المَبحَثُ الأوَّلُ: مِن معالِمِ منهَجِ السُّلوكِ والأخلاقِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: التَّلقِّي من الكِتابِ والسُّنَّةِ
قال اللهُ تعالى:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 99] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السُّلوكَ هو بالطَّريقِ التي أمَر اللهُ بها ورسولُه من الاعتقاداتِ والعباداتِ والأخلاقِ، وهذا كُلُّه مُبَيَّنٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ هذا بمنزلةِ الغِذاءِ الذي لا بُدَّ للمؤمِنِ منه؛ ولهذا كان جميعُ الصَّحابةِ يَعلَمون السُّلوكَ بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والتَّبليغِ عن الرَّسولِ، لا يحتاجون في ذلك إلى فُقَهاءِ الصَّحابةِ. وفي السُّلوكِ مسائِلُ تنازَعَ فيها الشُّيوخُ، لكِنْ يوجَدُ في الكتابِ والسُّنَّةِ من النُّصوصِ الدَّالَّةِ على الصَّوابِ في ذلك ما يفهَمُه غالِبُ السَّالكين؛ فمَسائِلُ السُّلوكِ من جِنسِ مسائِلِ العقائِدِ، كُلُّها منصوصةٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ)
.
وقال أيضًا: (المَعْلَمُ المشروعُ والنُّسُكُ المشروعُ مأخوذٌ عن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فمَن بنى الكلامَ في العِلمِ -الأصولِ والفُروعِ- على الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ المأثورةِ عن السَّابِقين، فقد أصاب طريقَ النُّبُوَّةِ، وكذلك مَن بنى الإرادةَ والعبادةَ والسَّماعَ المُتعَلِّقَ بأصولِ الأعمالِ وفُروعِها من الأحوالِ القَلبيَّةِ والأعمالِ البَدَنيَّةِ على الإيمانِ والسُّنَّةِ والهَدْيِ الذي كان عليه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه؛ فقد أصاب طريقَ النُّبُوَّةِ، وهذه طريقةُ أئمَّةِ الهُدى)
.
وتزكيةُ النُّفوسِ لا تكونُ إلَّا عن طريقِ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ.
قال
ابن القيم: (تزكية النّفوس مسلَّم إلى الرّسل، وإنما بعثهم الله لهذه التَّزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليمًا، وبيانًا، فهم المبعثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2] .
وتزكيةُ النُّفوسِ أصعَبُ من علاجِ الأبدانِ وأشَدُّ؛ فمن زكَّى نفسَه بالرِّياضةِ والمجاهَدةِ والخَلوةِ التي لم يجِئْ بها الرُّسُلُ، فهو كالمريضِ الذي يعالِجُ نفسَه برأيِه، وأين يقَعُ رأيُه من معرفةِ الطَّبيبِ؟ فالرُّسُلُ أطبَّاءُ القُلوبِ، فلا سبيلَ إلى تزكيتِها وصلاحِها إلَّا من طريقِهم، وعلى أيديهم، وبمَحضِ الانقيادِ والتَّسليمِ لهم، واللهُ المُستعانُ)
.
وإذا كان عامَّةُ مَن ضَلَّ في بابِ الاعتقادِ بسَبَبِ الإعراضِ عمَّا جاء به الرَّسولُ
، فكذلك الضَّلالُ في بابِ السُّلوكِ إنما كان ناشئًا في الجُملةِ بسَبَبِ الإعراضِ عن نُصوصِ الوَحيَينِ، كما هو ظاهِرٌ في متأخِّري الصُّوفيَّةِ، وأربابِ الطُّرُقِ المُحْدَثةِ
.
قال
عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (من قرَأ القُرآنَ واتَّبَع ما فيه، هداه اللهُ من الضَّلالةِ، ووقاه يومَ القيامةِ سُوءَ الحِسابِ، وذلك بأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قال:
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123] )
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (لا رَيبَ أنَّ البِدَعَ كَثُرت في بابِ العبادةِ والإرادةِ أعظَمَ ممَّا كَثُرت في بابِ الاعتقادِ والقَولِ؛ لأنَّ الإرادةَ يَشتَرِكُ النَّاسُ فيها أكثَرَ ممَّا يَشتَرِكون في القولِ؛ فإنَّ القولَ لا يكونُ إلَّا بعَقلٍ، والنُّطقُ من خصائِصِ الإنسانِ، وأمَّا جِنسُ الإرادةِ فهو ممَّا يتَّصِفُ به كُلُّ الحيوانِ، فما من حيوانٍ إلَّا وله إرادةٌ)
.
وقال أيضًا: (مَن عارَضَ كتابَ اللهِ وجادَل فيه بما يُسَمِّيه معقولاتٍ وبراهينَ وأقيسةً، أو ما يُسَمِّيه مُكاشَفاتٍ ومواجيدَ وأذواقًا، من غيرِ أن يأتيَ على ما يقولُه بكتابٍ مُنَزَّلٍ- فقد جادَل في آياتِ اللهِ بغيرِ سُلطانٍ)
.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (عامَّةُ من تَزندَقَ مِن السَّالكين فلإعراضِه عن دواعي العِلمِ، وسيرِه على جادَّةِ الذَّوقِ والوَجدِ، ذاهبةً به الطَّريقُ كُلَّ مَذهَبٍ؛ فهذه فِتنَتُه، والفِتنةُ به شديدةٌ)
.
وقال أيضًا: (مَن أحالَك على غيرِ «أخبَرَنا» و«حَدَّثَنا» فقد أحالَك إمَّا على خيالٍ صوفيٍّ، أو قياسٍ فَلسَفيٍّ، أو رأيٍ نَفسيٍّ؛ فليس بَعدَ القرآنِ و«أخبَرَنا» و«حَدَّثَنا» إلَّا شُبهاتُ المُتكَلِّمين، وآراءُ المُنحَرِفين، وخيالاتُ المُتصَوِّفين، وقياسُ المُتفَلسِفين، ومَن فارق الدَّليلَ ضَلَّ عن سواءِ السَّبيلِ، ولا دليلَ إلى اللهِ والجنَّةِ سِوى الكِتابِ والسُّنَّةِ، وكُلُّ طريقٍ لم يَصحَبْها دليلُ القُرآنِ والسُّنَّةِ فهي طريقُ الجَحيمِ والشَّيطانِ الرَّجيمِ)
.
صُوَرٌ من الجانِبِ السُّلوكيِّ والأخلاقيِّ في القُرآنِ والسُّنَّةِأوَّلًا: تزكيةُ النُّفوسِ:قال اللهُ تعالى:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10] .
قال
السَّعديُّ: (قَولُه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا أي: طَهَّر نَفسَه من الذُّنوبِ، ونقَّاها من العُيوبِ، ورقَّاها بطاعةِ اللهِ، وعلَّاها بالعِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ.
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي: أخفى نفسَه الكريمةَ التي ليست حقيقةً بقَمْعِها وإخفائِها، بالتَّدَنُّسِ بالرَّذائِلِ، والدُّنُوِّ من العُيوبِ، والاقترافِ للذُّنوبِ، وتَرْكِ ما يُكَمِّلُها ويُنَمِّيها، واستعمالِ ما يَشينُها ويُدَسِّيها)
.
والشَّرعُ كُلُّه تزكيةٌ لنُفوسِ العبادِ؛ فالتَّوحيدُ تزكيةٌ.
قال اللهُ تعالى:
وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6-7] .
قال
عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (يعني: الذين لا يَشهَدون أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ)
.
والصَّلاةُ تزكيةٌ.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحَدِكم يغتَسِلُ منه كُلَّ يومٍ خَمسَ مرَّاتٍ، هل يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ، قال: فذلك مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمسِ، يمحو اللهُ بهِنَّ الخَطايا ))
.
والصَّدَقةُ تزكيةٌ.
قال اللهُ تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] .
والحَجُّ تزكيةٌ.
قال اللهُ تعالى:
فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] .
فاللهُ عزَّ وجَلَّ شَرَع الشَّرائِعَ من أجْلِ أن تزكوَ نُفوسُ عبادِه، وأن تَصلُحَ دُنياهم وآخِرتُهم، واللهُ عزَّ وجَلَّ أغنى وأعزُّ من أن ينتَفِعَ بطاعاتِ العبادِ، أو أن يتضَرَّرَ بمعاصيهم، كما في الحديثِ القُدسيِّ:
((يا عبادي إنَّكم لن تَبلُغوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تَبلَغوا نفعي فتَنْفَعوني ))
.
وتزكيةُ النَّفسِ سَبَبٌ للفوزِ بالدَّرَجاتِ العُلى والنَّعيمِ المقيمِ.
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه: 75-76] .
أي: طهَّر نفسَه من الدَّنَسِ والخَبَثِ والشِّركِ، وعبَدَ اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، واتَّبَع المُرسَلين فيما جاؤوا به مِن عِندِ اللهِ تعالى
.
وكان مِن دعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومَولاها ))
.
والتَّزكيةُ تكونُ أوَّلًا بالعقيدةِ الصَّحيحةِ عقيدةِ التَّوحيدِ.قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ، وهذه نجاسةٌ معنويَّةٌ، فقُلوبُهم نَجِسةٌ؛ لأنَّها لا تَعرِفُ اللهَ عزَّ وجَلَّ معرفةً صحيحةً، ولا تعبُدُه وَحدَه لا شريكَ له عبادةً صحيحةً.
وقال موسى عليه السَّلامُ لفِرعَونَ:
هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] .
أي: تتطَهَّرَ من الشِّركِ بالتَّوحيدِ؛ فأصلُ التَّزكيةِ التَّزكيةُ بالتَّوحيدِ، بل لا تزكو النَّفسُ بسائِرِ أنواعِ العباداتِ حتى تزكوَ بالتَّوحيدِ أوَّلًا.
عن
عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا أرسَل مُعاذًا إلى اليمَنِ قال له:
((إنَّك ستأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فإذا جِئْتَهم فادْعُهم إلى أن يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يومٍ وليلةٍ... )) الحديثَ
.
وهذا يدُلُّ على أهميَّةِ معرفةِ التَّوحيدِ، واعتقادِ العقيدةِ الصَّحيحةِ؛ فبذلك تزكو النُّفوسُ، وتتطَهَّرُ القُلوبُ، وتَصلُحُ الأعمالُ لصلاحِ القُلوبِ بالعقيدةِ السَّليمةِ.
عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحت صَلَح الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فَسَدت فَسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ ))
.
ومِن وسائِلِ التَّزكيةِ: أداءُ الواجِباتِ وتَرْكُ المُحَرَّماتِ.ففي الحديثِ القُدسيِّ قال اللهُ تعالى:
((وما تقَرَّب إليَّ عَبَدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افتَرَضْتُ عليه ))
.
قال
الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّ مِن أعظَمِ فرائِضِ اللهِ سُبحانَه تَرْكَ معاصيه التي هي حدودُه، التي مَن تعَدَّاها كان عليه من العُقوبةِ ما ذكَره اللهُ سُبحانَه وتعالى في كتابِه العزيزِ، ولا خِلافَ أنَّ اللهَ افتَرَض على العبادِ تَرْكَ كُلِّ معصيةٍ كائنةٍ ما كانت)
.
ومِن وسائِلِ التَّزكيةِ: الإكثارُ من النَّوافلِ بَعدَ الفرائِضِ.قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وما يزالُ عبدي يتقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّه ))
.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قال الفاكِهانيُّ: معنى الحديثِ أنَّه إذا أدَّى الفرائِضَ ودام على إتيانِ النَّوافِلِ مِن صلاةٍ وصيامٍ وغَيرِهما، أفضى به ذلك إلى محبَّةِ اللهِ. وقال ابنُ هُبَيرةَ: ويؤخَذُ من قولِه:
((ما تقَرَّبَ... إلخ)) أنَّ النَّافلةَ لا تُقَدَّمُ على الفريضةِ؛ لأنَّ النَّافلةَ إنَّما سُمِّيت نافلةً لأنَّها تأتي زائدةً على الفريضةِ، فما لم تُؤَدَّ الفريضةُ لا تحصُلِ النَّافلةُ، ومن أدَّى الفرائِضَ ثمَّ زاد عليه النَّفلَ وأدام ذلك تحقَّقت منه إرادةُ التَّقرُّبِ. انتهى. وأيضًا فقد جرت العادةُ أنَّ التَّقرُّبَ يكونُ غالبًا بغيرِ ما وجَب على المتقَرِّبِ، كالهَدِيَّةِ والتُّحفةِ، خِلافَ مَن يؤدِّي ما عليه من خَراجٍ، أو يقضي ما عليه مِن دَينٍ، وأيضًا فإنَّ مِن جُملةِ ما شُرِعَت له النَّوافِلُ جَبْرَ الفرائِضِ، كما صحَّ في الحديثِ:
((انظُروا هل لعبدي مِن تطَوُّعٍ، فتُكمَلُ به فريضتُه )) الحديثَ بمعناه
. فتَبَيَّن أنَّ المرادَ من التَّقرُّبِ بالنَّوافِلِ أن تَقَعَ ممَّن أدَّى الفرائِضَ لا مَن أخَلَّ بها، كما قال بعضُ الأكابِرِ: مَن شَغَله الفَرضُ عن النَّفلِ فهو معذورٌ، ومن شغَلَه النَّفلُ عن الفَرضِ فهو مغرورٌ)
.
ثانيًا: تعليمُ الحَقِّ ورَحمةُ الخَلقِ:قال
ابنُ تيميَّةَ: (أئمَّةُ السُّنَّةِ والجماعةِ وأهلُ العِلمِ والإيمانِ فيهم العِلمُ والعَدلُ والرَّحمةُ، فيُعَلِّمون الحَقَّ الذي يكونون به موافِقين للسُّنَّةِ سالِمين من
البِدعةِ، ويَعدِلون على مَن خَرَج منها ولو ظَلَمهم، كما قال تعالى:
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8] ، ويَرحَمون الخَلقَ، فيُريدون لهم الخَيرَ والهُدى والعِلمَ، لا يَقصِدون الشَّرَّ لهم ابتِداءً، بل إذا عاقبوهم وبَيَّنوا خطَأَهم وجَهْلَهم وظُلْمَهم، كان قَصدُهم بذلك بيانَ الحَقِّ ورحمةَ الخَلقِ)
.
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (كان خُلَفاءُ الرُّسُلِ وأتباعُهم من أُمَراءِ العَدْلِ وأتباعِهم وقُضاتِهم لا يَدْعون إلى تعظيمِ نُفوسِهم البتَّةَ، بل إلى تعظيمِ اللهِ وَحْدَه وإفرادِه بالعُبوديَّةِ والإلهيَّةِ، ومنهم من كان لا يريدُ الوِلايةَ إلَّا للاستعانةِ بها على الدَّعوةِ إلى اللهِ وَحدَه. وكانت الرُّسُلُ وأتباعُهم يَصبِرون على الأذى في الدَّعوةِ إلى اللهِ، ويتحَمَّلون في تنفيذِ أوامِرِ اللهِ مِن الخَلقِ غايةَ المَشقَّةِ، وهم صابِرون بل راضون بذلك، كما كان عبدُ المَلِكِ بنِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العزيزِ -رحمه اللهُ- يقولُ لأبيه في خلافتِه إذا حَرَص على تنفيذِ الحَقِّ وإقامةِ العَدلِ: يا
أبتِ لوَدِدْتُ أنِّي غَلَت بي وبك القُدورُ في اللهِ عزَّ وجَلَّ! وقال بعضُ الصَّالحين: وَدِدْتُ أنَّ جِسمي قُرِضَ بالمقاريضِ وأنَّ هذا الخَلْقَ كُلَّهم أطاعوا اللهَ عزَّ وجَلَّ! ومعنى هذا أنَّ صاحِبَ هذا القَولِ قد يكونُ لَحَظ نُصحَ الخَلقِ والشَّفَقةَ عليهم من عذابِ اللهِ بأذى نَفْسِه، وقد يكونُ لَحَظ جلالَ اللهِ وعَظَمتَه وما يَستَحِقُّه من الإجلالِ والإكرامِ والطَّاعةِ والمحبَّةِ، فوَدَّ أنَّ الخلقَ كُلَّهم قاموا بذلك وإن حَصَل له في نفسِه غايةُ الضَّرَرِ!)
.
فمَسلَكُ أهلِ السُّنَّةِ قائِمٌ على العِلمِ والعَدلِ لا الجَهلِ والظُّلمِ، حتَّى كان أهلُ السُّنَّةِ لكُلِّ طائفةٍ من المُبتَدِعةِ خَيرًا من بعضِهم لبعضٍ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (هم للرَّافِضةِ خَيرٌ وأعدَلُ من بعضِ الرَّافضةِ لبَعضٍ، وهذا ممَّا يعتَرِفون هم به، ويقولون: أنتم تُنصِفونَنا ما لا يُنصِفُ بَعضُنا بعضًا!)
.
وقد تلقَّى أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ هذه الصِّفةَ الحميدةَ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمِ النَّاسِ بالحَقِّ وأعظَمِ النَّاسِ رحمةً ورأفةً بالخَلقِ.
فمِن أجْلِ إظهارِ الحَقِّ بلَّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، وجاهَد في اللهِ حَقَّ جهادِه، ومن أجْلِ نُصرةِ الحَقِّ نَجِدُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغضَبُ أشَدَّ الغَضَبِ، فكأنَّما تفقَّأَ في وَجهِه حَبُّ الرُّمَّانِ من الغَضَبِ
، وكذلك حينَ رأى بعضَ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم يتخاصَمون في القَدَرِ، فقال:
((مَهْلًا يا قومِ! بهذا أُهلِكَت الأُمَمُ مِن قَبْلِكم؛ باختِلافِهم على أنبيائِهم، وضَرْبِهم الكُتُبَ بَعضَها ببَعضٍ، إنَّ القرآنَ لم يَنزِلْ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا، بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا؛ فما عرَفْتُم منه فاعمَلوا به، وما جَهِلتُم منه فرُدُّوه إلى عالِمِه ))
.
ومع ذلك كُلِّه فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الرَّحمةُ المُهداةُ، كما قال اللهُ تعالى:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ ))
.
وعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت:
((ما خُيِّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ أمرَينِ إلَّا أخَذَ أيسَرَهما ما لم يكُنْ إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعَدَ النَّاسِ منه، وما انتَقَم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنَفْسِه إلَّا أن تُنتَهَكَ حُرمةُ اللهِ فينتَقِمَ للهِ بها ))
.
ولَمَّا سألَتْه
عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها فقالت: يا رسولَ اللهِ، هل أتى عليكَ يومٌ كان أشَدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال: (لقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهم يَومَ العَقَبَةِ؛ إذْ عَرَضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أرَدْتُ، فانطَلَقْتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهي، فلم أستَفِقْ إلَّا بقَرنِ الثَّعَالِبِ، فرَفَعتُ رَأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَلَّتني، فنَظَرتُ فإذا فيها
جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك ملَكَ الجِبالِ لتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، قال: فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّم عَلَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقد بعثَني ربُّك إليكَ لتَأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ؛ إنْ شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا))
.
وقد سار سَلَفُ الأُمَّةِ على ذلك.
فهذا
أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ يَثبُتُ على كَلِمةِ الحَقِّ لا يخشى في اللهِ لومةَ لائمٍ، ويقولُ بكلِّ يقينٍ: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، ويصبِرُ على ما أصابه من أنواعِ الإيذاءِ والفِتنةِ من قِبَلِ رُؤوسِ
المعتزلةِ آنذاك ومَن تَبِعَهم من الخُلَفاءِ، ك
المأمونِ وغيرِه، ومع ذلك البَطشِ والجَلْدِ والسَّجنِ من قِبَلِهم إلَّا أنَّه قال: (كُلُّ مَن ذكَرَني ففي حِلٍّ إلَّا مُبتَدِعًا، وقد جَعَلْتُ أبا إسحاقَ -يعني المُعتَصِمَ- في حِلٍّ، ورأيتُ اللهَ يقولُ:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
وأمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أبا بكرٍ بالعَفْوِ في قِصَّةِ مِسطَحٍ، -ثمَّ قال:- وما ينفَعُك أن يُعَذِّبَ اللهُ أخاك المُسلِمَ في سبيلِك؟!)
.
وكان
ابنُ تيميَّةَ يُقَرِّرُ عقيدةَ السَّلَفِ الصَّالحِ، ويجاهِدُ بلِسانِه وسِنانِه طوائِفَ الزَّيغِ والانحرافِ، فيَرُدُّ على أهلِ الكتابِ، ويَقمَعُ أكاذيبَ الباطنيَّةِ، ويناظِرُ أهلَ الكلامِ وغيرَهم من أجْلِ بيانِ الحَقِ وتبليغِه، وكان في نَفسِ الوقتِ من أعظَمِ النَّاسِ شَفَقةً وإحسانًا؛ فمن ذلك قولُ تلميذِه
ابنِ القَيِّمِ: (جِئتُ يومًا مبشِّرًا له أي ل
ابنِ تيميَّةَ بموتِ أكبَرِ أعدائِه، وأشَدِّهم عداوةً وأذًى له، فنهَرَني وتنكَّرَ لي واسترجَعَ، ثمَّ قام مِن فَورِه إلى بيتِ أهلِه فعَزَّاهم، وقال: إنِّي لكم مكانَه، ولا يكونُ لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلَّا وساعَدْتُكم فيه؛ فسُرُّوا به ودَعَوا لهـ)
.
ولَمَّا مَرِض
ابنُ تيميَّةَ مَرَضَ الوفاةِ دخل عليه أحَدُهم فاعتَذَر له، والتَمَس منه أن يُحَلِّلَه فأجابه: (إنِّي قد أحلَلْتُك وجميعَ من عاداني وهو لا يعلَمُ أنِّي على الحَقِّ، وإنِّي قد أحلَلْتُ السُّلطانَ المُعَظَّمَ المَلِكَ النَّاصِرَ من حَبْسِه إيَّاي؛ لكونِه فَعَل ذلك مُقَلِّدًا غيرَه...)
.
وقال أحَدُ خُصومِه -وهو ابنُ مخلوفٍ-: (ما رأينا مِثلَ
ابنِ تيميَّةَ، حَرَّضْنا عليه فلم نَقدِرْ عليه، وقدَرَ علينا فصَفَح عنَّا وحاجَجَ عنَّا!)
.