موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

سُورَةٌ: السُّورةُ: مَجموعُ آياتٍ ممَّا أنزل اللهُ تعالى، معلومُ الابتِداءِ والانتِهاءِ، والسُّورَةُ: بالهَمزِ وبتَركِه؛ فبالهَمزِ مِن السُّؤْرِ: وهو البَقيَّةُ مِمَّا يَشرَبُ الشَّارِبُ؛ لأنَّ كُلَّ سُورةٍ مِن القُرآنِ بَقيَّةٌ منه. وبغيرِ الهَمزِ: قيل: مِنَ السُّورِ بمعنى الجماعةِ؛ لأنَّ السُّورةَ مُشتَمِلةٌ على جماعةِ الآياتِ. أو مِن السُّورِ المُحيطِ بالأبنيةِ؛ لأنَّ السُّورةَ مُحيطةٌ بالآياتِ. وقيلَ غَيرُ ذلك .
رَأْفَةٌ: الرأفةُ: أرقُّ الرَّحْمةِ، وأصلُ (رأف): يدُلُّ على رِقَّةٍ ورَحْمةٍ .
طَائِفَةٌ: أي: جماعةٌ، والطَّائِفةُ: جماعةٌ مِن النَّاسِ؛ وتُطلَقُ على الواحدِ فما فَوْقَه، وأصلُ (طوف): دَوَرانُ الشَّيءِ على الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ هذه السُّورةَ أَنزَلَها، ووضَّحَ فيها واجباتٍ ونواهيَ، وقدَّرَ فيها ما تضَمَّنَتْه من الحُدودِ والحُقوقِ، وأوجبَ العملَ بما اشتمَلتْ عليه، وأنزَلَ فيها آياتٍ واضحاتٍ فيها تِبيانٌ للحَقِّ لِمَن تَدبَّرها؛ وذلك لكي تَتذكَّروا بهذه الآياتِ وتَتَّعظوا بها وتَعملُوا.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه بعدَ ذلك حدَّ الزاني والزانيةِ؛ فيأمُرُ تعالى بجَلْدِهما مِئةَ جَلدةٍ لكلٍّ منهما -إذا كانا حُرَّينِ، مكلَّفينِ، بِكرَينِ، غيرَ مُحصَنَينِ-، وينهَى المُؤمنينَ أنْ تَأخُذَهم بهما رِقَّةٌ في حُكمِ الله، تَمنعُهم من إقامةِ الحَدِّ عليهما كما أمَرَ اللهُ تعالى، إنْ كانوا يُؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ويأمُرُ أنْ يَشهَدَ ذلك الجَلْدَ جَماعةٌ مِن المُؤمنِينَ.
ويبيِّنُ تعالى أنَّ الزانيَ لا ينكِحُ إلَّا زانيةً مِثلَه أو مُشرِكةً، والزانيةَ لا ينكِحُها إلَّا زَانٍ مِثلُها أو مُشرِكٌ، وأنَّه سبحانَه حرَّمَ ذلك على المُؤمنِينَ.

تفسير الآيات:

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
في قولِه: وَفَرَضْنَاهَا قراءتانِ:
1- قِراءة وَفَرَّضْنَاهَا بتَشديدِ الرَّاء؛ أي: فَرضْنا فرائضَها، فحُذف المضافُ. وقيل: معناها: أَنزَلْنا فيها الأحكامَ الكَثيرةَ فَرْضًا بَعدَ فَرْضٍ. وقيل: بَيَّنَّا وفصَّلْنا ما فيها مِن أمرٍ ونَهيٍ، وتَوقيفٍ وحَدٍّ .
2- قِراءة وَفَرَضْنَاهَا بتَخفيفِ الرَّاء؛ أي: ألْزَمْناكُم العملَ بما فَرَضْنا فيها وبَيَّنَّا من الواجباتِ والحُقوقِ .
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا.
أي: هذه سُورةٌ أَنزَلْناها وبَيَّنَّا ما فيها مِن الواجباتِ والنَّواهي، وقدَّرْنا ما فيها مِن الحُدودِ والحُقوقِ، وأَوجَبْنا الإيمانَ بها وبما تضمَّنَتْه، والعملَ بما فيها .
وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
أي: وأنزَلْنا في هذِه السُّورةِ علاماتٍ، ودَلالاتٍ واضحاتٍ تُبيِّنُ الحَقَّ لِمَن تَدَبَّرها .
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
أي: وذلك لكي تَتذكَّروا بهذه الآياتِ وتَتَّعظوا، وتَعملُوا بها .
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ.
أي: مَن زَنَى مِن النِّساءِ أو الرِّجالِ -إذا كانا حُرَّينِ، مكلَّفينِ، بِكرَينِ، غيرَ مُحصَنَينِ- فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ مِنهما مِئةَ جَلدةٍ؛ عُقوبةً لهما .
عن عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي؛ قد جَعَلَ اللهُ لهُنَّ سَبيلًا ؛ البِكْرُ بالبِكْرِ: جَلْدُ مِئةٍ، ونَفيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ: جَلْدُ مِئةٍ، والرَّجمُ ) .
وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قال تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وكان الجَلْدُ مُوجِعًا، وكان المُباشِرُ له قد يَرِقُّ على المَجلودِ مِن وَجَعِه؛ نُهيَ المُسلِمون أنْ تأخُذَهم رَأفةٌ بالزَّانيةِ والزَّاني، فيَترُكوا الحدَّ أو يَنقُصوه أو يُخفِّفوه ؛ فقال تعالى:
وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ.
أي: ولا تَأخُذْكم -أيُّها المُؤمِنونَ- بالزَّانيةِ والزَّاني رِقَّةٌ في حُكمِ الله، تَمنعُكم مِن إقامةِ الحَدِّ عليهما على الوجهِ الذي أمَرَ به اللهُ تعالى .
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ.
أي: إنْ كُنتُم -أيُّها المؤمنون- تُؤمِنونَ حقًّا باللهِ وبالبَعثِ يومَ القِيامةِ للجَزاءِ على الأعمالِ، ثوابًا أو عِقابًا، فأقيموا الحَدَّ على الزَّانِيَينِ كما أمرَكَم اللهُ، ولا تَأخُذْكم بهما رأفةٌ في دِينِه .
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ولْيَحضُرْ جَلْدَ الزَّانِيَينِ جماعةٌ مِن المُؤمنِينَ، تَحُفُّ وتُحيطُ بهما .
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
سَببُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رجلٌ يُقالُ له: مَرْثَدُ ابنُ أبي مرثدٍ، وكان رجلًا يَحمِلُ الأسرى من مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ. قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكةَ يُقالُ لها: عَناقُ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه. قال: فجئتُ حتى انتهيتُ إلى ظلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ. قال: فجاءت عَناقُ فأبصرَت سوادَ ظلِّي بجنبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَت إليَّ عرَفَتْ ، فقالت: مرثدٌ؟! فقلتُ: مَرثدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فبِتْ عندَنا الليلةَ، قلتُ: يا عَناقُ، حرَّم اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخيامِ، هذا الرجلُ يحمِلُ أُسَراءَكم ، قال: فتَبِعني ثمانيةٌ وسلكتُ الخَندَمةَ ، فانتهيتُ إلى كهفٍ أو غارٍ فدخلتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظلَّ بولُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي. قال: ثمَّ رجَعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحمَلتُه، وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيتُ إلى الإذخِرِ ، ففككتُ عنه كَبْلَه ، فجعلتُ أحمِلُه ويُعْيِيني حتى قَدِمتُ المدينةَ، فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عناقَ -مرتين-؟ فأمسك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يرُدَّ علَيَّ شيئًا، حتَّى نزلت: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ؛ فلا تَنْكِحْها)) .
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان في الحكمِ المذكورِ في الآيةِ السابقةِ مِن الغلظةِ على الزَّاني لما ارتَكب مِن الحرامِ المتصفِ بالعارِ ما يُفهِمُ مجانبتَه؛ صرَّح به ، فقال تعالى:
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.
أي: الزَّاني لا يَنْكِحُ إلَّا زَانيةً مِثلَه أو مُشرِكةً باللهِ، والزَّانيةُ لا يَنْكِحُهَا إلا زانٍ مِثلُها أو مُشرِكٌ بالله .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا يَنكِحُ الزاني المجلودُ إلَّا مِثلَه )) .
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وحَرَّمَ اللهُ ذلك على المُؤمنِينَ .

الفوائد التربوية:

1- سُمِّيتْ سُورةُ النورِ بهذا الاسمِ؛ لقولِه تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ، وإذا تأمَّلتَ السُّورةَ وَجدتَ ذِكْرَ النورِ فيها، وأنَّ اللهَ نورُ السمواتِ والأرضِ، وقولَه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ؛ تَبَيَّنَ لك أنَّ العِفَّةَ مِن أسبابِ نورِ القَلبِ، وأنَّ ضِدَّها -وهو الفُجورُ- مِن أسبابِ ظُلمةِ القَلبِ؛ ولذلك فإنَّ الزِّنا -سواءٌ كان بالعَينِ، أو بالرِّجلِ، أو باليَدِ، أو باللِّسانِ، أو بالفرْجِ- تأثيرُه على القَلبِ وعلى نُورِ القلبِ أعظَمُ مِن غيرِه، وتأثيرُ العِفَّةِ في نُورِ القلبِ أبلغُ .
2- في قَولِه تعالى: أَنْزَلْنَاهَا بَيَّنَ تعالى أنَّه هو الذي أَنزلها، مُعَبِّرًا عن نفْسِه بصيغةِ الجَمعِ التي تدُلُّ على عَظَمتِه تعالى، وذلك يتضمَّنُ عَظَمةَ هذه السورةِ؛ ويدلُّ على وجوبِ امتِثالِ أوامرِها، وما فيها مِن حدودٍ وأحكامٍ وآدابٍ .
3- قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... تأمَّلْ هذا السِّرَّ العظيمَ مِن أسرارِ التَّنزيلِ، وإعجازِ القُرآنِ الكريمِ، ذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لَمَّا ذكَرَ في فاتحةِ سُورةِ النور شناعةَ جَريمةِ الزِّنا، وتحريمَه تحريمًا غائيًّا؛ ذكَرَ سُبحانَه مِن فاتحتِها إلى تمامِ ثلاثٍ وثلاثينَ آيةً أربَعَ عَشْرةَ وسيلةً وقائيَّةً، تحجُبُ هذه الفاحِشةَ، وتقاوِمُ وقوعَها في مجتَمَعِ الطُّهرِ والعَفافِ؛ جماعةِ المسلمينَ، وهي:
الأولى: تطهيرُ الزُّناةِ والزَّواني بالعُقوبةِ الحَدِّيَّةِ.
الثانية: التطهُّرُ باجتنابِ نِكاحِ الزانيةِ وإنكاحِ الزَّواني، إلَّا بعد التَّوبةِ ومَعرفةِ الصِّدقِ فيها.
الثالثة: تطهيرُ الألسنةِ عن رميِ النَّاسِ بفاحشةِ الزِّنا، ومَن قال ولا بيِّنةَ فيُحَدُّ حَدَّ القَذفِ.
الرابعة: تطهيرُ لسانِ الزَّوجِ عن رَميِ زَوجتِه بالزِّنا ولا بَيِّنةَ، وإلَّا فاللِّعانُ.
الخامسة: تطهيرُ النُّفوسِ وحَجبُ القلوبِ عن ظَنِّ السُّوءِ بمُسلمٍ بفعلِ الفاحِشةِ.
السادسة: تطهيرُ الإرادةِ وحَجبُها عن محبَّةِ إشاعةِ الفاحِشةِ في المسلمينَ.
السابعة: الوِقايةُ العامَّةُ بتطهيرِ النَّفْسِ مِن الوساوِسِ والخَطَراتِ التي هي أُولى خُطواتِ الشَّيطانِ في نُفوسِ المؤمِنينَ؛ لِيُوقِعَهم في الفاحشةِ، وهذا غايةٌ في الوقايةِ مِن الفاحِشةِ.
الثامنة: مشروعيَّةُ الاستِئذانِ عندَ إرادةِ دُخولِ البَيتِ؛ حتى لا يقَعَ النَّظَرُ على العَوْراتِ.
التاسعة والعاشرة: تطهيرُ العَينِ مِن النَّظَرِ المحَرَّمِ إلى المرأةِ الأجنبيَّةِ، أو منها إلى الرجُلِ الأجنبيِّ عنها.
الحاديةَ عشرةَ: تحريمُ إبداءِ المرأةِ زينتَها للأجانِبِ عنها.
الثانيةَ عشرةَ: مَنعُ ما يُحَرِّك الرَّجُلَ ويُثيرُه، كضَربِ المرأةِ برِجْلِها؛ لِيُسمَعَ صَوتُ خَلخالِها، فيَجلِبَ ذَوي النُّفوسِ المريضةِ إليها.
الثالثةَ عشرةَ والرابعةَ عشرةَ: الأمرُ بالاستعفافِ لِمَن لا يجِدُ ما يستطيعُ به الزَّواجَ، وفعلِ الأسبابِ .
4- الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قد نهانا اللهُ عزَّ وجلَّ أن تأخذَنا بالزُّناةِ رأفةٌ، بل نُقيم عليهم الحدَّ؛ فكيف بما هو دون ذلك من هَجرٍ وأدبٍ باطنٍ، ونهيٍ وتوبيخٍ وغيرِ ذلك؟! وبهذا يتبيَّنُ لك أنَّ العقوباتِ الشرعيَّةَ كلّها أدويةٌ نافعةٌ يُصلِحُ اللهُ بها مرَضَ القلوبِ، وهي مِن رحمةِ اللهِ بعِبادِه، ورأفتِه بهمُ الدَّاخِلةِ في قَولِه تعالى: إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ؛ فمَن ترَك هذه الرحمةَ النافعةَ لرأفةٍ يَجِدُها بالمريضِ، فهو الذي أعان على عذابِه وهلاكِه، وإنْ كان لا يُريدُ إلا الخيرَ؛ إذ هو في ذلك جاهلٌ أحمقُ، كما يَفعلُه بعضُ النساءِ والرجالِ الجُهَّالِ بمرضاهم وبمَن يُرَبُّونه مِن أولادِهم وغِلمانِهم وغيرِهم، في ترْكِ تأديبِهم وعُقوبتِهم على ما يأتونه مِن الشرِّ، ويتركونَه مِن الخيرِ؛ رأفةً بهم؛ فيكونُ ذلك سببَ فَسادِهم وعداوتِهم وهلاكِهم. ومِن الناسِ مَن تأخذُه الرأفةُ بهم؛ لمشاركتِه لهم في ذلك المرضِ، وذَوقِه ما ذاقوه مِن قوَّةِ الشهوةِ وبُرودةِ القلبِ والدِّياثةِ؛ فيتركُ ما أمَر اللهُ به مِن العقوبةِ، وهو في ذلك مِن أظلَمِ الناس وأديَثِهم في حقِّ نفْسِه ونُظرائِه. ومنهم مَن تأخذُه الرأفةُ؛ لكونِ أحدِ الزانيَينِ مَحبوبًا له، فمَن لم يكن مُبغِضًا للفواحشِ، كارهًا لها ولأهلِها، ولا يَغضبُ عندَ رُؤيتِها وسماعِها؛ لم يكُنْ مريدًا للعقوبةِ عليها، إنَّ الرأفةَ والرحمةَ يُحِبُّهما اللهُ ما لم تكُنْ مضيعةً لدِينِ اللهِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فيه أنَّ الزِّنا حرامٌ، وهو مِن الكَبائرِ، ويدُلُّ عليه أنَّ اللهَ تعالى أوجبَ المئةَ فيها بكَمالِها، بخِلافِ حَدِّ القذفِ وشُربِ الخَمرِ، وشرَع فيه الرَّجْمَ، ونهَى المؤمنينَ عن الرَّأفةِ بِمَن ارتَكبَ هذِه الفاحشةَ، وأمَرَ بشهودِ الطائفةِ للتَّشهيرِ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فيه أنَّ المؤمِنَ الصالِحَ لا يَتزوَّجُ الزانيةَ؛ ذلك لأنَّ الدُّربةَ على الزِّنا يَتكوَّنُ بها خُلُقٌ يُناسِبُ أحوالَ الزُّناةِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ؛ فلا يَرغَبُ في مُعاشرةِ الزانيةِ إلَّا مَن تَرُوقُه أخلاقُ أمثالِها .
7- قَولُه تعالى: لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أمَرَ الله تعالى بعُقوبةِ الزَّانيينِ حَرَّم مُناكحتَهما على المُؤمنِينَ؛ هَجرًا لهما، ولِمَا معهما مِن الذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ، كما قال تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] ، وجعَل مُجالِسَ فاعِلِ ذلك المُنكَرِ مِثلَه بقولِه تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140] ، وهو زَوجٌ له، وقد قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22] ، أي: عُشراءَهم وقُرناءَهم، وأشباهَهم ونُظراءَهم؛ ولهذا يُقال: المُستمِعُ شريكُ المُغتابِ، فإذا كانَ هذا في المجالسةِ والعِشْرةِ العارضةِ حينَ فِعلِهم للمنكَرِ يَكونُ مُجالِسُهم مِثْلًا لهم، فكيفَ بالعِشرةِ الدَّائمةِ ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يُستدَلُّ به لِمَا يُصدِّرُ به المؤلِّفون أمامَ كُتبَهم، والشُّروعِ في مَقاصدِهم مِن الخُطبِ والدِّيباجاتِ .
2- قَولُه تعالى: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فيها حُجَجٌ وتوحيدٌ، وفيها دلائِلُ الأحكامِ، والكُلُّ آياتٌ بَيِّناتٌ: حُجَجُ العُقولِ تُرشِدُ إلى مسائِلِ التَّوحيدِ، ودلائِلُ الأحكامِ تُرشِدُ إلى وجهِ الحَقِّ، وترفَعُ غُمَّةَ الجَهلِ، وهذا هو شَرفُ السورةِ، وهو أقَلُّ ما وقع التحَدِّي به في سَبيلِ المُعجِزةِ؛ فيكونُ شَرفًا للنبيِّ في الوِلايةِ، وشَرفًا لنا في الهدايةِ .
3- قال اللهُ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ذَكَر اللهُ سُبحانَه وتعالَى الذَّكَرَ والأُنثَى، و(الزاني) كان يَكفي منهما؛ فقيل: ذَكرَهما للتأكيدِ، كما قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ ذَكَرَهما هنا لئلَّا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ الرجُلَ لَمَّا كان هو الواطئَ، والمرأةُ محلٌّ، ليستْ بواطئةٍ، فلا يجبُ عليها حَدٌّ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ فيه ردٌّ على مَن قال: إنَّ العبدَ إذا زنَى بحُرَّةٍ يُرجَمُ، أو أَمَةٍ يُجلَدُ، وعلى مَن قال: لا تُحَدُّ العاقلةُ إذا زنَى بها مجنونٌ، أو الكبيرةُ إذا زنَى بها صبيٌّ، أو عكسُه لا يُحَدُّ، وعلى مَن قال: لا حدَّ على الزاني بحَربيَّةٍ أو مُسلِمةٍ في بلادِ الحَرْبِ، أو في عَسْكرِ أهلِ البغيِ، أو بنَصرانيَّةٍ مُطلقًا، أو بأَمَةِ امرأتِه، أو مَحْرَمٍ، أو مَن استَدخلَتْ ذَكَرَ نائمٍ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ فيه وجوبُ الجلدِ على الزَّاني والزَّانيةِ، وأنَّه مِئةُ جَلدةٍ، أي: في البِكرِ كما بيَّنَتْه السُّنَّةُ .
6- قولُه تعالى: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فيه دَلالةٌ على أنَّه ليس أحدُهما بأَولَى بالعُقوبةِ مِنَ الآخَرِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ استُدِلَّ به على أنَّه لا يُكتَفَى بالضربِ بها مَجموعةً ضربةً واحدةً، صحيحًا كان أو مريضًا ؛ لأنَّ الله تعالى قال: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ، والذي يَضرِبُ بها مَجموعةً ضربةً واحدةً لم يجلِدْ مئةَ جلدةٍ، إنَّما جلَد جَلدةً .
8- في قَولِه تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَليلٌ على أنَّ حَدَّ الجَلْدِ هذا يُقامُ عَلانيةً غيرَ سِرٍّ .
9- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أمَر تعالى أنْ يَحضُرَ عذابَ الزانيَينِ جماعةٌ مِن المُؤمنِينَ؛ ليشتهرَ ويَحصُلَ بذلك الخزيُ، وليُشاهِدوا الحدَّ فِعلًا؛ فإنَّ مُشاهدَةَ أحكامِ الشرعِ بالفِعلِ ممَّا يَقْوَى بها العِلمُ، ويستقرُّ به الفَهمُ، ويكونُ أقربَ لإصابةِ الصوابِ؛ فلا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ . وأيضًا فإنَّه أمَر بذلك؛ تحقيقًا لإقامةِ الحدِّ، وحذرًا مِن التساهُلِ فيه؛ فإنَّ الإخفاءَ ذريعةٌ للإنساءِ، فإذا لم يَشْهَدْه المؤمنون فقد يَتساءلون عن عدمِ إقامتِه، فإذا تبيَّنَ لهم إهمالُه فلا يُعدَمُ بيْنهم مَن يقومُ بتغيير المنكَرِ مِن تعطيلِ الحُدودِ.
وفيه فائدةٌ أخرى، وهي أنَّ مِن مقاصدِ الحدودِ مع عُقوبةِ الجاني: أنْ يَرتدِعَ غيرُه، وبحُضورِ طائفةٍ مِن المؤمنين يتَّعظُ به الحاضرونُ ويَزدَجِرون، ويَشيعُ الحديثُ فيه بنَقْلِ الحاضِرِ إلى الغائِبِ .
وفيه أيضًا تنكيلٌ للزَّانيَينِ إذا جُلِدا بحضرةِ النَّاسِ؛ فإنَّ ذلك يكونُ أبلغَ في زجرِهما، وأنجَعَ في رَدعِهما، فإنَّ في ذلك تقريعًا وتوبيخًا وفضيحةً إذا كان النَّاسُ حُضورًا .
10- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، قولُه تعالى: بِهِمَا رَأْفَةٌ أي: لِينٌ، ولعلَّه عَبَّر بها إعلامًا بأنَّه لم يَنْهَ عن مُطلَقِ الرحمةِ؛ لأنَّ الرأفةَ أشدُّ الرحمةِ أو أرَقُّها، وتكونُ عن أسبابٍ مِن المرؤوفِ به، وكذا قولُه: فِي دِينِ اللَّهِ، أي: الذي شَرَعَه لكم المَلِكُ المحيطُ بصِفاتِ الكَمالِ؛ إشارةً إلى أنَّ الممنوعَ منه رحمةٌ تُؤدِّي إلى ترْكِ الحدِّ أو شيءٍ منه، أو التَّهاوُنِ به، أو الرِّضا عن مُنتهِكِه، لا رِقَّةُ القلبِ المطبوعُ عليها البشرُ .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فيه الحثُّ على إقامةِ الحدودِ، والنهيُ عن تَعطيلِها، وأنَّه لا يجوزُ العفوُ عنها للإمامِ ولا لغَيرِه، وفيه ردٌّ على مَن أجازَ للسيِّدِ العَفوَ .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فيه أنَّ الإيمانَ مُوجِبٌ لانتفاءِ هذه الرأفةِ المانعةِ مِن إقامةِ أمْرِ اللهِ؛ فرحمتُه حَقيقةً بإقامةِ حدِّ اللهِ عليه .
13- في قَولِه تعالى: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ سؤالٌ: أنَّ الرَّأفةَ والرَّحمةَ مِن الانفعالاتِ التي لا يملكُ الإنسانُ ترْكَها، والأمرُ والنهيُ إنما يتوجَّهانِ إلى الأفعالِ الاختياريَّةِ، فكيف يُوَجَّهُ النَّهيُ هنا عمَّا ليس هو مِن الأفعالِ الاختياريَّةِ؟
الجوابُ: أنَّ النهيَ مُتَوَجِّهٌ إلى أن تَحْمِلَ الرأفةُ بهما على المحاباةِ في ترْكِ الحَدِّ، أو تخفيفِه، أو نقصِ العددِ؛ فلا يُقامُ الحَدُّ كما يَنبغي ، أمَّا رِقَّةُ القلبِ التي لا تَمنعُ مِن إقامةِ الحَدِّ كما يَنبغي، فلا يَتعلَّقُ بها النَّهيُ .
14- في قَولِه تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ سؤالٌ: وهو أنَّ «إنْ» تُفيدُ الشكَّ، ومع ذلك تأتي في الكتابِ والسُّنَّةِ في الأمورِ المتحقِّقةِ الوقوعِ كما هنا، وكما في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ [الفتح: 27] ؟
الجوابُ: قدِ اختلفَ الكوفيُّونَ والبصريُّونَ في الجوابِ عن ذلك؛ فالكوفيُّون يقولون: إنَّها في كلِّ المواضعِ للتَّعليلِ؛ فهي مُطَّرِدةٌ عندَهم بهذا المعنى.
وأمَّا البصريُّون فيقولون: إنْ جاءتْ مع فعْلِ المشيئةِ كما في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح: 27] ، فالشرطُ دَخَل على أمْرٍ مُحَقَّقٍ؛ وليس المرادُ منه الشكَّ، بلِ المرادُ تعليمُ الخلائقِ بألَّا يتحَدَّثوا عن المستقبلِ إلَّا بالمشيئةِ، وإنْ لم تكنْ مع فعْلِ المشيئةِ -كما في هذه الآيةِ التي نحنُ بصددِها: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ- فهي شرطيَّةٌ لم يُجَأْ بها لتعليقِ الجزاءِ على الشرطِ، بل جِيءَ بها للتَّهييجِ والحثِّ على العملِ، وهذا أسلوبٌ معروفٌ، كما يقالُ: «إنْ كنتَ ابنَ الكرامِ فافعَلْ كذا»، وأنت لا تشكُّ في كونِه ابنَ الكرامِ؛ ولكنْ تَحُثُّه على العملِ .
15- في قَولِه تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا المرادُ بالعذابِ هنا: الجَلْدُ المنصوصُ عليه في قَولِه تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ الجَلْدَ يُسمَّى عذابًا .
16- قال اللهُ تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فأخْبَر الله تعالى أنَّ الزَّانيَ لا يَنكحُ إلَّا زانيةً أو مشركةً، ثم قال تعالى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فعُلِمَ أنَّ الإيمانَ يَمنعُ مِن ذلك ويَزجُرُ؛ وأنَّ فاعلَه إمَّا مُشركٌ وإمَّا زانٍ؛ ليس مِن المؤمنين الذين يَمنعُهم إيمانُهم من ذلك؛ فإنَّ كمالَ الإيمانِ وحقيقتَه يمنعُ ذلك، فلا يَقَعُ إلَّا عندَ نوعِ ضَعفٍ في الإيمانِ، وفي الصَّحيحِ: ((لا يَزني الزَّاني حِين يَزني وهو مُؤمِنٌ )) ، فسَلَبه حقيقةَ الإيمانِ الَّتي بها يستحِقُّ حُصولَ الثَّوابِ والنَّجاةِ مِن العقابِ؛ وإنْ كانَ معَه أصلُ الإيمانِ الَّذي يُفارِقُ به الكفَّارَ، ويَخرُجُ به مِن النَّارِ .
17- إذا كان رَجُلٌ له جاريةٌ تَزني؛ فليس له أنْ يَطَأَها حتَّى تَحيضَ ويَستبرِئَها مِن الزِّنا؛ فإنَّ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً عَقدًا ووطْئًا، ومتى وَطِئَها -مع كونِها زانيةً- كان دَيُّوثًا .
18- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ أَسندَ النِّكاحَ في الموضِعَينِ إلى الرَّجُلِ؛ تنبيهًا إلى أنَّ النساءَ لا حَقَّ لهنَّ في مُباشَرةِ العَقدِ ، وذلك بِناءً على أنَّ المرادَ بالنِّكاحِ هاهنا: العقدُ.
19- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه دليلٌ صريحٌ على تَحريمِ نِكاحِ الزانيةِ حتى تَتوبَ، وكذلك إنكاحُ الزاني حتَّى يتوبَ؛ فإنَّ مُقارَنةَ الزوجِ لزوجتِه، والزوجةِ لزَوجِها أشدُّ الاقتراناتِ والازدِواجاتِ، وقد قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22] أي: قُرناءَهم؛ فحرَّمَ اللهُ ذلك؛ لِمَا فيه مِن الشرِّ العظيمِ، ممَّا بعضُه كافٍ للتحريمِ ، وذلك أنَّ الزانيةَ فيها إفسادُ فِراشِ الرَّجُلِ، وفي مُناكحتِها مُعاشرةُ الفاجرةِ دائمًا ومصاحبتُها، والله قدْ أمَرَ بهَجرِ السُّوءِ وأهلِه ما داموا عليه، وهذا المعنى موجودٌ في الزاني؛ فإنَّ الزانيَ إنْ لم يُفسِدْ فراشَ امرأتِه كان قَرينَ سُوءٍ لها، كما قال الشعبيُّ: (مَن زَوَّجَ كريمتَه من فاسقٍ فقدْ قطَعَ رَحِمَها) ، وهذا ممَّا يَدخُلُ به على المرأةِ ضَررٌ في دِينها ودُنياها؛ فنِكاحُ الزانيةِ أشدُّ مِن جِهةِ الفراشِ، ونِكاحُ الزاني أشدُّ من جِهةِ أنَّه السيِّدُ المالكُ الحاكمُ على المرأةِ؛ فتَبقَى المرأةُ الحُرَّةُ العفيفةُ في أَسْرِ الفاجرِ الزاني، الذي يُقصِّرُ في حُقوقِها، ويَتعدَّى عليها .
20- قَولُ اللهِ تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على تحريمِ نِكاحِ الزَّواني والزُّناةِ على الأعفَّاءِ والعفائفِ، ويدُلُّ لذلك قولُه: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [النساء: 25] ، وقولُه: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء: 24] ، وقد جاءتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ بعُمومِها على خِلافِ ذلك؛ كقولِه تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [النور: 32] ، وقولِه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء: 24] ؟
والجواب عن هذا مُختَلَفٌ فيه اختلافًا مَبنيًّا على الاختلافِ في حُكمِ تَزوُّجِ العفيفِ للزَّانيةِ، أو العفيفةِ للزَّاني؛ فمَن يقولُ: هو حرامٌ، يقولُ: هذه الآيةُ مُخصِّصةٌ لعُمومِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ، وعُمومِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، والذين يقولون بعَدمِ المنعِ -وهُم الأكثرُ- أجابوا بأجوبةٍ:
الأوَّل: أنَّها مَنسوخةٌ بقولِه: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ.
الثَّاني: أنَّ النِّكاحَ في هذه الآيةِ الوطءُ؛ وعليه فالمرادُ بالآيةِ أنَّ الزَّانيَ لا يُطاوِعُه على فِعلِه ويُشارِكُه في مُرادِه إلَّا زانيةٌ مِثلُه، أو مُشرِكةٌ لا ترَى حُرمةَ الزِّنا.
الثَّالث: أنَّ هذا خاصٌّ؛ لأنَّه كان في نِسوةٍ بَغايا، كان الرَّجُلُ يتزوَّجُ إحداهُنَّ على أنْ تُنفِقَ عليه ممَّا كَسَبتْه مِن الزِّنا؛ لأنَّ ذلك هو سببُ نزولِ الآيةِ؛ فزَعَم بعضُهم أنَّها مُختَصَّةٌ بذلك السببِ؛ بدليلِ قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وقولِه: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ .
21- قال اللهُ تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ استُدِلَّ به على أنَّه لو زَوَّجَ الأبُ عَفيفةً بفاجِرٍ؛ فإنَّ النِّكاحَ فاسِدٌ .
22- في قَولِه تعالى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إنَّما خَصَّهم بالذِّكْرِ؛ لأنَّهم هم المنتَفِعون بالأمرِ والنَّهيِ، والتَّحليلِ والتحريمِ؛ فلا دليلَ فيه لِمَن يقولُ: إنَّ الكفَّارَ ليسوا مخاطَبينَ بفروعِ الشَّريعةِ !

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- قَولُه: سُورَةٌ خبرُ مبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: هذه سُورةٌ، وإنَّما أُشيرَ إليها مع عَدمِ سَبْقِ ذِكْرِها؛ لأنَّها باعتِبارِ كَونِها في شرَفِ الذِّكرِ في حُكْمِ الحاضِرِ المُشاهَدِ .
- قَولُه: أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ صِفاتٌ لـ سُورَةٌ، والمقصودُ مِن تلكَ الأوصافِ: التَّنْويهُ بهذه السُّورةِ؛ ليُقْبِلَ المُسلِمونَ على تَلقِّي ما فيها. وفي ذلكَ امتِنانٌ على الأُمَّةِ بتَحديدِ أحكامِ سِيرتِها في أحوالِها؛ ففي قولِه: أَنْزَلْنَاهَا تَنْويهٌ بالسُّورةِ بما يَدُلُّ عليه (أَنزَلْنا) مِنَ الإسنادِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ الدَّالِّ على العِنايةِ بها وتَشريفِها. والمَقصودُ مِن إسنادِ إنزالِها إلى اللهِ تعالى: تَنْويهٌ بها. وعَبَّرَ عن إنزالِها بصِيغَةِ المُضِيِّ -وإنَّما هو واقِعٌ في الحالِ- باعتِبارِ إرادةِ إنزالِها، فكأنَّه قيل: أرَدْنا إنزالَها وإبلاغَها، فجَعَل ذلكَ الاعتِناءَ كالماضي؛ حِرصًا عليه. وهذا مِن استِعمالِ الفِعلِ في معنى إرادةِ وُقوعِه . وقولُه: أَنْزَلْنَاهَا ... مع ما عُطِفَ عليه صِفاتٌ للسُّورةِ، مُؤكِّدةٌ لِما أفادَه التَّنكيرُ مِنَ الفَخامةِ مِن حيثُ الذَّاتُ بالفَخامةِ مِن حيثُ الصِّفاتُ .
- قَولُه: وَفَرَضْنَاهَا، أي: فَرَضْنا ما بُيِّن فيها، وإنَّما قال ذلكَ؛ لأنَّ أكثَرَ ما في هذه السُّورةِ مِن بابِ الأَحكامِ والحُدودِ ؛ فقولُه: وَفَرَضْنَاهَا بمَنزلةِ بَراعةِ الاستِهلالِ؛ لأنَّ قولَه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ... إلى آخِرِ السُّورةِ مِنَ الأحكامِ كالتَّفصيلِ .
- وأيضًا في قولِه: وَفَرَضْنَاهَا مِنَ الإيذانِ بغايةِ وِكادةِ الفَرْضيَّةِ ما لا يَخفَى .
- قَولُه: وَفَرَضْنَاهَا قُرِئَ بالتَّشديدِ هكذا وَفَرَّضْنَاهَا؛ لِلمُبالَغةِ في الإيجابِ وتَوكيدِه، أو لأنَّ فيها فرائضَ شتَّى، أو لكثرةِ المفروضِ عليهم .
- وقولُه: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ إنْ أُريدَ بها الآياتُ الَّتي نِيطَتْ بها الأَحكامُ المَفروضةُ، فتَكريرُ (أَنْزَلْنَا) مع استِلزامِ إنزالِ السُّورةِ لإنزالِها؛ لإبرازِ كَمالِ العِنايةِ بشأْنِها. وإنْ أُريدَ جَميعُ الآياتِ، فتَكريرُ (أَنْزَلْنَا) مع أنَّ جميعَ الآياتِ عَيْنُ السُّورةِ، وإنزالَها عَيْنُ إنزالِها؛ لاستِقلالِها بعُنوانٍ رائقٍ داعٍ إلى تَخصيصِ إنزالِها بالذِّكرِ؛ إبانةً لخَطَرِها، ورَفعًا لمَحلِّها .
- وأيضًا قولُه: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ تَنْويهٌ آخَرُ بهذه السُّورةِ؛ تَنويهٌ بكلِّ آيةٍ اشتَملَتْ عليها السُّورةُ: مِنَ الهَديِ إلى التَّوحيدِ، وحَقِّيَّةِ الإسلامِ، ومِن حُجَجٍ وتَمثيلٍ، وما في دَلائلِ صُنعِ اللهِ على سَعةِ قُدرتِه وعِلْمِه وحِكْمتِه، وهي ما أشارَ إليه قولُه: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور: 34] ، وقولُه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا إلى قولِه: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور: 43 - 46] . ومِنَ الآياتِ البَيِّناتِ الَّتي أُنزِلَتْ فيها: إطْلاعُ اللهِ رسولَه على دَخائِلِ المُنافِقينَ ممَّا كَتَموه في نُفوسِهِم، مِن قولِه: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إلى قولِه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور: 48- 53] ؛ فحَصَل التَّنويهُ بمَجموعِ السُّورةِ ابتِداءً، والتَّنويهُ بكلِّ جُزءٍ منها ثانيًا؛ فالمرادُ مِنَ الآياتِ المُنزَّلةِ في هذه السُّورةِ: جَميعُ ما اشتَملَتْ عليه مِنَ الآياتِ، لا آياتٌ مَخصوصةٌ مِن بَيْنِها. والمَقصودُ: التَّنويهُ بآياتِها، بإجراءِ وَصْفِ (بَيِّناتٍ) عليها .
- قَولُه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فيه إيذانٌ بأنَّ حَقَّها أنْ تَكونَ على ذُكْرٍ منهُم، بحيثُ متى مَسَّتِ الحاجةُ إليها استَحضَرُوها .
- وجُملةُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُرتبِطةٌ بجُملةِ: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ؛ لأنَّ الآياتِ بهذا المعنى مَظِنَّةُ التَّذكُّرِ، أي: دلائِلُ، مَظِنَّةٌ لحُصولِ تَذكُّرِكُم؛ فحَصَلَ بهذا الرَّجاءِ وَصْفٌ آخَرُ للسُّورةِ، هو: أنَّها مَبعَثُ تَذكُّرٍ وعِظَةٍ .
2- قَولُه تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ابتِداءُ كلامٍ، وهو كالعُنوانِ والتَّرجمةِ في التَّبويبِ؛ فلذلكَ أُتِيَ بَعدَه بالفاءِ المُؤْذِنةِ بأنَّ ما بَعدَها في قُوَّةِ الجوابِ، وأنَّ ما قَبْلَها في قُوَّةِ الشَّرطِ؛ فالتَّقديرُ: الزَّانيةُ والزَّاني ممَّا أُنزِلَتْ له هذه السُّورةُ وفُرِضَتْ. ولَمَّا كان هذا يَستَدعي استِشرافَ السَّامعِ، كان الكلامُ في قُوَّةِ: إنْ أرَدْتُم حُكْمَهما فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهُما مئةَ جَلْدةٍ . وإنَّما بُدِئَ بالزِّنا، مع أنَّ السُّورةَ تَضمَّنَتْ أحكامًا كثيرةً فيما يَتعلَّقُ بالزِّنا ونِكاحِ الزَّواني، وقَذْفِ المُحْصَناتِ، والتَّلاعُنِ، والحِجابِ، وغَيرِ ذلكَ؛ لقُبحِ الزِّنا، وما يَحدُثُ عنه مِنَ المَفاسدِ والعارِ .
- وقُدِّمَ ذِكْرُ الزَّانيةِ على الزَّاني للاهتِمامِ بالحُكمِ؛ لأنَّ المرأةَ هي الباعِثُ على زِنَا الرَّجُلِ، وبمُساعَفَتِها الرَّجُلَ يَحصُلُ الزِّنا، ولو مَنَعَتِ المرأةُ نفْسَها ما وَجَد الرَّجُلُ إلى الزِّنا تَمكينًا؛ فتَقديمُ المرأةِ في الذِّكْرِ لأنَّه أشَدُّ في تَحذيرِها، ولأنَّها أصلُ الفِتنةِ بهَتْكِ ما أُمِرَتْ به مِن حِجابِ التَّستُّرِ والتَّصوُّنِ والتَّحذُّرِ . وقيل: قُدِّمَتْ لأنَّ زِناها أفحَشُ وأكثَرُ عارًا، وهو لأجلِ الحَبَلِ أضَرُّ؛ فقدَّمها لأنَّ أثَرَ الزِّنا يَبدُو عليها مِن الحَبَلِ وزَوالِ البَكارةِ، وحالُ النِّساءِ الحَجبَةُ والصِّيانةُ؛ فقَدَّمَ ذِكْرَهُنَّ تَغليظًا واهتمامًا . وقيل: قُدِّمتِ الزانيةُ في الآيةِ؛ لأنَّه في ذلك الزَّمانِ كان زِنَا النساءِ فاشيًا، وكان لإماءِ العربِ وبغايا الوقتِ راياتٌ، وكُنَّ مُجاهِراتٍ بذلك .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ جاءَ قولُه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ الآيةَ، فقُدِّمَتِ المرأةُ في آيةِ حَدِّ الزِّنا، وأُخِّرَتْ في آيةِ حدِّ السَّرِقةِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ؛ أمَّا وجهُ تقديمِ المرأةِ في آيةِ حَدِّ الزِّنا فقد سبَق، وأمَّا وجهُ تقديمِ الرجُلِ في آيةِ حدِّ السَّرِقةِ فلأنَّ السَّرِقةَ إنَّما تَتولَّدُ مِنَ الجَسارةِ والقُوَّةِ والجُرأةِ، وهي مِنَ الرَّجُلِ أَقوى وأَكثَرُ .
- في قَولِه تعالى: فَاجْلِدُوا سؤالٌ: ما الموجِبُ لدخولِ الفاءِ في قَولِه تعالى: فَاجْلِدُوا؟
والجوابُ: ما ذَكَرَه بعضُ العلماءِ مِن أنَّ الموصولَ إذا تضمَّنَ معنى الشرطِ دخلتِ الفاءُ في خبرِه، و(أل) في: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي موصولةٌ مضمَّنةٌ الشَّرطَ؛ لأنَّها دخلَتْ على صفةٍ صريحةٍ، والمعنى: إذا زنَيَا فاجلِدوهما .
- قَولُه: فَاجْلِدُوا في لَفظِ الجَلْدِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يَنبَغي أنْ يَتجاوَزَ الألمُ إلى اللَّحمِ؛ لأنَّ الجَلْدَ ضَرْبُ الجِلْدِ، أي: لا يَكونُ الضَّربُ يُطيِّرُ الجِلْدَ حتَّى يَظهَرَ اللَّحمُ؛ فاختيارُ هذا اللَّفظِ دُون الضَّربِ مَقصودٌ به الإشارةُ إلى هذا المعنى على طَريقةِ الإدماجِ .
- قَولُه: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تأكيدٌ للعُمومِ المُستفادِ مِنَ التَّعريفِ في الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي؛ فلمْ يَكتَفِ بأنْ يُقالَ: فاجلِدوهُما، كما قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، ولئلَّا يُتَوهَّمَ أنَّ المئةَ بيْنَهما مُناصَفةً.
- وفي قولِه: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ قُدِّمَ المَجرورُ بِهِمَا على عامِلِه رَأْفَةٌ؛ للاهتِمامِ بذِكْرِ الزَّاني والزَّانيةِ؛ تَنبيهًا على الاعتِناءِ بإقامةِ الحدِّ. والنَّهيُ عن أنْ تأخُذَهم رَأفةٌ: كِنايةٌ عنِ النَّهيِ عن أثَرِ ذلكَ، وهو تَرْكُ الحدِّ أو نَقْصُه أو تخفيفُه .
- وعُلِّقَ بالرَّأفةِ قولُه: فِي دِينِ اللَّهِ؛ لإفادةِ أنَّها رَأفةٌ غيرُ مَحمودةٍ؛ لأنَّها تُعطِّلُ دِينَ اللهِ، أي: أحكامَه، وإنَّما شَرَعَ اللهُ الحدَّ استِصلاحًا؛ فكانتِ الرَّأفةُ في إقامتِه فَسادًا. وفيه تَعريضٌ بأنَّ اللهَ الَّذي شَرَعَ الحدَّ هو أرأفُ بعِبادِه مِن بعضِهم ببَعضٍ .
وقيل: سرُّ تقييدِ النَّهيِ عنِ الرأفةِ بقولِه تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ، هو أنَّ الرِّقَّةَ إذا منَعَتْ مِن إقامةِ الحَدِّ فهي واقعةٌ في دينِ اللهِ، ودينُ اللهِ هو الإسلامُ، ويدخلُ فيه الأوامِرُ والنَّواهي والحدودُ، وغيرُ ذلك ممَّا يَشملُه الدِّينُ .
- وجُملةُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ شَرْطٌ مَحذوفُ الجوابِ؛ لدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، أي: إنْ كنتُم مُؤمِنينَ فلا تأخُذْكُم بهِما رَأفةٌ، أي: لا تؤَثِّرْ فيكُم رَأفةٌ بهِما. والمقصودُ: شِدَّةُ التَّحذيرِ مِن أنْ يَتأثَّروا بالرَّأفةِ بهِما، بحيثُ يُفرَضُ أنَّهم لا يُؤْمِنونَ .
- وأيضًا قولُه: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ مِن بابِ التَّلهيبِ والتَّهييجِ والغضبِ للهِ، حتَّى يقولَ السَّامعُ: كيف لا أُومِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ؟! فإنَّ الإيمانَ بهما يَقتضِي الجِدَّ في طاعتِه تعالى، والاجتهادَ في إجراءِ أحكامِه، وذُكِرَ اليومُ الآخِرُ؛ لتَذكيرِ ما فيه مِن العِقابِ في مُقابلةِ المُسامحةِ والتَّعطيلِ .
- وعَطْفُ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ على الإيمانِ باللهِ في قولِه: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ؛ للتَّذكيرِ بأنَّ الرَّأفةَ بهِما في تَعطيلِ الحدِّ أو نَقْصِه نِسيانٌ لليومِ الآخِرِ؛ فإنَّ تلكَ الرَّأفةَ تُفْضِي بهما إلى أنْ يُؤخَذَ منهما العِقابُ يومَ القيامةِ؛ فهي رَأفةٌ ضارَّةٌ، كرَأفةِ تَرْكِ الدَّواءِ للمَريضِ؛ فإنَّ الحُدودَ جَوابرُ على ما تُؤْذِنُ به أدِلَّةُ الشَّريعةِ .
- قَولُه: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَمَّى الجَلدَ عذابًا؛ إذْ فيه إيلامٌ وافتِضاحٌ، وهو عُقوبةٌ على ذلك الفِعلِ . وقولُه: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زِيادةٌ في التَّنكيلِ؛ فإنَّ التَّفضيحَ قد يُنكِّلُ أكثَرَ ممَّا يُنكِّلُ التَّعذيبُ . واختِصاصُه المُؤمِنينَ؛ لأنَّ ذلك أفضَحُ، والفاسقُ بيْنَ صُلَحاءِ قَومِه أخجَلُ .
3- قَولُه تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَوقِعُ هذه الآيةِ مَوقِعُ المَقصودِ مِنَ الكلامِ بَعدَ المُقدِّمةِ؛ ولذلك جاءَتْ مُستأنَفةً كما تَقَعُ النَّتائجُ بَعدَ أدِلَّتِها، وقُدِّمَ قَبْلَها حُكْمُ عُقوبةِ الزِّنا؛ لإفادةِ حُكْمِه وما يَقتَضيه ذلك مِن تَشنيعِ فِعْلِه .
- وقولُه: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ حُكْمٌ مُؤَسَّسٌ على الغالبِ المُعتادِ؛ جِيءَ به لزَجْرِ المُؤمِنينَ عن نِكاحِ الزَّواني -وذلك على قولٍ في التفسيرِ-، بَعدَ زَجْرِهم عنِ الزِّنا بهنَّ، كأنَّه قيلَ: الزَّاني لا يَرغَبُ إلَّا في نِكاحِ إحداهما، والزَّانيةُ لا يَرغَبُ في نِكاحِها إلَّا أحدُهُما، فلا تَحومُوا حَولَه؛ كيْ لا تَنتَظِموا في سِلْكِهما، أو تَتَّسِموا بسِمَتِهما؛ فإيرادُ الجُملةِ الأُولى مع أنَّ مَناطَ التَّنفيرِ هي الثَّانيةُ؛ إمَّا للتَّعريضِ بقَصْرِهم الرَّغبةَ عليهِنَّ، أو لتأكيدِ العَلاقةِ بيْن الجانِبَينِ؛ مُبالَغةً في الزَّجرِ والتَّنفيرِ. وعَدَمُ التَّعرُّضِ في الجُملةِ الثَّانيةِ للمُشرِكةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مَناطَ الزَّجرِ والتَّنفيرِ هو الزِّنا لا مُجرَّدُ الإشراكِ، وإنَّما تُعرِّضَ لها في الأُولى؛ إشباعًا في التَّنفيرِ عنِ الزَّانيةِ بنَظْمِها في سِلْكِ المُشركةِ .
- وأيضًا في قولِه: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قُدِّمَتِ الزَّانيةُ على الزَّاني أوَّلًا، ثمَّ قُدِّمَ عليها ثانيًا؛ وذلك لأنَّ تلك الآيةَ سِيقَتْ لعُقوبَتِهما على ما جَنَيَا، والمرأةُ هي المادَّةُ الَّتي منها نَشأتِ الجِنايةُ؛ لأنَّها لو لمْ تُطْمِعِ الرَّجُلَ، ولمْ تُومِضْ له، ولمْ تُمكِّنْه: لمْ يَطمَعْ ولمْ يَتمكَّنْ؛ فلمَّا كانتْ أصْلًا وأوَّلًا في ذلك بدَأَ بذِكْرِها، وأمَّا الثَّانيةُ فمَسوقةٌ لذِكْرِ النِّكاحِ، والرَّجُلُ أصْلٌ فيه؛ لأنَّه هو الرَّاغِبُ والخاطِبُ، ومنه يَبدأُ الطَّلبُ . وقيل: لأنَّ سبَبَ نُزولِ هذه الآيةِ كان رَغبةَ رَجُلٍ في تَزوُّجٍ امرأةٍ تَعوَّدَتِ الزِّنا؛ فكان المَقامُ مُقتَضيًا الاهتِمامَ بما يَترتَّبُ على هذا السُّؤالِ مِن مَذمَّةِ الرَّجُلِ الَّذي يَتزوَّجُ مِثْلَ تلك المرأةِ .
- وعَطْفُ قولِه: أَوْ مُشْرِكَةً على زَانِيَةً، وقولِه: أَوْ مُشْرِكٌ على إِلَّا زَانٍ؛ لزِيادةِ التَّفظيعِ .
- وجُملةُ: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَكميلٌ للمَقصودِ مِنَ الجُملتينِ قَبْلَها، وهو تَصريحٌ بما أُريدَ مِن تَفظيعِ نِكاحِ الزَّانيةِ، ببَيانِ الحُكْمِ الشَّرعيِّ في القَضيَّةِ، وعُطِفَتِ الجُملةُ؛ لأنَّها أفادَتْ تَكميلًا لِما قبلَها، وشأْنُ التَّكميلِ أنْ يكونَ بطَريقِ العَطفِ .
- قَولُه: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذا كان معنَى الآيةِ على الخَبرِ؛ فيَكونُ فيه التَّعبيرُ عنِ التَّنزيهِ بالتَّحريمِ؛ مُبالَغةً في الزَّجرِ، وإذا كان مَعناها النَّهيَ؛ فقولُه: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مؤَكِّدٌ لمعنَى النَّهيِ .