المَطلَبُ الأوَّلُ: قاعِدةُ لا يَقينَ في مَوضِعِ الاختِلافِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "لا يَقينَ في مَوضِعِ الاختِلافِ"
[2580] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/54). ، وصيغةِ: "الاختِلافُ لا يَثبُتُ به يَقينٌ"
[2581] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (5/124). ، وصيغةِ: "مَعَ الاختِلافِ لا يَقينَ"
[2582] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (9/ 3819). ، وصيغةِ: "لا يَقينَ مَعَ الاختِلافِ"
[2583] يُنظر: ((الاستذكار)) (4/ 275) و(8/ 533)، ((التمهيد)) (3/ 335) كلاهما لابن عبد البر، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (2/ 48)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (13/ 136). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.اليَقينُ هو الاعتِقادُ الجازِمُ الذي لا تَرَدُّدَ فيه ولا احتِمالَ لطَرَفٍ آخَرَ، ويُقابِلُه الظَّنُّ والشَّكُّ والوَهمُ، فكُلُّ واحِدٍ مِن هذه الثَّلاثةِ فيه تَرَدُّدٌ واحتِمالٌ، لَكِن بنِسَبٍ مُختَلِفةٍ، فإذا كانتِ المَسألةُ مُختَلَفًا فيها اختِلافًا قَويًّا أوِ اختِلافًا مَبنيًّا على أدِلَّةٍ مُعتَبَرةٍ فلا يَكونُ فيها يَقينٌ حينَئِذٍ؛ فاليَقينُ والاختِلافُ لا يَجتَمِعانِ
[2584] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/54)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (5/124)، ((معلمة زايد)) (6/526، 527). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ المَعقولُ، وهو:
1- أنَّ المُختَلَفَ فيه قائِمٌ على الظَّنِّ، وما كان كذلك فلا يَقينَ مَعَه؛ لأنَّ اليَقينَ لا يَكونُ مَعَ الظَّنِّ، وإنَّما يَكونُ مَعَ العِلمِ والقَطعِ والجَزمِ
[2585] يُنظر: ((معلمة زايد)) (6/527)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/ 1075). .
2- القَولُ بأنَّ اليَقينَ يَثبُتُ مَعَ الاختِلافِ هو قَولٌ باجتِماعِ النَّقيضَينِ، وهو باطِلٌ؛ لأنَّ الاختِلافَ المُفيدَ للظَّنِّ هو نَقيضُ الاتِّفاقِ المُفيدِ للعِلمِ، والنَّقيضانِ لا يَجتَمِعانِ
[2586] يُنظر: ((معلمة زايد)) (6/527). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- يَثبُتُ بُلوغُ الفتاةِ بعَلامةٍ مِن عَلاماتِ البُلوغِ، وهيَ الاحتِلامُ والحَملُ والحَيضُ، وإذا لم تَظهَرْ أيُّ عَلامةٍ مِن تلك العَلاماتِ فقَدَّرَ أبو حَنيفةَ بُلوغَها بسَبعَ عَشرةَ سَنةً؛ لأنَّ صِفةَ الصِّغَرِ فيهما مَعلومةٌ بيَقينٍ، فلا يُحكَمُ بزَوالِها إلَّا بيَقينٍ مِثلِه، ولا يَقينَ في مَوضِعِ الاختِلافِ
[2587] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/53). .
2- تارِكُ الصَّلاةِ المُقِرُّ بالإسلامِ يُضرَبُ ويُسجَنُ ولا يُقتَلُ عِندَ بَعضِ الفُقَهاءِ، وقد كان مُؤمِنًا عِندَ الجَميعِ بيَقينٍ قَبلَ تَركِه للصَّلاةِ، ثُمَّ اختَلَفوا فيه إذا تَرَكَ الصَّلاةَ، فلا يَجِبُ قَتلُه إلَّا بيَقينٍ، ولا يَقينَ مَعَ الاختِلافِ، فالواجِبُ القَولُ بأقَلِّ ما قيلَ في ذلك، وهو الضَّربُ والسَّجنُ، وأمَّا القَتلُ ففيه اختِلافٌ، والحُدودُ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ
[2588] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (3/335). .
3- المُسلِمُ إذا سَحَرَ أحَدًا عَبرَ استِخدامِ كَلِماتٍ كُفريَّةٍ يُقتَلُ، وإذا كان الكَلامُ الذي سَحَرَ به ليس بكُفرٍ لم يَجُزْ قَتلُه عِندَ المالِكيَّةِ، قال القُرطُبيُّ: (فإنِ احتَجَّ مُحتَجٌّ بحَديثِ جُندُبٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((حَدُّ السَّاحِرِ ضَربةٌ بالسَّيفِ)) [2589] أخرجه الترمذي (1460)، والطبراني (2/161) (1665)، والحاكم (8286). قال البخاريُّ كما في ((العلل الكبير)) للترمِذي (237): لا شَيءَ، وقال الترمذيُّ: لا نَعرِفُه مَرفوعًا إلَّا مِن هذا الوَجهِ، وإسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ يُضَعَّفُ في الحَديثِ، والصَّحيحُ مَوقوفٌ. وضَعَّفه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/427)، والألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)) (1460)، وضعف إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (3/176). ورويَ مَوقوفًا عن أبي عُثمانَ النَّهديٍّ: أنَّ ساحِرًا كان يَلعَبُ عِندَ الوليدِ بنِ عُقبةَ، فكان يَأخُذُ السَّيفَ ويَذبَحُ نَفسَه ويَعمَلُ كَذا ولا يَضُرُّه، فقامَ جُندُبٌ إلى السَّيفِ فأخَذَه فضَرَبَ عُنُقَه، ثُمَّ قَرَأ: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ. أخرجه مِن طُرُقٍ: الطبراني (2/177) (1725) واللفظ له، والدارقطني (4/121)، والبيهقي (16579). صَحَّح إسنادَه الذَّهَبيُّ في ((تاريخ الإسلام)) (5/87)، وذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/81)، وقال الترمذي في ((سنن الترمذي)) (1460)، وابن القيم في ((زاد المعاد)) (5/57)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/257): الصَّحيحُ مَوقوفٌ، وقال الألباني في ((هداية الرواة)) (3482): الصَّوابُ عن جُندُبٍ مَوقوفًا. ، فلَو صَحَّ لاحتَمَلَ أن يَكونَ أمرَ بقَتلِ السَّاحِرِ الذي يَكونُ سِحرُه كُفرًا، فيَكونُ ذلك موافِقًا للأخبارِ التي جاءَت عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ )) [2590] لَفظُه: ((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ : كُفرٌ بَعدَ إسلامٍ، أو زِنًا بَعدَ إحصانٍ، أو قَتلُ نَفسٍ بغَيرِ نَفسٍ)). أخرجه أبو داود (4502)، والترمذي (2158)، والنسائي (4019) مِن حَديثِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (2839) وقال على شَرطِ الشَّيخَينِ، وابنُ الأثيرِ في ((شرح مسند الشافعي)) (5/137)، وأحمد شاكر في ((قتل مدمني الخمر)) (74)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4502)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (908)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4502). ، قُلتُ: وهذا صَحيحٌ، ودِماءُ المُسلِمينَ مَحظورةٌ لا تُستَباحُ إلَّا بيَقينٍ، ولا يَقينَ مَعَ الاختِلافِ، واللَّهُ تعالى أعلَمُ))
[2591] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/48). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. قَيدٌ:الاختِلافُ الذي يُضادُّ اليَقينَ هنا أو يَرفعُ اليَقينَ هو المُعتَبَرُ القَويُّ المدرَكِ والمَأخَذِ، لا الخِلافُ الشَّاذُّ المُطَّرَحُ؛ لأنَّه مُجَرَّدُ دَعوى. قال ابنُ حَزمٍ: (ولا يَحِلُّ رَفعُ اليَقينِ بالشَّكِّ، ولا تَركُ الحَقِّ بالظَّنِّ، ولا مُفارَقةُ الواجِبِ بالدَّعوى، وقد حَرَّمَ اللهُ تعالى ذلك؛ إذ يَقولُ عَزَّ وجَلَّ
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)
[2592] ((الإحكام)) (5/ 60). ويُنظر: ((معلمة زايد)) (6/526). .