موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: الخُروجُ مِنَ الخِلافِ مُستَحَبٌّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الخُروجُ مِنَ الخِلافِ مُستَحَبٌّ" [2675] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 136). ، وصيغةِ: "الخُروجُ مِنَ الخِلافِ أَولى وأفضَلُ" [2676] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/111). ، وصيغةِ: "الخُروجُ مِنَ الخِلافِ أولى مِنَ الدُّخولِ فيه إذا أمكَنَ" [2677] يُنظر: ((رياض الأفهام)) للفاكهاني (5/ 393). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا اختَلَف الفُقَهاءُ في مَسألةٍ على قَولَينِ أو أكثَرَ -كما لو ذَهَبَ أحَدُهم إلى حُرمةِ الشَّيءِ والآخَرُ إلى جَوازِه، أو ذَهَبَ أحَدُهم إلى وُجوبِ الشَّيءِ والآخَرُ إلى نَدبِه- وتَقارَبَتِ الأدِلَّةُ بحَيثُ لا يَبعُدُ قَولُ المُخالِفِ كُلَّ البُعدِ: فهذا مِمَّا يُستَحَبُّ الخُروجُ مِنَ الخِلافِ فيه؛ حَذَرًا مِن كَونِ الصَّوابِ مَعَ صاحِبِ القَولِ الآخَرِ، والشَّرعُ يَحتاطُ لفِعلِ الواجِباتِ والمَندوباتِ كما يَحتاطُ لتَركِ المُحَرَّماتِ والمَكروهاتِ، ويَكونُ الخُروجُ مِنَ الخِلافِ بفِعلِ الفِعلِ الذي يَكونُ سائِغًا عِندَ جَميعِ الأقوالِ، وبَيانُه على النَّحوِ التَّالي:
القِسمُ الأوَّلُ: إذا كان الخِلافُ في التَّحريمِ والجَوازِ فالخُروجُ مِنَ الاختِلافِ بالاجتِنابِ أفضَلُ.
القِسمُ الثَّاني: إذا كان الخِلافُ في الاستِحبابِ أوِ الإيجابِ فالفِعلُ أفضَلُ.
القِسمُ الثَّالِثُ: إذا كان الخِلافُ في الشَّرعيَّةِ والوُجوبِ فالفِعلُ أفضَلُ.
أمَّا إذا كان مَأخَذُ المُخالِفِ في غايةِ الضَّعفِ والبُعدِ مِنَ الصَّوابِ فلا نَظَرَ إليه ولا التِفاتَ إذا كان ما اعتَمَدَ عليه لا يَصِحُّ دَليلًا شَرعيًّا، ولا سيَّما إذا كان مَأخَذُه مِمَّا يُنقَضُ الحُكمُ بمِثلِه، وبَيَّنَ ابنُ السُّبكيِّ أنَّ الخُروجَ مِنَ الخِلافِ ليس أَولى مُطلَقًا، بَل بشَرطَينِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن لا يُؤَدِّيَ الخُروجُ مِنه إلى مَحذورٍ شَرعيٍّ مِن تَركِ سُنَّةٍ ثابِتةٍ أوِ اقتِحامِ أمرٍ مَكروهٍ، أو نَحوِ ذلك.
والشَّرطُ الثَّاني: أن يَقوى مدرَكُ الخِلافِ، فإن ضَعُف ونَأى عن مَأخَذِ الشَّرعِ كان مَعدودًا مِنَ الهَفواتِ والسَّقَطاتِ، لا مِنَ الخِلافيَّاتِ المُجتَهداتِ. وزادَ الزَّركَشيُّ شَرطًا، وهو أن يَكونَ الجَمعُ بَينَ المَذاهبِ مُمكِنًا عِندَ مُعتَقِدِه لمُراعاةِ المَرجوحِ؛ لأنَّ ذلك عُدولٌ عَمَّا وجَبَ عليه مِنِ اتِّباعِ ما غَلَبَ على ظَنِّه، وهو لا يَجوزُ قَطعًا [2678] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/253، 254)، ((فتاوى ابن السبكي)) (1/138)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/111)، ((المنثور)) للزركشي (2/127-130)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 136). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ عَبدَ بنَ زَمعةَ وسَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ اختَصَما إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ابنِ أَمَةِ زَمعةَ، فقال سَعدٌ: يا رَسولَ اللهِ، أوصاني أخي إذا قَدِمتُ أن أنظُرَ ابنَ أَمَةِ زَمعةَ فأقبِضَه، فإنَّه ابني، وقال عَبدُ بنُ زَمعةَ: أخي وابنُ أَمَةِ أبي، وُلِدَ على فِراشِ أبي، فرَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبَهًا بَيِّنًا بعُتبةَ، فقال: هو لَك يا عَبدُ بنَ زَمعةَ، الولَدُ للفِراشِ، واحتَجِبي مِنه يا سَودةُ )) [2679] أخرجه البخاري (2421) واللفظ له، ومسلم (1457). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ سَودةَ بالاحتِجابِ مِنه بالرَّغمِ مِن حُكمِه بأنَّه أخٌ لَها، لمَّا رَأى فيه شَبَهًا بعُتبةَ بنِ أبي وقَّاصٍ، ففيه مُراعاةُ دَليلَينِ مُتَعارِضَينِ؛ تَغليبًا لجانِبِ الورَعِ والاحتياطِ [2680] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/280،279)، ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) لابن العربي (ص: 918)، ((معلمة زايد)) (9/263). .
2- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ )) [2681] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اختِلافَ العُلَماءِ مِنَ الشُّبُهاتِ، فيَكونُ الخُروجُ مِنه إذَنْ مِن بابِ الورَعِ [2682] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (1/464)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/127)، ونحوه: (4/292)، ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (4/2060). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا عَجَزَ الإمامُ عنِ الصَّلاةِ قائِمًا استُحِبَّ له عِندَ الشَّافِعيَّةِ أن يَستَخلِفَ مَن يُصَلِّي بالنَّاسِ قائِمًا؛ لأنَّ مِنَ النَّاسِ مَن لا يُجيزُ إمامةَ القاعِدِ، فيُستَحَبُّ الاستِخلافُ خُروجًا مِنَ الخِلافِ، فلَو لم يَستَخلِفْ وصَلَّى بهم قاعِدًا وهم قيامٌ يَجوزُ [2683] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (2/249). .
2- إذا قدِمَ إنسانٌ مِن سَفرٍ في رَمَضانَ وقد طَهُرَتِ امرَأتُه مِنَ الحَيضِ، كان له أن يُجامِعَها عِندَ الشَّافِعيَّةِ؛ لأنَّه لا يَلزَمُها الإمساكُ بَقيَّةَ اليَومِ الذي طَهُرَت فيه، ولا يَلزَمُه الإمساكُ أيضًا؛ لأنَّه أفطَرَ للسَّفرِ، فلا يَلزَمُه إمساكُ بَقيَّةِ هذا اليَومِ، إلَّا أنَّهمُ استَحَبُّوا تَركَ ذلك للِاحتياطِ وخُروجًا مِنَ الخِلافِ [2684] يُنظر: ((مختصر المزني)) (1/ 315)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/ 447)، ((بحر المذهب)) للروياني (3/275). .
3- التَّكفيرُ عنِ الكَفَّارةِ جائِزٌ عِندَ الحَنابِلةِ قَبلَ الحِنثِ وبَعدَه، واستَحَبَّ بَعضُهم أن يَكونَ بَعدَ الحِنثِ؛ لِما فيه مِنَ الخُروجِ مِنَ الخِلافِ، ولِحُصولِ اليَقينِ ببَراءةِ الذِّمَّةِ [2685] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (13/483). .
4- قِراءةُ الفاتِحةِ للمَأمومِ خَلفَ الإمامِ؛ فإنَّه إذا فعَلَ ذلك صَحَّت صَلاتُه بلا خِلافٍ، فإنَّ ابنَ عَبدِ البَرِّ نَقَلَ إجماعَ العُلَماءِ على أنَّ مَن قَرَأ خَلفَ الإمامِ الفاتِحةَ فصَلاتُه تامَّةٌ ولا إعادةَ عليه، وكَفى بهذا تَرجيحًا لمَن يَقصِدُ الاحتياطَ لصِحَّةِ صَلاتِه؛ فإنَّه إذا تَرَكَ القِراءةَ خَلفَ الإمامِ اختَلَف العُلَماءُ هَل صَلاتُه صَحيحةٌ أم باطِلةٌ [2686] يُنظر: ((فتاوى ابن السبكي)) (1/138). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
قال السُّيوطيُّ: (تَنبيهٌ:
شَكَّك بَعضُ المُحَقِّقينَ على قَولِنا بأفضَليَّةِ الخُروجِ مِنَ الخِلافِ، فقال: الأولَويَّةُ والأفضَليَّةُ إنَّما تَكونُ حَيثُ سُنَّةٌ ثابِتةٌ. وإذا اختَلَفتِ الأُمَّةُ على قَولَينِ: قَولٌ بالحِلِّ، وقَولٌ بالتَّحريمِ، واحتاطَ المُستَبرِئُ لدينِه، وجَرى على التَّركِ؛ حَذَرًا مِن ورَطاتِ الحُرمةِ، لا يَكونُ فِعلُه ذلك سُنَّةً؛ لأنَّ القَولَ بأنَّ هذا الفِعلَ يَتَعَلَّقُ به الثَّوابُ مِن غَيرِ عِقابٍ على التَّركِ لم يَقُلْ به أحَدٌ، والأئِمَّةُ كما تَرى بَين قائِلٍ بالإباحةِ، وقائِلٍ بالتَّحريمِ. فمِن أينَ الأفضَليَّةُ؟
وأجابَ ابنُ السُّبكيِّ: بأنَّ أفضَليَّتَه لَيسَت لثُبوتِ سُنَّةٍ خاصَّةٍ فيه، بَل لعُمومِ الاحتياطِ والاستِبراءِ للدِّينِ، وهو مَطلوبٌ شَرعًا مُطلَقًا، فكان القَولُ بأنَّ الخُروجَ مِنَ الخِلافِ أفضَلُ ثابِتًا مِن حَيثُ العُمومُ، واعتِمادُه مِنَ الورَعِ المَطلوبِ شَرعًا) [2687] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 137). .

انظر أيضا: