الفَرعُ الثَّاني: متى حَكَمَ الحاكِمُ في المُختَلَفِ فيه بشَيءٍ نَفذَ حُكمُه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "متى حَكَمَ الحاكِمُ في المُختَلَفِ فيه بشَيءٍ نَفَذَ حُكمُه"
[2610] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/526). ، وصيغةِ: "إنَّ الحاكِمَ إذا قَضى في المُجتَهَدِ بشَيءٍ فليس لمَن بَعدَه مِنَ الحُكَّامِ أن يُبطِلَ ذلك"
[2611] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 893). ، وصيغةِ: "لا يُنقَضُ حُكمُ الحاكِمِ في مُجتَهَدٍ فيه"
[2612] يُنظر: ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (2/405). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ في مَسائِلِ الاجتِهادِ يُعَيِّنُ ذلك الحُكمَ الذي حَكَمَ به الحاكِمُ"
[2613] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 441). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ في مَوضِعِ الخِلافِ يَنعَقِدُ"
[2614] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/ 4162). ، وصيغةِ: "المُختَلَفُ فيه بإمضاءِ الإمامِ باجتِهادِه يَصيرُ كالمُتَّفَقِ عليه"
[2615] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 800)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 120). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ يَقطَعُ الخِلافَ"
[2616] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/253). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ يَرفعُ الخِلافَ"
[2617] يُنظر: ((تحبير المختصر)) للدميري (5/94). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ في مَسائِلِ الاجتِهادِ يَرفعُ الخِلافَ"
[2618] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/103). ، وصيغةِ: "حُكمُ الحاكِمِ في مَسائِلِ الاجتِهادِ لا يُنقَضُ"
[2619] يُنظر: ((الإحكام)) للقرافي (ص: 190). ، وصيغةِ: "مَسائِلُ الاجتِهادِ يَبطُلُ الخِلافُ فيها ويَتَعَيَّنُ قَولٌ واحِدٌ بَعدَ حُكمِ الحاكِمِ"
[2620] يُنظر: ((الفروق)) (2/103). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تَعيينُ الحاكِمِ إنَّما جاءَ لمَصلَحةِ فصلِ الخُصوماتِ بَينَ النَّاسِ، فإذا قَضى بحُكمٍ مِنَ الأحكامِ في مَسألةٍ اجتِهاديَّةٍ نَفذَ حُكمُه فيها، وكان كالنَّصِّ الوارِدِ في خُصوصِ تلك الواقِعةِ، فيَصيرُ قَولُه واختيارُه في المَسألةِ هو المُقدَّمَ على غَيرِه مِنَ الأقوالِ لعَمَلِ الحاكِمِ بمُقتَضاه، ولا يَجوزُ مُخالَفتُه لأجلِ أنَّ المَسألةَ اجتِهاديَّةٌ؛ لأنَّ حُكمَ الحاكِمِ في المَسألةِ صَيَّرَها كالمُتَّفَقِ عليها، فلا يَصِحُّ لحاكِمٍ بَعدَه أو قاضٍ يُخالِفُه في اجتِهادِه أن يُبطِلَ حُكمَه؛ لأنَّ الغَرَضَ مِنَ القَضاءِ فصلُ الخُصوماتِ، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك لو سُمِحَ لكُلِّ قاضٍ أن يُبطِلَ حُكمَ مَن سَبَقَه في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ، أمَّا إذا كانتِ المَسألةُ مَنصوصًا عليها أو مُجمَعًا عليها فلَو خالَف قاضٍ النَّصَّ أوِ الإجماعَ نُقِضَ حُكمُه؛ لأنَّه مُنتَصِبٌ في وظيفتِه على شَرطِ الموافَقةِ للشَّريعةِ، فإذا حَكَمَ بخِلافِها كان حُكمُه باطِلًا
[2621] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 893)، ((المغني)) لابن قدامة (7/526)، ((الفروق)) (2/103)، ((الإحكام)) (ص: 190) كلاهما للقرافي، ((ترتيب الفروق واختصارها)) للبقوري (1/355)، ((الفائق)) لصفي الدين لهندي (2/405)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/266)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/503)، ((فتاوى الخليلي)) (2/40). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ الإجماعُ، والمَعقولُ:
1- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَلَه: صَفِيُّ الدِّينِ الهِنديُّ
[2622] قال: (أطبَقَ الكُلُّ على أنَّه لا يَجوزُ نَقضُ حُكمِ الحاكِمِ في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ). ((نهاية الوصول)) (8/ 3879). ، والزَّركَشيُّ
[2623] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّه لا يُنقَضُ حُكمُ الحاكِمِ في المَسائِلِ المُجتَهَدِ فيها، وإن قُلنا: المُصيبُ واحِدٌ؛ لأنَّه غَيرُ مُتَعَيِّنٍ، ولَو حَكَم القاضي باجتِهادِه ثُمَّ تَغَيَّرَ باجتِهادٍ آخَرَ، لا يُنقَضُ الأوَّلُ، وإن كان الثَّاني أقوى مِنهـ). ((المنثور)) (1/93). .
2- مِنَ المَعقولِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالمَعقولِ، وذلك على النَّحوِ التَّالي:
- أنَّ الحاكِمَ مَنصوبٌ للفصلِ بَينَ الخُصومِ، والقَولُ بفَسخِ حُكمِه وعَدَمِ نَفاذِه في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ المُختَلَفِ فيها يُؤَدِّي إلى ضِدِّ ما نُصِبَ له الحاكِمُ مِنَ الفصلِ بَينَ الخُصومِ ورَفعِ التَّشاجُرِ
[2624] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/104)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/377،376)، ((الفائق)) لصفي الدين لهندي (2/405)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/503). .
- ولو جازَ نَقضُ حُكمِ الحاكِمِ، فإمَّا أن يَجوزَ مِن غَيرِ سَبَبٍ، وهو باطِلٌ قَطعًا، أو بسَبَبٍ، وهو تغَيُّرُ الاجتِهادِ، أو بحُكمِ حاكِمٍ آخَرَ، وهو أيضًا باطِلٌ، وإلَّا جازَ نَقضُ النَّقضِ، وكَذا نَقضُ نَقضِ النَّقضِ إلى غَيرِ نِهايةٍ؛ إذ ليس البَعضُ أولى بذلك مِنَ البَعضِ الآخَرِ، وحيئذٍ فإمَّا أن لا يَجوزَ نَقضُ شَيءٍ مِنها، وهو المَطلوبُ، أو يَجوزَ نَقضُ كُلِّها، لَكِنَّ ذلك باطِلٌ؛ لأنَّه يَلزَمُ مِنه الإخلالُ بالمَقصودِ الذي لأجلِه نُصِبَ الحاكِمُ، وهو فَصلُ الخُصوماتِ، وقَطعُ المُنازَعاتِ
[2625] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/ 3879). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَتَخَرَّجُ على هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا زوَّجَتِ المَرأةُ نَفسَها، وحَكَم حاكِمٌ بصِحَّةِ هذا العَقدِ المُعَيَّنِ الذي تَزَوَّجَتِ المَرأةُ فيه بغَيرِ وَليٍّ، أو كان المُتَوَلِّي لعَقدِه حاكِمًا، لم يَجُزْ نَقضُه، وكذلك في سائِر الأنكِحةِ المُختَلَفِ فيها؛ لأنَّها مَسألةٌ مُختَلَفٌ فيها، ويَسوغُ فيها الاجتِهادُ، فلَم يَجُزْ نَقضُ الحُكمِ به
[2626] يُنظر: ((المسائل المهمة فيما يحتاج إليه العاقد عند الخطوب المدلهمة)) لمحمد بن أحمد المقدسي (ص: 92). .
2- مَن لا يَرى وقَفَ المشاعِ
[2627] أي: وَقفُ النَّصيبِ المُشتَرَكِ مع غيرِه دونَ تمييزٍ له. يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/119). إذا حَكَمَ حاكِمٌ بصِحَّةِ وقفِه، ثُمَّ رُفِعَتِ الواقِعةُ لمَن كان يُفتي ببُطلانِه، نَفَّذَه وأمضاه
[2628] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/103). .
3- لو أنَّ الأميرَ بَعدَ انهزامِ المُشرِكينَ نَظَرَ إلى قَتلى مِنهم، عليهم أسلابُهم، وهو لا يَدري مَن قَتلَهم، فقال: مَن أخَذَ سَلَبَ قَتيلٍ فهو له، فأخذَها قَومٌ، فذلك لَهم نَفَلٌ؛ لأنَّ المُسلِمينَ لم يَأخُذوها، فيَكونُ هذا في مَعنى التَّنفيلِ قَبلَ الإصابةِ، مَعَ أنَّه قيلَ: إنَّ الأصَحَّ أنَّه تَنفيلٌ بَعدَ الإصابةِ. ولَكِنَّ الإمامَ أمضاه باجتِهادِه، والمُختَلَفُ فيه بإمضاءِ الإمامِ باجتِهادِه يَصيرُ كالمُتَّفَقِ عليه، حتَّى إذا ماتَ أو عُزِلَ ووَلِيَ غَيرُه لم يَستَرِدَّ مِنَ الآخَرينَ شَيئًا مِن ذلك
[2629] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 800). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:1- حُكمُ الحاكِمِ لا يَدخُلُ أبوابَ العِباداتِ:فالعِباداتُ لا تَدخُلُ تَحتَ حُكمِ الحاكِمِ
[2630] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/ 92)، ونحوه: ((البناية)) للعيني (4/ 497)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (3/ 169). . وهذا مُجمَعٌ عليه؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (فكَيف بأُمورِ الدِّينِ والعِباداتِ التي يَشتَرِكُ فيها جَميعُ المُسلِمينَ، وقدِ اشتَبَهَت على كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ؟ هذا بإجماعِ المُسلِمينَ لا يَحكُمُ فيه إلَّا اللهُ ورَسولُهـ)
[2631] ((مجموع الفتاوى)) (35/ 387). ويُنظر أيضًا: ((الفروع)) للمرداوي (11/ 215). .
وقال القَرافيُّ: (اعلَمْ أنَّ العِباداتِ كُلَّها على الإطلاقِ لا يَدخُلُها الحُكمُ البَتَّةَ، بَلِ الفُتيا فقَط، فكُلُّ ما وُجِدَ فيها مِنَ الإخباراتِ فهيَ فُتيا فقَط، فليس لحاكِمٍ أن يَحكُمَ بأنَّ هذه الصَّلاةَ صَحيحةٌ أو باطِلةٌ، ولا أنَّ هذا الماءَ دونَ القُلَّتَينِ فيَكونُ نَجِسًا)
[2632] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/ 48). .
2- حُكمُ الحاكِمِ لا يَدخُلُ أسبابَ العِباداتِ:قال القَرافيُّ: (ويلحَقُ بالعِباداتِ أسبابُها، فإذا شَهدَ بهلالِ رَمَضانَ شاهدٌ واحِدٌ فأثبَتَه حاكِمٌ شافِعيٌّ، ونادى في المَدينةِ بالصَّومِ، لا يَلزَمُ ذلك المالِكيَّ؛ لأنَّ ذلك فُتيا لا حُكمٌ، وكذلك إذا قال حاكِمٌ: قد ثَبَتَ عِندي الدَّينُ يُسقِطُ الزَّكاةَ أو لا يُسقِطُها، أو مِلكُ نِصابٍ مِنَ الحُليِّ المُتَّخَذِ باستِعمالِ المُباحِ سَبَبُ وُجوبِ الزَّكاةِ فيه، أو أنَّه لا يوجِبُ الزَّكاةَ، أو غَيرُ ذلك مِن أسبابِ الأضاحيِّ، والعَقيقةِ، والكَفَّاراتِ، والنُّذورِ، ونَحوِها مِنَ العِباداتِ المُختَلَفِ فيها أو في أسبابِها: لا يَلزَمُ شَيءٌ مِن ذلك مَن لا يَعتَقِدُه، بَل يَتَّبِعُ مَذهَبَه في نَفسِه. ولا يَلزَمُه قَولُ ذلك القائِلِ لا في عِبادةٍ ولا في سَبَبهِا، ولا شَرطِها ولا مانِعِها)
[2633] ((الفروق)) (4/ 49). .
حالاتُ نَقضِ حُكمِ الحاكِمِ:يُنقَضُ حُكمُ الحاكِمِ بمُخالَفةِ النَّصِّ والإجماعِ والقياسِ الجَليِّ والقَواعِدِ الكُلِّيَّةِ
[2634] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 140)، ((فتاوى السبكي)) (1/ 365- 366). . وحُكمُ الحاكِمِ لا يُحِلُّ ما حَرَّمَ اللهُ
[2635] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لبكر ابن العلاء (1/ 134). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (الفُقَهاءُ مِن سائِرِ الطَّوائِفِ قد صَرَّحوا بنَقضِ حُكمِ الحاكِمِ إذا خالَف كِتابًا أو سُنَّةً، وإن كان قد وافقَ فيه بَعضَ العُلَماءِ، وأمَّا إذا لم يَكُنْ في المَسألةِ سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، وللِاجتِهادِ فيها مساغٌ، لم يُنكَرْ على مَن عَمِلَ بها مُجتَهِدًا أو مُقَلِّدًا)
[2636] ((إعلام الموقعين)) (4/ 232). .