الفَرعُ الأوَّلُ: لا يُنكَرُ المُختَلَفُ فيه، وإنَّما يُنكَرُ المُجمَعُ عليه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "لا يُنكَرُ المُختَلَفُ فيه، وإنَّما يُنكَرُ المُجمَعُ عليه"
[2593] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 158). ، وصيغةِ: "الإنكارُ لا يَلزَمُ في مَحَلِّ الاجتِهادِ إذا كان الاختِلافُ في الفُروعِ"
[2594] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/209)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/69)، ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 354). ، وصيغةِ: "لا إنكارَ في مَسائِلِ الاجتِهادِ"
[2595] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/282)، ((الإقناع)) للحجاوي (1/168). ، وصيغةِ: "لا إنكارَ في المُجتَهداتِ"
[2596] يُنظر: ((الكنز الأكبر)) لابن داود (ص: 225). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.المَسائِلُ التي يَقَعُ فيها خِلافٌ بَينَ العُلَماءِ إمَّا أن يَكونَ فيها نَصٌّ مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، أو يَكونَ فيها إجماعٌ أو قياسٌ جَليٌّ أو لا، فإن لم يَكُنْ في المَسألةِ شَيءٌ مِن ذلك فليس لأحَدٍ حينَئِذٍ أن يُنكِرَ على مُجتَهدٍ أو مُقَلِّدٍ فيها؛ لأنَّ المَسألةَ حينَئِذٍ يَسوغُ فيها الاجتِهادُ، ولَو قُلنا: المُصيبُ واحِدٌ مَعَ عَدَمِ القَطعِ بعَينِه، ولأنَّ المُجتَهدَ إمَّا مُصيبٌ أو كالمُصيبِ في حَطِّ الإثمِ عنه، وحُصولِ الثَّوابِ له، فإذا كانتِ المَسألةُ لا دَليلَ عليها، أو كانت أدِلَّتُها مُتَكافِئةً لَدى الطَّرَفينِ وتَجاذَبها دَليلانِ شَرعيَّانِ صَحيحانِ يَتَعَذَّرُ الجَزمُ بصَوابِ أحَدِهما؛ فهذه مِن مَسائِلِ الخِلافِ المُعتَبَرِ، ولا يَسوغُ الإنكارُ فيها
[2597] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/253)، ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 23)، ((الفتاوى الكبرى)) (6/96)، ((مجموع الفتاوى)) (20/207) كلاهما لابن تيمية، ((المنثور)) للزركشي (2/140)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/275). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا لمَّا رَجَع مِن الأحزابِ:
((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُرَيظةَ، فأدرَكَ بَعضُهمُ العَصرَ في الطَّريقِ، فقال بَعضُهم: لا نُصَلِّي حتَّى نَأتيَها، وقال بَعضُهم: بَل نُصَلِّي، لم يُرِدْ مِنَّا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُعنِّفْ واحِدًا مِنهم )) [2598] أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الأدِلَّةَ لمَّا تَساوت عِندَهم، واحتَمَلَ قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كِلا الفهمَينِ، لم يُعنِّفْ أحَدًا مِنهم ولَم يُنكِرْ عليه
[2599] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/589)، ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/26). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (سافرنا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رَمَضانَ، فلَم يَعِبِ الصَّائِمُ على المُفطِرِ، ولا المُفطِرُ على الصَّائِمِ)
[2600] أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ الإنكارَ على بَعضِهم، سَواءٌ على الصَّائِمِ أوِ المُفطِرِ؛ لتَساوي الأدِلَّةِ وعَدَمِ مُخالَفةِ النَّصِّ
[2601] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/88)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (2/20). .
3- عن مُحَمَّدِ بنِ أبى بَكرٍ الثَّقَفيِّ (أنَّه سَألَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وهما غاديانِ مِن مِنًى إلى عَرَفةَ، كَيف كُنتُم تَصنَعونَ في هذا اليَومِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: كان يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فلا يُنكَرُ عليه، ويُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فلا يُنكَرُ عليهـ)
[2602] أخرجه البخاري (1659) واللفظ له، ومسلم (1285). .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَركُهمُ الإنكارَ فيما كان مَحَلًّا للِاجتِهادِ
[2603] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/336)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (3/297). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- تَصِحُّ الصَّلاةُ خَلفَ مَن جَهَرَ بالبَسمَلةِ وخَلفَ مَن أسَرَّ بها أيضًا، ولا يُنكَرُ على أحَدٍ في ذلك؛ لأنَّ المَسألةَ مِن مَسائِلِ الاجتِهادِ، ولا يُنكَرُ في مَسائِلِ الخِلافِ المُعتَبَرِ
[2604] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (1/584)، ((البيان)) للعمراني (2/185)، ((معونة أولي النهي)) لابن النجار (2/109). .
وقد نَقَلَ الرحيبانيُّ عن ابنِ الجَوزيِّ قَولَه: (رَأيتُ جَماعةً مِنَ المُنتَسِبينَ إلى العِلمِ يَعمَلونَ عَمَلَ العَوامِّ، فإذا صَلَّى الحَنبَليُّ في مَسجِدِ شافِعيٍّ تَعَصَّب الشَّافِعيَّةُ، وإذا صَلَّى الشَّافِعيُّ في مَسجِدِ حَنبَليٍّ، وجَهَرَ بالبَسمَلةِ، تَعَصَّب الحَنابِلةُ، وهذه مَسألةٌ اجتِهاديَّةٌ، والعَصَبيَّةُ فيها مُجَرَّدُ أهواءٍ يَمنَعُ مِنها العِلمُ)
[2605] يُنظر: ((مطالب أولي النهى)) (1/663). .
2- تَصِحُّ الصَّلاةُ عِندَ الحَنابِلةِ خَلفَ مَن خالَف في فرعٍ لم يُفسَّقْ به بلا كَراهةٍ، كالصَّلاةِ خَلفَ مَن يَرى صِحَّةَ النِّكاحِ بلا وَليٍّ أو بلا شُهودٍ، ولا إنكارَ عليه؛ إذ لا إنكارَ في مَسائِلِ الاجتِهادِ
[2606] يُنظر: ((غاية المنتهى)) لمرعي الكرمي (1/221)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/663). .
3- لا يُنكَرُ على مَن أفتى بعَدَمِ نَقضِ الوُضوءِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ، ولا على مَن أفتى بنَقضِه؛ لأنَّ المَسألةَ مِن مَسائِلِ الاجتِهادِ، والخِلافُ فيها مُعتَبَرٌ؛ لوُرودِ نُصوصٍ نَبَويَّةٍ لكِلا القَولَينِ. فعن قَيسِ بنِ طَلقٍ عن أبيه، قال: إنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا نَبيَّ اللهِ، أيَتَوضَّأُ أحَدُنا إذا مَسَّ ذَكَرَه؟ قال:
((هَل هو إلَّا بَضعةٌ مِنك؟ )) [2607] أخرجه أحمد (39/460)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/352) واللفظ لهما، والدارقطني (1/273). صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المُحَلَّى)) (1/238)، وقال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (1/306)، والصنعاني في ((العدة على الإحكام)) (1/199): صَحيحٌ أو حَسَنٌ. ورُويَ بلَفظ: عن طَلقٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((خَرَجنا وفدًا حتَّى قَدِمنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايَعناه وصَلَّينا مَعَه، فلما قَضى الصَّلاةَ جاءَ رَجُلٌ كَأنَّه بَدَويٌّ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما تَرى في رَجُلٍ مَسَّ ذَكَرَه في الصَّلاةِ؟ قال: وهَل هو إلَّا مُضغةٌ مِنكَ أو بَضعةٌ مِنكَ؟)). أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) واللفظ له. صَحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/76)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (1120)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (1/131)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (165)، وقال مُحَمَّدُ بنُ عبد الهادي في ((تعليقة على العلل)) (83): حَسَنٌ أو صَحيحٌ. ، وورَدَ عن بُسرةَ بنتِ صَفوانَ رَضيَ اللهُ تعالى عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن مَسَّ ذَكَرَه فليَتَوضَّأْ )) [2608] أخرجه أبو داود (181) واللفظ له، والترمذي (83)، والنسائي (164). صَحَّحه الإمام أحمد في ((المسائل - رواية أبي داود السجستاني)) (309)، ويحيى بن معين كما في ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/288)، والترمذي، وابن خزيمة في ((صحيحهـ)) (1/152)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (1116)، والدارقطني في ((السنن)) (1/350). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ: قال السُّيوطيُّ: (يُستَثنى صُوَرٌ يُنكَرُ فيها المُختَلَفُ فيه:
إحداها: أن يَكونَ ذلك المَذهَبُ بَعيدَ المَأخَذِ... ومِن ثَمَّ وجَبَ الحَدُّ على المُرتَهنِ بوَطئِه المَرهونةَ، ولَم يُنظَرْ لخِلافِ عَطاءٍ.
الثَّانيةُ: أن يَتَرافعَ فيه الحاكِمُ، فيَحكُمُ بعَقيدَتِه؛ ولِهذا يُحَدُّ الحَنَفيُّ بشُربِ النَّبيذِ؛ إذ لا يَجوزُ للحاكِمِ أن يَحكُمَ بخِلافِ مُعتَقَدِه.
الثَّالِثةُ: أن يَكونَ للمُنكِرِ فيه حَقٌّ، كالزَّوجِ يَمنَعُ زَوجَتَه مِن شُربِ النَّبيذِ إذا كانت تَعتَقِدُ إباحَته، وكذلك الذِّمِّيَّةُ على الصَّحيحِ)
[2609] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 158). .