موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الخامِسُ: لا مَساغَ للِاجتِهادِ في مَورِد النَّصِّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "لا مَساغَ للِاجتِهادِ في مَورِد النَّصِّ" [2657] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/168)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17). ، وصيغةِ: "لا اجتِهادَ مَعَ النَّصِّ" [2658] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/371). ، وصيغةِ: "لا اجتِهادَ في مُقابَلةِ نَصٍّ" [2659] يُنظر: ((تحقيق المسح على الجوربين والنعلين)) للقاسمي (ص: 72). ، وصيغةِ: "لا اجتِهادَ في الأُمورِ التي لا تُعرَفُ إلَّا بتَوقيفٍ" [2660] يُنظر: ((أصول الفقهـ)) لعياض السلمي (ص: 185). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الاجتِهادَ -وهو بَذلُ الفقيهِ وُسعَه مِن أجلِ التَّوصُّلِ إلى حُكمِ المَسألةِ المَنظورِ فيها- إنَّما يَكونُ عِندَ عَدَمِ وُرودِ نَصٍّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ في المَسألةِ، فكُلُّ مَسألةٍ ورَدَ فيها نَصٌّ مِنَ الشَّارِعِ مُفسَّرًا ومُحكَمًا لا يَجوزُ للمُجتَهدينَ أن يَجتَهِدوا فيها؛ لأنَّ جَوازَ الاجتِهادِ أوِ القياسِ في الفُروعِ مَشروطٌ بعَدَمِ وُجودِ نَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، فإذا وُجِدَ نَصٌّ فلا يَجوزُ الاجتِهادُ؛ لأنَّ الاجتِهادَ إمَّا يُتَوصَّلُ به إلى ما أفادَه النَّصُّ، فيَكونُ تَطويلًا بلا فائِدةٍ، أو يُتَوصَّلُ به إلى ضِدِّ ما في النَّصِّ، ولا يَجوزُ تَركُ النَّصِّ لرَأيِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ كائِنًا مَن كان، ولأنَّ الاجتِهادَ ظَنِّيٌّ، والحُكمُ الحاصِلُ به حاصِلٌ بظَنِّيٍّ، بخِلافِ الحاصِلِ بالنَّصِّ؛ فإنَّه يَقينيٌّ، ولا يُترَكُ اليَقينيُّ للظَّنِّيِّ [2661] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/32)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 147). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
- وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] .
- وقال اللهُ عزَّ وَجلَّ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآياتِ:
تَدُلُّ الآياتُ السَّابِقةُ بوُضوحٍ على أنَّه لا اختيارَ مَعَ حُكمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّه إذا قَضى اللَّهُ قَضاءً فلا مَجالَ للإنسانِ أن يَتَصَرَّفَ بخِلافِه في حَقِّ نَفسِه أو حَقِّ غَيرِه [2662] يُنظر: ((الهداية)) لمكي (9/5837)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (18/249)، ((معلمة زايد)) (33/14). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ قَذَف امرَأتَه عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَريكِ بنِ سَحماءَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: البَيِّنةُ أو حَدٌّ في ظَهرِكَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إذا رَأى أحَدُنا على امرَأتِه رَجُلًا يَنطَلِقُ يَلتَمِسُ البَيِّنةَ! فجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: البَيِّنةُ، وإلَّا فحَدٌّ في ظَهرِكَ، فقال هلالٌ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنِّي لَصادِقٌ، فلَيُنزِلَنَّ اللهُ ما يُبَرِّئُ ظَهري مِنَ الحَدِّ، فنَزَلَت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النور: 6] فقَرَأ حتَّى بَلَغَ: مِنَ الصَّادِقينَ. فانصَرَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأرسَلَ إليها، فجاءَا، فقام هلالُ بنُ أُمَيَّةَ فشَهدَ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّ اللَّهَ يَعلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ، فهَل مِنكُما من تائِبٍ؟ ثُمَّ قامَت فشَهِدَت، فلمَّا كان عندَ: الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقيِنَ، وقالوا لها: إنَّها موجِبةٌ، تلكَّأَت ونكصَت حتَّى ظنَّنا أنَّها سترجِعُ، وقالت: لا أفضَحُ قَومي سائِرَ اليومِ، فمضَت، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبصِروها، فإن جاءت به أكحَلَ العَينَينِ، سابِغَ الأليتَينِ [2663] أي: ضَخمَ الأردافِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/ 78). ، خَدلَّجَ السَّاقَينِ [2664] أي: مُمتَلِئَ السَّاقَينِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/ 75). فهو لشَريكِ بنِ سَحماءَ، فجاءت به كذلك، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لولا ما مضى مِن كتابِ اللهِ لكان لي ولها شأنٌ)) [2665] أخرجه البخاري (4747). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَرأةَ لمَّا جاءَت به شَبيهًا لشَريكِ بنِ سَحماءَ لم يُقِمْ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَدَّ؛ لوُجودِ نَصٍّ مِن كِتابِ اللهِ في المَسألةِ؛ مِمَّا يوجِبُ دَرء الحَدِّ عنِ المَرأةِ باللِّعانِ، فلا مَساغَ مَعَه للِاجتِهادِ [2666] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/268)، ((المنتقى)) للباجي (6/9)، ((الإفصاح)) لابن هبيرة (3/198). .
3- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَلَه ابنُ تَيميَّةَ وابنُ القَيِّمِ عنِ الشَّافِعيِّ [2667] (قال الشَّافِعيُّ: أجمعَ النَّاسُ على أنَّ مَنِ استَبانَت له سُنَّةٌ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ له أن يَدَعَها لقَولِ أحَدٍ). ((الرسالة التبوكية)) لابن تيمية (ص: 40)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/176). ومِن أقرَبِ عِباراتِ الشَّافِعيِّ لهذا النَّصِّ مِن كُتُبِه المطبوعَةِ: (لمَ أسمَعْ أحَدًا -نَسَبه النَّاسُ أو نَسَب نَفسَه إلى عِلمٍ- يُخالفُ في أنَّ فرضَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ اتِّباعُ أمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّسليمُ لحُكمِه، بأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لم يَجعَلْ لأحَدٍ بَعدَه إلَّا اتِّباعَه، وأنَّه لا يَلزَمُ قَولٌ بكُلِّ حالٍ إلَّا بكِتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ ما سِواهما تَبَعٌ لهما، وأنَّ فرضَ اللهِ تعالى علينا وعلى مَن بَعدَنا وقَبلَنا في قَبولِ الخَبَرِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحِدٌ لا يَختَلفُ في أنَّ الفرضَ والواجِبَ قَبولُ الخَبَرِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((الأم)) (7/ 287)، ((جماع العلم)) (ص: 3). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لا يَجوزُ بَيعُ مَتروكِ التَّسميةِ عَمدًا عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ حُرمَتَه مَنصوصٌ عليها، ولا مَساغَ للِاجتِهادِ في مَورِدِ النَّصِّ، فلا يُعتَبَرُ فيه الخِلافُ، ولا ينفذُ بالقَضاءِ [2668] يُنظر: ((البحر الرائق)) لزيد الدين ابن نجيم (6/77)، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/513)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/168). .
2- القَولُ بنَضحِ بَولِ الصَّبيَّةِ بالقياسِ على بَولِ الغُلامِ خَطَأٌ؛ لمُخالَفتِه الحَديثَ [2669] لَفظه: عن أبي السَّمحِ، قال: كُنتُ أخدمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان إذا أرادَ أن يَغتَسِلَ قال: "وَلِّني قَفاك" فأُوَلِّيه قَفايَ فأستُرُه به، فأتِيَ بحَسَنٍ أو حُسَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فبالَ على صَدرِه، فجِئت أغسِلُه، فقال: يُغسَلُ مِن بَولِ الجاريةِ، ويُرَشُّ مِن بَولِ الغُلامِ. أخرجه أبو داود (376) واللفظ له، والنسائي (304،224) مفرقًا، وابن ماجه (526). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((صحيحهـ)) (1/385)، والحاكم في ((المستدرك)) (5899)، والبيهقي في ((الخلافيات)) (2407)، وابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (2/270)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/532)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/402)، وحَسَّنه البخاري كما في ((خلاصة البدر المنير)) لابن الملقن (1/18). ، ولا اجتِهادَ مَعَ النَّصِّ [2670] يُنظر: ((الوسيط في المذهب)) للغزالي (1/ 201)، ((المجموع)) للنووي (2/ 590). .
قال ابنُ الصَّلاحِ: (فالصَّحيحُ الفَرقُ لوُرودِ الحَديثِ مِن وُجوهٍ تَعاضَدَت بحَيثُ قامَتِ الحُجَّةُ بهـ) [2671] ((شرح مشكل الوسيط)) (1/ 94)، ((المجموع)) للنووي (2/ 590). .
3- القَولُ بأنَّ كُلَّ شَيئَينِ يَتَقارَبُ الانتِفاعُ بهما لا يَجوزُ بَيعُ أحَدِهما بالآخَرِ مُتَفاضِلًا، كالحِنطةِ بالشَّعيرِ، والتَّمرِ بالزَّبيبِ، والذُّرةِ بالدُّخْنِ؛ لأنَّهما يَتَقارَبُ نَفعُهما، فجَرَيا مَجرى نَوعَي جِنسٍ واحِدٍ: قَولٌ خَطَأٌ؛ لأنَّه يُخالِفُ النَّصَّ، ولا اجتِهادَ في مَورِد النَّصِّ [2672] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/ 54)، ((المجموع)) للنووي (9/ 401). ، وقد خالَف قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "بيعوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ كَيف شِئتُم يَدًا بيَدٍ، وبيعوا البُرَّ بالتَّمرِ كَيف شِئتُم" [2673] أخرجه الترمذي (1240) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1240)، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/200): أصلٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ وبَيعُ الذَّهَبِ بالفِضَّةِ أخرجه البخاري (2175)، ومسلم (1590) من حديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((لا تَبيعوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا سَواءً بسَواءٍ، والفِضَّةَ بالفِضَّةِ إلَّا سَواءً بسَواءٍ، وبيعوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ، والفِضَّةَ بالذَّهَبِ كَيف شِئتُم)). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
ضابِطُ النَّصِّ الذي لا مَساغَ للِاجتِهادِ مَعَه:
النَّصُّ الذي لا مَساغَ للِاجتِهادِ مَعَه هو: المُفسَّرُ المُحكَمُ، وإلَّا فغَيرُهما مِنَ الظَّواهرِ والنُّصوصِ لا يَخلو عنِ احتِمالِ التَّأويلِ. فالمُفسَّرُ: هو ما ازدادَ وُضوحًا على النَّصِّ على وجهٍ لا يبقى مَعَه احتِمالُ التَّأويلِ. والمُحكَمُ: وهو ما أُحكِمَ المُرادُ مِنه مِن غَيرِ احتِمالِ تَأويلٍ ولا نَسخٍ.
والمُرادُ بالنَّصِّ هنا: الكِتابُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ والإجماعُ الثَّابِتُ، ومِثلُ لَفظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ: لَفظُ شَرطِ الواقِفِ ولَفظُ الموصي؛ فإنَّهما كَنَصِّ الشَّارِعِ في المَفهومِ والدَّلالةِ ووُجوبِ العَمَلِ به. ما لم يَكُنْ فيه تَغييرٌ لحُكمِ الشَّرعِ، فلَو شَرَط مَثَلًا أنَّ المُتَولِّيَ أوِ الوَصيَّ لا يُحاسَبُ، فإنَّ شَرطَه لا يُراعى [2674] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 147- 148). .

انظر أيضا: