المَبحَثُ الرَّابِعُ: قاعِدةُ: كُلُّ ما كان مَنهيًّا عنه للذَّريعةِ فإنَّه يُفعَلُ لأجلِ المَصلَحةِ الرَّاجِحةِ.
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما كان مَنهيًّا عنه للذَّريعةِ فإنَّه يُفعَلُ لأجلِ المَصلَحةِ الرَّاجِحةِ"
[2569] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/298). ، وصيغةِ: "ما حَرُمَ سَدًّا للذَّريعةِ أُبيحَ للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ"
[2570] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/486). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. الأفعالُ التي تَكونُ ذَريعةً إلى مَفاسِدَ فإنَّه يُمنَعُ مِنها سَدًّا لبابِ المَفسَدةِ، خُصوصًا إذا كانت هذه الأفعالُ لم تَشتَمِلْ على مَصلَحةٍ أوِ اشتَمَلَت على مَصلَحةٍ أقَلَّ مِنَ المَفسَدةِ النَّاتِجةِ عنها، أمَّا إذا اشتَمَلَت هذه الأفعالُ على مَصلَحةٍ أعظَمَ مِنَ المَفسَدةِ التي هيَ ذَريعةٌ إليها فإنَّها تُقدَّمُ؛ إعمالًا للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ، وتَقديمًا لها على المَفسَدةِ، فليست كُلُّ مَفسَدةٍ تُقدَّمُ على المَصلَحةِ، بَل إذا كانتِ المَفسَدةُ أقَلَّ مِنَ المَصلَحةِ، والمَصلَحةُ أعظَمَ، فإنَّ المَصلَحةَ تُقدَّمُ، ويَجِبُ إلغاءُ الذَّريعةِ حينَئِذٍ
[2571] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/298)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/486)، ((نشر البنود)) للعلوي الشنقيطي (2/267،266). . والمُحَرَّمُ نَوعانِ: مُحَرَّمٌ تَحريمَ وسائِلَ، ومُحَرَّمٌ تَحريمَ مَقاصِدَ، فما كان تَحريمُه تَحريمَ وسائِلَ فإنَّه يُباحُ عِندَ الحاجةِ والمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ، بخِلافِ ما كان تَحريمُه تَحريمَ مَقاصِدَ؛ فإنَّه لا يُباحُ إلَّا عِندَ الضَّرورةِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ باستِقراءِ تَصَرُّفاتِ الشَّارِعِ؛ حَيثُ دَلَّت على تَقديمِ المَصلَحةِ الحاجيَّةِ على مَفاسِدِ الأفعالِ التي حُرِّمَت تَحريمَ ذَرائِعَ لا مَقاصِدَ
[2572] يُنظر: ((معلمة زايد)) (4/373). .
ومِن ذلك مَثَلًا:
1- ما ثَبَتَ مِن مَشروعيَّةِ بَيعِ العَرايا بالرَّغمِ مِمَّا فيها مِن رِبا الفَضلِ؛ فعن سَهلِ بنِ أبي حَثْمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الثَّمَرِ بالتَّمرِ، ورَخَّص في العَرِيَّةِ أن تُباعَ بخَرصِها يَأكُلُها أهلُها رُطَبًا )) [2573] أخرجه البخاري (2191) واللَّفظُ له، ومسلم (1540). .
2- عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: إنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَذَ حَريرًا في يَمينِه، وأخَذَ ذَهَبًا في شِمالِه، ثُمَّ قال:
((إنَّ هَذَينِ حَرامٌ على ذُكورِ أُمَّتي )) [2574] أخرجه أبو داود (4057)، والنسائي (5144) واللَّفظُ لهما، وابن ماجه (3595). صَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2049)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4057)، وحَسَّنه عليُّ بنُ المَدينيِّ كما في ((الأحكام الوسطى)) لعبد الحق الإشبيلي (4/184)، والنَّوويّ في ((المَجموع)) (4/440)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (340). وذَهَبَ إلى تَصحيحِه ابنُ حبان في ((صَحيحهـ)) (5434). . وقد ثَبَتَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَخَّصَ للزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ وعَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ في لُبسِ الحَريرِ لحِكَّةٍ كانت بهما
[2575] لفظُه: عن أنَسٍ، قال: رَخَّصَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للزُّبَيرِ وعَبدِ الرَّحمَنِ في لُبسِ الحَريرِ، لحِكَّةٍ بهما. أخرجه البخاري (5839) واللَّفظُ له، ومسلم (2076). .
3- عنِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه خَطَب امرَأةً، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((انظُرْ إليها؛ فإنَّه أحرى أن يُؤدَمَ بَينَكُما )) [2576] أخرجه الترمذي (1087) واللَّفظُ له، والنسائي (3235). صَحَّحه ابنُ القَطَّان في ((النظر في أحكام النظر)) (387)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/503)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1087)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (11/289). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- أُبيحَتِ العَرايا، وهيَ بَيعُ الرُّطَبِ على رُؤوسِ النَّخلِ بتَمرٍ كَيلًا، استِثناءً مِنَ المُزابَنةِ المَمنوعةِ، وهيَ شِراءُ الثَّمَرِ والحَبِّ بخَرصٍ؛ تَحَرُّزًا مِنَ الرِّبا، وذلك لحاجةِ النَّاسِ إليه، وما حَرُمَ سدًّا للذَّريعةِ يُباحُ للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ
[2577] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/486)، ((القواعد الفقهية وتطبيقاتها)) لمحمد الزحيلي (2/785). .
2- نُهيَ عنِ الصَّلاةِ عِندَ طُلوعِ الشَّمسِ وعِندَ غُروبِها لسَدِّ ذَريعةِ الشِّركِ؛ لئَلَّا يُفضيَ ذلك إلى السُّجودِ للشَّمسِ ودُعائِها وسُؤالِها، كَما يَفعَلُه أهلُ دَعوةِ الشَّمسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ الذي يَدعونَها ويَسألونَها، وأباحَ بَعضُ العُلَماءِ الصَّلاةَ ذاتَ السَّبَبِ للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ التي تَفوتُ بفواتِ وقتِها إذا لم تُفعَلْ بهذا الوقتِ، بخِلافِ ما لا سَبَبَ لها؛ فإنَّه يُمكِنُ فِعلُها في غَيرِ هذه الأوقاتِ، فلا تَفوتُ بالنَّهيِ عنها مَصلَحةٌ راجِحةٌ
[2578] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/298)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/486)، ((الثمر المستطاب)) للألباني (1/377). .
3- تَحريمُ الذَّهَبِ والحَريرِ على الرِّجالِ حُرِّمَ لسَدِّ ذَريعةِ التَّشَبُّهِ بالنِّساءِ المَلعونِ فاعِلُه، وأُبيحَ مِنه ما تَدعو إليه الحاجةُ المُشتَمِلةُ على مَصلَحةٍ راجِحةٍ، كأن يَكونَ مَريضًا فيَحتاجَ للُبسِ الحَريرِ أو نَحوِه؛ لأنَّ ما حَرُمَ لسَدِّ الذَّريعةِ يُباحُ للمَصلَحةِ الرَّاجِحةِ
[2579] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/486). .