موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الرَّابعُ: إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسَعَ، وإذا اتَّسَعَ ضاقَ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسَعَ، وإذا اتَّسَعَ ضاقَ" [778] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/49)، ((المنثور)) للزركشي (1/123:120)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 83). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا تَرَتَّبَ على التِزامِ المُكَلَّفِ بالتَّكليفِ مَشَقَّةٌ خارِجةٌ عن قُدرَتِه، فإنَّ الأمرَ يَتَّسِعُ له إلى غايةِ اندِفاعِ المَشَقَّةِ، ويُشرَعُ له مِنَ الحُكمِ ما يُناسِبُ حالَه ويَجعَلُه في سَعةٍ وبُعدٍ عنِ الحَرَجِ، فإذا اندَفعَتِ المَشَقَّةُ وزالتِ الضَّرورةُ الدَّاعيةُ إلى التَّيسيرِ عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه [779] يُنظر: ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (7/130)، ((بلغة السالك لأقرب المسالك)) للصاوي (1/72)، ((حاشية الشرواني على تحفة المحتاج)) (7/237)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/36)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 163)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/118). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ في قاعِدةِ: (المَشَقَّةُ تَجلبُ التَّيسيرَ)، ويُضافُ إليها:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 101-103] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَسَّرَ لهم في حالةِ الخَوفِ الصَّلاةَ، فخَفَّفها إلى رَكعَتَينِ، فإذا اطمَأنَّت نُفوسُهم أمر بأن تُقامَ الصَّلاةُ تامَّةً [780] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/208،207)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (5/189). ، فلمَّا ضاقَ خَفَّف عنهم، ولمَّا اتَّسَعَ الأمرُ عادَ إلى ما كان قَبلَ التَّخفيفِ.
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشة رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((دَفَّ أهلُ أبياتٍ مِن أهلِ الباديةِ حَضرةَ الأضحى زَمَنَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ادَّخِروا ثَلاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقوا بما بَقيَ، فلمَّا كان بَعدَ ذلك قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ النَّاسَ يَتَّخِذونَ الأسقيةَ مِن ضَحاياهم، ويَجمُلونَ مِنها الوَدَكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وما ذاكَ؟ قالوا: نَهَيتَ أن تُؤكَلَ لُحومُ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، فقال: إنَّما نَهَيتُكُم مِن أجلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّت؛ فكُلوا وادَّخِروا وتَصَدَّقوا )) [781] أخرجه مسلم (1971). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لمَّا ضاقَ الأمرُ في حَقِّ الوافِدينَ الفُقَراءِ أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّوسِعةِ عليهم مِن أجلِ مُراعاةِ المَصلحةِ العامَّةِ، ولمَّا اتَّسَعَ الأمرُ بزَوالِ حاجةِ الوافِدينَ أو بذَهابِهم رَجَعَ الأمرُ إلى أصلِه مِن جَوازِ الادِّخارِ، والأكلِ، والتَّصَدُّقِ [782] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/121)، ((الوجيز)) لبورنو (1/232). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- مَشروعيَّةُ دَفعِ السَّارِقِ والباغي بما أمكَنَ إلى أن يَندَفِعَ شَرُّه ولو بالقَتلِ، فإنِ اندَفعَ فلا يَجوزُ الاعتِداءُ عليه؛ لأنَّ الأمرَ إذا اتَّسَعَ ضاقَ؛ لأنَّ القَصدَ مِنَ القِتالِ كان دَفعَ الضَّرَرِ، فإذا حَصَل بهَرَبِه أو جَرحِه فلا يَجوزُ الزِّيادةُ عليه [783] يُنظر: ((جامع الأمهات)) لابن الحاجب (ص: 525)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/263،262)، ((الغاية في اختصار النهاية)) للعز بن عبد السلام (7/148)، ((الكافي)) لابن قدامة (4/112)، ((الدر المختار مع حاشية ابن عابدين)) (6/546)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/273). .
2- طينُ الشَّارِعِ المُتَيَقَّنُ نَجاسَتُه يُعفى عَمَّا يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ مِنه غالبًا؛ لأنَّ الأمرَ إذا ضاقَ اتَّسَعَ [784] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/123). .

انظر أيضا: