موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: الاجتِهادُ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الاجتِهادُ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ" [2642] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1577)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (2/97)، ((المنثور)) للزركشي (1/93). ، وصيغةِ: "الاجتِهادُ لا يُنقَضُ باجتِهادٍ مِثلِه" [2643] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/216). ، وصيغةِ: "الاجتِهادُ لا يُنقَضُ بمِثلِه" [2644] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/34). ، وصيغةِ: "ما أُمضيَ بالاجتِهادِ لا يُنقَضُ باجتِهادٍ مِثلِه" [2645] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 661). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المَسائِلُ الاجتِهاديَّةُ تَختَلِفُ فيها أنظارُ العُلَماءِ كما تَختَلِفُ فيها نَظرةُ العالِمِ الواحِدِ بَينَ زَمَنٍ وآخَرَ، فقد يلحَظُ مَعنًى مِنَ المَعاني يُؤَثِّرُ في المَسألةِ ويَحمِلُه على تَغييرِ حُكمِه، فإذا حَكَمَ الحاكِمُ في مَسألةٍ اجتِهاديَّةٍ بحُكمٍ ما باجتِهادِه، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجتِهادُه لسَبَبٍ مِنَ الأسبابِ، فإنَّه لا يَنقُضُ الحُكمَ الأوَّلَ، ولَو كان الثَّاني أقوى مِنه؛ لأنَّ ما ثَبَتَ بالاجتِهادِ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ، وإنَّما يُؤَثِّرُ اجتِهادُه في الأحكامِ المُستَقبَليَّةِ، فيحكمُ فيها وَفقَ ما استَقَرَّ عليه اجتِهادُه، ولا يُؤَثِّرُ الاجتِهادُ الجَديدُ فيما سَبَقَ مِن أحكامٍ [2646] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (2/23)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/291)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/194)، ((المنثور)) للزركشي (1/93)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/34). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ الأثَرُ والإجماعُ والمَعقولُ:
1- مِنَ الأثَرِ:
عنِ الحَكَمِ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفيِّ، قال: (شَهِدتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أشرَكَ بَينَ الإخوةِ مِنَ الأبِ والأُمِّ مَعَ الإخوةِ مِنَ الأُمِّ في الثُّلثِ، فقال له رَجُلٌ: قَضَيتَ في هذا عامَ أوَّلَ بغَيرِ هذا. قال: كَيف قَضَيتُ؟ قال: جَعَلتَه للإخوةِ مِنَ الأُمِّ، ولَم تَجعَلْ للإخوةِ مِنَ الأبِ والأُمِّ شَيئًا. قال: تلك على ما قَضَينا، وهذا على ما قَضَينا) [2647] أخرجه عبد الرزاق (19005)، وابن أبي شيبة (31744)، والبيهقي (12598) واللفظ له. حَسَّنه النخشبي في ((الحنائيات)) (2/1302)، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدالِ)) (1/580): إسنادُه صالِحٌ، وقال القَسطَلَّانيُّ في ((إرشاد الساري)) (9/431): إسنادُه صَحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا الفِعلَ والقَولَ مِن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه صَريحٌ في أنَّ الاجتِهادَ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ [2648] يُنظر: ((الفقيه والمتفقهـ)) للخطيب البغدادي (2/426). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَلَه: الزَّركَشيُّ [2649] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّه لا يُنقَضُ حُكمُ الحاكِمِ في المَسائِلِ المُجتَهَدِ فيها، وإن قُلنا: المُصيبُ واحِدٌ؛ لأنَّه غَيرُ مُتَعَيِّنٍ، ولَو حَكَم القاضي باجتِهادِه ثُمَّ تَغَيَّرَ باجتِهادٍ آخَرَ، لا يُنقَضُ الأوَّلُ، وإن كان الثَّاني أقوى مِنهـ). ((المنثور)) (1/93). ، وابنُ نُجَيمٍ [2650] قال: (القاعِدةُ الأولى: الاجتِهادُ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ، ودَليلُها الإجماعُ). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 89). .
3- مِنَ المَعقولِ:
- وهو أنَّه لو نُقِضَ الاجتِهادُ بالاجتِهادِ لَنُقِضَ النَّقضُ أيضًا؛ لأنَّه ما مِنِ اجتِهادٍ إلَّا ويَجوزُ أن يَتَغَيَّرَ، ويَتَسَلسَلُ الأمرُ فيُؤَدِّي إلى أنَّه لا تَستَقِرُّ الأحكامُ [2651] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/93). .
- كما أنَّ الحُكمَ مَنصوبٌ للفصلِ بَينَ الخُصومِ، والقَولُ بفَسخِ حُكمِه وعَدَمِ نَفاذِه في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ المُختَلَفِ فيها يُؤَدِّي إلى ضِدِّ ما نُصِبَ له الحاكِمُ مِنَ الفصلِ بَينَ الخُصومِ ورَفعِ التَّشاجُرِ [2652] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/377،376)، ((الفائق)) لصفي الدين لهندي (2/405)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/503). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو شَهِدَ الفاسِقُ فرُدَّت شَهادَتُه، فتابَ وأعادَها، لم تُقبَلْ؛ لأنَّ قَبولَ شَهادَتِه بَعدَ التَّوبةِ يَتَضَمَّنُ نَقضَ الاجتِهادِ بالاجتِهادِ [2653] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/94)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 90). .
2- لو أنَّ فقيهًا مُجتَهدًا قال لامرَأتِه: أنتَ طالِقٌ البَتَّةَ، ورَأيُه أنَّه ثَلاثٌ وعَزم على الحُرمةِ وأمضى رَأيَه فيما بَينَه وبَينَها، ثُمَّ تَحَوَّل رَأيُه إلى أنَّه طَلاقٌ يَملِكُ الرَّجعةَ، يَجِبُ العَمَلُ بالرَّأيِ الأوَّلِ في حَقِّ هذه المَرأةِ حتَّى لا يَحِلَّ له وطؤُها إلَّا بنِكاحٍ جَديدٍ، أو بَعدَ الزَّوجِ الثَّاني، ويَعمَلُ بالرَّأيِ الثَّاني في المُستَقبَلِ في حَقِّها وفي حَقِّ غَيرِها؛ لأنَّ ما أُمضِيَ بالاجتِهادِ لا يُنقَضُ باجتِهادٍ مِثلِه [2654] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (3/339). .
3- إذا اجتَهَدَ المُجتَهِدُ في استِقبالِ القِبلةِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أنَّه أخطَأ في تلك الصَّلاةِ بعَينِها، فإنَّه لا يَلزَمُه قَضاؤُها، إذا كان تَغَيُّرُ الاجتِهادِ بَعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ، وهذا يُبنى على قاعِدةِ: الاجتِهادُ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ [2655] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (2/ 97)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/ 339). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
قال السُّيوطيُّ: (استُثنيَ مِنَ القاعِدةِ صُوَرٌ:
الأولى: للإمامِ الحِمى، ولَو أرادَ مَن بَعدَه نَقضُه فلَه ذلك في الأصَحِّ؛ لأنَّه للمَصلَحةِ وقد تَتَغَيَّرُ، ومَنَعَ الإمامُ الاستِثناءَ وقال: ليس مَأخَذُ التَّجويزِ هذا، ولَكِن حَمى الأوَّلِ كان للمَصلَحةِ، وهيَ المُتَّبَعُ في كُلِّ عَصرٍ.
الثَّانيةُ: لو قُسِمَ في قِسمةِ إجبارٍ ثُمَّ قامَت بَيِّنةٌ بغَلَطِ القاسِمِ أو حَيفِه، نُقِضَت مَعَ أنَّ القاسِمَ قَسَم باجتِهادِه، فنَقضُ القِسمةِ بقَولِ مِثلِه -والمَشهودُ به مُجتَهدٌ فيه- مُشكِلٌ، وقدِ استشكله صاحِبُ المَطلَبِ لذلك.
الثَّالِثةُ: إذا قَوَّمَ المُقَوِّمونَ ثُمَّ اطُّلِعَ على صِفةِ زيادةٍ أو نَقصٍ، بَطَل تَقويمُ الأوَّلِ، لَكِنَّ هذا يُشبِهُ نَقضَ الاجتِهادِ بالنَّصِّ لا بالاجتِهادِ.
الرَّابِعةُ: لو أقامَ الخارِجُ بَيِّنةً وحُكِمَ له بها وصارَتِ الدَّارُ في يَدِه، ثُمَّ أقامَ الدَّاخِلُ بَيِّنةً، حُكِمَ له بها ونُقِضَ الحُكمُ الأوَّلُ؛ لأنَّه إنَّما قُضِي للخارِجِ لعَدَمِ حُجَّةِ صاحِبِ اليَدِ، هذا هو الأصَحُّ في الرَّافِعيِّ.
وقال الهَرَويُّ في الإشرافِ: قال القاضي حُسَين: أشكَلَت عليَّ هذه المَسألةُ مُنذُ نَيِّفٍ وعِشرينَ سَنةً؛ لِما فيها مِن نَقضِ الاجتِهادِ بالاجتِهادِ، وتَرَدَّد جَوابي، ثُمَّ استَقَرَّ رَأيي على أنَّه لا يُنقَضُ) [2656] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 104). ويُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 91). .

انظر أيضا: