المَبحَثُ الثَّامِنُ: العَلاقةُ بَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ وصيَغِ العُمومِ
صيَغُ العُمومِ هيَ: (هَيئةُ الألفاظِ المُستَغرِقةِ لما يَصلُحُ لها بوضعٍ واحِدٍ مِن غَيرِ حَصرٍ)
[100] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/ 309)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 5)، ((صيغ العموم وأنواعهـ)) للزايدي (ص: 27). .
وتَشتَمِلُ صيَغُ العُمومِ على
[101] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 81)، ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 119) وما بعدها، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 49- 2). :
1- المُفرَدُ المُعَرَّفُ بألِ الاستِغراقيَّةِ (ألِ الجِنسِ)، مِثلُ قَولِه تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، يُفيدُ العُمومَ، ويَشمَلُ كُلَّ سارِقٍ.
2- المُفرَدُ المُعَرَّفُ بالإضافةِ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ البَحرِ:
((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه )) [102] لفظُه: عَن أبي هرَيرةَ يَقولُ: سَألَ رَجُلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا نَركَبُ البَحرَ ونَحمِلُ مَعَنا القَليلَ مِنَ الماءِ، فإن تَوضَّأنا به عَطِشنا، أفَنَتَوضَّأُ بماءِ البَحرِ؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه . أخرجه أبو داود (83) واللفظ له، والترمذي (69)، والنسائي (59). صحَّحه البخاري كما في ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/91)، وابن خزيمة في ((صحيحهـ)) (1/228)، وابن المنذر كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (1/13)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (1243)، وابن عبد البر كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (1/13)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. ؛ فلَفظُ "مَيتَتُه" يُفيدُ العُمومَ، فيَحِلُّ كُلُّ أنواعِ مَيتاتِ البَحرِ.
3- الجَمعُ المُعَرَّفُ بأل، مِثلُ قَولِه تعالى:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة: 233] ، فلَفظُ (الوالِداتُ) يَشمَلُ كُلَّ والِدةٍ.
4- النَّكِرةُ في سياقِ النَّفيِ، أوِ النَّهيِ، أوِ الشَّرطِ، مِثالُ الأوَّلِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )) [103] لفظُه: عَن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنْ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )). أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778). حسَّنه النووي في ((بستان العارفين)) (35)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9880)، وقال ابن كثير كما في ((الدراري المضية)) للشوكاني (285): مشهورٌ. وذهب إلى تصحيحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2340). ، فكَلِمةُ "ضَرَرَ" تُفيدُ العُمومَ.
5- الأسماءُ المَوصولةُ، مِثلُ: مَن، ما، الذينَ، اللَّاتي، أولاتُ.
6- أسماءُ الشَّرطِ، مِثلُ: مَن، ما، أيٌّ، أيُّما.
7- أسماءُ الاستِفهامِ، مِثلُ: مَن، وما، ومَتى، وماذا، وأينَ.
8- ألفاظُ الجُموعِ، مِثلُ: كُلٌّ، وجَميعٌ، ونَحوُهما، ومَعشَرٌ، وعامَّةٌ، وكافَّةٌ، وقاطِبةٌ، ونَحوُها.
العَلاقةُ بَينَ القاعِدةِ الفِقهيَّةِ وصيَغِ العُمومِ [104] يُنظر: ((معلمة زايد)) 1/ 301- 305). :تَشتَرِكُ القاعِدةُ الفِقهيَّةُ مَعَ صيَغِ العُمومِ في وُجوهٍ مُتَعَدِّدةٍ:
1- العامُّ هو اللَّفظُ المُستَغرِقُ لجَميعِ ما يَصلُحُ له بلا حَصرٍ دَفعةً واحِدةً، كما سَبَقَ.
وهذا المَفهومُ مُتَحَقِّقٌ في مَضمونِ "القاعِدةِ الفِقهيَّةِ"، فكَما يَندَرِجُ تَحتَ "اللَّفظِ العامِّ" جَميعُ ما يَدُلُّ عليه عُمومُه مِن غَيرِ حَصرٍ، فكَذلك يَندَرِجُ تَحتَ "القاعِدةِ الفِقهيَّةِ" جَميعُ ما يَنطَبِقُ عليه مَضمونُها مِنَ الجُزئيَّاتِ والمَسائِلِ مِن غَيرِ حَصرٍ.
2- العُمومُ في "صيَغِ العُمومِ" (عُمومٌ شُموليٌّ) أي: يَستَغرِقُ ويَصدُقُ على جَميعِ جُزئيَّاتِه دَفعةً واحِدةً، لا أنَّه يَصدُقُ على بَعضِها دونَ البَعضِ
[105] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 8- 9)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 290). .
وهَكَذا العُمومُ في "القاعِدةِ الفِقهيَّةِ" (شُموليٌّ) أيضًا، أي: أنَّ القاعِدةَ تَنطَبِقُ في آنٍ واحِدٍ على جَميعِ ما يَندَرِجُ تَحتَها مِن مَسائِلَ وتَفريعاتٍ.
3- الأصلُ في العامِّ أن تَكونَ دَلالَتُه كُلِّيَّةً، أي: يَكونَ الحُكمُ فيه على كُلِّ فردٍ مِن أفرادِه المُندَرِجةِ تَحتَه إلَّا إن دَخَلَه تَخصيصٌ
[106] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 9). ، ومَعنى هذا أنَّ العامَّ وإن كانَ في لفظِه كُلِّيًّا فهو قابِلٌ للتَّخصيصِ، فإذا دَخَلَه التَّخصيصُ فإنَّ الأفرادَ المَخصوصةَ تَخرُجُ عَن مَفهومِه الكُلِّيِّ، ولَكِن لا يَنتَقِضُ بذلك مَفهومُ "الكُلِّيَّةِ" في أصلِ الصِّيغةِ المَوضوعةِ للدَّلالةِ على العُمومِ.
وهذا أيضًا هو نَفسُ ما قيلَ في مَفهومِ "الكُلِّيَّةِ" في القاعِدةِ الفِقهيَّةِ، أي: أنَّ الأصلَ في القاعِدةِ الفِقهيَّةِ أنَّها تَنطَبِقُ على كُلِّ جُزئيَّاتِها بدونِ تَخَلُّفِ جُزئيَّةٍ مِنها، ولا يُنافي ذلك أن توجَدَ فيها مُستَثنَياتٌ لِما هو مَعلومٌ أنَّه ما مِن قاعِدةٍ إلَّا ولَها شَواذُّ ومُستَثنَياتٌ تَخرُجُ عَنها، ومَعَ وُجودِ تلك المُستَثنَياتِ فلا تَختَلُّ "الكُلِّيَّةُ" في أصلِ الصِّيغةِ القاعِديَّةِ.
4- العامُّ الباقي على عُمومِه (أيِ الذي لم يَدخُله تَخصيصٌ)، قَليلٌ بالنِّسبةِ للعامِّ الذي دَخَلَه التَّخصيصُ
[107] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/ 2383). . ومن أمثِلَتِه: قَولُه تعالى:
وَما مِنْ دابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] .
وهذا موافِقٌ أيضًا لِما قيلَ عَنِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ: إنَّ ما كانَ مِنها باقيًا على كُلِّيَّتِه بحَيثُ لم توجَدْ له استِثناءاتٌ، قَليلٌ أيضًا.
مِثالُه: قاعِدةُ: "لا يَجوزُ عَقلًا اجتِماعُ عِلَّتَينِ على مَعلولٍ واحِدٍ"؛ فقد ذَكَرَ ابنُ السُّبكيِّ أنَّ (هذه قاعِدةٌ مُطَّرِدةٌ مُنعَكِسةٌ لا سَبيلَ إلى انتِقاضِها بشَيءٍ مِنَ الصُّورِ)
[108] ((الأشباه والنظائر)) (2/ 37). .
ويُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّ العَلاقةَ بَينَ القاعِدةِ الفِقهيَّةِ وصيَغِ العُمومِ هيَ عَلاقةٌ لُزوميَّةٌ، أي: أنَّ القاعِدةَ الفِقهيَّةَ لا بُدَّ أن تَأتيَ بصيغةٍ مِن صيَغِ العُمومِ لتَدُلَّ على عُمومِ مَضمونِها، وإلَّا فلا تَكونُ قاعِدةً.
فإذا لوحِظَ خُلوُّ صيغةٍ ما في ظاهِرِها مِنَ اللَّفظِ الدَّالِّ مُباشَرةً على العُمومِ، وكانَ العُمومُ مُتَحَقِّقًا في أصلِ المَضمونِ وصالِحًا لسَبكِه في صياغةٍ قاعِديَّةٍ، فحينَئِذٍ يَنبَغي إنشاءُ صيغةٍ لها في قالبٍ مُقتَرِنٍ بألفاظِ العُمومِ بحَيثُ تُقَرِّبُ المَضمونَ إلى الصِّياغةِ القاعِديَّةِ العامَّةِ.
ومِمَّا يَشهَدُ لهذه العَلاقةِ بَينَ القاعِدةِ والعُمومِ ما جاءَ عَن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عَن لُحومِ الحُمُرِ؟ فقال:
((ما أنزَلَ اللهُ عَلَيَّ فيها إلَّا هذه الآيةَ الفاذَّةَ الجامِعةَ: فمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] )) [109] أخرجه البخاري (4962)، ومسلم (987). .
قال النَّوويُّ في شَرحِ هذا الحَديثِ: (أيِ: العامَّةُ المُتَناوِلةُ لكُلِّ خَيرٍ ومَعروفٍ، وفيه إشارةٌ إلى التَّمَسُّكِ بالعُمومِ)
[110] ((شرح مسلم)) (7/ 67). .