الموسوعة الحديثية


-  أنَّها قالَتْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا.
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 3231 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
لقدْ أُوذِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وابتُلِيَ في سَبيلِ هذا الدِّينِ أشَدَّ البَلاءِ؛ فقدْ رُمِيَ بالحِجارةِ، وأُدْمِيَ كَعْبُه، وشُجَّ رأسُه، ومع ذلك صَبَر وأشفَقَ على من فَعَلوا ذلك وعفَا عنهم؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما قال اللهُ تعالَى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها سألَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ مَرَّ عليه وقْتٌ وزَمانٌ كانتْ صُعوبتُه أشَدَّ عليه مِن يَومِ أُحُدٍ؟ التي وَقَعَت بيْن كُفَّارِ مكَّةَ وبيْن المسلمينَ في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهِجرةِ، حيث هُزِمَ المسلِمون، وجُرِحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكاد المشرِكون أنْ يَصِلوا إليه، فأخْبَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لَقيَ مِن قُريشٍ الكثيرَ مِن الأذَى أشدَّ ممَّا لاقاهُ يومَ أُحدٍ، وكان أشَدَّ ما لاقاهُ منهم يومَ العَقبةِ، قيل: المرادُ بالعَقبةِ جَمرةُ العقبةِ التي بمِنًى، وقيل: مَكانٌ مخصوصٌ في الطَّائفِ، ولعلَّ هذا أَولى؛ وكان ذلك في شوَّالٍ في سَنَةِ عَشْرٍ مِن المَبعَثِ، بعْدَ مَوتِ أبي طالبٍ وخَديجةَ رَضيَ اللهُ تعالَى عنها، حيث عَرَضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الإسلامَ على كِنانةَ بنِ عبْدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ -وكان مِن أكابرِ أهلِ الطَّائفِ مِن ثَقيفٍ- فعَرَضَ عليه أنْ يَقبَلَ الدَّعوةَ ويَدخُلَ فيها، وأنْ يُؤوِيَه ويَحمِيَه حتَّى يُبلِّغَ رِسالةَ اللهِ، وقيل: تَوجَّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ثَلاثةِ زُعماءَ مِن ثَقيفٍ، وهمْ سادَتُهم؛ وهم: عبْدُ يَالِيلَ، وحَبيبٌ، ومَسعودٌ بَنو عمْرٍو، فلم يَستجِبْ له أحدٌ إلى ما طَلَبَه حينئذٍ مِن الدُّخولِ في الإسلامِ أو إعطائِه العهْدَ والأمانَ، بلْ وَجَدَ ما لمْ يَتصوَّرْه مِن الجُحودِ، والإنكارِ، والاستهزاءِ، والصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ، وَزادوا على ذلك أنَّهم آذَوه وسَلَّطوا عليه صِغارَهم وسُفهاءَهم، فرَمَوه بالحجارةِ حتَّى سالَ الدَّمُ مِن قَدَمَيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فخرَجَ مِن الطَّائفِ عائدًا إلى مكَّةَ، فذهَبَ حَيرانَ هائمًا لا يَدري أينَ يَتوجَّهُ مِن شِدَّةِ ذلك الغمِّ، وصُعوبةِ ذلك الهمِّ، فلم يُفِقْ ممَّا كان فيه مِن الغمِّ والهمِّ، حتَّى بَلَغ قَرْنَ الثَّعالبِ، والقَرنُ: الجبلُ الصَّغيرُ، وقَرْنُ الثَّعالبِ: جَبلٌ بيْن مكَّةَ والطَّائفِ، وسُمِّيَ بذلك لأنَّ الثَّعالبَ كانت تَأوي إليه بعْدَ أنْ تَأكُلَ مِن لُحومِ الأضاحي والهَدْيِ، وهو يُجاوِرُ مَوضعَ قَرْنِ المنازلِ مِن الجَنوبِ الشَّرقيِّ، ويُعرَفُ اليومَ بالمنحوتِ، وهو أقرَبُ إلى مَوضعِ السَّيلِ الكبيرِ منه إلى قَريةِ السَّيلِ الصَّغيرِ، وقيل: إنَّه كان في مِنًى، وهو العرقُ الَّذي كان مُلاصِقًا لمَسجدِ البَيعةِ مِن جَنوبِها الشَّرقيِّ، ممَّا يَلي جَمْرةَ العَقَبةِ، وقد تمَّت إزالتُه لأسبابِ التَّوسعةِ، ويُطلَقُ عليه اليومَ رَبْوةَ مِنًى، ويمُرُّ على طَرَفِه الغربيِّ الشَّارعُ القادمُ مِن جِسرِ الملِكِ عبْدِ العزيزِ.
وفي هذا المكانِ رَفَع صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأسَه إلى السَّماءِ، فإذا هو بسَحابةٍ قد أظلَّتْه على غَيرِ العادةِ، فنَظَر فإذا في السَّحابةِ جِبريلُ عليه السَّلامُ، وهو المَلَكُ الموكَّلُ بالوحْيِ، فناداهُ فقال: إنَّ اللهَ قدْ سَمِع قَولَ قَومِك وما رَدُّوا عليك، وهمْ كفَّارُ قُريشٍ وغيرِهم مِن أهلِ الطَّائفِ وثَقيفٍ، وكان كُفَّارُ قُريشٍ مَنَعوا حِمايتَه بعْدَ مَوتِ عمِّه أبي طالبٍ، وكانوا إذا قام إلى الصَّلاةِ آذَوه أشدَّ الأذى، ولذلك فإنَّ اللهَ تعالَى قدْ بَعَث إليك مَلَكَ الجِبالِ ليَأمُرَه بما شاءَ فيهم، فناداهُ مَلَكُ الجِبالِ فسَلَّم عليه، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، ذلك فيما شئتَ، أي: ذلك كما قال جِبريلُ، أو كما سمِعتَ منه، فإذا أردتَ أنْ أَقْلِبَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ لَفَعلْتُ، والأَخْشَبُ كلُّ جَبلٍ غَليظٍ، والأَخشبانِ هما جَبلانِ يُضافانِ إلى مكَّةَ مرَّةً، وإلى مِنًى أُخرى، وهما واحدٌ، وقيل: الأخشبانِ: الجَبَلانِ المُطْبقانِ بمكَّةَ، وهما أبو قُبَيْسٍ، والآخَر قُعَيْقِعَانَ؛ جَبلٌ بمكَّة وجْهُه إلى أبي قُبَيْسٍ، أو الجَبَل الأحمرُ الَّذي يُشرِفُ على قُعَيقِعانَ، وهنا تَجلَّت رَحمةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَ مَلَكَ الجبالِ أنَّه لا يُريدُ ذلك العذابَ لقَومِه وإنِ استحَقُّوا لكُفْرِهم، بلْ إنَّه يَرْجو أنْ يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يَعبُدُ اللهَ وحْدَه، فيُوحِّدُه مُنفرِدًا، أو يُطيعُه مُخلِصًا لا يُشرِكُ به شَيئًا.
وقدْ كان ما رَجاهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث دخَلَت مكَّةُ والطَّائفُ في دِينِ اللهِ سُبحانَه، وحسُنَ إسلامُهم، وكان منهم مُسلِمون مُوحِّدون باللهِ، وقادةٌ عُظَماءُ وَسَّعوا رُقعةَ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ.
وفي الحديثِ: عَفوُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحِلمُه، وعدَمُ عَجلتِه بالدُّعاءِ على أُمَّتِه.
وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه يُواسي أولياءَهُ بما يَربِطُ على قُلوبِهم.
وفيه: حِرصُ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وشِدَّةُ رَغبتِها في طَلَبِ العلمِ.
وفيه: إثباتُ صِفةِ السَّمعِ للهِ تعالَى؛ على الوجْهِ الَّذي يَليقُ به سُبحانَه؛ مِن غَيرِ تَعطيلٍ، ولا تَشبيهٍ، ولا تَمثيلٍ.