موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: الخَطَأُ مَرفوعٌ شَرعًا


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الخَطَأُ مَرفوعٌ شَرعًا" [880] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/126)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/148). ، وصيغةِ: "الخَطَأُ مَوضوعٌ عنَّا رَحمةً مِنَ الشَّرعِ" [881] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/67). ، وصيغةِ: "الخَطَأُ يَرفَعُ الإثمَ" [882] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/ 122). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
فِعلُ الإنسانِ إمَّا أن يَصدُرَ عن قَصدٍ واختيارٍ، وهو العَمدُ مَعَ الذُّكرِ اختيارًا، أو لا عن قَصدٍ واختيارٍ، وهو الخَطَأُ والنِّسيانُ والإكراهُ، وهذا القِسمُ مَعفوٌّ عنه؛ فالإثمُ مَرفوعٌ عنِ المُخطِئِ، بخِلافِ القِسمِ الأوَّلِ، فهو مُؤاخَذٌ به. ورَفعُ المُؤاخَذةِ عنِ المُخطِئِ مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ لا مُخالَفٌ فيه، وإنِ اختَلفوا فيما يَتَعَلَّقُ به رَفعُ المُؤاخَذةِ، هَل ذلك مُختَصٌّ بالمُؤاخَذةِ الأُخرَويَّةِ خاصَّةً أم لا؛ فلم يَختَلفوا أيضًا أنَّ رَفعَ المُؤاخَذةِ بإطلاقٍ لا يَصِحُّ، بَل كُلُّ واحِدٍ مِنَ الطَّرَفينِ مُعتَبَرٌ على الجُملةِ، ما لم يَدُلَّ دَليلٌ مِن خارِجٍ على خِلافِ ذلك [883] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/57)، ((القبس)) لابن العربي (1/1055)، ((المفهم)) للقرطبي (7/322)، ((بحر المذهب)) للروياني (1/468)، ((التعيين في شرح الأربعين)) للنووي (1/322)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/51)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/366). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب: 5] .
والآيةُ نَصٌّ في نَفيِ الجُناحِ عنِ المُخطِئِ [884] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (8/137)، ((بحر العلوم)) للسمرقندي (3/44). .
- وقال اللهُ تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 86] .
وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا قَرَأها قال: ((قال اللهُ تعالى: قد فعَلتُ )) [885] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: لمَّا نَزَلت هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، قال: دَخَل قُلوبَهم مِنها شَيءٌ لم يَدخُلْ قُلوبَهم مِن شَيءٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعنا وأطَعنا وسَلَّمنا، قال: فألقى اللهُ الإيمانَ في قُلوبهم، فأنزَل اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: قد فعَلتُ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا قال: قد فعَلتُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا قال: قد فعَلتُ. أخرجه مسلم (126). ، وهذا تَصريحٌ بعَدَمِ المُؤاخَذةِ [886] يُنظر: ((الإشارات الإلهية)) للطوفي (1/116)، ((تفسير ابن كثير)) (1/737). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((للهُ أشَدُّ فَرَحًا بتوبةِ عَبدِه حين يتوبُ إليه مِن أحَدِكم كان على راحِلَتِه بأرضٍ فَلاةٍ، فانفلَتَت منه وعليها طعامُه وشَرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شَجَرةً، فاضطجعَ في ظِلِّها، قد أَيِسَ من راحلتِه، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخَذَ بخِطامِها، ثمَّ قال من شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا رَبُّك، أخطأ من شِدَّةِ الفَرَحِ!)) [887] أخرجه البخاري (6309) مختصرًا، ومسلم (2747) واللفظ له. .
والحَديثُ واضِحٌ في نَفيِ المُؤاخَذةِ عنِ المُخطِئِ [888] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (7/322). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا شَهِدَ الرَّجُلُ بشَهادةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلى الحاكِمِ فشَكَّ فيها، أو قال: قد بانَ لي أنِّي قد أخطَأتُ فيها، لم يَكُنْ للحاكِمِ أن يُنفِذَها ولا أن يُعاقِبَه؛ لأنَّ الخَطَأَ مَوضوعٌ عن بَني آدَمَ [889] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/57). .
2- لو أنَّ قَومًا اجتَهَدوا فلم يَرَوا الهلالَ إلَّا بَعدَ الثَّلاثينَ، فلم يُفطِروا حتَّى استَوفوا العَدَدَ، ثُمَّ ثَبَتَ عِندَهم أنَّ الشَّهرَ كان تِسعًا وعِشرينَ، فإنَّ صَومَهم وفِطرَهم ماضٍ، فلا شَيءَ عليهم مِن وِزرٍ أو عَتبٍ، وكذلك في الحَجِّ إذا أخطؤوا يَومَ عَرَفةَ؛ فإنَّه ليسَ عليهم إعادَتُه [890] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 96). .

انظر أيضا: