موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ التَّاسِعُ: العَلاقةُ بَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ وجَوامِعِ الكَلِمِ


المُرادُ بجَوامِعِ الكَلِمِ: الكَلِماتُ الوجيزةُ المُشتَمِلةُ على حِكَمٍ كَثيرةٍ وفَوائِدَ عَظيمةٍ [111] يُنظر: ((اختصار صحيح البخاري وبيان غريبهـ)) للقرطبي (3/ 26). .
وقيلَ: هيَ الألفاظُ اليَسيرةُ التي تَجمَعُ المَعانيَ الكَثيرةَ والأحكامَ المُختَلِفةَ، واختُصَّ بها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [112] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/ 57)، ونحوه: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/ 3676)، ((الكوكب الوهاج)) للهروي (8/ 73). .
والأصلُ في القَواعِدِ الفِقهيَّةِ أنَّها ألفاظٌ موجَزةٌ تَشتَمِلُ على مَعانٍ كَثيرةٍ، وتَستَوعِبُ مَسائِلَها الجُزئيَّةَ، وهيَ بهذا تَتَشابَهُ مَعَ التَّعريفاتِ السَّابِقةِ لجَوامِعِ الكَلِمِ، بجامِعِ الإيجازِ والِاشتِمالِ على المَعاني الكَثيرةِ.
أمَّا حَقيقةُ الفَرقِ بَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ وجَوامِعِ الكَلِمِ [113] يُنظر: ((كشاف اصطلاحات الفنون)) للتهانوي (1/ 547)، ((معلمة زايد)) (1/ 244)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 22). ، فمِن وُجوهٍ:
1- أنَّ نُصوصَ جَوامِعِ الكَلِمِ التي جَرَت نُصوصُها مَجرى القَواعِدِ الفِقهيَّةِ هيَ ضَربٌ مِمَّا اصطُلِحَ عليه بَعدُ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ، فالعَلاقةُ بَينَ أمثالِ هذه الجَوامِعِ مِنَ الكَلِمِ وبَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ عَلاقةُ جُزءٍ مِن كُلٍّ؛ إذ هيَ قِسمٌ أساسيٌّ مِن أقسامِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ.
2- نُصوصُ جَوامِعِ الكَلِمِ -سَواءٌ أكانَت قَواعِدَ أم ليسَت بقَواعِدَ- كُلُّها مُستَمَدَّةٌ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فهيَ أدِلَّةٌ تَشريعيَّةٌ يُستَنَدُ إليها لإثباتِ الأحكامِ. وبِناءً على هذا فإنَّ ما يُعَدُّ مِنها مِن قَبيلِ القَواعِدِ تَكونُ لها ميزةٌ على القَواعِدِ الأُخرى بأنَّها (قَواعِدُ وأدِلَّةٌ في آنٍ واحِدٍ)، بخِلافِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ الأُخرى، فهيَ نَفسُها بحاجةٍ إلى أدِلَّةٍ قَبلَ أن يُستَدَلَّ بها. وبِهذا تَكونُ لأمثالِ هذه النُّصوصِ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ ميزةٌ على بَقيَّةِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ الأُخرى مِن جِهةِ (الدَّليلِ والحُجِّيَّةِ).
3- أنَّ جَوامِعَ الكَلِمِ ليسَت مقصورةً على نَوعِ "القَواعِدِ الفِقهيَّةِ" فحَسبُ، بَل فيها ما يَنسَحِبُ مَفهومُه على قَواعِدَ شَرعيَّةٍ أُخرى غَيرِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ.
أمثِلةُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ المَأخوذةِ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ:
قاعِدةُ: "الأعمالُ بالنِّيَّاتِ" [114] قال ابنُ السُّبكيِّ في قاعِدةِ "الأُمورُ بمَقاصِدِها": (وأرشَقُ وأحسَنُ مِن هذه العِبارةِ: قَولُ مَن أوتيَ جَوامِعَ الكَلِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"). ((الأشباه والنظائر)) (1/ 54). : وأصلُها حَديثُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [115] أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
- قاعِدةُ: "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ " [116] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 106). قال الزَّركَشيُّ: (فهذه قاعِدةٌ عامَّةٌ، أغلَقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها مَنافِذَ الضَّرَرِ والفَسادِ). ((تشنيف المسامع)) (3/35). : وأصلُها حَديثُ: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )) [117] لفظُه: عَن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنْ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )). أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778). حسَّنه النووي في ((بستان العارفين)) (35)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9880)، وقال ابن كثير كما في ((الدراري المضية)) للشوكاني (285): مشهورٌ. وذهب إلى تصحيحِه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2340). .
- قاعِدةُ: "البَيِّنةُ على المُدَّعي واليَمينُ على مَن أنكَرَ " [118] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/ 89)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/ 505). : وأصلُ هذه القاعِدةِ حَديثُ: ((البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على مَن أنكَرَ )) [119] أخرجه ابن أبي عاصم في ((الديات)) (ص40)، والبيهقي (21243) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. حسَّنه النووي في ((الأربعون النووية)) (33)، وحسَّنه بطرقه وشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (5/330)، وقال محمد ابن عبد الهادي في ((حاشية الإلمام)) (648): إسنادُه حسنٌ صحيحٌ، وذكر ثبوتَه الشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/411)، وذهب إلى تصحيحِه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (9/450)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2685)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (421)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (377)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/226): أصلُه في الصَّحيحينِ. وأصلُه في صَحيحِ البُخاريِّ (4552)، ومُسلِمٍ (1711) دونَ قَولِه: "واليَمينُ على مَن أنكَرَ"، ولَفظُ مُسلِمٍ: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو يُعطى النَّاسُ بدَعواهم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولَكِنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)). [120] قال النَّوويُّ: (هذا الحَديثُ قاعِدةٌ كَبيرةٌ مِن قَواعِدِ أحكامِ الشَّرعِ). ((شرح مسلم)) (12/ 3). .
- قاعِدةُ: "المُسلِمونَ عِندَ شُروطِهم" [121] يُنظر: ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 121). : وأصلُها حَديثُ: ((المُسلِمونَ عِندَ شُروطِهم)) [122] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغةِ الجزم قبل حديث (2274) واللفظُ له دون ذِكرِ راويه، وأخرجه موصولًا أبو داود (3594) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. حسَّنه المناوي في ((كشف المناهج)) (2/520)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (2890)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حسَنٌ أو صحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/54)، وابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وذكَر ثبوتَه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/322). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ القَيِّم في ((الفروسية)) (164)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6714). وأخرجه البخاريُّ معَلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (2274) واللفظُ له دونَ ذِكرِ راويه، وأخرجه موصولًا الترمذي (1352) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عَمرِو بنِ عوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ذكر ثبوتَه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/322). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ حبان كما في ((بلوغ المرام)) (257)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1352)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وقوَّاه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (8/209). .

انظر أيضا: