موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ العِشرونَ: ما وسَّعَه الشَّرعُ فضَيَّقه المُكَلَّفُ على نَفسِه هَل يتضَيَّقُ؟


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "ما وسَّعَه الشَّرعُ فضَيَّقه المُكَلَّفُ على نَفسِه هَل يتضَيَّقُ؟" [891] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/158). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
ورَدَ الشَّرعُ بالتَّيسيرِ على المُكَلَّفِ ورَفعِ الحَرَجِ عنه، فشَرع له مِنَ الرُّخصِ وغَيرِها ما يَضمَنُ له السَّعةَ وعَدَمَ الضِّيقِ، فإذا ضَيَّقَ المُكَلَّفُ على نَفسِه أمرًا وسَّعَه الشَّرعُ عليه، فإنَّ العُلماءَ اختَلفوا هَل يتضَيَّقُ عليه أو لا، بمَعنى هَل يَكونُ تَضييقُ المُكَلَّفِ على نَفسِه مُلزِمًا له فيما وسَّعَه الشَّرعُ عليه، أو لا يَلزَمُه ويَصيرُ الأمرُ كَما كان قَبلَ تَضييقِه على نَفسِه؟ وقد أورَدَ بَعضُ العُلماءِ هذه القاعِدةَ بصيغةِ الاستِفهامِ للدَّلالةِ على عَدَمِ الجَزمِ بالحُكمِ فيها لاختِلافِ الحُكمِ باختِلافِ الصُّوَرِ، وهذه القاعِدةُ أخَصُّ مِن قاعِدةِ: المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ [892] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/158)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/391)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/307). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ للقائِلينَ بأنَّ ما وسَّعَه الشَّرعُ فضَيَّقه المُكَلَّفُ على نَفسِه لا يتضَيَّقُ: بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بَينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ، إذا هو برَجُلٍ قائِمٍ، فسَأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيلَ، نَذَرَ أن يَقومَ ولا يَقعُدَ، ولا يَستَظِلَّ، ولا يَتَكَلَّمَ، ويَصومَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مُرْه فليَتَكَلَّمْ وليَستَظِلَّ وليَقعُدْ، وليُتِمَّ صَومَه )) [893] أخرجه البخاري (6704). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لمَّا ألزَمَ نَفسَه بمَشَقَّةٍ ليسَ فيها طاعةٌ للهِ عَزَّ وجَلَّ، وقُربةٍ لم تَلزَمْه، أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَتَوقَّفَ عنها؛ فدَلَّ على أنَّ مَن ضَيَّقَ على نَفسِه ما وسَّعَه اللَّهُ عليه لا يَلزَمُه هذا التَّضييقُ [894] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/58)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/163)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/397). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كَما يَكرَهُ أن تُؤتى مَعصيَتُه )) [895] أخرجه أحمد (5873)، وابن حبان (2742) واللفظ لهما، وابن خزيمة (2027). صحَّحه ابنُ خزيمة، وابن حبان، والألباني في ((شرح الطحاوية)) (252)، وقوَّى إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2742)، وجوَّده النووي في ((خلاصة الأحكام)) (2/729)، وصحَّح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/147)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/135). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إتيانَ ما شَرَعَه مِنَ الرُّخصِ، وفي تَشبيهِ تلك المَحَبَّةِ بكَراهَتِه لإتيانِ المَعصيةِ دَليلٌ على أنَّ في تَركِ إتيانِ الرُّخصةِ تَركَ طاعةٍ، كالتَّركِ للطَّاعةِ الحاصِلِ بإتيانِ المَعصيةِ [896] يُنظر: ((العدة في شرح العمدة)) لابن العطار (2/873،872)، (نيل الأوطار)) للشوكاني (3/244). .
ويُستَدَلُّ للقائِلينَ بأنَّ ما وسَّعَه الشَّرعُ فضَيَّقه المُكَلَّفُ على نَفسِه فإنَّه يتضَيَّقُ، بالسُّنَّةِ أيضًا:
ومِن ذلك: عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه أنَّ امرَأةً أتَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرتُ أن أضرِبَ على رَأسِك بالدُّفِّ، قال: ((أوفِي بنَذرِك)) [897] أخرجه أبو داود (3312) واللفظ له، والبيهقي (20127). صحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3312)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3312): حسنٌ صحيحٌ، وقوَّى إسنادَه الذهبي في ((المهذب)) (8/4054). وأخرجه مِن طُرُقٍ: الترمذي (3690)، وأحمد (23011) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ حُصَيبٍ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أحمَدَ: عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال: رَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَعضِ مَغازيه فجاءَت جاريةٌ سَوداءُ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي كُنتُ نَذَرتُ إن رَدَّك اللهُ سالِمًا أن أضرِبَ على رَأسِك بالدُّفِّ، فقال: "إن كُنتِ نَذَرتِ فافعَلي، وإلَّا فلا". قالت: إنِّي كُنتُ نَذَرتُ. قال: فقَعَدَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضَرَبَت بالدُّفِّ. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4386)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (4/267)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/645)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3690)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ من حديثِ برَيدةَ، وقال ابنُ القطَّان في ((النظر في أحكام النظر)) (158): حَسَنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّها بنَذرِها ذلك قد ألزَمَت نَفسَها وضَيَّقَت ما وسَّعَه الشَّرعُ عليها ولم يُلزِمْها بفِعلِه، فأمَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوَفاءِ بما ألزَمَت نَفسَها به [898] يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (5/376)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (8/2446)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/397). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو تَوضَّأ ونَوى بوُضوئِه صَلاةً واحِدةً، كان له أن يُصَلِّيَ به صَلواتٍ أُخرى ما لم يُحدِثْ [899] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/158)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/ 308). .
2- لو وقَعَ مِنه أحداثٌ فنَوى رَفعَ بَعضِها هَل تَرتَفِعُ جَميعُ الأحداثِ فلا يُؤَثِّرُ تَضييقُه على نَفسِه أو لا يَرتَفِعُ إلَّا ما نَواه؟ خِلافٌ بَينَ العُلماءِ؛ فقيل: يَرتَفِعُ؛ لأنَّ الحَدَثَ لا يَتَجَزَّأُ، فإذا ارتَفعَ بَعضُه ارتَفعَ كُلُّه، وقيل: لا يَرتَفِعُ إلَّا ما نَواه [900] يُنظر: ((دقائق المنهاج)) للنووي (1/33)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/29)، ((المنثور)) للزركشي (3/158)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/149). .

انظر أيضا: