، وكما نعلَمُ الآنَ أنَّ اللَّيلَ هنا يكونُ نَهارًا في مكانٍ آخَرَ، أو لوجودِ غيومٍ وضبابٍ كثيرٍ يَمنَعُ الرُّؤيةَ؛ ولهذا لا يُمكِنُ أبدًا لأيِّ عاقِلٍ أنْ يُنكِرَ انشِقاقَ القَمَرِ انشقاقًا حِسِّيًّا لأنه لم يُذْكَرْ في تاريخِ اليونانِ! ولم يُذْكَرْ في تاريخِ الهندِ! ولم يُذْكَرْ في كذا وكذا! هذا ليس حجَّةً يَبطُلُ به ما ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما مِن أنَّ القمرَ انشقَّ فِعلًا انشِقاقًا حِسِّيًّا، ونحن نؤمِنُ بأنَّ القادِرَ على أنْ يَطويَ السَّمَواتِ بيَمينِه كطَيِّ السِّجِلِّ للكُتُبِ قادِرٌ على أنْ يَفْلُقَ القَمرَ فِلْقَتَينِ، ولا شَيءَ يُعْجِزُهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44] ؛ ولهذا لا وَجْهَ لإنكارِ مَن أنكَر ذلك ممَّن يَنتَسِبونَ إلى الإسلامِ، ويقولونَ: إنَّ الأفلاكَ السَّماويَّةَ لا يُمكِنُ أنْ تتغيَّرَ! نقولُ: اللهُ أكبَرُ! مَنِ الَّذي خَلَقَ الأفلاكَ السَّماويَّةَ؟ أليس اللهَ؟! بلى، إذنْ هو قادِرٌ على أنْ يُغَيِّرَها إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
2- في قَولِه تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ذَكَر اللهُ تعالى انشِقاقَ القَمَرِ، وبَيَّن أنَّ اللهَ فَعَله، وأخْبَر به؛ لحِكمتَينِ عَظيمتَينِ؛ إحداهما: كَونُه مِن آياتِ النُّبُوَّةِ لَمَّا سَأَلَه المُشرِكونَ آيةً، فأراهم انشِقاقَ القمرِ. والثَّانيةُ: أنَّه دَلالةٌ على جَوازِ انشقاقِ الفَلَكِ، وأنَّ ذلك دليلٌ على ما أَخبَرَتْ به الأنبياءُ مِن انشقاقِ السَّمَواتِ؛ ولهذا قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ، فذَكَر اقتِرابَ السَّاعةِ، وانشِقاقَ القَمَرِ، وجَعَل الآيةَ في انشِقاقِ القَمَرِ دونَ الشَّمسِ وسائرِ الكواكبِ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى الأرضِ مِن الشَّمسِ والنُّجومِ، وكان الانشِقاقُ فيه دونَ سائرِ أجزاءِ الفَلَكِ؛ إِذْ هو الجِسمُ المُستنيرُ الَّذي يَظهَرُ فيه الانشِقاقُ لكُلِّ مَن يَراه ظُهورًا لا يُتمارَى فيه، وأنَّه نَفْسَه إذا قَبِل الانشِقاقَ فقَبولُ مَحَلِّه أَولى بذلك، وقد عاينَه النَّاسُ وشاهَدوه، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرأُ بهذه السُّورةِ في المجامِعِ الكِبارِ، مِثلُ: صَلاةِ الجُمُعةِ والعيدَينِ؛ لِيُسمِعَ النَّاسَ ما فيها مِن آياتِ النُّبُوَّةِ ودلائِلِها، والاعتِبارِ بما فيها. وكُلُّ النَّاسِ يُقِرُّ بذلك ولا يُنكِرُه؛ فعُلِمَ أنَّ انشِقاقَ القَمَرِ كان معلومًا عندَ النَّاسِ عامَّةً، وفي الحديثِ ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ سأل أبا واقدٍ اللَّيثيَّ: ما كان يَقرَأُ به رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأضحى والفِطرِ؟ فقال: كان يَقرَأُ فيهما بـ ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1])) . ومعلومٌ بالضَّرورةِ في مُطَّرِدِ العادةِ أنَّه لو لم يكُنِ انشَقَّ لَأسرعَ المؤمِنونَ به إلى تكذيبِ ذلك، فضلًا عن أعدائِه الكُفَّارِ والمنافقِينَ، ومعلومٌ أنَّه كان مِن أحرَصِ النَّاسِ على تصديقِ الخَلقِ له، واتِّباعِهم إيَّاه، فلو لم يكُنِ انشَقَّ لَمَا كان يُخبِرُ به ويَقرَؤُه على جميعِ النَّاسِ، ويَستَدِلُّ به ويَجعَلُه آيةً له .
3- قال اللهُ تعالى: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ التَّكذيبُ واتِّباعُ الهَوى قَرينانِ؛ فإذا حَصَل اتِّباعُ الهوى فمِن شُؤمِه يَحصُلُ التَّكذيبُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُلبِّسُ على قَلبِ صاحِبِه حتَّى لا يَستَبصِرَ الرُّشدَ، أمَّا اتِّباعُ الرِّضا فمَقْرونٌ بالتَّصديقِ؛ لأنَّ اللهَ ببَركاتِ اتِّباعِ الحَقِّ يَفتَحُ عَينَ البَصيرةِ، فيَحصُلُ التَّصديقُ !
4- في قَولِه تعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ دليلٌ على أنَّ القرآنَ -على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ- غايةُ كُلِّ حُجَّةٍ، وفاتِقُ كلِّ لُبْسَةٍ .
5- في قَولِه تعالى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أنَّه ما مِن شَيءٍ يَحكُمُ اللهُ تعالى به إلَّا وهو حِكمةٌ عَظيمةٌ .
6- في قَولِه تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أنَّ خَفْضَ البَصَرِ مِن تمامِ الخُشوعِ .
7- في قَولِه تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ إجازةُ تَشبيهِ النَّاسِ بغَيرِهم، وفي ذلك حُجَّةٌ للشُّعراءِ، إذا لم يَكذِبوا كَذِبًا مَحْضًا لا تأويلَ فيه ، ولم يكُنْ على سبيلِ الاحتِقارِ أو السُّخريةِ، أو التَّنقُّصِ لِخَلقِ الله.
8- في قَولِه تعالى: يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ لم يَقُلْ سُبحانَه: «يقولُ النَّاسُ»؛ لأنَّ هذا اليومَ العَسِرَ لا شكَّ أنَّه في حَدِّ ذاتِه عَسِرٌ شديدٌ عظيمٌ، ولكِنَّه على الكافِرينَ عَسيرٌ، وعلى المؤمِنينَ يَسيرٌ، كما قال اللهُ تبارك وتعالى: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 26] ، وقال تعالى: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 10] ، وأمَّا على المؤمِنينَ فهو يَسيرٌ ، وبقَدْرِ ما يكونُ الإيمانُ عندَ العبدِ يكونُ اليُسرُ في ذلك اليَومِ؛ لأنَّ الجزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
- تَصديرُ السُّورةِ بقَولِه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ للاهتِمامِ بالمَوعظةِ؛ إذْ قد تَقرَّرَ المَقصودُ مِن تَصديقِ المُعجزةِ، فجُعِلَت تلك المُعجزةُ وَسيلةً للتَّذكيرِ باقترابِ السَّاعةِ على طَريقةِ الإدماجِ ؛ بمُناسَبةِ أنَّ القمَرَ كائنٌ مِن الكائناتِ السَّماويَّةِ ذاتِ النِّظامِ المُسايِرِ لنَظامِ الجوِّ الأرضيِّ، فلمَّا حدَثَ تَغيُّرٌ في نِظامِه لم يكُنْ مأْلوفًا؛ ناسَبَ تَنبيهُ النَّاسِ للاعتبارِ بإمكانِ اضمِحلالِ هذا العالَمِ، وكان الفِعلُ الماضي مُستعمَلًا في حَقيقتِه .
- قولُه: اقْتَرَبَتِ بمعْنى قَرُبَت، وزِيادةُ المبْنى تدُلُّ على زِيادةِ المعْنى، وهنا اقْتَرَبَتِ فيها زِيادةُ المبْنى على (قَرُبَت)، فيَدُلُّ على أنَّ القربَ قريبٌ جدًّا، فمعْنى اقْتَرَبَتِ أي: قَرُبَت جِدًّا . فقوله: اقْتَرَبَتِ أبلَغُ من قَرُبَت، كما أنَّ (اقتدَرَ) أبلَغُ مِن (قَدَرَ) .
والاقتِرابُ أصْلُه صِيغةُ مُطاوَعةٍ، أي: قَبولُ فِعلِ الفاعِلِ، وهو هنا للمُبالَغةِ في القُرْبِ، فإنْ حُمِلَ على حَقيقةِ القُربِ فهو قُرْبٌ اعتباريٌّ، أي: قُرْبُ حُلولِ السَّاعةِ فيما يأْتي مِن الزَّمانِ قُرْبًا نِسبيًّا بالنِّسبةِ لِما مَضى مِن الزَّمانِ ابتِداءً مِن خلْقِ السَّماءِ والأرضِ. وفائدةُ هذا الاعتِبارِ أنْ يُقبِلَ النَّاسُ على نَبْذِ الشِّركِ، وعلى الاستِكثارِ مِن الأعمالِ الصَّالحاتِ، واجتِنابِ الآثامِ؛ لقُرْبِ يومِ الجَزاءِ .
- قولُه: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ الخبَرُ مُستعمَلٌ في لازمِ مَعناهُ، وهو المَوعظةُ إنْ كانت الآيةُ نزَلَت بعْدَ انشقاقِ القمَرِ؛ لأنَّ عِلْمَهم بذلك حاصلٌ، فلَيسوا بحاجةٍ إلى إفادتِهم حكْمَ هذا الخبَرِ، وإنَّما هم بحاجةٍ إلى التَّذكيرِ بأنَّ مِن أماراتِ حُلولِ السَّاعةِ أنْ يقَعَ خسْفٌ في القمَرِ بما تَكرَّرت مَوعظتُهم به؛ كقولِه تعالى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة: 7، 8] الآيةَ؛ إذ ما يُؤَمِّنُهم أنْ يكونَ ما وقَعَ مِن انشِقاقِ القمَرِ أمارةً على اقتِرابِ السَّاعةِ، فما الانشقاقُ إلَّا نوعٌ مِن الخسْفِ .
2- قولُه تعالَى: وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ يَجوزُ أنْ يكونَ تَذييلًا للإخبارِ بانشقاقِ القمَرِ، فيَكونَ المُرادُ بـ آَيَةً في قولِه: وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً القمَرَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ كلامًا مُستأنَفًا مِن ذِكرِ أحوالِ تَكذيبِهم ومُكابرتِهم، وعلى كِلا الوجْهينِ فإنَّ وُقوعَ آَيَةً -وهو نَكرةٌ- في سِياقِ الشَّرطِ يُفيدُ العُمومَ .
- وجِيءَ بهذا الخبرِ في صُورةِ الشَّرطِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا دَيدنُهم ودأْبُهم .
- وضَميرُ يَرَوْا عائدٌ إلى غيرِ مَذكورٍ في الكلامِ دالٍّ عليه المَقامُ، وهم المُشرِكون .
3- قولُه تعالَى: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ، هذا إخبارٌ عن حالِهم فيما مَضَى، بعْدَ أنْ أخبَرَ عن حالِهم في المُستقبَلِ بالشَّرطِ الَّذي في قولِه: وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا [القمر: 2]، ومُقابَلةُ ذلك بهذا فيه شِبهُ احتِباكٍ ؛ كأنَّه قِيل: وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويَقولوا: سِحرٌ، وقد رَأَوُا الآياتِ وأعْرَضوا وقالوا: سِحرٌ مُستمِرٌّ، وكذَّبوا واتَّبعوا أهواءَهُم، وسيُكذِّبون ويتَّبِعون أهواءَهُم .
- وعُطِفَ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ عطْفَ العِلَّةِ على المَعلولِ؛ لأنَّ تَكذيبَهم لا دافِعَ لهم إليه إلَّا اتِّباعُ ما تَهواهُ أنفُسُهم مِن بَقاءِ حالِهم على ما ألِفُوه وعهِدُوه واشتُهِرَ دَوامُه .
- وذِكرُ الفِعلينِ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا بلَفظِ الماضي؛ للإِشعارِ بأنَّهما مِن عادتِهم القديمةِ، وللدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .
- وجمَعَ الأهواءَ دونَ أنْ يقولَ: واتَّبعوا الهَوى، كما قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: 116] ؛ حيثُ إنَّ الهَوى اسمُ جِنسٍ يَصدُقُ بالواحدِ والمتعدِّدِ، فعُدِلَ عن الإفرادِ إلى الجمْعِ؛ لمُزاوَجةِ ضَميرِ الجمْعِ المُضافِ إليه، وللإشارةِ إلى أنَّ لهم أصنافًا مُتعدِّدةً مِن الأهواءِ: مِن حُبِّ الرِّئاسةِ، ومِن حسَدِ المؤمنينَ على ما آتاهم اللهُ، ومِن حُبِّ اتِّباعِ مِلَّةِ آبائِهِم، ومِن مَحبَّةِ أصنامِهم، وإلْفٍ لعَوائدِهم، وحِفاظٍ على أنفَتِهم .
- قولُه: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئنافٌ مَسوقٌ لإقناطِهم عمَّا علَّقوا به أمانِيَهم الفارغةَ مِن عدَمِ استِقرارِ أمْرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حسبَما قالُوا: سِحرٌ مُستمرٌّ؛ ببَيانِ ثَباتِه ورُسوخِه، أي: وكلُّ أمْرٍ مِن الأمورِ مُستقِرٌّ، أي: مُنتَهٍ إلى غايةٍ يَستقِرُّ عليها لا مَحالةَ، ومِن جُملتِها أمْرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَيصيرُ إلى غايةٍ يَتبيَّنُ عندَهَا حقِّيَّتُه، وعُلوُّ شَأْنِه. وإبهامُ المُستقَرِّ عليهِ؛ للتَّنبيهِ على كَمالِ ظُهورِ الحالِ، وعدَمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بهِ .
أو تَذييلٌ للكَلامِ السَّابقِ مِن قَولِه: وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا إلى قولِه: أَهْوَاءَهُمْ [القمر: 2، 3]، فهو اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ وَكَذَّبُوا وجُملةِ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ [القمر: 4]، والواوُ اعتراضيَّةٌ، وهو جارٍ مَجْرى المثَلِ .
- و(كُلُّ) مِن أسماءِ العُمومِ، و(أمْر): اسمٌ يدُلُّ على جِنسٍ عالٍ، ومِثلُه: شَيءٌ، ومَوجودٌ، وكائنٌ، وهو هنا يَعُمُّ الأمورَ ذواتِ التَّأثيرِ .
- قولُه: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فيه تعريضٌ بأنَّ أمرَ الرَّسولِ لا بدَّ أنْ يستقِرَّ إلى غايةٍ، هي الظُّهورُ والنُّصرةُ، وأمرَ مكذبيه إلى الخذلانِ والشَّقاوةِ .
- ومُستقِرٌّ: اسمُ فاعلٍ مِنِ استقَرَّ، أي: قَرَّ، والسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ؛ مِثلُ السِّينِ والتَّاءِ في استجابَ .
- وقد تَضمَّنَ هذا التَّذييلُ بإجْمالِه تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَهديدًا للمُشرِكين، واستِدعاءً لنظَرِ المُتردِّدين .
4- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ عطْفٌ على جُملةِ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [القمر: 3].
- وهذه الجملةُ مؤكَّدةٌ بثَلاثةِ مُؤكِّداتٍ: باللَّامِ و(قد) في قولِه: وَلَقَدْ، وبالقسَمِ المقدَّرِ الذي دلَّتْ عليه اللَّامُ .
- ومِنَ الْأَنْبَاءِ بَيانُ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، قُدِّمَ على المُبيَّنِ، و(مِن) بَيانيَّةٌ .
- قولُه: مُزْدَجَرٌ مَصدرٌ مِيمِيٌّ، وهو مُصاغٌ بصِيغةِ اسمِ المَفعولِ الَّذي فِعْلُه زائدٌ على ثَلاثةِ أحرُفٍ، ازدَجَره بمعْنى زجَرَه، ومادَّةُ الافتِعالِ فيه للمُبالَغةِ .
- قولُه: مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ما فيه مانعٌ لهم مِن ارتكابِ ما ارتكَبُوه، والمعْنى: ما هو زاجرٌ لهم، فجُعِلَ الازدجارُ مَظروفًا فيه؛ للمُبالَغةِ في مُلازَمتِه له على طَريقةِ التَّجريدِ ؛ كقولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، أي: هو أُسوةٌ .
ومَا مَوصولةٌ أو مَوصوفةٌ، وهي فاعل بـ (جاءَ)، ومعناها: أنباءٌ وأخبارٌ، ومِنَ الْأَنْبَاءِ حالٌ منها .
5- قولُه تعالَى: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ
- الفاءُ في قولِه: فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ لتَرتيبِ عدَمِ الإغناءِ على مَجيءِ الحكمةِ البالغةِ مع كَونِه مَظِنَّةً للإغناءِ .
- وصِيغةُ المُضارِعِ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ عدَمِ الإغناءِ واستِمرارِه حسَبَ تَجدُّدِ مَجيءِ الزَّواجرِ واستمرارِه .
- و(مَا) تَحتمِلُ النَّفيَ، أي: لا تُغْني عنهم النُّذرُ بعْدَ ذلك، وهذا تَمهيدٌ لقولِه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [القمر: 6]، فالمُضارِعُ للحالِ والاستقبالِ، أي: ما هي مُغْنيةٌ، ويُفيدُ بالفَحوى أنَّ تلك الأنباءَ لم تُغْنِ عنهم فيما مَضى بطَريقِ الأحْرى؛ لأنَّه إذا كان ما جاءهُم مِن الأنباءِ لا يُغْني عنهم مِن الانزجارِ شيئًا في الحالِ والاستقبالِ، فهو لم يُغْنِ عنهم فيما مَضى؛ إذ لو أغْنى عنهم لارْتفَعَ اللَّومُ عليهم. ويَحتمِلُ أنْ تكونَ (ما) استفهاميَّةً للإنكارِ، أي: ماذا تُفيدُ النُّذرُ في أمثالِهم المُكابِرين المُصِرِّين؟! أي: لا غَناءَ لهم في تلك الأنباءِ؛ فـ (ما) على هذا في مَحلِّ نصْبٍ على المَفعولِ المُطلَقِ لـ تُغْنِ، وحُذِفَ ما أُضِيفَت إليه (ما)، والتَّقديرُ: فأيَّ غَناءٍ تُغْني النُّذرُ ؟!
6- قولُه تعالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
- قولُه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ تَفريعٌ على فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5]، أي: أعرِضْ عن مُجادلتِهم؛ فإنَّهم لا تُفيدُهم النُّذرُ، أي: إنَّك قد بلَّغْتَ، فما أنت بمَسؤولٍ عن استِجابتِهم، وهذا تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وقيل: قوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، أي: لعِلْمِك أنَّ الإنذارَ لا يُغْني فيهم، فالفاءُ نَتيجةٌ للكَلامِ السَّابقِ، وفي مَدخولِها معْنى المُتارَكةِ والمُوادَعةِ؛ وذلك أنَّه تعالى لَمَّا أخبَرَ عن المُعانِدين أنَّه بلَغَ إعراضُهم وتَمرُّدُهم بحيث إنْ يَرَوا آيةً يَقولوا: سِحرٌ مُستمِرٌّ، وكرَّرَ المعْنى بقولِه: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ؛ لأنَّ الإعراضَ وقولَهم: سِحرٌ مُستمِرٌّ، تَكذيبٌ ومُتابَعةٌ للهوَى، ثمَّ جاء بقَولِه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ جُملةً قَسَميَّةً حالًا مُقرِّرةً لجِهةِ الإشكالِ، أي: يُكذِّبون والحالُ أنَّه جاءتْهم حِكمةٌ بالغةٌ، ثمَّ سجَّلَ عِنادَهم بقولِه: فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ -قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، أي: بعْدَ أنِ استعْلَمْتَ حالَهم وأنَّهم لا يُؤمِنون البَتَّةَ، فتَولَّ عنهم وأعرِضْ عن الإنذارِ؛ لأنَّ الإنذارَ إنَّما يُفيدُ إذا انتفَعَ به المُنذَرُ .
- قولُه: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الأمْرَ بالتَّولِّي مُؤْذِنٌ بغضَبٍ ووَعيدٍ، فمِن شأْنِه أنْ يُثِيرَ في نفْسِ السَّامعِ تَساؤُلًا عن مُجمَلِ هذا الوعيدِ، وهذا الاستئنافُ وقَعَ مُعترِضًا بيْن جُملةِ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ [القمر: 4] وجُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9]، وإذ قد كان المُتوعَّدُ به شيئًا يَحصُلُ يومَ القيامةِ قُدِّمَ الظَّرفُ على عامِلِه -وهو يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ-؛ ليَحصُلَ بتَقديمِه إجمالٌ يُفصِّلُه بَعضَ التَّفصيلِ ما يُذكَرُ بعْدَه، فإذا سمِعَ السَّامعُ هذا الظَّرفَ، عَلِمَ أنَّه ظرْفٌ لأهوالٍ تُذكَرُ بعْدَه هي تَفصيلُ ما أجْمَلَه قولُه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ مِن الوعيدِ، بحيث لا يَحسُنُ وقْعُ شَيءٍ ممَّا في هذه الجُملةِ هذا المَوقعَ غيرُ هذا الظَّرْفِ، ولولا تَقديمُه لَجاء الكلامُ غيرَ مَوثوقِ العُرى، وانظُرْ كيف جمَعَ فيما بعْدُ قولُه: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ كثيرًا مِن الأهوالِ آخِذٌ بَعضُها بحُجَزِ بَعضٍ بحُسْنِ اتِّصالٍ يَنقُلُ كلٌّ منها ذِهنَ السَّامعِ إلى الَّذي بعْدَه، مِن غيرِ شُعورٍ بأنَّه يُعدِّدُ له أشياءَ .
- وعُدَّ في قولِه: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ سَبعةٌ مِن مَظاهرِ الأهوالِ:
أوَّلُها: دُعاءُ الدَّاعي؛ فإنَّه مُؤْذِنٌ بأنَّهم مُحضَرونَ إلى الحسابِ؛ لأنَّ مَفعولَ يَدْعُ مَحذوفٌ، بتَقديرِ: يَدْعوهم الدَّاعي؛ لدَلالةِ ضَميرِ عَنْهُمْ على تَقديرِ المَحذوفِ.
الثَّاني: أنَّه يَدْعو إلى شَيءٍ عظيمٍ؛ لأنَّ ما في لَفظِ شَيْءٍ مِن الإبهامِ يُشعِرُ بأنَّه مَهولٌ، وما في تَنكيرِه مِن التَّعظيمِ يُجسِّمُ ذلك الهَولَ.
وثالثُها: وصْفُ شَيْءٍ بأنَّه نُكُرٍ، أي: مَوصوفٌ بأنَّه تُنكِرُه النُّفوسُ وتَكرَهُه.
ورابعُها: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ، أي: ذَليلةً يَنظُرونَ مِن طرْفٍ خَفيٍّ، لا تَثبُتُ أحداقُهم في وُجوهِ النَّاسِ، وهي نَظْرةُ الخائفِ المُفتضَحِ، وهو كِنايةٌ؛ لأنَّ ذِلَّةَ الذَّليلِ وعِزَّةَ العزيزِ تَظهَرانِ في عُيونِهما.
وخامسُها: تَشبيهُهم بالجَرادِ المُنتشِرِ في الاكتِظاظِ واستتارِ بَعضِهم ببَعضٍ مِن شِدَّةِ الخوفِ -على قولٍ-، زِيادةً على ما يُفيدُه التَّشبيهُ مِن الكثرةِ والتَّحرُّكِ، وهو تَشبيهٌ تَمثيليٌّ ؛ لأنَّه تَشبيهُ هَيئةِ خُروجِ النَّاسِ مِن القبورِ مُتراكِمينَ، بهَيئةِ خُروجِ الجَرادِ مُتعاظِلًا (يَركَبُ بَعضُه بَعضًا) يَسيرُ غيرَ ساكنٍ، وقد أفاد هذا التَّشبيهُ تَجْسيدَ الصُّورةِ وتَشخيصَها؛ فهذه الجُموعُ الخارجةُ مِن الأجداثِ في مِثلِ رجْعِ الطَّرْفِ تُشبِهُ الجَرادَ الَّذي اشتُهِرَ بانتشارِه واحتشادِه دونَ أنْ يكونَ له هدَفٌ مِن هذا الانتشارِ والاحتشادِ، وكذلك هذه الجُموعُ قد ألْجَمَها الخَوفُ، وعقَدَ الهولُ أفهامَها، وضرَبَ عليها رَواكِدَ مِن الحَيرةِ، وغشِيَها بأمواجٍ مِن الضَّلالةِ والرَّينِ، فهي تَسيرُ تَلبيةً لدَعوةِ الدَّاعِ دونَ أنْ تَعرِفَ لِمَ يَدْعوها، ولكنَّها تَعرِفُ بصُورةٍ مُبْهَمةٍ أنَّه يَدْعوها إلى شَيءٍ نُكُرٍ لا تَكتَنِهُ حَقيقتَه، ولا تَعرِفُ فَحواهُ.
وسادسُها: وصْفُهم بمُهطِعينَ، والمُهطِعُ: الماشي سَريعًا مادًّا عُنُقَه، وهي مِشْيَةُ مَذعورٍ غيرِ مُلْتفِتٍ إلى شَيءٍ.
وسابعُها: قولُهم: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ، وهو قولٌ مِن أثَرِ ما في نُفوسِهم مِن خَوفٍ، وعَسِرٌ: صِفةٌ مُشبَّهةٌ مِن العُسْرِ، وهو الشِّدَّةُ والصُّعوبةُ، ووصْفُ اليومِ بـ عَسِرٌ باعتِبارِ كَونِه زَمانًا لأُمورٍ عَسِرةٍ شَديدةٍ مِن شِدَّةِ الحسابِ، وانتِظارِ العَذابِ .
- وفي قولِه: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ شبَّهَهم بالجَرادِ المنتشِرِ، أي: كأنَّهم مِن كَثرتِهم، وتموُّجِ بعضِهم في بعضٍ، وكأنَّهم في انتِشارِهم وسُرعةِ سَيرِهم إلى مَوقفِ الحِسابِ إجابةً للدَّاعي جرادٌ منتشِرٌ في الآفاقِ، مُسرِعينَ لا يُخالِفونَ ولا يَتأخَّرونُ .
- والجرادُ المنتشِرُ هو المُنبَثُّ في الأرضِ الَّذي لا يَدْري أين وجْهُه، ليس له طريقٌ قائِمةٌ، لا يَعرِفُ كيف يَنْتهي، ولكنَّهم مُنتشِرونَ، وهذا مِن أدقِّ التَّشبيهاتِ؛ لأنَّ الجرادَ المنتشِرَ تَجِدُه يَذهَبُ يَمينًا ويَسارًا لا يَدْري أين يَذهَبُ؛ فهمْ سيَخرُجون مِن الأجداثِ على هذا الوجْهِ، بيْنَما هم في الدُّنيا لهم قائدٌ، ولهم أميرٌ، ولهم مُوجِّهٌ، يَعرِفون طَريقَهم، وإنْ كان طريقًا فاسدًا .
- وفي إسنادِ القولِ المَذكورِ إلى الكُفَّارِ تَلويحٌ بأنَّ المؤمنينَ ليسُوا في تلكَ المَرْتبةِ مِن الشِّدَّةِ .
- قولُه: يَقُولُ الْكَافِرُونَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لوصْفِهم بهذا الوصْفِ الذَّميمِ، وفيه تَفسيرُ الضَّمائرِ السَّابقةِ .