موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيتان (4-5)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ

غريب الكلمات:

يَرْمُونَ: أي: يَشتُمون، ويَقْذِفون بالزِّنَا، وأصْلُ (رمي): نَبْذُ الشَّيءِ .
الْمُحْصَنَاتِ: أي: ذواتَ الأزواجِ، والمُحْصَناتُ أيضًا: الحرائرُ وإنْ لم يكُنَّ مُتزوِّجاتٍ، والعفائفُ، وأصْلُ (حصن): الحِفْظُ والحِياطةُ والحِرْزُ .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى تشريعًا آخَرَ يكفُلُ حمايةَ الأعراضِ، فيقولُ مبيِّنًا حدَّ القذفِ: والذين يَقذِفونَ المسلماتِ الحرائرَ المكلَّفاتِ العَفيفاتِ بالفاحشةِ دونَ أن يشهَدَ معهم أربعةُ شُهداءَ مِن الرجالِ العدولِ، فيُجلَدُ كلُّ واحدٍ منهم ثمانينَ جَلدةً، ولا تُقبَلُ لهم شهادةٌ أبدًا، وأولئك هم الخارِجونَ عن طاعةِ الله، إلَّا الذين تابوا ونَدِموا على ما فعَلوا، وأصلحوا أعمالَهم؛ فإنَّ اللهَ يغفِرُ ذنوبَهم ويرحَمُهم.

تفسير الآيتين:

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نفَّرَ اللهُ تعالى مِن نكاحِ مَنِ اتَّصفَ بالزِّنا مِن رجُلٍ أو امرأةٍ- عطَفَ على ذلك تَحريمَ القذْفِ بما يُوجِبُ تَعظيمَ الرَّغبةِ في السَّترِ، وصِيانةِ الأعراضِ، وإخفاءِ الفواحشِ .
وأيضًا لَمَّا عظَّمَ اللهُ تعالى أمْرَ الزَّاني بوُجوبِ جَلْدِه، وكذا رَجْمُه إنْ كان مُحصَنًا، وأنَّه لا تَجوزُ مُقارَنتُه، ولا مُخالَطَتُه على وَجْهٍ لا يَسلَمُ فيه العبْدُ مِنَ الشَّرِّ- بيَّنَ تعالى تَعظيمَ الإقدامِ على الأعراضِ بالرَّميِ بالزِّنا؛ فقال :
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
أي: والَّذين يَقْذِفون المسلماتِ الحرائرَ المكلَّفاتِ العَفيفاتِ بالزِّنا، ولم يُحضِروا أربعةً مِنَ الرِّجالِ العُدولِ؛ لِيَشْهدوا علَيهِنَّ أنَّهم رأَوْهُنَّ يَفعلْنَ الزِّنا؛ فاجلِدوا كلَّ واحدٍ منهم ثمانينَ جَلدةً؛ عُقوبةً لهم على القذفِ بلا بيِّنةٍ .
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا.
أي: ولا تَقْبَلوا للقاذِفِينَ بعدَ جَلدِهم شَهادةً في بَقيَّةِ حياتِهم؛ عُقوبةً أُخرى لهم على مَعصيَتِهم .
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أي: وأُولئِكَ القاذِفونَ هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا.
أي: إلَّا الَّذين نَدِموا على قَذْفِهم، وأقلَعوا عن مَعصيةِ القذفِ بعدَ وُقوعِهم فيها، وعَزَموا على عدَمِ العودةِ إليها ، وأصلَحوا أحوالَهم وأعمالَهم .
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فإنَّ اللهَ يَستُرُ ذُنوبَهم ويَتجاوزُ عن مُؤاخذَتِهم بها، رَحيمٌ بهم، فاقْبَلوا شَهادتَهم، ولا تُسَمُّوهم فاسِقينَ؛ فقد صاروا عُدولًا غيرَ فَسقةٍ .

الفوائد التربوية:

1- عاقَبَ هؤلاء القاذِفينَ للمُحصَناتِ بثَلاثِ عُقوباتٍ:
أُولاها: حِسِّيَّةٌ، وتتمَثَّلُ في جَلْدِهم ثمانينَ جَلدةً، وهي عُقوبةٌ قَريبةٌ مِن عُقوبةِ الزِّنا.
وثانيتُها: مَعنويَّةٌ، وتتمَثَّلُ في عدَمِ قَبولِ شَهادتِهم؛ بأن تُهدَرَ أقوالُهم، ويَصيروا في المجتمَعِ أشبَهَ ما يكونون بالمَنبوذينَ الذين إنْ قالوا لا يُصَدِّقُ النَّاسُ أقوالَهم، وإن شَهِدوا لا تُقبَلُ شهادتُهم؛ لأنَّهم انسلَخَت عنهم صِفةُ الثِّقةِ مِن النَّاسِ فيهم.
وثالثتُها: دينيَّةٌ، وتتمَثَّلُ في وَصفِ اللهِ تعالى لهم بالفِسقِ، أى: بالخُروجِ عن طاعتِه سُبحانَه، وعن آدابِ دينِه وشريعتِه.
وما عاقَبَ اللهُ تعالى هؤلاء القاذِفينَ في أعراضِ النَّاسِ بتلك العُقوباتِ الرَّادِعةِ إلَّا لحِكَمٍ؛ مِن أهَمِّها: حمايةُ أعراضِ المُسلِمينَ مِن ألسِنةِ السُّوءِ، وصيانتُهم مِن كُلِّ ما يَخدِشُ كرامتَهم، ويَجرَحُ عَفافَهم، وأقسى شَيءٍ على النُّفوسِ الحُرَّةِ الشَّريفةِ الطَّاهِرةِ: أن تُلصَقَ بهم التُّهَمُ الباطِلةُ. وعلى رأسِ الرَّذائِلِ التي تُؤدِّي إلى فسادِ المُجتمَعِ: تَركُ ألسِنةِ السُّوءِ تَنهَشُ أعراضَ الشُّرَفاءِ دونَ أن تجِدَ هذه الألسِنةُ مَن يُخرِسُها أو يَردَعُها .
2- قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فعطَفَ الإصلاحَ على التَّوبةِ؛ لأنَّ التَّوبةَ التي لا أثَرَ لها في العَمَلِ لا شأنَ لها ولا قيمةَ في نَظَرِ الدِّينِ؛ ولذلك جرى القُرآنُ على عَطفِ العَمَلِ الصَّالحِ عليها عندَ ذِكرِها أو وَصْفِها بالنَّصُوحِ، وترى كثيرًا مِنَ النَّاسِ يُظهِرونَ التَّوبةَ بالنَّدَمِ والاستِغفارِ والرُّجوعِ عن الذَّنبِ، ثمَّ لا يَلبَثونَ أن يعودوا إلى ما كانوا تابوا عنه؛ ذلك بأنَّه لم يكُنْ للتَّوبةِ أثَرٌ في نُفوسِهم يُنَبِّهُهم إذا غَفَلوا كَيْ لا يعودوا إلى ما اقتَرَفوا، ويهديهم إلى اتِّخاذِ الوَسائِلِ لإصلاحِ شَأنِهم، وتقويمِ أمْرِهم .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَمَّا كانت مَعصيةُ الزِّنا كبيرةً مِن أُمَّهاتِ الكبائرِ، وكان مُتعاطِيها كثيرًا ما يَتستَّرُ بها، فقلَّما يَطَّلِعُ أحدٌ عليها- شدَّدَ اللهُ تعالى على القاذفِ؛ حيثُ شرَطَ فيها أربعةَ شُهداءَ؛ رَحمةً بعِبادِه، وسَتْرًا لهم .
2- القاذِفُ قد يكونُ ذكَرًا والمقذوفُ أُنثى، وقد يكونُ أُنثى والمقذوفُ ذكَرًا، وقد يكونُ ذكرًا والمقذوفُ ذكرًا، وقد يكونُ أنثى والمقذوفُ أنثى؛ فالقِسمةُ رباعيَّةٌ. وقد نصَّ في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ على قذْفِ الذُّكورِ للإناثِ، وبقيَّةُ الصوَرِ المسكوتِ عنها داخِلةٌ في حُكمِ المنصوصِ بالإلحاقِ بنفيِ الفارقِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ احْتُجَّ به على أنَّ مَن قذَفَ نفْسَه، ثمَّ رجَعَ، لا يُحَدُّ لنفْسِه؛ لأنَّه لم يَرْمِ أحدًا .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ فيه أنَّ الزِّنا لا يُقبَلُ فيه إلَّا أربعةُ رِجالٍ، لا أقَلُّ، وسواءٌ شَهِدوا مُجْتمِعينَ أو مُتفرِّقينَ، ولا يُقبَلُ فيه نِساءٌ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هذه الآيةُ أصْلٌ في حَدِّ الفِرْيةِ والقذْفِ الَّذي كان أوَّلُ ظُهورِه في رَمْيِ المُحصَناتِ بالزِّنا .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فيه أنَّه يُجلَدُ القاذِفُ ثمانينَ إذا قذَفَ مُحصَنةً، ومَفهومُه: أنَّه إذا قذَفَ مَن عُرِفَت بالزِّنا لا يُحَدُّ للقذْفِ، ويُصرِّحُ بذلك قولُه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، لكنْ ينبغي صَونُ الألسنةِ عن الخوضِ في الأعراضِ.
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا فيه أنَّ القاذِفَ لا تُقبَلُ شَهادتُه .
8- في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا أنَّ عدمَ قَبولِ شهادةِ القاذِفِ لا يجري حُكْمُه على الرِّوايةِ، فتُقْبَلُ روايتُه في حالِ أنَّ شهادتَه لا تُقْبَلُ، سواءٌ كان قبْلَ توبتِه أو بعْدَها عندَ مَن يقولُ بعدَمِ قَبولِها -أي: الشهادةِ- بعدَ التَّوبةِ؛ ولهذا لم يتوقَّفِ البخاريُّ ومسلمٌ في روايةِ أبي بَكْرةَ. وهنا قد يَرِدُ سؤالٌ لطالبِ العلمِ، وهو: كيف تُقْبَلُ روايتُه دونَ شهادتِه، مع أنَّ كلًّا منهما تترتَّبُ عليه أحكامٌ، وهو إخبارٌ؟!
والجوابُ: أنَّ الشَّرعَ فَرَّقَ بيْن الشَّهادةِ والروايةِ؛ فشهادةُ المرأةِ لا تُقْبَلُ في دِرهمٍ إلَّا إذا كانت مع غيرِها مِن النِّساءِ، وتكونُ شَهادةُ اثنتَينِ كشَهادةِ رجُلٍ واحدٍ؛ وروايتُها تُقْبَلُ ولو كانت في نصٍّ تُزهَقُ به النُّفوسُ .
9- الفِسْقُ قد يكونُ ناقِلًا عن المِلَّةِ؛ كما قال في حقِّ إبليسَ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ، وقال: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] . وقد لا يكونُ الفِسْقُ ناقِلًا عن المِلَّةِ؛ كقولِه تعالى في الَّذين يَرْمُون المُحصَناتِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وقولِه تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: 282] .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فيه تَحريمُ القذْفِ، وأنَّه فِسْقٌ . وقولُه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أي: الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، الَّذين قد كثُرَ شَرُّهم؛ وذلك لانتِهاكِ ما حرَّمَ اللهُ، وانتِهاكِ عِرْضِ أخيهِ، وتَسليطِ النَّاسِ على الكلامِ بما تكلَّمَ به، وإزالةِ الأُخُوَّةِ الَّتي عقَدَها اللهُ بيْن أهْلِ الإيمانِ، ومَحبَّةِ أنْ تَشيعَ الفاحشةُ في الَّذين آمنوا، وهذا دليلٌ على أنَّ القذفَ مِن كبائرِ الذُّنوبِ ، ولأنَّ اسمَ الفِسقِ لا يقَعُ إلَّا على صاحِبِ كبيرةٍ .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، يُستدَلُّ بالآيةِ لقولِ مَن قال: إنَّ شَهادةَ القاذِفِ لا تَسقُطُ بمُجرَّدِ القذْفِ حتَّى يُقامَ عليه الحدُّ؛ لأنَّه تعالى إنَّما نَهى عن قَبولِ شَهادتِهم إذا لم يأْتوا بالشُّهداءِ، وللقاذِفِ الإتيانُ بالشُّهداءِ ما لم يُحَدَّ، فهذا بَيِّنٌ أنَّ شَهادتَه لا تَسقُطُ إلَّا بإقامةِ الحدِّ عليه؛ لاحتِمالِ إتيانِه بالشُّهداءِ .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ استَدَلَّ به مَن قال: إنَّ حدَّ القذْفِ مِن حُقوقِ اللهِ؛ فلا يَجوزُ العفْوُ عنه .
13- في قولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَليلٌ على أنَّ شَهادةَ القاذفِ بعدَ التَّوبةِ مَقبولةٌ، وذَنْبَه مَغفورٌ .
14- في قولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دليلٌ واضِحٌ على أنَّ مَنِ اغتابَ مُسلِمًا، وأوصَلَ إليه أذَى القَولِ في شَتْمِ نفْسٍ أو آباءٍ؛ فتَوبتُه منه تَحُطُّ ذَنْبَه، وتَغفِرُ خَطيئتَه، وإنْ لم يُحَلِّلْهُ صاحبُه ؛ أَلَا ترى أنَّ القاذِفَ قد غَمَّ المَقذوفَ وآذاهُ بقَذْفِه، ثمَّ أوجَبَ اللهُ له المَغفِرةَ والرَّحمةَ بتَوبَتِه منه، ولم يَشترِطْ عليه تَحليلَ المقذوفِ عنه؟ فالقِصَاصُ والمَظالِمُ ما كان في مالٍ أو نَفْسٍ أو جُرْحٍ دونَ الكلامِ، واللهُ أعلمُ .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
- قَولُه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... خُصَّ النِّساءُ بذلك، وإنْ كان الرِّجالُ يَشْرَكونَهنَّ في الحُكْمِ؛ تَنبيهًا على عَظيمِ حَقِّ أُمِّ المُؤمنينَ عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها ، ولأنَّ القَذفَ فيهِنَّ أشنَعُ وأنكَرُ للنُّفوسِ، ومِن حيث هُنَّ هَوَى الرِّجالِ؛ ففيه إيذاءٌ لهُنَّ ولأزواجِهِنَّ وقَراباتِهنَّ .
- وفي التَّعبيرِ عنِ التَّفَوُّهِ بما قالوا في حقِّهِنَّ بالرَّميِ يَرْمُونَ المُنْبئِ عن صَلابةِ الآلةِ، وإيلامِ المَرْميِّ، وبُعْدِه عنِ الرَّامي: إيذانٌ بشِدَّةِ تأثيرِه فيهِنَّ، وكَونِه رَجْمًا بالغَيبِ، والمُرادُ به رَمْيُهنَّ بالزِّنا لا غَيرُ، وعَدَمُ التَّصريحِ به؛ للاكتِفاءِ بإيرادِهنَّ عَقِيبَ الزَّواني، ووَصْفِهنَّ بالإحصانِ الدَّالِّ بالوَضعِ على نَزاهتِهنَّ عنِ الزِّنا خاصَّةً؛ فإنَّ ذلك بمَنزلةِ التَّصريحِ بكَونِ رَمْيِهنَّ به لا مَحالةَ ؛ فحُذِفَ المَرميُّ به في هذه الآيةِ لظُهورِ المَقصودِ بقَرينةِ السِّياقِ وذِكْرِ المُحْصَناتِ، أي: يَرمُون المُحْصَناتِ بالزِّنا .
- ولَمَّا كان إقْدامُ المُجترِئِ على القَذْفِ -معَ ما شرَطَه فيه لدَرءِ الحدِّ إرادةَ السَّترِ- بَعيدًا؛ أشار إليه بأداةِ التَّراخي، فقال: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ .
- قَولُه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فيه حَذْفُ مُتعلَّقِ الشَّهادةِ؛ لظُهورِ أنَّهم شُهداءُ على إثباتِ ما رَمى به القاذِفُ .
- قَولُه: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فيه تَخصيصُ رَمْيِهنَّ بهذا الحُكْمِ، مع أنَّ حُكمَ رَمْيِ المُحصَنِينَ أيضًا كذلك؛ لخُصوصِ الواقعةِ، وشُيوعِ الرَّمْيِ فيهنَّ .
- قَولُه: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً عَطفٌ على (اجْلِدُوا)، داخِلٌ في حُكْمِه تَتِمَّةً له؛ لِمَا فيه مِن معنَى الزَّجرِ؛ لأنَّه مُؤلِمٌ للقلبِ، كما أنَّ الجَلدَ مُؤلِمٌ للبَدنِ، وقد آذَى المَقذوفَ بلِسانِه؛ فعُوقِبَ بإهدارِ مَنافِعِه جَزاءً وِفاقًا .
- واللَّامُ في لَهُمْ مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ هو حالٌ مِن شَهَادَةً؛ قُدِّمتْ عليها لكَونِها نَكِرةً، ولو تَأخَّرَتْ عنها لكانتْ صِفَةً لها، وفائدَتُها: تَخصيصُ الرَّدِّ بشَهادتِهمُ النَّاشِئةِ عن أهْلِيَّتِهمُ الثَّابتةِ لهم عندَ الرَّمْيِ .
- قَولُه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ، مُقرِّرٌ لِمَا قَبْلَه، ومُبيِّنٌ لسُوءِ حالِهِم عندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وما في اسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ) مِن معنَى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِهِم في الشَّرِّ والفسادِ ؛ فعُبِّرَ باسمِ الإشارةِ؛ للإعلانِ بفِسْقِهم؛ ليَتميَّزوا في هذه الصِّفةِ الذَّميمةِ .
- والحَصرُ في قولِه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ؛ لِلمُبالَغةِ في شَناعةِ فِسْقِهم، حتَّى كأنَّ ما عَداهُ مِن الفُسوقِ لا يُعَدُّ فِسْقًا .
2- قَولُه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- قَولُه: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لتَهويلِ المَتوبِ عنه، أي: مِن بَعدِ ما اقتَرفُوا ذلك الذَّنْبَ العظيمَ الهائِلَ .
- ومَفعولُ (أَصْلَحُوا) مَحذوفٌ؛ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: أصلَحوا أنفُسَهم باجتِنابِ ما نُهُوا عنه ، وأصلَحوا أعمالَهم بالتَّدارُكِ، ومنه الاستِسلامُ للحَدِّ، أو الاستِحلالُ مِنَ المَقذوفِ .
- وقولُه: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعليلٌ لِما يُفيدُه الاستِثناءُ مِن العَفْوِ عنِ المُؤاخَذةِ بمُوجَبِ الفِسْقِ ؛ ففُرِّعَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على ما يَقتَضيهِ الاستِثناءُ مِن معنَى: فاقبَلوا شَهادَتَهم، واغفِروا لهم ما سَلَفَ؛ فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ، أي: فإنَّ اللهَ أمَرَ بالمَغفرةِ لهم؛ لأنَّه غَفورٌ رَحيمٌ، كما قال في آيةِ البقرةِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 160] ، وإنَّما صُرِّحَ في آيةِ البقرةِ بما قُدِّرَ نَظيرُه هنا؛ لأنَّ المَقامَ هنالِك مَقامُ إطنابٍ؛ لشِدَّةِ الاهتِمامِ بأمْرِهِم؛ إذْ ثابُوا إلى الإيمانِ والإصلاحِ، وبَيانِ ما أُنزِلَ إليهِم مِن الهُدى بَعْدَ ما كَتَموه وكَتَمه سَلَفُهم .